ولهذا كان من المترتب على كل من عالج هذا الموضوع من الكتاب ألا ينظر إلى مجرد إيراد قصة تلذ للمطالع؛ بل عليه أولا أن يضع نصب عينيه غاية سامية يمثلها للناس في حياة أفراد محبوبين، فترسخ المبادئ الصحيحة في النفوس المرنة، وتنطبع الأخلاق العالية في أفكار الفتيان والفتيات من تلاوة هذه الروايات، دون أن يكدوا الذهن في درس مبادئ الفلسفة الأدبية أو الاجتماعية، وحفظ القواعد المملة التي أصبح كثير منها بعيدا عن المألوف.
ولما كان من أهم أمراضنا الاجتماعية التفرق أو التحزب الديني أو الجنسي، رأيت أن أعالج هذا الموضوع بمباحث طلية جعلتها في قالب رواية عصرية، أرجو أن تجيء وافية بالغاية التي وضعت لأجلها؛ وهي زرع مبادئ الوطنية الحقيقية في النفوس، والله الهادي إلى سبيل الخير والإسعاد.
الفصل الأول
تمهيد
السكون مخيم على أعالي لبنان، والناس راقدون ساكنون غير حاسبين لغدر الليالي حسابا، وإذا بصوت استغاثة سمع كأنه صادر من أعالي الجبل، تلته طلقات نارية، ثم عاد السكون فشمل كل ما حول تلك البقاع.
هب نفر من شبان قرية مسيحية صغيرة مجاورة لتلك البقعة، وهم يحملون بنادقهم - وساروا نحو مصدر الصوت - فإذا بهم يسمعون أنين مجروح ووقع أقدام خيل من بعيد.
دنوا إلى حيث وجدوا «ناطور» القرية؛ أي خفير كرومها ملقى على الأرض يتخبط بدمائه، فلما شاهد أبناء بلدته، قال: «قتلني المتاولة.» ولفظ النفس الأخير.
ثارت النخوة في رءوس البعض فعمدوا إلى أخذ الثأر في تلك الساعة، ولكن كان بين الحاضرين فتى شجاع باسل عرف بشدة بأسه ومراسه، فلم يكن أحد يتهمه بالجبن، إلا أنه كان عاقلا أريبا، فنظر إلى أصحابه، وقال: مهلا! ليس هذا وقت أخذ الثأر، بل الآن وقت دفن الميت وبعدئذ نبحث عن الغريم؛ إذ لا يصح أن يذهب البريء بجريرة المذنب، فقد يكون للقاتل أو القتلة سبب حملهم على ارتكاب هذه الجريمة الشنعاء.
كان هذا يجري في تلك القرية الصغيرة، بينما كان نفر من شبان قرية متوالية صغيرة عائدين إلى قريتهم، وفي مقدمتهم زعيمهم سلمان أحمد، فأبصر بهم الشيخ صالح كبير أهل قرية العمروسة المجاورة لقريتهم، ودنا منهم وقد رابه أمرهم وأدرك غايتهم، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله! تبا لك يا سلمان أحمد، لقد حملتنا وزرا ووصمتنا بوصمة العار، حتى أصبحنا مضغة في الأفواه، وأقمت البلاد وأقعدتها وعطلت الأعمال، وأوقفت المزارعين عن حصادهم وزدت العداء بيننا وبين من يجاورنا من المسيحيين استحكاما، وكنت يا هذا السبب في جر الكثيرين مكبلين بالحديد إلى غيابات السجون، وبعضهم أبرياء لا ذنب لهم إلا أنهم أبناء بلدتك أو أقرباؤك، أو يدينون بدينك، فبئست القرابة إذا كان ما يجنيه الإنسان منها مثلما جنى أهلك منك، وهل تحسب أن الدين يأمر بمثل ما فعلت؟ حاشا للدين أن يكون كما تفعلون وإلا كان الكفر خيرا منه بكثير.
هذا ما قاله الشيخ صالح كبير قرية العمروسة من قرى البقاع الغربي، حينما رأى سلمان أحمد شيخ قرية مجاورة على رأس عصابة من الرجال الأشداء، وقد عاد من لبنان بعدما أوقع الرعب في قلوب المسيحيين، ونكل بكل من تعرض له في الطريق.
Page inconnue