Vers une philosophie scientifique
نحو فلسفة علمية
Genres
كلمة «قلم» - إذن - ليست كلمة «واحدة» كما يسهل على الناس أن يظنوا، بل كما يسهل على الفلاسفة أنفسهم أن يزعموا حين يزعمون أن هنالك كلمة «واحدة» من ناحية، ومسميات كثيرة هي أفراد النوع المسمى من ناحية أخرى، ثم يجعلون المشكلة الفلسفية في هذا الصدد هي: كيف أمكن لكلمة واحدة أن تسمي أفرادا كثيرة؟ أو بعبارة أخرى: ما طبيعة الاسم الكلي؟ وهم يقصدون ب «الاسم الكلي» اسما واحدا يطلق على أفراد النوع كلها، لكن ها نحن أولاء قد رأينا أن الاسم في الحقيقة ليس واحدا، بل هو مجموعة ضخمة من حالات مختلفة من طرائق النطق والكتابة وصور السمع والقراءة، ويقابل هذه المجموعة الكبيرة من ناحية الكلمة مجموعة كبيرة ضخمة من ناحية المسميات. ونعود إلى مثال «القلم» فنقول إن هنالك في عالم الحوادث الواقعة أسرتين كبيرتين جدا نجعل الواحدة منها دالة على الأخرى؛ فمن جهة هناك أسرة أفرادها هي حالات الكلمة، ومن جهة أخرى هناك أسرة أفرادها هي الأقلام القائمة في عالم الأشياء، وأي فرد من أفراد الأسرة الأولى يكون دالا على أي فرد من أفراد الأسرة الثانية؛ فلفظ «القلم» في أي صورة من صوره الأربع (منطوقا أو مسموعا أو مكتوبا أو مقروءا)، وفي أي حالة من ملايين الحالات التي تتبدى فيها كل صورة من تلك الصور، كاف للدلالة على أي قلم على كثرة ما هنالك من أقلام وعلى اختلاف ما بينها من صفات.
لكن ما أيسر الوقوع في الخطأ هنا، لا أقول بين عامة الناس، بل بين الفلاسفة أنفسهم، بحيث يظنون أن هنالك كلمة واحدة، هي كلمة «قلم» من ناحية، وأسرة كبيرة من الأقلام من ناحية أخرى، ثم يسألون بعد ذلك هذا السؤال: أين مسمى هذه الكلمة الواحدة؟ افرض أننا أطلقنا على كل قلم من مجموعة الأقلام اسما خاصا به يميزه من سائر الأقلام - كما نفعل في أفراد الإنسان مثلا - فها هنا سيكون لكل قلم فرد اسمه الجزئي الخاص به، فماذا يكون مدلول لفظ «قلم» العام عندئذ؟ لا شيء. أيكون لكل اسم جزئي مسماه، ولا يكون لهذه الكلمة العامة مسمى؟ كلا - هكذا يفكر الأفلاطونيون - بل لا بد أن يكون لهذه الكلمة الكلية مسمى كذلك في العالم الخارجي ليكون شأنها في ذلك - على الأقل - شأن أسماء الأفراد؛ وإذن فلا بد أن يكون هنالك في العالم الخارجي «قلم» عام يقابل هذا الاسم العام، وهذا «القلم العام» يختلف عن الأقلام الفردية في اقتصاره على الصفات الرئيسية التي تجعل من القلم قلما، واستغنائه عن الصفات العرضية التي إن وجدت في قلم ما فقد لا توجد في غيره من الأقلام، ويسمون هذا «القلم العام» مثال القلم أو فكرة القلم، ولكن أين نجد هذا المثال أو هذه الفكرة؟ إنها بالبداهة لا تكون في عالمنا الأرضي لأنه عالم قوامه الجزئيات المحسوسة؛ وإذن فلا بد أن يكون إلى جانب هذا العالم الأرضي عالم آخر يكون قوامه الأفكار العامة أو المثل. وهكذا يؤدي خطأ التحليل لطبيعة الكلمة إلى خطأ في النتيجة التي ننتهي إليها. ولو عرفنا منذ البداية أن الكلمة «الواحدة» ليست في الحقيقة واحدة، بل هي ملايين الحالات لتطابق ملايين الأفراد الجزئية، كل حالة من اللفظ تقابلها حالة جزئية من أفراد المسميات، لما اضطررنا إلى سؤالنا: ماذا عسى أن يكون مسمى هذه الكلمة «الواحدة» العامة، وبزوال السؤال تزول المشكلة ونجتنب الوقوع في الخطأ.
2
إذا كان الذي بين أيدينا هو مجموعتان من الأشياء - وإن شئت دقة في التعبير فقل إن بين أيدينا مجموعتين من الأحداث - فمجموعة منها هي الصور والحالات التي تكون عليها الكلمة، ككلمة «قلم» - مثلا - ومجموعة أخرى هي أفراد الأقلام، ثم إذا كنا قد جعلنا المجموعة الأولى دالة على المجموعة الثانية، فلنا الآن أن نسأل: ما الذي يبرر لحدث من أحداث الطبيعة أن يكون «اسما» ولحدث آخر أن يكون مسمي؟ إذا كان الاسم ومسماه من طبيعة واحدة، فكلاهما أحداث طبيعية تطرأ على المادة - وهل هناك فرق جوهري بين الذرات المادية التي اجتمعت معا فكونت قلما، وبين الذرات المادية التي اجتمعت معا في قطرة المداد التي نكتب بها كلمة «قلم»؟ - أقول إذا كان الاسم ومسماه كلاهما من طبيعة واحدة لأن كليهما من أحداث، فما الذي يجعل واقعة طبيعية اسما دالا على واقعة طبيعية أخرى؟
الجواب هو: الاتفاق الصرف؛ فليس في أية لفظة في الدنيا سر خفي يحتم أن تدل على ما تدل عليه، اللهم إلا ما قد تواضع عليه الناس من أن يكون «صوت» معين دالا على شيء معين، أو أن تكون صورة مدادية معينة دالة على شيء معين؛ فاللفظة المنطوقة هي في طبيعتها صوت كأي صوت آخر، هي صوت كما أن حفيف الشجر صوت، وزمجرة الهواء على صخور الجبل صوت، وخرير الماء أو هديره صوت، وقرقعة الرعد صوت، وهكذا؛ هي في طبيعتها صوت كأي صوت آخر مما يخرج عن حنجرة الإنسان، كصرخة الصارخ وقهقهة الضاحك، فما الذي يميزها من سائر الأصوات بحيث تصبح - دونها - لفظا ذا مدلول؟ الجواب هو: الاتفاق الصرف ولا شيء غير ذلك، وللناس أن يغيروا من اتفاقهم كيفما شاءوا وفي أي وقت شاءوا، إنه لا فرق بين أن يتفقوا على أن تكون كلمة «أحمر» دالة على اللون الذي نطلق عليه هذه التسمية، وبين أن يتفقوا على أن يكون النور الأحمر في علامات المرور دالا على وجوب الوقوف عن السير، في كلتا الحالتين كان يمكن أن يتغير الاتفاق؛ لأنه في كلتا الحالتين ليس في طبيعة «الرمز» شيء يحتم أن يكون دالا على ما اتفق الناس أن يدل عليه.
وجدير بنا في هذا الموضع أن نفرق بين «العلامة الطبيعية» و«الرمز الاتفاقي»؛ فإذا كان البرق علامة طبيعية تدل على أن صوت الرعد وشيك الوقوع في الأسماع، أو كان شحوب الوجه علامة طبيعية على المرض، وهكذا، فإن أمثال هذه العلامات الطبيعية ليست من صناعة الإنسان ولا رهن اتفاقه، بل إن العلامة ودلالاتها كليهما من الحوادث الطبيعية المقترنة، سواء أراد لها الإنسان أن تقترن أو لم يرد. وأما «الرمز الاتفاقي» فغير ذلك؛ فالناس هم الذين اتفقوا على أن يكون الثوب الأسود رمزا للحداد، وأن يكون الأبيض رمزا للنقاء، وأن يكون صوت جرس معين رمزا لعربة الإسعاف، وصوت جرس آخر رمزا لقيام القطار؛ كل هذه رموز اتفاقية لم يكن هنالك في طبائع الأشياء ما يحتم أن نجعلها دالة على ما هي دالة عليه، ولا ما يمنع أن نستبدل بها رموزا أخرى تدل على ما هي دالة عليه - وكلمات اللغة هي من قبيل الرموز الاتفاقية في دلالتها، وليست من قبيل العلامات الطبيعية.
يقول الجرجاني في كتابه «دلائل الإعجاز»: إن الكلمة المفردة في دلالتها على معناها ليست من إملاء العقل، بل هي محض اتفاق؛ «فلو أن واضع اللغة كان قد قال «ربض» مكان «ضرب» لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد» (ص39). وليس هنالك «صواب» أو «خطأ» في دلالة الكلمة على مسماها الذي اتفق الناس على أن تدل عليه، وإنما يبدأ الصواب أو الخطأ في استعمال الناس لهذه الكلمة بعد أن تم بينهم الاتفاق على استعمالها؛ فإذا كنا قد اتفقنا على أن يكون لفظ «قلم» دالا على هذه الأداة المعينة التي نكتب بها، أصبح من الخطأ أن نستخدم هذه اللفظة لغير ما وضعت له، إلا إذا نبهنا السامع أو القارئ للتغيير الذي أحدثناه في معناها.
ليس للكلمات من قوة سوى أنها رموز تدل على ما اتفقنا أن تدل عليه، فليس فيها وراء ذلك سر ولا سحر، ما دمنا نستخدمها للتفاهم لا لغرض فني أو وجداني آخر. ليس لكلمة «سمسم» في التفاهم إلا أن تكون دالة على البذور المعروفة بهذا الاسم، أما أن يكون لها من السحر ما ينفتح له الجبل الأصم فشيء يحكى ليشبع الخيال لا ليخدم أغراض العقل. يقول لويس كارول في كتابه الفكه الممتع الذي يحكي فيه عن مغامرات «ألس» في أرض العجائب:
قال «همتي دمتي»: أرأيت هذا المجد؟
فقالت ألس: لست أدري ماذا تعني بكلمة «المجد»!
Page inconnue