Vers une philosophie scientifique
نحو فلسفة علمية
Genres
الصدق في القضية الرياضية مقطوع به قبل أن تجاوز حدود القضية نفسها؛ فليس بك حاجة إلى مراجعة العالم الخارجي لتستيقن من أن الماء هو الماء حقيقة، أما إذا قيل لك إن الماء يتركب من عنصرين هما الأكسجين والهيدروجين، فعندئذ يختلف الموقف، ويصبح حتما عليك - إذا أردت التحقق من صدق هذا الزعم - أن تجاوز حدود العبارة نفسها إلى الواقع الشيئي الذي تصوره العبارة، محاولا أن ترى إن كان القول صادقا في وصفه لذلك الواقع أو لم يكن، وهذا هو المعنى المقصود حين يقال عن القضية الرياضية إنها «قبلية»، وعن القضية في العلوم الطبيعية إنها «بعدية»؛ فالأولى صدقها في صلب تكوينها اللفظي، وأما الثانية فصدقها مرهون بما هو موجود خارج حدودها. صدق الأولى ظاهر في طريقة بنائها، وصدق الثانية معتمد على طرف آخر تشير إليه العبارة.
القضية الرياضية «ضرورية» الصدق لأن نقيضها مستحيل منطقيا، ومعرفتنا بصدقها هي معرفة «قبلية»؛
8
لأننا ندرك ذلك الصدق من طريقة البناء الرمزي أو البناء اللغوي نفسها. وليس حتما أن تكون القضية ذات الطابع الرياضي قضية لغتها أرقام حسابية أو رموز جبرية، بل إنها لتمتد حتى تشمل كل قضية يظهر التحليل أنها مجرد تكرار المبتدأ في الخبر؛ فإذا قلت مثلا إن الأرملة امرأة مات زوجها، لم تقل أكثر من «أن المرأة التي مات زوجها امرأة مات زوجها»؛ ذلك لأنك لو وضعت مكان كلمة «الأرملة» تعريفها، وهو «امرأة مات زوجها»، كان لك بذلك هذا التكرار الذي رأيت؛ ومن ثم ضرورة الصدق ويقينه؛ فليس بك حاجة إلى مجاوزة العبارة نفسها لتتأكد من صدقها، ليس بك حاجة إلى السؤال عن الأرامل لتستيقن من أن كلا منهن قد مات زوجها؛ لأنها لو لم تكن كذلك لما صح أن تسمى بكلمة أرملة. ومن قبيل ذلك أيضا قولك: «كل جسم له امتداد.» فأنت هنا أيضا لا تزيد على قولك: «إن ما له امتداد له امتداد.» لأنك لو وضعت مكان كلمة «جسم» تعريفها، لكان لك بذلك هذا التكرار، وهكذا.
لا غرابة - إذن - أن تكون القضية ذات الطابع الرياضي صادقة بالضرورة صدقا قبليا؛ فهي صادقة على كل مكان وكل زمان، وصدقها غير مشروط بظروف خاصة، وهي أيضا صادقة صدقا يدل عليه بناؤها نفسه؛ لأن بناءها تكرار للرمز الواحد مرتين، وإن يكن هذا الرمز الواحد ذا صورتين مختلفتين ظاهرا، إلا أنهما يتخذان صورة واحدة عندما يوضع مكان أحد الشطرين تعريفه، لكن ما هكذا تكون الحال في جملة تقول إن سكان القاهرة ثلاثة ملايين، وإن الحجر الملقى يسقط على الأرض ولا يرتفع في الهواء؛ فها هنا لا بد من مجاوزة الجملة إلى ما تشير إليه من حقائق الواقع، ومهما حاولت أن تضع مكان الكلمات هنا ما يعرفها فلن تصل إلى قول تكراري كالذي نصل إليه عند تحليل القضية الرياضية. نعم، لا بد لك من مجاوزة الجملة إلى ما هو خارجها من حقائق الواقع إذا ما كانت الجملة تحمل خبرا عن الواقع، وبعد ذلك فقد أجد الواقع مصدقا للجملة أو مكذبا لها، قد أجد أن سكان القاهرة فعلا يزيدون أو ينقصون عن الثلاثة الملايين التي زعمتها الجملة، وقد أجد الحجر الملقى لا يتجه إلى أسفل كما تدعي الجملة؛ وإذن فأمثال هذه الجملة أو تلك صدقها لا ضرورة فيه، وهو لا يعرف إلا «بعد» خبرة تؤكد الصدق أو تنفيه.
إننا إذ نقول عن الجملة الرياضية إنها «قبلية» فلسنا نعني بذلك أن معرفتنا بها قد جاءت قبل الخبرة من حيث الترتيب الزمني؛ أي إننا لا نعني أننا عرفناها أولا ثم جاءت بعد ذلك خبراتنا؛ إذ ليس هنالك معرفة قط سبقت خبرة الإنسان في الزمن، فأقل ما يقال هنا هو أن الإنسان لا بد له أولا أن يتعلم الرموز التي ترد في الجملة الرياضية التي نقول إننا نعرفها معرفة «قبلية»؛ كلا، لسنا نريد بهذه «القبلية» أسبقية في زمن الحدوث، بل نعني شيئا يتصل بطريقة تحقيقها؛ ففي تحقيق صدقها نعلم أنها صادقة قبل أن نحتكم في ذلك إلى خبرة؛ لأن تكوينها الرمزي ذاته دال على ضرورتها ويقينها؛ إذ إنها لا تعدو أن تقول عن الشيء إنه هو الشيء نفسه، ولو نقضناها أخطأنا حتما؛ لأننا عندئذ نكون بمثابة من ينكر أن يكون الشيء هو الشيء نفسه؛ فالجملة الضرورية اليقينية دائما تحليلية؛ أي إنها دائما تحصيل حاصل، تحصل في محمولها ما سبق لها أن حصلته فعلا في موضوعها، وصورتها دائما ترتد إلى «أ هي أ»؛ أي إنها دائما خالية من الخبر. وقد يكون هذا الخلاء من الإخبار باديا للنظرة الأولى كقول القائل إن الماء هو الماء، وقد يحتاج إلى تحليل قصير أو طويل لإظهاره وإبرازه.
الجملة التكرارية (أو التحليلية) «قبلية» ما في ذلك إشكال ولا خلاف، والجملة الإخبارية (أو التركيبية) «بعدية»؛ لأن تحقيق صدقها يتطلب مراجعة الواقع، وهي مراجعة قد تنتهي بتأييدها أو بتفنيدها، ولكن هل يمكن للجملة الإخبارية - التي تقول عن العالم الخارجي شيئا - أن تكون قبلية كذلك؟ أعني هل يمكن الحكم على قضية إخبارية بالصدق الضروري اليقيني من مجرد النظر إلى تكوينها، كما نفعل في القضية الرياضية؟ جوابنا عن هذا السؤال بالنفي، وأما «كانت» فليس جوابه عنه بالإيجاب فحسب، بل إنه يسلم بهذا الإيجاب تسليما كما لو كان الأمر بديهية واضحة بذاتها، ثم يسأل بعد ذلك: «كيف أمكن للقضية الإخبارية أن تكون معرفتها قبلية؟» وقد جاءت فلسفته إجابة عن هذا السؤال.
موقفنا هو استحالة الجمع بين الخبر وضرورة الصدق في جملة واحدة، فإذا كانت الجملة إخبارية فهي ليست ضرورية الصدق؛ إذ يحتمل أن نراجعها على الواقع فإذا هي باطلة. وإذا كانت الجملة ضرورية الصدق فهي إذن فارغة من الخبر، وهي تكرار وتحصيل حاصل. أما «كانت» فرأيه أن قضايا الرياضة وقضايا الطبيعة سواء في أنها ذات مضمون خبري، وأنها في الوقت نفسه ضرورية الصدق، ومعرفتنا بها هي معرفة قبلية، لا تستدعي مراجعة الواقع الخارجي في تحقيقها. ومن الأسس التي يبني عليها وجهة نظره هذه أن بديهيات الهندسة ليست تحصيل حاصل؛ إذ فيها من المضمون ما يطابق وقائع العالم الخارجي، ومع ذلك فهي ضرورية الصدق، ومعرفتنا بذلك الصدق قبلية؛ ومن ثم جاز أن نستدل منها نظريات يقينية يمكن تطبيقها على العالم الطبيعي. خذ - مثلا - بديهية في الهندسة تقول إن الكميات المتساوية إذا أضيفت إلى كميات متساوية كانت النتائج متساوية، فهي صادقة بالضرورة، وصدقها واضح من بنائها اللغوي ذاته، ومع ذلك فإذا طبقتها على كميات من البرتقال أو كميات من الماء انطبقت؛ ومعنى ذلك أنها قبلية وأنها في الوقت نفسه خبرية، ولا تناقض بين الوجهين.
إن الزعم هنا هو أن العالم الرياضي - إقليدس مثلا - إذ يضع المسلمات في صدر بحثه، ليأخذ في استنباط النظريات المترتبة عليها، لم يستمد مسلماته تلك من الخبرة، ومع ذلك فهي مطابقة للخبرة، هي وكل ما يترتب عليها من نظريات؛ فيكون معنى ذلك أن ما قد صدق صدقا عقليا صرفا وجد أنه كذلك صادق صدقا تطبيقيا على الواقع، وهنا ينشأ سؤال «كانت»: كيف أمكن لمثل هذا التوافق أن يكون؟ والخطأ هنا هو في الاعتقاد بأن بديهيات الرياضة ونظرياتها منطبقة حتما على الواقع الخارجي؛ فقد أثبتت نتائج البحث الرياضي في المائة السنة الأخيرة (منذ منتصف القرن الماضي أو نحو ذلك) أن مسلمات إقليدس يمكن تغييرها، واستبدال غيرها بها، والوصول بعد ذلك إلى نظريات غير نظرياته، دون أن يكون معنى هذا التغيير خطأ في هندسة إقليدس ولا خطأ في هندسة تقام على مسلمات غير مسلماته وتنتهي إلى نظريات غير التي انتهى هو إليها؛ ذلك لأن الصدق في الرياضة هو صدق اتساق لا صدق تطابق، فيكفي أن يكون البناء الرياضي متسقا مقدماته مع نتائجه، مهما تكن تلك المقدمات، لنقول عنه إنه بناء صحيح من الناحية الرياضية البحت، أو قل من الناحية المنطقية البحت؛ لأن العبارتين معناهما واحد، فكلا المنطق والرياضة علم صوري إذا اتسقت فيه الصورة توافرت له بذلك شروط الصواب.
تغير أساس الرياضة بحيث لم تعد المسلمات في البناء الرياضي أمرا محتوما له أن يصدق أيضا على الواقع، بل هي مسلمات لأنها فروض يجوز تغييرها وتبديلها؛ فينشأ نتيجة لكل تغيير أو تبديل بناء رياضي مختلف، دون أن نعرف من البناء الرياضي نفسه إن كان هو الذي يطابق الطبيعة الخارجية أم يطابقها بناء رياضي آخر؟ وإذن فقد انهار الأساس الذي بنى عليه «كانت » فلسفته كلها؛ ففلسفته كلها بحث عن الشروط العقلية التي جعلت في الإمكان أن تكون مسلمات الرياضة - مثلا - صادقة صدقين في آن واحد؛ فهي صادقة قبل الخبرة وصادقة بعد الخبرة معا. ولم يكن ليقول ذلك لو علم أن تلك المسلمات يمكن استبدال غيرها بها دون أن يتأثر الصدق الرياضي في شيء.
Page inconnue