27

Mutawali Salih

المتوالي الصالح

Genres

إن الحرية كلمة عذبة اللفظ شديدة المعنى، فطالما استعملها المتشدقون لقضاء الأوتار وسفك الدماء والانتقام من الخصوم، الحرية كلمة مطاطة؛ فهي تكون كما يريدها من بيدهم الأمر، أو من يسعون لقلب نظام الحكم وينجحون، فكم من دماء بريئة أهريقت في سبيل الحرية! وكم من جريمة ارتكبها الأدعياء باسم الحرية المقدس حتى إذا ظهر للناس ما يبطنون كانوا أشد ظلما واستبدادا من الظالمين الذين قاوموا الحرية التي يسعى لها الناس وتخفق لها القلوب!

إن الله مدبر الكائنات، وهو واهب الملك لمن يشاء، فمن يعدل في الناس يدم حكمه، ومن يظلم الناس يهلك رعيته ويضعف ملكه، فيئول به ذلك إلى البوار. فلقد أسس المسلمون ملكهم على العدل، فبسطوا سلطانهم على الشرق كله، واتسع ملكهم حتى الأندلس في الغرب، ثم زاغت القلوب وضل الحكام سواء السبيل فضاع الملك وفقدوا الأمصار.

فهل من سبيل لإرجاع ما ضاع أو حفظ ما هو باق للآن؟

عسى أن يكون لله يد في هذا الانقلاب، فيعيد للعرب سلطانهم، ويؤيد ملكهم، ويمنع عنهم كيد الكائدين، فقد مزقت هذه الدسائس جسم هذه الأمة الحية تمزيقا، ولكن القوة لا تزال في الصحراء، وهي كامنة كمون النار في الحجر.

ليت التاريخ يعيد نفسه، فيخرج ابن النبي من مكة لتجديد عهد الإسلام، ورفع المظالم عن المسلمين.

هذه آمال تجول في الصدر، ولكن لتحقيق هذه الرغبات مصاعب تحول دونها؛ منها ما هو داخلي؛ ففي الجزيرة أمراء وأسياد لا يرضى الواحد منهم بالآخر سيدا، وكل يضمر للآخر السوء، فكيف تتحد البلاد ومقاليدها في يد هؤلاء، والعرب أطوع لزعمائهم من البنان، ولكل زعيم قوة من الخارج تؤيده لتربح بواسطته نصيبها من التوسع في بلاد الدولة الواسعة الأطراف المضعضعة القوى، وأكثر هؤلاء الزعماء يعيشون بالمال الأجنبي، ويبقون على سلطانهم بهذا المال، فكيف يكونون مستقلين، وهم عبيد المال أعداء الحرية التامة والاستقلال؛ لأن الحرية تنير عقول الأنصار، فينفضون عن مثل هؤلاء الزعماء، ويصبحون بلا حول ولا طول، اللهم ارفع عنا الحيف، وهب العرب زعيما كريما واسع الصدر، وأيده بقوة من عندك حتى يتغلب على نفسه، فلا يكون عبدا للشهوات، وليتغلب على ما يقف في سبيل بلاده من العقبات، فيتمكن بواسع حيلته من استمالة القلوب والأعوان وبعدله ونزاهته من تعمير البلدان وتقريب القلوب.»

وبينما الشيخان يتكلمان بمثل هذا الكلام جاءهما صديق يخبرهما بوفاة أحد الكبراء في قرية مجاورة، فسار كل في سبيله يستعد للذهاب إلى القرية المجاورة لقضاء واجب العزاء.

ذهب الشيخ صالح ويوسف الهلالي وجمهور كبير من أهل القرية لحضور المأتم الذي أقيم في قرية مجاورة لكبير من أهل تلك القرية؛ حيث ضم المأتم ألوف الخلائق من أهل القضاء، وبينما الناس مجتمعون في ذلك المأتم إذا بطيارة تحوم فوق الرءوس، فخاف القوم شرها، وظنوا أنها ستصب عليهم نارا حامية، وإذا بهم يرون أوراقا متناثرة تسقط من الطيارة فوق الرءوس، فرآها البعض والتقطوا بعضها وتلوا ما فيها، فإذا بها تخبر القوم باحتلال جنود الحلفاء للقدس الشريف، وتبشرهم بأن قوات الحلفاء بمساعدة حلفائهم العرب ستدخل البلاد فاتحة عما قريب، وتطمئن الخواطر، وتدعو الناس إلى الإخلاد إلى السكينة، فقرأ كل من يعرف القراءة من الحاضرين هذه الأوراق ومزقوها تمزيقا؛ لأنهم خافوا من سوء المغبة بعد ذلك، وكانوا محقين في تخوفهم؛ لأنهم أبصروا بعد قليل نفرا من الجنود ومعهم ضابط استخبارات جاءوا إلى حيث كان المأتم، وأخذوا يستقصون أخبار الطيارة وما رمت من الأوراق ، وفتشوا البيوت والجيوب، وأخذوا في التحقيق، ومع أن جميع الحاضرين أفهموهم أن الطيارة جاءت من نفسها، وأنهم لعنوا من فيها؛ لأنهم رموا بأوراق شريرة لإفساد أفكارهم بما فيها من الأكاذيب، فإنهم لم يصدقوا، واقتادوا لرياق عددا من الوجهاء عوملوا معاملة المجرمين، وأبقوا تحت الحفظ أياما دون أن يعرفوا سببا لهذه المعاملة، والناس يتوسطون دون فائدة، حتى إذا كان ذات يوم وأحد المشايخ الذين أوقفوا يقول: ماذا جرى بنا؟! أنبقى في هذا الأسر ولا نعلم لنا ذنبا؟! أطل عليه السجان، وكان من أهل تلك الناحية، وقد ساءه معاملة أبناء مركزه بمثل هذه القسوة والفظاظة، فقال: «طب نفسا فالفرج قريب»؛ لأن الجيش على وشك الرحيل، وسأفرج عنكم حالما أصبح حرا من القيود، قال: وما تعني بالقيود؟ قال: الجيش يستعد للرحيل سرا والعرب والإنكليز أصبحوا على قاب قوسين منا، وربما أطلقت سبيلكم في الليلة المقبلة، وسرت معكم إذا رأيت من محذور يصيبني، فاستعدوا للفرار، والآن ادخلوا إلى حيث أنتم مخفورين، ولا تظهروا قلقا، ولا تخشوا محذورا، فاجتمع السجناء السياسيون في غرفهم، وأخبروا بعضهم البعض بما كان، وأصبحوا ينتظرون الفرج، ويدعون لله أن يعجل دخول العرب البلاد بعد أن ذاقوا الأمرين في أيام الحرب السوداء.

هكذا مهدت السياسة للخلفاء سبيل الدخول إلى سوريا برضى أهلها، فالمسلمون ناقمون لما أصابهم من الظلم والخسائر المادية، ولفقدان زهرة الشباب في حروب لا خير فيها لأحد، والمسيحيون ناقمون لما ذاقوا من الظلم والاستبداد والخوف على الأرواح والأموال.

دخل الحلفاء سوريا فاتحين، فقابلهم الأهالي حيث حلوا بالترحيب، وكان أكثرهم سرورا بذلك هيفاء؛ لأنها كانت تنقم على الأتراك لما أصاب والدها في دمشق، مما زاد في حزنه على وحيده وعجل منيته، فقضى مبكيا عليه من كل من عرف أخلاقه الطيبة؛ ولأن الحرب جرت عليهم النوائب، وقضت على شقيقها العزيز ووالدتها المحبوبة وحرمتها من أخبار سليم، فكان أول ما فعلته حين دخل الحلفاء بيروت - حيث كانت في ذلك الحين - أن كتبت إلى سليم كتابا رقيقا هذا مؤداه:

Page inconnue