Nafha Zakiyya
النفحة الزكية في تاريخ مصر وأخبار الدولة الإسلامية
Genres
وكان أحمد قد تعلم وتربى تربية حسنة حتى اشتهر بالعلم والشجاعة والتقوى، فأحبه كثير من العلماء ومال إليه كثير من الأتراك؛ منهم ياركوج من كبراء حرس الخليفة فزوجه بابنته، وهي التي رزق منها بابنه عباس، وقد شب أحمد بن طولون بين الدسائس والثورات التي كانت للأتراك، ولكنه لم يتداخل فيها قط، بل عكف على توسيع معارفه والاشتغال بالعلم، فسار يسافر إلى طرسوس بآسيا الصغرى لتلقي العلوم بمدارسها، وقد صادف أثناء رجوعه من طرسوس إلى سامر أن هجم بعض العربان على القافلة ليسلبوا منها أموالا كانت محمولة إلى الخليفة المستعين بالله، فحمل عليهم أحمد بعزم شديد وردهم على أعقابهم واستخلص منهم أموال الخليفة، وكان عمره إذ ذاك تسعا وعشرين سنة، فلما وصل الركب إلى سامرا وبلغ الخليفة الخبر أعطاه ألف دينار، ووهبه إحدى جواريه المسماة مية التي ولدت له ابنه الثاني خمارويه سنة 250 هجرية، وكان ذلك مبدأ شهرته وظهوره، فلما تولى بابكيال أحد رؤساء الأتراك عاملا على مصر من قبل الخليفة المعتز بالله سنة 254 هجرية لم يرغب هذا العامل في أن يترك بغداد محل نفوذه ويذهب إلى مصر، فاستخلف عليها أحمد بن المدبر وأحمد بن طولون، وقسم بينهما إدارة البلاد؛ فأعطى أحمد بن المدبر جباية الأموال، وأعطى أحمد بن طولون باقي الوظائف عسكرية وإدارية، وجعله نائبا عنه ، فحضر ابن المدبر إلى مصر قبل مجيء ابن طولون إليها، فاضطهد الأهالي كثيرا، وثقل عليهم الضرائب؛ وذلك أنه ابتدع في مصر بدعا استمرت من بعده؛ فقد أحاط بالنطرون وحجز عليه بعدما كان مباحا لجميع الناس، وقرر على الكلأ الذي ترعاه البهائم مالا سماه المراعي، وقرر على ما يطعمه الله من البحر مالا سماه المصائد، فانقسم مال مصر إلى خراجي وهلالي.
أما الخراجي فهو ما يؤخذ مسانهة من الأراضي التي تزرع حبوبا ونخلا وعنبا وفاكهة، وما يؤخذ من الفلاحين هدية مثل الغنم والدجاج وغيره من جهة الريف، وأما الهلالي فعلى نوعين سماهما بالمرافق والمعاون، وهو ما يؤخذ من الضرائب على مثل ما ابتدعه ابن المدبر كما تقدم؛ فكره الأهلون هذه المعاملة، وجعلوا يسعون إلى الكيدية، وكان عالما بذلك، فجعل في حاشيته الخاصة نحوا من مائة غلام هندي ممتازين بالقوة والشجاعة كانوا يرافقونه إلى حيث توجه، فلما قدم ابن طولون إلى مصر ليستلم زمامها خرج لمقابلته ابن المدبر بحرسه، وأهدى إليه هدايا قيمتها عشرة آلاف دينار، فردها عليه ابن طولون وطلب منه عوضا عنها المائة غلام، فلم يجد بدا ابن المدبر من أن يبعثها إليه، فتحولت هيبة ابن المدبر إلى ابن طولون؛ حيث انتقلت السلطة إليه وصارت تزداد شوكته شيئا فشيئا بتطهيره مصر من عصاتها، ثم استخلف أخاه موسى بن طولون على مصر، وخرج في جيش بأمر الخليفة المعتمد على الله لمحاربة عيسى بن الشيخ أمير الشام، حيث كان استولى على أموال مرسلة إلى الخليفة من مصر، ولكنه وصله وهو في الطريق كتاب من الخليفة يأمره بالعود إلى مصر؛ حيث أرسل عوضا عنه لمحاربة عيسى بن الشيخ أماجور التركي، فلما عاد ابن طولون إلى مصر عزم على الاستقلال بها، فشرع في تحصين البلاد وجمع الأموال، وأكثر من العسكر وآلات الحرب، فضاقت عليه العسكر محل إقامته، فانتقل منها إلى هضبة جبل يشكر الممتدة في شرق الفسطاط لغاية أسفل الجبل المقطم، فأسس فيها مدينة جديدة سماها القطائع؛ لأنه كان أقطع رؤساء جيشه أرضها فقسمها بينهم، وكلفهم بأن يبنوا فيها مساكن كل في إقطاعه، فشيدوا بها مساجد وحمامات وبساتين وبيوتا وأسواقا ومعامل ودكاكين وخانات، وقد اتخذ بها أحمد بن طولون ميدانا للجيش، وأسس فيه قصره فسمي بالميدان، فلما كانت سنة 257 هجرية ولى المعتمد بن المتوكل على الله ياركوج صهر أحمد بن طولون أبا زوجته عاملا على مصر بعد موت بابكيال، فصار أحمد بن طولون نائبا عموميا عنه، ثم مات هذا العامل في السنة الثانية، فتحصل ابن طولون على أمر من الخليفة بتقليده ولاية مصر، فلما انفرد بإدارتها خفف على الأهالي الضرائب الباهظة التي كانوا يؤدونها، فألغى الخراج الهلالي الذي وضعه ابن المدبر، وأصلح مقياس النيل الذي بالروضة، وأسس إسبتالية في العسكر، وكانت أول إسبتالية أسست في مصر، وأمر بإصلاح منارة الإسكندرية وصهاريجها، وأوصل مياه النيل إليها، وشيد بالقطائع جامعه المسمى باسمه، فأتم بناءه في سنتين، ولم يدخل في بنائه شيئا يحترق أو تفسده الرطوبة؛ فهو مبني بالجبس والطوب الأحمر فقط، ثم تملك على بلاد الشام؛ مع مضادة الموفق أخي الخليفة له، ثم توفي في ذي القعدة سنة 270ه، ودفن بالجبل المقطم، وترك شيئا كثيرا من آلات الحرب ومن الخيل والعبيد، وترك من الأولاد ثلاثين ولدا منهم سبعة عشر ذكورا وثلاث عشرة إناثا؛ مع أنه لم يبلغ من العمر خمسين سنة.
ثم خلفه ابنه خمارويه، وكان يلقب أبا الجيش، فأخذ في تدبير الأحكام، ولم يغير شيئا مما كان على أيام أبيه، بل أبقى الرتب والوظائف على حالها، وأرسل مراكب حربية تجول في سواحل الشام ليتأكد من تحصينها، ثم التفت للأمور الداخلية؛ فزاد في قصر أبيه، وجعل الميدان كله بستانا زرع فيه أنواع الأزهار والأشجار، واتخذ في هذا البستان برجا من خشب وضع فيه جميع أنواع الطيور المستحسنة الحسنة الصوت وغير ذلك، وعمل ميدانا غيره أكبر منه، واقتنى كثيرا من الخيول للسباق، وكثيرا من الحيوانات المفترسة وغيرها كالسبع والنمر والفيل والزرافة وغير ذلك. ثم لما تولى الخلافة المعتضد بالله أراد خمارويه تحسين العلائق بينه وبين هذا الخليفة ليزيل ما كان حصل بينهما من الخلاف أيام الخليفة السابق، فأرسل إليه هدايا كثيرة ووعده بأن يدفع له سنويا مائتي ألف دينار خراجا خلاف المائة ألف دينار المتأخرة من السنين الماضية، وعرض عليه ابنته قطر الندى زوجة لابنه ولي العهد، فقبل منه الخليفة ذلك. غير أنه اتخذ قطر الندى زوجة لنفسه، فلما وقعت المصاهرة بينهما لم يدفع خمارويه شيئا من الخراج بعد الذي دفعه في المرة الأولى، ثم بعد موته خلفه ابنه جيش الملقب أبا العساكر، فلم يلبث أن قامت عليه العساكر فقتلوه وأقاموا مكانه أخاه هارون، فكثر في أيامه الاختلال وعدم النظام، وكادت أن تخرج عن طاعته جميع الولايات التابعة له، فخضع للخليفة المعتضد ودفع له سنويا مليون دينار خراجا، فلما مات المعتضد وخلفه ابنه المكتفي بالله أرسل محمد بن سليمان بجيش إلى بلاد الشام فاستولى عليها، ثم دخل مصر فأراد هارون مقاومته غير أن عمه أبا المغازي شيبان حرض عليه العساكر فقتلوه، ثم أراد أن يجلس مكانه ويدافع عن مصر، فلم يمكنه؛ لأن أمراء جيوشه كانوا قد تعاهدوا مع محمد قائد الخليفة وتركوه فالتزم بالهروب لكنه قتل في هروبه، فكان هو آخر من حكم مصر من الطولونيين، فانتهت حينئذ العائلة الطولونية، ودخلت مصر ثانيا تحت حكم العباسيين، فلم تزل تحت سلطتهم حتى استقل بها محمد الإخشيد وأسس فيها العائلة الإخشيدية.
الفرع الثاني في الدولة الإخشيدية
حكمت هذه الدولة أربعا وثلاثين سنة (324-358ه)، وأمراؤها خمسة؛ أولهم أبو بكر محمد بن طفج الملقب بالإخشيد، الذي أرسله الراضي بالله إلى مصر ليكون عاملا عليها من قبله فاستقل بها وانفرد بتدبير أمورها لما رأى اضمحلال الخلافة العباسية واختلال أمورها، وقد امتدت سلطته على الشام أيضا، ومات فيها بمدينة دمشق، ودفن بأورشليم؛ أي بيت المقدس، ثم خلفه ابنه أبو القاسم أنوجور، وكان حديث السن فكفله كافور وزير أبيه وأحد معاتيقه، وكان عبدا أسود لكنه زكي ذو همة ونشاط، نفع الإخشيد كثيرا، ولم يكن له غاية إلا عظم شأن أمرائه وخير مصر، فصارت الكلمة له واستتبت الراحة في البلاد بحسن تدبيره، ورد عن مصر أعداءها، وأخذ قلعة إبريم التي على بعد خمسين فرسخا من جنوب أصوان من ملك النوبة الذي كان أغار على أصوان ونهبها في تلك الأيام.
ولما مات أبو القاسم خلفه أخوه علي الملقب أبا الحسن، ولم تزل الكلمة لكافور، ثم بعد موت علي تولى كافور فاعترف بالتبعية للخليفة العباسي المطيع لله الذي هو آخر من تبعته مصر من العباسيين، فأقره الخليفة على ولاية مصر، ثم خلفه بعد موته أبو الفوارس أحمد بن علي، فنازعه في الملك أحد أقاربه المدعو حسين، فاضطربت أحوال الديار المصرية؛ حيث انقسمت مصر إلى جزأين، ووقعت فيها المنافسات الشديدة والحروب الداخلية، فكاتب أعيان مصر الخلفاء الفاطميين بالمغرب في التملك عليها، وكان إذ ذاك في حوزتهم من بلادها الإسكندرية والفيوم وجزء عظيم من الصعيد، فأرسل إليها المعز جيشا لتتميم فتوحها تحت رئاسة جوهر الصقلي، فقصد جوهر الفسطاط وأسر حسينا، وخلع أحمد أبا الفوارس، وخطب باسم الخليفة الفاطمي، فانتهت حينئذ العائلة الإخشيدية، وقام بمصر دولة الفواطم.
الباب الثاني
في الدول التي حكمت مصر مستقلة، وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول
وفيه مطلبان:
Page inconnue