33

Mutawali Salih

المتوالي الصالح

Genres

ثم وقف وأخرج من جيبه عقدا جميلا فطوق به عنقها، وخاتما عليه اسمه وضعه في يدها، وقال: لك الحرية أن يكون القران مدنيا أم دينيا، إنما أرجو أن تقبلي هذه الهدية، فتجعلين هذا العاجز أسعد الناس.

فتأثرت هيفاء حتى كادت تسقط عن المقعد الذي جلست عليه، ثم نظرت إلى سليم، وكأن الحب قد تمثل في صورتها البشرية، ثم قالت: آه! ما أحلى كلماتك العذبة! فقد آسيت بها قلبي المكلوم، وجعلتني أشعر بدبيب الحياة الجديدة في صدري، فما أقوى سلطان الحب على القلوب، وما أفعل الشعر في النفس إذا كان صادرا من شاعر يتكلم بقلبه لا بلسانه، أنا أحب نفسك؛ لأنها جميلة وأقوالك لأنها عذبة ومعانيك الحسان لأنها تفتن فؤادي، وتهيج بي عاطفة الاستحسان فالشكران، فالميل إليك دون سواك من عباد الجمال.

أنت تعشق بقلبك وعقلك ونفسك، وأما أولئك فيعشقون بنفوس ملؤها الشهوات، وكم رأيت من الرجال من يتظاهرون بالحب، ويتقربون إلي وهم مملوءون رجاسة وخبثا، هم يحاولون أن يشتروا قلوب العذارى، وأما أنت فتأسر القلوب بالمعروف، وترفع قدر العفاف، وتحيي الذكر الخامل، فيبقى حبك خالدا لا يموت.

فقد أحببتك من أول نظرة، ولكني لم أكن أرجو أن يتم لنا هذا الهناء، ونجتمع بعد طول الفراق، حيث لا يمنع اتحادنا شيء، فهل قدر لنا أن نجتمع فلا نفترق فيما بعد؟ أم إن هنالك ما يكدر هذا الصفاء والهناء؟ ولقد سرني منك أنك لم تنس لغتك ووطنك وأصحابك القدماء، وأنا لم يبق لي في الوطن إلا الشيخ صالح أنظر إليه كأنه والدي الحبيب، وأنت لي بعده كل شيء، وإنني منذ عرفتك، وأنا أنظر إليك كأخ حبيب، بل أكثر من الأخ.

فضمها إلى صدره، وقال: «بل أنت لي كل شيء في الدنيا.» وافترقا ذلك المساء على ألا يفترقا فيما بعد، بل يكونان روحا واحدة في جسمين يعيشان الواحد للآخر، وكلاهما لله وللوطن، فعاش ذلك الحب خالدا في طيات القلبين، وخلده سليم وهيفاء بأول عمل عملاه بعد أن وطدا النفس على الإقامة في العالم الجديد بأن أرسل سليم إلى الشيخ صالح صديقه القديم كتابا رقيقا، هذا مؤداه:

تحية واحتراما وبعد، فقد وصلت إلى نيويورك هيفاء كريمة المرحوم يوسف الهلالي تحمل لي منك سلاما، هو عندي سلام الوالد إلى ابنه البعيد عنه المتشوق إلى لقياه، وكم كانت تطيب لي أنباؤكم لو كان آل الهلالي كما كانوا حين عرفتهم سعداء يبسم لهم الدهر، فشاء الله أن يشتت شمل هذه العائلة الكريمة التي يحتاج الوطن إلى مثلها كثيرا، فقد كان أفرادها عنوان المروءة، والنخوة، والضيافة، والصدق، والولاء، وهذه أهم ما تحتاجه البلاد من الأخلاق، مع ما كانوا متصفين به من الاجتهاد في الأعمال والاستفادة من خبرة ذوي الاختبار، فقد كانت زراعتهم أفضل زراعة، وحاصلاتهم أفضل الحاصلات، وبيتهم أكرم البيوت.

وشاء الله أن أتقدم هيفاء إلى هذه الديار لأسهل مهمتها، كما شاء أن يعيد صداقة البيتين وعلاقة العائلتين بما هو خير حافظ لذكرى الود القديم، والصداقة التي دامت جيلا كاملا؛ فقد كان آل الهلالي أحب الناس إلى والدي، وكان هو أحب الناس إليهم، فلما شاهدت هيفاء تذكرت تلك الصداقة القديمة ورأيت بها من علو الكعب في الأدب وكرم الطباع وسمو المدارك، ما جعلني أشعر أنها أفضل من أعرف من النساء اللواتي أتين من الوطن العزيز إلى هذه الديار، وتأدبن بآداب الغرب، وحافظن على تقاليد الشرق، واكتسبن من العلم درجة عالية، ومن الأخلاق ما ليس بعده من مستزيد، فكان هذا مما زادنا تقربا، وتعاهدنا على أن يكون الواحد منا للآخر.

ولقد ترددت في بادئ الأمر عن أن أفاتحها بالحب أو أنظر إليها إلا نظرة الأخ إلى أخته؛ لما بيننا من الفروق الدينية التي توجب في الوطن الابتعاد عن بعضنا البعض، ولكننا في العالم الجديد غير ما نحن عليه في الوطن، فالناس هنا إخوان لا فضل لمسلم على مسيحي أو لمسيحي على مسلم، إلا بأخلاقه ومنفعته لأمته وشعبه وللعالم.

نحن ننظر الواحد إلى الآخر نظرة الأخ إلى أخيه، وطالما فكرت في أن مبادئ القوم هي مبادئ الشيخ صالح الراقية، فكما سمعتك تقول: إن الناس إخوان، وإن أفضلهم عند الله أقربهم إلى عياله وأكثرهم إحسانا، وإن الدين المعاملة، وعاملوا الناس كما تريدون أن يعاملكم الناس، وما أشبه ذلك من التعاليم العالية التي غرست في نفسي، فلا أرى فرقا بين أبناء طائفة وأخرى. وإنني أشعر بأن من تخلق بأخلاقي وتهذب مثل تهذيبي، وكانت مبادئه قريبة من مبادئي أقرب إلي من أهلي الأقربين إذا لم يكونوا كذلك.

والحق يقال: إن هيفاء أقرب الناس إلي ذوقا وأخلاقا وتهذيبا، واعتقادا بالمبادئ الإنسانية السامية، فنحن نكاد نرى الأمور بمنظار واحد، ولقد حرمت من أهلي وحرمت هي من أهلها، وكلانا ينظر إليك كأب ثان، ونرجو أن تبارك هذا القران وترضى عن هذا الاتحاد الذي نرجو أن يكون سببا لسعادة الاثنين، وخير ما نستطيع أن نفعله الآن؛ دليلا على حبنا لأهل العمروسة وإخلاصنا لك، هو أن أرسل من هيفاء تنازلا عن كل ما يخصها من تركة والدها؛ لأنها مع شدة حبها لأهل بلدتها لا تستطيع أن تعود إلى هنالك وتقيم في بلدتها؛ لما فيها من التذكارات المؤلمة لها؛ ولذا أحبت أن تترك ما لها لأبناء قريتها، وأنا أزيد على ذلك حوالة مالية من عندي لتوزعوا قسما من المال على المعوزين، وتنشئوا مدرسة في العمروسة تحت إشرافكم تعلم حب الوطن والاتحاد بين الأفراد وطوائف البلاد، وتكون مثالا للمدارس التي تخدم الله والوطن.

Page inconnue