Nafha Zakiyya
النفحة الزكية في تاريخ مصر وأخبار الدولة الإسلامية
Genres
الفصل الثالث
في دولة المماليك، وفيه مطلبان:
أصل هؤلاء المماليك من سكان أقاليم بحر الخزر وجبال القوقاز، فلما أغار المغول على تلك البقاع، وأوقعوا القتل والأسر في أهلها حتى شتتوا قبائلهم، هرع إليهم تجار الرقيق من كافة أنحاء الشرق، وصاروا يجلبون هذه التجارة إلى جميع أسواق آسيا الغربية، وحيث كان هؤلاء المماليك من الشبان الشديدي البنية السليمي الصحة الجميلي الصورة انتهز فرصة ذلك جميع أمراء آسيا، وصاروا ينظمونهم ضمن جنديتهم، وبالجملة كون منهم سلاطين مصر طائفة من الجندية خاصة بهم، وكانوا كثيري العدد والعدد فاستولوا على جميع وظائف الحكومة، ولم يتيسر ردعهم وإدخالهم تحت نظام، حتى آل الأمر إلى أن وقعت حكومة مصر بأجمعها في قبضتهم، وقد انقسمت دولتهم فيها إلى دولتين متميزتين بالنسبة لجنسية أمرائهما؛ فإن الأولى منهما كان أمراؤها من التركمان؛ ولذا تسمى بدولة التركمان، والثانية كان أمراؤها من الجراكسة، وأما مجرى الحوادث وسير الأمور السياسية فيهما فكان واحدا؛ وهو المداومة على الهيجان والثورات؛ فقد كانت أمراؤهما دائما في أشد المعارضة لمن يتولى الملك منهم، ولا يعرفون غير القوة التي كانوا يستعملونها في خلعه عن الملك لإقامة غيره عليه، وهكذا.
المطلب الأول
في دولة المماليك التركمان
تسمى هذه الدولة أيضا بدولة المماليك البحرية؛ لأن أمراءها كانوا يسكنون حصونا بالجزء الجنوبي من جزيرة الروضة بقرب المقياس وعلى طول الفرع الشرقي من النيل، وقد حكمت 136 سنة (648-784ه) تسلطن في أثنائها على مصر أحد وثلاثون أميرا من هؤلاء المماليك؛ أولهم شجرة الدر زوجة الملك الصالح التي استولت على الملك بعد قتل ابنها الملك المعظم توران شاه آخر ملوك الدولة الأيوبية؛ نظرا لكثرة الاضطراب الذي حصل في مصر بسبب اختلاف الأحزاب على من يبايعون بعده، وقد أشركت هذه الملكة عز الدين أيبك في الحكم معها، ولقبته بالأتابك؛ أي نائب الملك، وأحسنت السياسة في مصر وأوجدت الراحة والأمن فيها. غير أنها لم تلبث أن خرجت عن طاعتها مدن الشام التي خضعت لملك حلب، فالتزمت بالتنازل عن الملك لعز الدين أيبك وتزوجت به، ولكنه لم يلبث هو أيضا أن قام عليه بعض المماليك وجبروه على أن يقتسم الملك مع أمير من الأيوبيين عمره ثمان سنوات يدعى الملك الأشرف بن يوسف، كانوا قد أحضروه من اليمن، فاستمر في إدارة البلاد باسم أتابك. غير أنه كان بيده السلطة حقيقة، ولم يكن الأشرف المذكور إلا اسما بلا رسم، وقد نهض في خلال ذلك سلطان دمشق ناصر الدين يوسف أحد أعضاء العائلة الأيوبية للأخذ بثأر الملك المعظم توران شاه، فوقعت الحرب بين ناصر الدين والملك المعز أيبك، إلا أنها انتهت بانتصار المصريين، فوقع الصلح بينهما على أن يكون للماليك مصر وغزة وأورشليم.
ثم عزم أيبك على الاستقلال بالملك فأوقع بالحزب المعارض له؛ حزب الملك الأشرف بعد أن قتل رئيسه الفارس أقطاي وقبض على الملك الأشرف، وألقاه في السجن حتى مات، فلما استتب له المقام شرع في التخلص من شجرة الدر أيضا، فاقتنى عليها سراري أخريات، فولدت له إحداهن ولدا سماه نور الدين، ثم سعى أيضا في التزوج بابنة بدر الدين لؤلؤ ملك الموصل فاغتاظت منه شجرة الدر، وأمرت خمسة خصيان بيض أن يكمنوا له في الدهليز السري الموصل إلى دار الحريم، فخنقوه هناك بعمامته، وأشاعت أنه مات مصروعا، وقد خلفه ابنه نور الدين علي الملقب الملك المنصور، فقبض على قاتلة أبيه وعهد بها إلى نساء بيته فأماتوها ضربا بالقباقيب على رأسها، وطرحوا جثتها في خندق القلعة، فأكلت الكلاب نصفها ودفن النصف الباقي قرب مدفن السيدة نفيسة، ولم يحكم نور الدين إلا مدة قصيرة ثم خلفه سيف الدين قطوز الملقب الملك المظفر، وأصله من ذوي العائلات الملوكية؛ فقد كان ابن مودود شاه ابن أخي ملك خراسان، ووقع في رق العبودية لما تشتتت عائلته بإغارة التتار، وفي أيامه قصد التتار مصر بعد تخريبهم بغداد وقتل المستعصم آخر الخلفاء العباسيين، فخرج إليهم بجيوش المصريين، وتلاقى بهم عند فلسطين فهزمهم وكسب منهم غنيمة عظيمة، ثم قتل أثناء رجوعه إلى مصر، وتولى بعده قاتله ركن الدين بيبرس البندقداري، وتلقب أولا بالملك القاهر ثم بالملك الظاهر أبي الفتوح، وكان أشهر ملوك هذه الدولة ومن أعظم ملوك مصر قوة وشوكة، محبوبا عند الرعية فارسا مقداما، نظم أمور مصر ووسع حدودها؛ فقد انتصر على التتار مرارا وأجلاهم عن بلاد الشام وضمها إلى مصر، وكذا أرمينية، فاتصلت فتوحاته شمالا إلى بلاد الأناضول، وافتتح جنوبا بلاد النوبة وجميع وادي النيل الأعلى، وفي أيامه التجأ إلى مصر من نجا من العباسيين من رق العبودية بعد سقوط دولتهم ببغداد، وكان في جملتهم ابن الظاهر بأمر الله الخليفة الثاني قبل المستعصم، فأكرمه بيبرس وترحب به وقلده الخلافة بمصر باسم المستنصر بالله، فاستمر اسم الخلافة لبني العباس وصار مقرهم بمصر، وكانوا يلقبون بالأئمة حتى تملك العثمانيون على مصر، فأخذ ملكهم السلطان سليم هذا الاسم من الخليفة المتوكل على الله آخر العباسيين بمصر، وانقرضت حينئذ الخلافة العباسية كلية.
ومن آثار بيبرس بمصر الجامع الكبير المسمى باسمه الذي بناه خارج باب الحسينية، وقد توفي سنة 676ه بعد أن حكم سبع عشرة سنة، وترك مصر في أعلى درجة من المجد والرفعة والثروة والشوكة، وقد ترك من الأولاد ثلاثة خلفه على الملك اثنان منهم على التعاقب، ثم تولى بعدهما سيف الدين قلاوون الألفي، وتلقب بالملك المنصور، وهو الذي بنى للفقراء الدار المعروفة بالبيمارستان التي أتمها وأصلحها ابنه الملك الناصر، وفي أيامه أغار التتار على بلاد الشام، فخرج إليهم بعسكر المصريين وهزمهم ثم تغلب على مدينة طرابلس الشام وأخذها من الفرنج بعد مقاومة شديدة فهدمها وذبح أهلها، وقد خلفه بعد موته ابنه صلاح الدين خليل، ولقب بالملك الأشرف، فخرج في السنة الثانية من حكمه سنة 690ه إلى بلاد الشام، وحاصر الفرنج بعكا، وكانت آخر مدينة يمتلكونها في الشرق فتملك عليها وهدم أسوارها، ولما رجع إلى مصر لم يلبث أن خرج منها ثانيا، وأغار على بلاد أرمينية فخرب بلادها، وتملك على مدينة أرضروم، وكانت حصينة منيعة، فلما عاد بعد ذلك إلى مصر تواطأت إحدى جواريه مع مملوك له يدعى بيدارا وقتلاه بعد أن حكم ثلاث سنين، وإليه ينسب الخان المشهور بالخان الخليلي في السكة الجديدة في القاهرة، وكان بهذا المكان قبل ذلك مدافن الخلفاء الفاطميين، فبنى الخان على أنقاضها، ولما مات الملك الخليل خلفه قاتله بيدارا، لكنه لم يحكم سوى يوم واحد، ثم قتل فتولى محمد بن قلاوون، ولقب بالملك الناصر، وكان عمره تسع سنوات فجعل زين الدين كتبغا وصيا على الملك، فلم يلبث أن خلع الملك الناصر ونفاه إلى الكرك، وتولى هو الملك وتلقب بالملك العادل، ثم خلع فخلفه حسام الدين لاجين، ثم سيف الدين طفجي، ولم يحكم هذا سوى يوم واحد، ثم قتل فأعيد إلى الملك الناصر بن قلاوون، وكان عمره إذ ذاك خمس عشرة سنة تقريبا، فخرج بعد عوده إلى الملك بمدة يسيرة إلى بلاد الشام لمحاربة التتار، فانهزم جيشه أولا لكنه جمعه ثانيا وأمده بالعدد والرجال، ورجع إلى التتار فهزمهم شر هزيمة وعاد منصورا إلى القاهرة، ثم خاف على نفسه لما علم بمؤامرة أمراء المماليك ضده، فخرج من مصر مع كثير ممن يعتمد عليهم مظهرا أنه يريد الحج، وتوجه إلى الكرك وتحصن فيه، وأرسل لأمراء المماليك بأنه تنازل عن ملك مصر، فولوا ركن الدين بيبرس الجاشنكير الملقب بالملك المظفر، فلم يلبث أن حضر الملك الناصر إلى مصر ثانيا وتملك عليها إلى أن مات سنة 741، وقد أصلح مصر وبنى بها كثيرا من المدارس، وتمم البيمارستان الذي كان ابتدأ أبوه بناءه ووسعه وأوقف عليه أوقافا كثيرة، وقد ترك ثمانية أولاد ذكور تناوبوا الملك بعده الواحد بعد الآخر، إلا أن مددهم جميعا كانت قصيرة جدا خالية من الرونق والبهاء؛ فكان الواحد منهم يجلس على كرسي المملكة ثم يخلع في وقت قريب، وكان منهم الملك الناصر ناصر الدين حسن صاحب الجامع المعروف بجامع السلطان حسن الذي بالرميلة بقرب القلعة .
ولم يزل ملك مصر في عائلة السلطان قلاوون إلى آخر أيام هذه الدولة؛ فإن الأربعة ملوك الذين خلفوا أولاده الثمانية على سرير الملك كانوا أيضا من ذريته، فلما تولى الملك الصالح حاجي وهو آخر الأربعة، وكان عمره ست سنوات لم يلبث وصيه على الملك الأمير برقوق أن خلعه ونفاه، وتولى هو على السلطة الملوكية، فكان أول سلاطين دولة المماليك الثانية، وهي دولة الجراكسة.
المطلب الثاني
Page inconnue