Études en langue et en littérature
مطالعات في اللغة والأدب
Genres
الكلام ثلاثة أنواع: إما أن يكون مساويا للمعنى المراد لا ينقص عنه ولا يزيد عليه، وهو المساواة، وإما أن ينقص عنه، وهو الإيجاز، وإما أن يزيد عليه، وهو الإطناب. أما المساواة فمقبولة مطلقا، وأما الإيجاز والإطناب فلهما مواطن وشروط نص عليها البيانيون، وليس فيما نصوا عليه ما يجيز أن يكيل الكاتب المترادفات كيلا.
وأنت إذا تفقدت كلام العرب في أشعارهم وأمثالهم وخطبهم ورسائلهم علمت أنهم يميلون إلى الإيجاز، وأنهم يكرهون التطويل الممل؛ بل إن عندهم نوعا من الحذف يقال له «الاكتفاء»، فبدلا من أن يقولوا: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» قالوا: «لا حول ولا» ومنهم من يختصر هذه أيضا فيقول: «لا ولا» ... فما قولك في عصر كادت تتغلب فيه لغة التلغرافات؟! فلو كان الكاتب يدفع ثمن كل كلمة يقولها لما سلك من طرق الأداء إلا أخصرها وأوضحها، ولو كان ينقد عن كل كلمة يقولها لما وجد من يشتري له قولا.
بل نحن في عصر تغلبت فيه روح الاقتصاد، فإذا لم يراع الكاتب الاقتصاد فيما يكتبه - في وقته ووقت القارئ - لم يجد من يقرؤه .
بل نحن في عصر المعنى فيه الأول واللفظ المحل الثاني، وبعبارة أخرى إذا لم يرتكز الأدب فيه على العلم فلا قيمة له.
لكل مقام مقال1
بينما أنا أسرح الطرف في صحيفة الأدب من «السياسة» الغراء إذ وقع نظري على مقالة لأحد أدباء فلسطين، عنوانها: «تطور اللغة في ألفاظها وأساليبها»، وهو موضوع طالما نازعني إليه خاطري وشعرت بافتقار الأدب العربي إلى بحث واف بمكانه؛ إذ كان كل دور من أدوار اللغة العربية - سواء كان دور الجاهلية والمخضرمين أو العهد الأموي أو العصر العباسي أو القرون التي بعده - لا يخلو من ديباجة خاصة تظهر على ألسن خطباء ذلك الدور وأقلام كتابه، وإن كان النصاب الأصلي للغة لا يزال واحدا.
ولم ينحصر اختلاف الأسلوب وتداول طائفة خاصة من الألفاظ بالأدوار والأعصار؛ بل إنك لتجده بين الأقاليم والأمصار، فللأندلس منزع يعرفه من ألف مطالعة كتب ذلك القطر، ولليمن مذهب لا يشبه مذهب المنشئين في العربية من فارس في كثير من الأمور، ولمصر لهجة خاصة يعرف الناقد البصير منها نسبة مؤلف الكتاب ولو لم يكن اسمه عليه كما ترى ذلك من ألف ليلة وليلة، وللشام أسلوب يختلف شيئا عن أسلوب أهل مصر في الكتابة وكثيرا في الحديث، كما أن للعراق نمطا غير نمط الشام ومصر وهلم جرا، ولعلنا نلم بهذا الموضوع في وقت آخر.
ولقد أمعنت النظر في مقال «تطور اللغة في ألفاظها وأساليبها» فوجدت الكاتب الأديب صاحبها أتى بشيء منه وأصاب بعض شواكله، ولكنه خرج فيه أحيانا عما هو من باب تطور اللغة باختلاف الأعصر والأمصار إلى ما ليس منه؛ كتمثيله لهذا التطور بقوله إن السوريين كانوا يجمعون لفظة «ميل» بمعنى «الهوى» على «أميال» ك «سيف وأسياف»، وقد شاع هذا الجمع في مصر وسورية دهرا طويلا ثم رأينا أن المصريين أخذوا يجمعونه على «ميول» ك «سيف وسيوف»، وكلا الجمعين صحيح، ولعل السوريين يعدلون مع الأيام عن «أميال» إلى «ميول» بحكم التقليد.
والحقيقة أن ليس هذا العدول عن «أميال» إلى «ميول» أثرا من آثار التطور الذي أراده؛ بل كانت العامة ومن لا يحقق في اللغة من الخاصة يجمعون «ميلا» بفتح الميم على «أميال» يجرونها مجرى «ميل» بكسر الميم، فجاء من قال لهم إن «فعلا» بفتح الفاء لا يجمع على «أفعال»؛ بل على «فعول»، وإن كان ورد شيء من ذلك فمن الذي لا يقاس عليه. فعدل عند ذلك الكتاب عن جمع «ميل» بالفتح على «أميال» إلى جمعه على «ميول» نظير «بيع وبيوع»، وقد سبق أنهم كانوا يجمعون «خصما» على «أخصام» وقد رأيت هذا الجمع في كلام كاتب مصري من الأدباء الراسخين الذين نبغوا منذ نحو نصف قرن فلما نبه بعضهم إلى أن جمع «خصم» على «أخصام» غلط عدلوا إلى جمعه الصحيح على «خصوم»، فلا نجد كاتبا الآن إلا وهو يقول «خصوم» ويتجنب «أخصام». ثم إنه قد ورد في كلام اليازجي الكبير جمع «فعل» بفتح الفاء على «أفعال» وذلك في قوله: «مضى يجمع الأفضال وهي عبيده» فعابوه فيه وذكر ذلك أحمد فارس في مناقشة مع ابنه؛ فلذلك لا يجمع «فضلا» على «أفضال» اليوم إلا العامة يقولون لا ننكر أفضالك، فأنت ترى أن السبب في ذلك التطور هو متابعة القاعدة واعتقاد تنكب الخطأ، على أن الخطب يسير، فإن «فعلا» بفتح الفاء إذا كان من الأجوف كثيرا ما يجمع على «أفعال» وله أمثال لا تحصى.
وكذلك «بدهي وطبعي»، أخذ المصريون يستعملونها ذهابا إلى أن «بديهي وطبيعي» هو غلط في النسبة، مع أن السوريين يرونه غلطا مشهورا هو أولى من الصواب المهجور، ويرون له في «ولكن سليقي أقول فأعرب» شاهدا مؤنسا. فالعدول عن «أميال» إلى «ميول»، وعن «طبيعي» إلى «طبعي» كان في اعتقاد من فعله مجرد اتباع للقاعدة لا مجرد عدول عن اصطلاح إلى آخر إذ كلاهما صحيح. ثم وصل الكاتب إلى قوله: «هذا في اللغة وأما في الأساليب فهناك مذهبان؛ مذهب قديم ومذهب جديد، وإني أحاول هنا أن أشير إلى الفرق بين المذهبين على قدر ما تعين عليه البصيرة الضعيفة، مما أولع به أصحاب المذهب القديم إلى يومنا هذا تكرار الكلام في غير مواطن التكرار (اعتراف منه هنا بأن للتكرار مواطن) والإسراف في استعمال المترادفات على غير حاجة إليها ولا فائدة منها، فهم لا يأتون بكلمة إلا أتبعوها بمرادفاتها، فإذا قالوا: «تمادى الرجل في ضلاله» قالوا: «ولج في غوايته وعمه في طغيانه ومضى على غلوائه»، وإذا قالوا: «أحزنني هذا الأمر» قالوا: «وشجاني وأرمضني وأقلقني وأقض مضجعي»، إلى أن يقول: «بل أستأذن القارئ الكريم في تقديم مثل على ذلك من رسالة أمامي لكاتب كبير قال: يا إخواننا، إن الصارخة القومية والنعرة الجنسية قد بدأت مع الأقوام، ونشأت مع الأمم مذ الكيان ومنذ وجد الاجتماع البشري وتساكن الإنسان مع الإنسان» وقال: «مهما انتبذ لنفسه مكانا منزويا وتنحى جانبا معتزلا» وقال: «ومهما ترامت به عن منبته الأقطار وتباينت بينه وبين أهله الأوطان والأوطار ... إلخ.»
Page inconnue