وما لم يشعر به لم يشتق إليه ولم ينزع نحوه مثل العنين فإنه متحقق أن للجماع لذة ولكنه لا يشتهيه ولا يحن نحوه الاشتهاء والحنين اللذين يكونان مخصوصين به بل شهوة أخرى " كما يشتهي من يجرب من حيث يحصل به إدراك وإن كان مؤذيا " وفي الجملة فإنه لا يتخيلة. وكذلك حال الأكمه عند الصور الجميلة والأصم عند الألحان المنتظمة - ولهذا يجب أن لا يتوهم العاقل أن كل لذة فهي كما للحمار في بطنه وفرجه. وأن المبادئ الأولى المقربة عند رب العالمين عادمة للذة والغبطة وأن رب العالمين عز وجل ليس له في سلطانه وخاصية البهاء الذي له وقوته الغير متناهية أمر في غاية الفضيلة والشرف والطيب نجله عن أن يسمى لذة. ثم للحمار والبهائم حالة طيبة ولذيذة كلا بل أي نسبة تكون لما للمبادئ العالية إلى هذه الخسيسة ولكنها نتخيل هذا ونشاهده ولم نعرف ذلك بالاستشعار بل بالقياس فحالنا عنده كحال الأصم الذي لم يسمع قط في عمره ولا تخيل اللذة اللحنية وهو متيقن لطيبها وهذا أصل: وأيضا فإن الكمال والأمر الملائم قد يتيسر للقوة الدراكة وهناك مانع أو شاغل للنفس فتكرهه وتؤثر ضده عليه مثل كراهية بعض المرضى الطعم الحلو وشهوتهم للطعوم الردية الكريهة بالذات وربما لم تكن كراهية ولكن كان عدم الاستلذاذ به كالخائف يجد الغلبة أو اللذة فلا يشعر بهما ولا يستلذهما وهذا أصل. وأيضا فإنه قد تكون القوة الداركة ممنوة بضد ما هو كمالها ولا تحس به ولا تنفر عنه حتى إذا زال العائق تأذت به ورجعت إلى غريزتها مثل الممرور فربما لم يحس بمرارة فيه إلى أن يصلح مزاجه وتشفى أعضاؤه فحينئذ ينفر عن الحال العارضة له. وكذلك قد يكون الحيوان غير مشته للغذاء البتة كارها له وهو أوفق شيء له ويبقى عليه مدة طويلة فإذا زال العائق عاد إلى واجبه في طبعه فاشتد جوعه وشهوته للغذاء حتى لا يصبر عنه ويهلك عند فقدانه وقد يحصل سبب الألم العظيم مثل إحراق النار وتبريد الزمهرير إلا أن الحسن مؤوف فلا يتأذى البدن به حتى تزول الآفة فيحس حينئذ بالألم العظيم فإذا تقررت هذه الأصول فيجب أن ننصرف إلى الغرض الذي نؤمه " فنقول " إن النفس الناطقة كمالها الخاص بها أن تصيرا عالما عقليا مرتسما فيها صورة الكل والنظام المعقول في الكل والخير الفائض في الكل مبتدئا من مبدأ الكل سالكا إلى الجواهر الشريفة فالروحانية المطلقة ثم الروحانية المتعلقة نوعا ما من التعلق الأبدان ثم الأجسام العلوية بهيئاتها وقواها ثم تستمر كذلك حتى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كله فتنقلب عالما معقولا موازيا للعالم الموجود كله مشاهدا لما هو الحسن المطلق والخير المطلق والجمال الحق ومتحدا به ومنتقشا
Page 240