كادت تزحف إليه راجية أن يكف، مطالبة إياه أن ينتهي فورا عن بكاء النساء، ويعود رجل القرية الذي عرفته، ويريحها، ويقتلها. كادت؛ لأنها حين فتحت فمها ترجوه تصاعدت صرخة كزئير أسد غاضب، سمرتها مكانها بلا حراك.
وفعلا لم يقتلها «حامد»، وإنما في الفجر كانت العائلة الصغيرة تغادر باب العمارة الضخمة المهيب، وكان «حامد» يحمل عزالهم كله، وقد لفه في ملاءة سرير صفراء حملها ب «الزقلة» على كتفه، وباليد الأخرى كان يسحب الطفل الكبير نصف النائم، بينما «فتحية» في المقدمة تحمل الطفل الآخر. وبرغم أنهم خارجون إلى مصير مجهول لا تعرفه، فقد كان ما تخافه في تلك اللحظة هو أن يبرد الولد، فراحت تحوطه بذيل ثوبها الذي رفعته، ومضت تلفه به وتشتد في ضمه، بينما نداء أخرس يرتفع منها، ويهيب ب «حامد» أن يخرج البطانية من اللفة، ويحيط بها الطفل الآخر، نداء أبدا لم يغادر فاها؛ إذ هما لم يتبادلا منذ الأمس كلمة.
وسيرا على الأقدام مضت القافلة الصغيرة تحتمي من برد الصباح الباكر بالجدران، ويتركها ظلام عمارة لتتسلمها ظلال عمارة أخرى؛ إذ كان قمر الفجر قد طلع.
قافلة صغيرة تتسلل منسحبة من المدينة الكبيرة الراقدة في صمت ولا مبالاة، لا تحس بهم ولا بما تحفل به صدورهم من أهوال، نائمة تشخر في براءة وضمير مستريح، وكأنها ما فعلت شيئا، حتى لقد بلغ الغيظ ب «حامد» إلى حد التفكير في أن يلقي «بصرة» العزال جانبا، وينهال ب «زقلته» ضربا ودشدشة وتكسيرا على فتارينها المضيئة، وعرباتها اللامعة المستكنة، وحتى أسفلت شوارعها المغسول. كان من جماع قلبه قد أصبح لا يطيق حتى مشيه في شوارعها وهو يغادرها، لم تعد في نظره مدينة، لقد أصبحت كابوسا خانقا بشعا!
وفي أول قطار قطع لهم «حامد» التذاكر.
لكنه عاد لبلدتهم وحده.
فقد غافلته «فتحية» في ازدحام القادمين والراحلين في باب الحديد وهربت.
عادت إلى مصر، بإرادتها هذه المرة، وليس أبدا تلبية لهتاف هاتف أو نداء نداهة.
مسحوق الهمس
حين هدأت أتأمل الروعة في المسألة، وجدت نفسي أمامها كالطفل الصغير الأبله، الذي وقف يحدق في الجسد العاري تماما لسيدة ناضجة الأنوثة، وهو غير قادر على الربط بين ما يراه وبين ذاته، أو حتى بين رغباته ومشتهياته الخاصة وبين هذا الجسد المستسلم العاري، الذي أصبح فجأة أمامه، وملك ناظريه، ويديه، وحواسه.
Page inconnue