عبد الله بن المقفع... شعوبي!...
أبو نواس... " شعوبي "!...
ابن الرومي... " شعوبي "!...
بل... حتى أبو عثمان الجاحظ، وأبو الطيب المتنبي " شعوبيان "!... (1) لما ذا؟...
كان يكفي أن يرجع النسب بأحد هؤلاء وأمثالهم إلى أصل فارسي، مثلا، حتى يخرجوه بهذا الوصف من نطاق نسبه الفكري والثقافي والأدبي، أي نسبه العربي الذي نماه فكرا وثقافة وأدبا ولغة وحياة يومية، هي حياة اللحم والدم، حياة الذهن والقلب...
بل، كان يكفي ان يجهل المؤرخون حلقة واحدة من نسب كاتب أو شاعر أو مفكر، أو أن يشكوا مجرد الشك، حتى يلحقوه بفصيلة " الشعوبية "!...
لقد كان أبو نواس " أعرق " هؤلاء الأعلام " شعوبية " في رأي مؤرخي أدبنا العربي، وهو لا يزال هكذا في رأي الكثرة الغالبة من مثقفي جيلنا المعاصر نفسه... فلننظر، اذن، في المستند الذي ركنوا إليه حين أطلقوا حكمهم ذاك على أبي نواس، لنرى: هل يصح لمنطق العلم والتاريخ ان يركن إليه، حتى نتبعهم واثقين، أو أن الأمر ليس بهذه المنزلة من البداهة التي اخذته بها الأجيال منذ العصر العباسي الأول حتى اليوم...
فإذا استطعنا ان نصل بأمر أبي نواس إلى رأي علمي مقبول، فإن امر غيره من الموصومين ب " الشعوبية " يصبح يسيرا لا محالة:
ولننطلق الآن، في موضوعنا، من هذا السؤال:
هل صحيح أن أبا نواس كان شعوبيا... بمعنى أنه كان عدوا للعرب يفضل عليهم الفرس، كما كان معروفا من معنى الشعوبية في العصر الذي نشأت فيه هذه النزعة العنصرية البغيضة؟...
لكي نستطيع ان نستخلص الحقيقة في هذه الدعوى، يجب أولا، أن نستعرض جملة الشواهد التي احتجوا بها على شعوبيته، ثم ننظر في هذه الشواهد نظرة موضوعية، غير متأثرين بسيطرة الفكر التقليدية المتوارثة منذ أجيال، لنرى: هل تكفي هذه الشواهد للحكم لشعوبية أبي نواس أو هي قاصرة عن اثبات هذه الدعوى لقد استدلوا على شعوبيته بما يلي:
أولا - ما ورد في شعره من كلام وصفوه بأنه مدح للفرس وهجاء للعرب، مثل قوله:
ولفارس الأحرار أنفس أنفس * وفخارهم في عشرة معدوم وإذا أعاشر عصبة عربية * بدرت إلى ذكر الفخار تميم وبنو الأعاجم لا أحاذر منهم * شرا، فمنطق شرهم محسوم لا يبذخون على النديم إذا انتشوا * ولهم، إذا العرب اعتدت، تسليم وجميعهم لي، حين أقعد بينهم * بتذلل وتهيب، موسوم وقوله:
تراث أبي ساسان كسرى ولم تكن * مواريث ما أبقت تميم ولا بكر ثانيا - ما ورد في شعره من هجوم على الشعر العربي الذي يصف البادية والاطلال وعلى حياة البادية نفسها وعلى أهلها كقوله:
لتلك أبكي، ولا أبكي لمنزلة * كانت تحل بها هند وأسماء حاشا لدرة ان تبنى الخيام لها * وان تروح عليها الإبل والشاء وقوله:
سقيا لغير العلياء فالسند * وغير اطلال مي بالجرد وقوله:
يا واصف البيد والقفار ويا * ناعت أسرابها ومكاها وواصف الربيع والرياض وما * أشرف من نبتها وبهاها أحسن من ذاك نبت صافية * تنزو إذا ما تدرعت ماها أعرض عن الربيع ان مررت به * واشرب من الخمر أنت اصفاها وقوله:
ايا باكي الاطلال غيرها البلى * بكيت بعين لا يجف لها غرب أ تنعت دارا قد عفت وتغيرت * فإني لما سالمت من نعتها حرب وقوله:
دع الاطلال تسفيها الجنوب * وتبكي عهد جدتها الخطوب وخل لراكب الوجناء أرضا * تحث بها النجيبة والنجيب
Page 37