Vers une philosophie scientifique
نحو فلسفة علمية
Genres
إن الذي يفرق بين الأحياء والجوامد هو الوعي، على أن الأحياء تعود فتتفاوت في درجة وعيها بما حولها. وليس يقتصر الوعي على مجرد تأثر الكائن الواعي بما حوله، فلسنا نقول - مثلا - عن الترمومتر إنه على «وعي» بما حوله ما دام عمود الزئبق فيه يتأثر بالحرارة المحيطة به؛ فالجانب المهم من صفة «الوعي» التي تميز الحي من الجامد أولا، ثم تميز الإنسان من سائر درجات الأحياء ثانيا، هو احتفاظ الكائن بما قد وعاه في لحظة ماضية، وربطه بغيره من حالات الوعي الأخرى، بحيث يكون من الطرفين «عادة» تجعل أحد الطرفين وحده كفيلا أن يستحضر الطرف الآخر في مجرى الشعور، ومن مجموعة هذه العادات تتألف «الخبرة».
فماذا نعني - في ضوء هذا الذي قلناه - حين ندعو إلى وجوب اعتماد معنى جملة ما على «الخبرة» وحدها، ما دام الفرض في تلك الجملة هو أنها تنبئ عن جزء من العالم الخارجي بنبأ ما؟ إن ما نعنيه على وجه الدقة هو أن يكون السامع لتلك الجملة قد كون لنفسه عادات بالنسبة إلى كل لفظة واردة في الجملة، بحيث يكون أحد الطرفين المرتبطين في كل حالة من الحالات انطباعا حسيا، ويكون الطرف الآخر لفظا نسمي به ذلك الانطباع، وبالطبع لا يكون الاعتماد على الخبرة كاملا إلا إذا كان الانطباع الحسي الذي هو المرجع في فهم معنى الكلمة التي تسميه انطباعا باشرته بنفسي؛ أي إن الاعتماد على الخبرة لا يكون كاملا وافيا إلا إذا كانت الخبرة خبرتي أنا؛ فلو قلت إني أرى بقعة حمراء، أو قلت إني أحس ألما في ضرسي، كان معنى الجملة عندي معتمدا على خبرة مباشرة أمارسها، لكن مثل هذه الخبرة المباشرة ذاتي كما ترى، خاص بصاحبه، ولو قصرنا أنفسنا عليه وحده لما كان هنالك سبيل للتفاهم؛ أعني أن طريق الاستفادة بخبرات الآخرين ينسد فلا يكون به منفذ نتسلل منه إلى تلك الخبرات الأخرى فنوسع بها مدى علمنا بالعالم الذي نعيش فيه.
وسبيل الاتصال بيني وبين الآخرين، بحيث يوصل كل منا خبراته إلى سواه، هي أن يقدم المتكلم للسامع قالبا فارغا قوامه العلاقات القائمة بين أطراف خبرته مجردة عن مضمون أطرافها المتعلقة بها، فيملأ السامع هذا القالب الفارغ من مخزون ذاكرته بما يجعل جملة المتكلم مفهومة له، فإذا لم يجد في ذلك المخزون ما يسعفه في ملء ما يريد أن يملأه، ظلت جملة المتكلم مستغلقة على فهمه؛ يقول المتكلم لمن يتحدث إليه - مثلا - «لمع البرق ليلة أمس»، فلا ينقل إليه بهذا الحديث «لمعة» كلمعة البرق، بل ينقل إليه «لفظا» أملا في أن يكون السامع قد كون في حياته الماضية «عادات» شبيهة بعادات المتكلم؛ أي أن يكون السامع قد رأى في حياته الماضية لمعة البرق، ووجد إلى جواره من يقول له «برق» في تلك اللحظة نفسها، بحيث ارتبط اللفظ المسموع باللمعة المرئية وتكونت «العادة» أو «الخبرة» التي تجعل كلمة «البرق» بعد ذلك مفهومة، لكن هذا السامع إذا ما فهم عن المتكلم معني عبارته «لمع البرق»، فإنما يفهمها لا بلمعة البرق التي رآها المتكلم، بل بلمعة البرق التي كان السامع قد رآها في خبرته الماضية واستذكرها الآن بمناسبة ذكر اللفظ المرتبط بها.
بهذا نفهم مذهب الوضعيين المنطقيين الذي يربط ربطا وثيقا بين معنى الجملة من جهة وطريقة تحقيقها من جهة أخرى؛ فما ليس لدينا طريقة لتحقيق صدقه يكون كلاما بغير معنى، وما يكون كلاما ذا معنى هو ما نملك وسيلة التحقق من صدقه، والتحقق من الصدق لا يكون - بالبداهة - إلا إذا فهم للكلام معنى، وفهم المعنى لا يكون إلا إذا كانت لدينا خبرات ماضية تستثيرها في الذاكرة ألفاظ الجملة المراد فهمها وتحقيقها. هكذا يتصل «معنى» الجملة ب «تحقيق صدقها» اتصالا يجعل قيام أحدهما مستحيلا بغير الآخر، فيستحيل أن يكون لكلام «معنى» بغير أن يكون الكلام ممكن التحقيق على أساس خبراتنا، ويستحيل أن يكون تحقيق الكلام ممكنا بغير أن يكون له معنى مفهوم استنادا إلى خبراتنا.
إن لنظرية المعرفة عندنا جانبين هامين يتوقف الواحد منهما على الآخر؛ فهنالك - أولا - السؤال الذي يسأل: في أي الظروف يكون للجملة من كلامنا معنى (ونريد المعنى الذي به يكون للكلام إشارة إلى شيء من الواقع)؟ ثم هناك - ثانيا - السؤال الذي يسأل: كيف يتاح لنا أن نعلم إذا كانت الجملة (ذات المعنى) صادقة في إخبارها عن العالم أو كاذبة؟ وهذا السؤال الثاني - كما تري - متوقف على السؤال الأول؛ لأن ما يتقرر عنه في الخطوة الأولى أنه غير ذي معنى، لا يسأل عن صدقه أو كذبه. على أن الإجابة عن السؤال الثاني هي التي تحدد ما يكون للجملة من معنى؛ لأنني حين أرجع إلى الخبرات التي تثبت صدق الجملة، أكون بهذا نفسه قد حددت الخبرات التي تجعل للجملة ما لها من معنى.
وأكرر هذا في عبارة أخرى زيادة في توضيحه، إننا إزاء الجملة المعينة نسير مرحلتين؛ ففي المرحلة الأولى نسأل: أي الخبرات «يمكن» أن يجعل للجملة معني؟ وفي المرحلة الثانية نسأل: هل هناك من الخبرات القائمة «فعلا» ما يجعل تلك الجملة صادقة؟ فإذا كنا إزاء السؤال لا ندري نوع الخبرات التي «يمكن» أن يجعل للجملة معنى، حذفناها من زمرة الكلام المفهوم، واستغنينا عن المرحلة الثانية التي هي مرحلة تحقيق صدقها؛ فإذا قيل لي مثلا إن «المطلق أزلي أبدي» كان السؤال الأول إزاء هذا القول هو: هل عندي من الخبرات التي أختزنها في ذاكرتي ما «يمكن» أن يجعل لهذه الكلمات الثلاث معنى؟ فإن لم أجد مثل هذه الخبرات، كان من العبث أن أنتقل إلى السؤال الثاني الذي يسأل إن كان هذا القول صادقا أو غير صادق؛ لأنه لكي أسأل هذا السؤال الثاني، يجب - بداهة - أن أفهم ماذا عسى أن يكون معنى الجملة المعروضة إذا ما ثبت أنها صادقة. وأما إذا اجتزنا المرحلة الأولى موفقين بأن عرفنا نوع الخبرات التي تجعل للجملة معنى، انتقلنا بعدئذ إلى المرحلة الثانية التي هي البحث عن الخبرات «الفعلية» التي حددنا نوعها في المرحلة الأولى، والتي إن وجدناها قلنا عن الجملة إنها ليست فقط ذات معنى مفهوم، بل إنها كذلك صادقة تنبئ عن العالم نبأ صحيحا.
معنى العبارة هو نفسه طريقة تحقيقها؛ فإذا لم نجد لتحقيقها طريقة كانت عبارة بغير معنى؛ هذا هو مبدؤنا الذي نحذف على أساسه العبارات الميتافيزيقية كلها؛ لأننا نلتمس طريقة لتحقيق هذه العبارات فلا نجد. يقول لنا الميتافيزيقي - مثلا - إن العالم أصله عقل، وإن هذه الأشياء المادية التي نحسها إن هي إلا ظواهر ذلك العقل، فلا نقول لذلك الميتافيزيقي إنه أخطأ القول، بل نطلب منه قبل ذلك أن يبين لنا كيف نتحقق - على أساس خبراتنا - من صدق عبارته؛ لأنه إذا لم يكن هنالك وسيلة لذلك التحقق من صدقها كانت عبارة خالية من المعنى، وكنا بالتالي على ضلال إذا وصفناها بحق أو بباطل؛ لأن ما يوصف بهذا الوصف أو ذلك هو الكلام ذو المعنى، والمعنى تحدده طريقة التحقيق.
وإنه ليكفينا أن نجد طريقة للتحقيق «إمكانا» إذا لم يكن التحقيق «الفعلي» في حدود المستطاع، إذا قال قائل عن وجه القمر الذي لا يواجه الأرض أبدا (فالقمر يواجه الأرض دائما بوجه واحد ويخفي الوجه الآخر) إن به جبالا ووديانا، فلا نرفض مثل هذا القول على أساس خلوه من المعنى، بل نقرر له معناه على الرغم من استحالة التحقق الفعلي من صدقه لاستحالة أن يري راء وجه القمر الذي يدور عنه الحديث. نعم إننا نقرر لهذا القول معنى لأن ألفاظه كلها مما قد تعودنا في مجرى الخبرة أن نربط بها ألوانا من الحس معلومة، فنحن على علم بنوع الانطباعات الحسية التي يتلقاها الرائي إذا رأي جبلا أو رأي واديا.
لكن مقياسنا هذا الذي نستخدمه لنميز به ما نقبله وما نرفضه من القضايا، يجد من المعارضة والمقاومة سيلا لا ينقطع في المؤلفات والدوريات الفلسفية، فحسبه خطرا أنه ينتهي بصاحبه إلى حذف الميتافيزيقا حذفا. والميتافيزيقا - كما تعلم - هي حصن الفلسفة الحصين، الذي تستقل به الفلسفة دون سائر ضروب المعرفة؛ ولذلك فهي حريصة على أن يظل مصونا من الأذى، فإذا رأينا معيارا نقيس به مشروعية العبارة المعينة من عبارات اللغة، بحيث يؤدي بنا إلى التنكر للعبارات الميتافيزيقية كلها، فالويل للمعيار والسلامة للحصن الذي يراد له البقاء. ولو كان معيارنا هذا أمرا تحكميا نفرضه جزافا لجاز للمهاجمين أن ينكروه، لكنه معيار منتزع من منطق اللغة نفسها، تلك اللغة التي لا يجد الميتافيزيقيون بدا من استخدامها للتعبير بها عن مذاهبهم، وأي شيء هو أدنى إلى البداهة من قولنا إن الجملة إذا أريد لها أن تخبر بخبر عن العالم وجب أن تكون كلماتها دالة على جوانب من خبرات السامع؟ فإذا لم تكن تلك الكلمات - باعتراف قائليها أنفسهم - مما يدل على شيء يقع في حدود الخبرة، أفلا نحكم عليها ونحن مطمئنون لصواب حكمنا بأنها إذن تكون كلمات فارغة لا تؤدي إلى السامع خبرا؟
ومن بين الناقدين للوضعية المنطقية في معيارها المذكور برتراند رسل،
Page inconnue