La Source Ancienne: Tableaux Narratifs
النبع القديم: لوحات قصصية
Genres
هل هذا معقول يا ناس؟! ولماذا الاستعجال وأمر الله في علم الغيب؟ يا دكتور اعمل معروف ... اخرج يا دكتور اخرج ... ما زلت بحمد الله في كامل صحتك وفي عز شبابك ... اتق الله واخرج يا دكتور.
لم يصدر أي صوت عن الراقد الممدد على راحته في القبر ... والأعجب من صمته المطبق أنه خيل إليهم في هذا الموقف الغريب المستحيل أنهم سمعوا ضحكة قصيرة واضحة كرنين كئوس تصطدم ببعضها - تلفتوا لبعضهم وهم يستنكرون ما يشاهدون وما يسمعون - وتجمعوا حول الفتحة الواسعة التي غافلهم أستاذ التاريخ والحضارة ودخلها واختبأ فيها، كطائر ضخم يلوذ بنفق مظلم بعد أن أتعبه التحليق والدوران في الجو بحثا عن ملجأ يحميه ...
لم يشعر المحتشدون المتجمعون أمام فتحة القبر بأنهم قدموا للراقد الممدد في داخله أعظم خدمة كان يتمناها ... لم يخطر على بالهم أنهم بتجمعهم أمام فتحة القبر قد أكملوا دائرة الظلام والصمت التي طوقته في الداخل، وأعطته الفرصة الفريدة لكي يحاسب نفسه بعد أن وضع نفسه وجسده على البرزخ المعتم بين الحياة والموت.
همهموا وجمجموا، وتناثرت من أفواههم عبارات الدهشة والعجب. ثم أخلدوا للصمت الذي استولى عليهم فجعلهم يتسمعون لما يجري وراء الفوهة المخيفة الفاغرة الفم. كانوا يسألون أنفسهم وقلوبهم ترتعش وتدق بعنف خشية أن يكون الدكتور قد أصابه مكروه، أو أن يكون قد عملها فجأة بطريقة لا يدرونها ولم يحسبوا لها أي حساب. أما الدكتور نفسه فقد اختلى بنفسه ربما لأول مرة في حياته خلوة حقيقة. أخذ يسأل نفسه أو ربما سمع أصواتا تنبعث من حوله ومن داخله تسأله: ماذا فعلت بنفسك؟ وماذا فعلوا بك؟ ها أنت تحال إلى المعاش بعد أن ظللت تلهث وتلهث طول العمر ... أخذك علم التاريخ والحضارة إلى أقصى الشرق وأقصى الغرب، قدمت عصارة العصور المزدهرة وأهوال الحقب المتدهورة من عشرات المراجع والكتب باللغات التي تقرأ بها ... ووقفت أمام المئات من تلاميذك والمئات من قرائك وفي يدك الكئوس الممتلئة برحيق الفكر الشرقي والغربي، رحيق الحكمة التي فاضت من أفواه بوذا وكونفوشيوس ولاو-تزو، وسقراط وأفلاطون وأرسطو، إلى آخر صفوف العلماء والمفكرين والرواد وشهداء المعرفة والحضارة والتقدم على مر العصور ... لم تفرط في شيء، ولم تقصر في سيرة أحد ... شخص واحد قصرت في حقه ونسيته وكدت أن تخنقه بيديك القاسيتين، ذلك الشخص هو أنت نفسك يا دكتور ... يا من بدأت حياتك في صباك وشبابك شاعرا، أين شعرك؟ يا من حاولت القصة والمسرحية، لماذا توقفت؟ صحيح أنك انتزعت لقيمات صغيرة من فم الأسد الذي يطاردك بالليل والنهار، في قاعات المحاضرات وفي الندوات والمؤتمرات وحتى في أحلامك وكوابيسك. لكنك يا دكتور لم تكن نفسك أبدا، وربما نسيت نفسك ويئست ولم تحاول، مت الآن أيها اللاهث المطارد، وحاول أن تخرج من ظلام ماضيك بخروجك من ظلام قبرك الجديد، عش يا مسكين قبل أن يضعوك إلى الأبد في هذا المكان ... جرب أن تعيش بحق يا من سرق العمر منك، ولم يكن ذلك بدون ذنب منك. عش ... عش ... لا تتردد بعد اللحظة! ...
يبدو أن الجمع المحتشد بدأ يفيق للوضع المأساوي العجيب؛ فقد اخترق شقيقه الأكبر الصفوف وانحنى أمام فتحة القبر، وهتف صارخا وهو يمد ذراعيه داخل الفوهة ولا يرى أي شيء: يا الله يا دكتور ... اخز الشيطان وتعال يا رجل! ربنا يعطيك العمر والصحة يا رجل يا طيب ... نحن استعجلناك لتتفرج على القبر الذي كلفتنا ببنائه، ونفذنا أوامرك كما رأيت وشاهدت وعاينت بنفسك ... اخرج يا رجل ... اعمل معروفا واتق الله ...
وخرج الدكتور برأسه أولا، ثم استند إلى ذراعيه، وسارع الجميع يتلقفونه وينفضون عنه تراب القبر وحصاه الذي علق ببذلته وأكمامه ... وعندما وقف أمامهم وهو يضحك، ويمر بيده على صدورهم وظهورهم، ويتلفت حوله وقد اكتست قسمات وجهه بالذهول والرضا في وقت واحد. خيل إليه أن النور أصبح هو النور، وأن الشجر هو الشجر، وأن الزهور والسعف المنشور فوق معظم القبور يكاد في خضرته ولمعانه تحت الضوء أن يبتسم له ويحييه، وأن الموتى الذين أحس بهم في تلك اللحظات النادرة في قلب الظلام والصمت هم الموتى الطيبون الحقيقيون، كما أن البشر الذين التفوا حوله، وراحوا يضحكون لضحكه ويضربون كفا على كف على نكتته العجيبة هم بشر طيبون وحقيقيون. ضمه شقيقه الأكبر إلى صدره، وأخذ ينهنه ويقهقه في وقت واحد: حمدا لله على سلامتك يا أخي، ربنا يجعل يومي قبل يومك ... يالله يا رجل، عش حياتك وربنا يطول في عمرك ... هل هذه عملة تعملها يا رجل يا طيب؟ ... العربة في انتظارك أمام مدخل الجبانة، مبروك عليك بعد عمر طويل ... المهم أن تعيش لنا وللناس والأجيال يا رجل ...
قال الدكتور وصوته مختنق بالدموع: نعم نعم! المهم أن أعيش.
كل شيء يفنى إلا الفناء
لست أدري لماذا وقع اختيار أترابي في المدرسة وفي اللعب، على هذه المساحة المهجورة الواسعة لتكون ملعبا للكرة. ألأنها بعيدة عن البلد والزحام ودبيب أرجل البشر والحيوانات؟ أم لأنها تمتد وراء مزلقان السكة الحديدية، ويسهل الوصول إليها بعد انصرافنا من المدرسة وقبل عودتنا إلى بيوتنا؟ وهل خطر على بال زملائي أنها ملاصقة للجبانة الكبيرة الغارقة في نعاس الموت الذي لا يقظة منه؟ لا شك أنهم لم يفكروا في ذلك. ولو فعلوا لحظة واحدة لما تمادوا كل مرة في صراخهم وصياحهم ومعاركهم الطاحنة على الكرة، التي كانت تشتد أحيانا إلى حد يوقظ عفاريت الظهر والعصر وربما يوقظ الموتى من نومهم الأبدي.
كنا في ذلك اليوم قد خرجنا من المدرسة مبكرين قبل أن تتوسط الشمس كبد السماء. قالوا لنا إن الناظر أمر بأن يكون ذلك اليوم نصف يوم فحسب بمناسبة الاحتفال بأحد الأعياد التي لا أذكرها. هللنا وصفرنا وزمرنا ورقصنا، وسرعان ما جمعنا فريقنا والتأم شمل الفريق المنافس. وجرينا ونحن نتوعد الخصم المغرور ونتحداه، وجروا هم أيضا وسبقونا إلى الملعب الذي بدا من بعيد كأنه منسي ووحيد، وفي انتظار أن نعمره بشقاوتنا وقفزاتنا ونداءاتنا المستمرة، وصيحاتنا المرتفعة، وكأنما نلعب الكرة بحناجرنا لا بأقدامنا.
Page inconnue