La Source Ancienne: Tableaux Narratifs
النبع القديم: لوحات قصصية
Genres
اثنان
وقفت ممسكة في يدها بالكأس المتألقة كاللؤلؤة. كم كانت حافة هذه الكأس الرقيقة النحيلة تشبه فمها الرقيق وذقنها الدقيق. كانت قد لمحته من بعيد وهو يتحسس بحنان رقبة فرسه البني الرشيق، واتجهت نحوه بخطى خفيفة واثقة، كأن يدا خفية تشدها إليه فتمشي كالسائر في نومه. مع ذلك لم ترتجف الكأس في يدها، ولا سقطت منها قطرة واحدة على الأرض.
أما الفارس فكانت يده خفيفة وراسخة. وبهذه اليد وضع السرج البهيج الألوان على ظهر فرسه الشاب، ثم قفز عليه قفزة سريعة لم تكد تستغرق لحظة واحدة. وباليد نفسها، بإشارة غير ملحوظة وإيماءة غير مقصودة، أمر الفرس أن يقف في مكانه، بينما كان جسده يختلج وساقاه ترتعشان.
لكن هذه اليد تخلت عنها خفتها، وغادرها رسوخها وثباتها عندما شعرت باليد الأخرى تمتد نحوها. أرادت أن تمسك الكأس وفردت أصابعها بقدر ما أمكنها لكي تتلقاها منها. كذلك فعلت اليد الأخرى الممدودة بالكأس، وحاولت أن تصل إليها، لكن كليهما أحس بجبل من الرصاص يرزح فوقهما. وتاهت كل يد عن الأخرى وعجزت عن أن تلقاها، وأخذ الاثنان يرتجفان بفعل زلزال ينفضهما ويهز جذورهما وفروعهما. وتساقطت الخمر المعتمة من الكأس، وشربها التراب.
1
الصبي الذي كان يحمل اسمي
زارني الصبي الذي كان يوما يحمل اسمي. وقف أمامي، على حين فجأة، واستند إلى جدار المكتبة صامتا شاحب الوجه. لم أدر كيف تسلل إلى حجرة مكتبي بينما كنت أقرأ أو أكتب بحثا أو أترجم نصا أو أحاول أن أعد كلمة أقولها في ندوة أو مؤتمر. لكنني وجدته أمامي ولم يكن هناك مفر من المواجهة. راح كل منا يتأمل الآخر دون أن يقوى على التلفظ بكلمة. نعم هذا وجهه، نفس الوجه البريء المتعب، نفس العينين الشاردتين التائهتين، نفس الانكسار والإحباط، وخيبة الأمل تكسو الملامح وتنسكب من النظرات الحزينة. كان هو أيضا يتطلع إلي في دهشة من لا يصدق؛ ربما أذهله الشعر الأبيض الذي يغمر رأسي كالثلج المتجمد، أو كلال العينين اللتين بدأ نور شمعتهما في الخفوت والخمود، أو التجاعيد التي حفرتها السنين على الوجه الذابل الذي غادرته نضارة الشباب من أمد طويل. وكان لا بد أن يبدأ أحدنا الكلام، فأردت أن أحييه وأرحب به في مسكني وبين كتبي المتراكمة من حولي. لكن وهج الغضب الذي كان يتأجج من عينيه، ويلهب وجنتيه، وينبئ عن اتهام وشيك لم يسعفني بكلمة واحدة. وما هي إلا لحظات حتى سمعت رنين أصوات تخترق أذني كأنها تلطمها وتهزها بعنف وقسوة: ماذا فعلت بي؟
رفعت حاجبي وأنا أسأل ببراءة: ماذا تقصد؟
رفع يده وهي يسدد إبهامه نحوي: كنت شاعرا في صباي، فإلى أين وصلت بي؟
قلت وأنا أحاول أن أرسم ابتسامة على فمي: أما أنك كنت شاعرا فهذا حق. ما زلت أذكر أنك عارضت غير مجد في ملتي واعتقادي، ويا نائح الطلح أشباه عوادينا ... وما زلت أذكر أيضا أنك كنت تدون قصائدك الأولى في كتيبات صغيرة تضع عليها اسمك، وتذكر أنها صدرت عن مطبعتك، لكنها انتهت جميعا إلى الفرن.
Page inconnue