Nafha Zakiyya
النفحة الزكية في تاريخ مصر وأخبار الدولة الإسلامية
Genres
الفصل الثاني
في الدولة البطليموسية
قد حكمت هذه الدولة على مصر نحو الثلاثة قرون (945-652ق.ه)، وبلغت مصر في عهدها في الشوكة والمجد والثروة درجة عظمى، لم ترها من مدة مديدة؛ فقد صارت مدينة الإسكندرية؛ عاصمة المملكة الجديدة، منبعا للعلوم والمعارف، وكان جميع ملوك هذه العائلة يطلق عليهم اسم بطليموس مع أن كلا منهم كان له لقب خاص به، وهم نحو الأربعة عشر، استقلوا بحكم مصر، واستعملوا مع المصريين اللين والرفق، وأصلحوا البلاد واحترموا نظاماتها، مع اجتهادهم في إدخال التمدن اليوناني فيها، وكان أشهرهم بطليموس الأول الملقب لاغوس أوسوطير؛ أي المخلص، وهو المؤسس لهذه الدولة، فلما قبض على أزمة الحكومة في مصر وجه مزيد همته إلى استمالة قلوب الأهالي إليه؛ فاستعمل الرأفة والحلم في أحكامه، وأحسن التدبير والسياسة، وضم إلى مصر كيرينة والشام وقبرص وفينيقية، وشيد بمدينة الإسكندرية معابد كثيرة، وبنى بها منارة في جزيرة فاروس لتسهيل الملاحة بجوار ميناها، ومن أشهر أعماله مدرسة الإسكندرية المسماة بالرواق التي جلب إليها العلماء من اليونان وغيرها من البلدان الرائجة فيها أسواق العلوم والمعارف، وكان هذا الملك محبا لمجالسة العلماء ومحادثتهم، وقد جمع لهم كتبخانة عظيمة، فهرع إلى مصر مشاهير الرجال من أهل الشرق والغرب حتى صارت مدينة الإسكندرية مركز العلوم والمعارف.
وبطليموس الثاني الملقب فيلادلفوس؛ أي محب أخيه، وهو ابن بطليموس الأول، قد تنازل له أبوه عن الملك في حياته، فلما خلف أباه على سرير الملك اجتهد مثله في نشر العلوم والمعارف، وترجم إلى اللغة اليونانية كتب اليهود المقدمة (المعروفة بالترجمة السبعينية)، وزاد في الكتبخانة التي أنشأها أبوه، وأوسع علمي الفلك والملاحة، وأمر باستكشاف بلاد النوبة والنيل الأعلى، وكان من أعظم ملوك هذه العائلة، وعصره من أعظم الأعصر في تاريخ الفلسفة.
ثم بطليموس الثالث الملقب ويرجيطة؛ أي المحسن أو الرحوم، وهو ابن بطليموس الثاني، خلف أباه بعد موته على سرير الملك، وكانت مدته من أعظم المدد رفعة لمصر حيث امتدت فتوحاته إلى أواسط آسيا وبلاد النوبة؛ فقد أغار على بلاد الشام وعبر نهر الفرات ووصل لغاية بكتريان ببلاد العجم، فأرجع إلى مصر تماثيل الآلهة المصرية التي كان سلبها كمبيز من مصر، وضم إلى مصر الجزء الشمالي من بلاد الإثيوبية لغاية مدينة إبريم.
أما من بعده فقد ابتدأ انحطاط هذه الدولة؛ فإن الملوك الذين خلفوه كانوا قد تولوا جميعا في حداثة سنهم، فتركوا أمور المملكة في يد أوصيائهم عليها يديرونها حسب أغراضهم، ولم يلتفتوا إلا إلى اللذات والشهوات، فابتدأ حينئذ اختلال المملكة، وسقطت شوكتها الخارجية فطمع فيها جيرانها، ووقعت الحروب بين ملوكها وملوك الشام على الدوام، فالتزموا بأن يوسطوا دولة الرومانيين في الخلاف بينهم وبين هؤلاء الملوك، حيث كانت هي الدولة ذات السطوة في ذاك الوقت التي لها الكلمة النافذة على جميع ممالك البحر الأبيض المتوسط، فابتدأ تداخل الرومانيين حينئذ في أمور المملكة، ثم لما وقعت فيها الفتن والثورات لازدياد اختلالها وانهماك ملوكها على ملاذهم الشهوانية التزم هؤلاء الملوك بأن يخضعوا للسلطة الرومانية، ويحكموا برعاية مجلس رومة لهم لخوفهم من أهالي الإسكندرية، فارتبطت أمور مصر حينئذ بالدولة الرومانية حتى آل الأمر أخيرا إلى أن تملكت عليها هذه الدولة بعد موت قليوبطرة آخر ملوك هذه العائلة، فصارت مصر إيالة رومانية تحكم بعمال من الرومانيين.
الباب الثالث
في ذكر مصر تحت حكم الرومان، وفيه فصلان
إن الدولة التي أفرغت فيها دولة الإسكندر تقريبا هي الدولة الرومانية؛ فقد ورثت هذه الدولة ذاك الفاتح المقدوني في ممالكه الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، وامتدت فتوحاتها على جميع البلاد الواقعة على هذا البحر، وإليها انتهى تمدن الأمم القديمة، وبها انتقل من المشرق إلى المغرب، وقد حكمت على مصر 411 سنة (652-241ق.ه)، وهذه المدة هي التي كانت فيها مصر تابعة لرومة؛ أي لدولة الرومانيين قبل انقسامها ، فلما انقسمت هذه الدولة إلى دولة رومانية شرقية وإلى دولة رومانية غربية صارت مصر أيضا تابعة للدولة الرومانية الشرقية نحو 259 سنة (241ق.ه-18ب.ه)، وهذه المدة تسمى بمدة النصرانية؛ لأن المصريين كانوا فيها قد اعتنقوا الديانة المسيحية، وأما في سائر المدد السابقة فكانت ديانة مصر الوثنية؛ ولذا مجموعها يعبر عنه بمدة الوثنية.
الفصل الأول
Page inconnue