59

سألها باتريك: «ما الخطب؟»

فأجابته: «لا شيء!» ثم عادت لانتباهها وتوهجها مجددا، لكنها ظلت تنسى ما كان يحدث بينهما، وتدخلت تطورات جديدة في تفكيرها، واضطرت في النهاية للاستسلام لذلك الصراع بداخلها، متجاهلة باتريك إلى حد ما. وعندما تمكنت من التركيز معه ثانية، غمرته بمشاعر الامتنان. لقد كانت ممتنة الآن فعلا، ورغبت في أن يسامحها - بالرغم من عدم قدرتها على النطق بذلك - على امتنانها غير الصادق، وعلى سلوكها المتسلط، وشكوكها.

ما الذي يدفعها لهذا القدر من التشكك؟ أخذت تفكر في هذا السؤال بينما كانت مستلقية في السرير، بينما ذهب باتريك لإعداد بعض القهوة الفورية. أليس من الممكن أن تتفق مشاعرها مع ما تتظاهر به؟ إذا كانت هذه المفاجأة الجنسية ممكنة، أليس من الممكن أن يكون أي شيء آخر ممكنا أيضا؟ لم يساعدها باتريك كثيرا؛ فأخلاقه الرفيعة وتحقيره من قدر نفسه، بالإضافة إلى توبيخه لها، كلها أمور كانت تثبط من عزيمتها. لكن أليس العيب الحقيقي فيها هي؟ ألم تفكر في أن أي شخص سيقع في حبها لا بد أن يكون معيبا على نحو ميئوس منه، وأن يتضح لها في النهاية أنه أحمق؟ الأمر الذي دفعها لملاحظة أي شيء أحمق يتعلق بباتريك، بالرغم من ظنها أنها تبحث عن الجوانب المبهرة التي يبرع فيها. في تلك اللحظة، وهي مستلقية في غرفته وعلى سريره وبين كتبه وملابسه وفرشاة أحذيته وآلته الكاتبة، وصور الرسوم المتحركة المثبتة حولها - جلست في السرير لتنظر إليها، وقد كانت صورا لطيفة للغاية. لا بد أنه كان يسمح ببعض المرح عندما لا تكون هي موجودة في المكان - رأته شخصا جديرا بالحب، وذكيا، بل وظريفا أيضا. ليس بطلا، وليس أحمق في الوقت نفسه. ربما يمكنهما أن يكونا شخصين عاديين. تمنت فقط ألا يبدأ في شكرها وتحسسها والتغزل فيها عند عودته إلى الغرفة. لم تحب ذلك التغزل في الواقع، فقد كانت تحب فكرة التغزل فقط. على الجانب الآخر، لم تكن تحبه أيضا أن ينتقدها ويصحح أخطاءها. ثمة أمور كثيرة عزم على تغييرها فيها.

لقد أحبها باتريك، لكن ما الذي أحبه فيها؟ ليس لكنتها التي كان يحاول جاهدا تغييرها، مع أنها كانت تثور عليه وتتصرف على نحو غير عقلاني في كثير من الأحيان، موضحة أنها تتحدث مثل الجميع، وليس في حديثها أية لكنة ريفية، بالرغم من كل الأدلة التي تثبت عكس ذلك. لم تكن جرأتها الجنسية المتوترة كذلك بالشيء الذي أحبه باتريك (فقد ارتاح لتأكده من عذريتها مثلما ارتاحت هي بتأكده من كفاءته في هذا الشأن). كان باستطاعتها إجفاله بكلمة بذيئة، أو لكنة متشدقة. كانت لا تكف عن الحركة والتحدث، مدمرة صورتها في نظره، لكنه مع ذلك نظر إلى ما بداخلها، متجاوزا كل عناصر الإلهاء التي كانت تصنعها حول نفسها، وأحب الصورة المطيعة بعض الشيء فيها، والتي لم تكن هي نفسها تراها . عقد باتريك آمالا كبيرة على روز؛ فلكنتها يمكن القضاء عليها، وأصدقاؤها يمكن الانتقاص من شأنهم والتخلص منهم، ووقاحتها يمكن إثناؤها عنها.

ماذا عن باقي خصالها؟ النشاط، والكسل، والغرور، والسخط، والطموح؟ لقد أخفتها كلها. لم يكن لدى باتريك أية فكرة عنها. وبالرغم من كل الشكوك التي انتابتها حياله، لم ترغب قط في جعله يكف عن حبه لها.

ذهبا معا في رحلتين.

كانت الرحلة الأولى إلى كولومبيا البريطانية، واستقلا فيها القطار أثناء عطلة عيد الفصح. أرسل والدا باتريك المال له لشراء تذكرته، ودفع هو تذكرة روز مستهلكا كل ما لديه من مال في البنك ومقترضا من أحد زميليه في السكن. وطلب منها ألا تخبر والديه بأنها لم تدفع ثمن تذكرتها، ورأت في ذلك أنه يطلب منها إخفاء فقرها عن والديه. لم يكن باتريك يعلم أي شيء عن ملابس السيدات، وإلا ما كان ليعتقد أن إخفاء فقر روز أمر ممكن، لكنها فعلت كل ما باستطاعتها في هذا الشأن؛ فاقترضت من الدكتورة هينشو معطف المطر الخاص بها والمناسب للطقس الساحلي. كان طويلا بعض الشيء، لكنه فيما عدا ذلك كان ملائما لها بسبب ذوق الدكتورة هينشو الشبابي الأنيق. باعت، أيضا، المزيد من الدم لتشتري كنزة صوفية ناعمة الوبر بلون الخوخ، كانت غير مهندمة على الإطلاق، وبدت فيها كفتاة ريفية تحاول التأنق. اعتادت روز إدراك هذه الأمور بعد شرائها للملابس، وليس قبله.

عاش والدا باتريك في جزيرة فانكوفر القريبة من سيدني. نحو نصف فدان من المرج الأخضر المشذب - أخضر في منتصف الشتاء؛ بدا منتصف مارس لروز كمنتصف الشتاء - منحدر نحو حائط صخري وشاطئ ضيق كثير الحصى وماء مالح. كان المنزل نصفه من الحجارة، والنصف الآخر من الجص والخشب. بني المنزل على الطراز التيودوري، إلى جانب طرز أخرى. كانت جميع نوافذ الغرف كغرفة المعيشة، وغرفة الطعام، والمختلى، مطلة على البحر. ونظرا للرياح العاتية التي كانت تهب على الشاطئ أحيانا، كانت هذه النوافذ مصنوعة من ألواح الزجاج السميك - هذا ما افترضته روز - مثل نوافذ معرض السيارات في هانراتي . وحائط غرفة الطعام المواجه للبحر كان مصنوعا كله من النوافذ المعقوفة للخارج ببروز بسيط، ما يجعلك تشعر عند الإطلال منها على الخارج بأنك تنظر عبر قعر زجاجة. كان البوفيه أيضا معقوفا للخارج ومطليا بطلاء لامع، وبدا ضخما كالقارب. كانت الضخامة - ولا سيما السمك - ملحوظة في كل مكان. المناشف والسجاجيد ومقابض السكاكين والشوك، كلها كانت سميكة. خيم، كذلك، صمت مطبق على المكان الذي زخر بقدر هائل من الترف وعدم الارتياح. بعد يوم أو نحو ذلك من وجود روز هناك، أصابها إحباط شديد جعلها تشعر بالوهن في معصميها وكاحليها، فوجدت مشقة في الإمساك بالسكين والشوكة؛ كما صعب عليها للغاية تقطيع اللحم البقري المشوي متقن الصنع ومضغه؛ وشعرت بانقطاع أنفاسها عند تسلقها السلالم. لم تعرف من قبل قط كيف يمكن لبعض الأماكن أن تتسبب في اختناق المرء لدرجة يشعر معها بأنه سيفقد حياته. لم تعرف ذلك بالرغم من كثرة الأماكن السيئة التي دخلتها من قبل.

في صبيحة أول يوم لها في المنزل، اصطحبتها والدة باتريك للتمشية في الأرض المحيطة بالمنزل، وأشارت أثناء ذلك إلى دفيئة النباتات الزجاجية، والكوخ الذي عاش فيه «الزوجان». كان كوخا ساحرا تتدلى من فوقه أشجار اللبلاب ويحتوي على نوافذ بمصراعين. كان أكبر من منزل الدكتورة هينشو. وكان «الزوجان» - وهما الخادمان - أكثر رقة في حديثهما، وأكثر تعقلا واحتراما من أي شخص يمكن أن تتذكره روز في هانراتي، وبالطبع أرقى في هذه الجوانب من أسرة باتريك.

أرتها والدة باتريك حديقة الزهور المحيطة بالمطبخ. كان هناك الكثير من الحوائط الحجرية المنخفضة.

Page inconnue