وفي اليوم نفسه أبرق القاضي إلى جرائد باريز عن اختفاء مرسلين، وذكر أوصافها فنشرت الجرائد هذه الحادثة الغريبة التي باتت حديث الناس، فلا يعلمون أهي ميتة أم مختفية؟!
وقد بث القاضي رجاله في جميع تلك المنطقة يبحثون ويسألون، إلى أن جاءه واحد منهم يوما وهو يعتقد بفوزه، فقال إنه لقي في الطريق مزارعا أخبره أنه رأى امرأة بملابس فلاحة تنطبق أوصافها على مرسلين، وكان يصحبها فتى يدعى جان جوت ويلقب بكلوكلو، وهو جندي قديم نال المدالية العسكرية، وفقد ذراعه في معركة سباستبول، وهو يرتزق الآن من الغناء في الشوارع.
كان هذا الجندي محبوبا في برين لشهامته وحسن أخلاقه وبسالته، وكان غريبا في سكره؛ فإنه إذا شرب نصف كأس من الخمر استخفه الطرب فجعل يرقص ويغني، فإذا شرب النصف الآخر تدحرج تحت المائدة، بل إنه قد يسكر من الماء القراح إذا أوهم نفسه أنه يشرب الخمر، فيندفع في الطرب.
وعلى الجملة فقد كان طروبا خفيف الروح كثير الغناء، ولم يكن له مرتزق إلا من هذا الباب.
فلما سمع القاضي هذا القول من الجندي دعا إليه كلوكلو وسأله قائلا: من هي هذه المرأة التي كانت معك وإلى أين ذهبت؟
فتنحنح ولم يجب، واصفر وجه بوفور، فقال له: بربك قل ما تعلمه وإني أكافئك بمال يكفيك حتى الموت.
فتنحنح أيضا، وربما كان سعاله هذا المرة من التأثر، وقال: إني لا أعلم شيئا ولا أذكر شيئا.
فقال له القاضي: يستحيل أن تكون نسيت، فأجهد ذاكرتك؛ فقد كان ذلك منذ خمسة أيام فقط، فهل تعرف السيدة مونتكور؟ - كيف لا أعرفها يا سيدي وقد كان أبوها كولونيل، وكنت تحت قيادته في سباستابول، وكنت أكثر الأحيان أتغدى مع خادمتها في المطبخ. - إذن إنك تستطيع أن تكشف لنا شيئا من سر هذا الاختفاء الغريب. - أين لي ذلك وأنا لا أعلم شيئا؟ - لقد قال لنا أحد المزارعين إنه رأى امرأة معك، وإنها كانت السيدة مرسلين. - لقد أخطأ هذا المزارع؛ فإن هذه المرأة التي صحبتني لم أرها قبل تلك المرة، ولم أعرفها حتى الآن. - أتقسم على صحة ما تقول؟ - أقسم إذ لا بد من القسم. - لماذا تقول لا بد من القسم؟ - لأني لا أستطيع أن أقسم على عكس ذلك. - وإذا سألتك أن تقسم بشرف الجندية وبهذه المدالية التي يزدان بها صدرك؟
فاصفر وجهه وقال: إن الرجل الشريف لا يكذب، وليس لي ما أقوله غير ما سمعتموه.
فأطلق القاضي سراحه، وقال بوفور: أرأيت يا سيدي كيف أن جهدك قد ذهب عبثا كجهدي؟
Page inconnue