الجنرال (ينتبه، يسترق السمع) :
من؟ سمعت صوتا، هل من مناد؟ هل سمعت اسمي، أيوجد شخص يريد مساعدة ما، صديق أو خائن؟ (يخرج مسدسا من بين جنبيه ويعمره). (تتساقط على خشبة المسرح قطع وأشياء متعددة ومتنوعة؛ بقايا أسلحة، قذائف فارغة، ملابس جند، أوان منزلية، أحذية نسائية، ملابس نساء، وفاكهة قريب فروت متعفنة، يعيد المسدس إلى موضعه، يلتقط قطعة ملابس داخلية، لباسا كبيرا لسيدة، يطرحه أمامه في مستوى وجهه، حاجبا إياه من الجمهور، تظهر بقعة دم كبيرة على اللباس، تتسع قليلا قليلا إلى أن تعم القطعة كلها، تنقط دما على الأرض، يرمي به بعيدا، تأبى القطعة إلا أن تبقى في كفه، ينفضها بقوة ولكنها تظل عالقة بكفه، يدوس عليها برجله جاذبا إياها للأسفل محاولا تخليص كفه، ولكن القطعة تظل عالقة بأصابعه، يقف محتارا، فتسقط على حذائه من تلقاء نفسها، يمسح الدم على بنطلونه، تسمع أصوات إطلاق الرصاص، يدخل المسرح عدد كبير من النساء والأطفال في هلع، يلبسون ملابس ممزقة، يحملون بعض الأدوات المنزلية والمتعلقات الشخصية على رءوسهم وظهورهم، بعض الأطفال مربوطين على ظهور أمهاتهم، يصدرون أصواتا ويصرخون، يعم المسرح هرج ومرج، ولا يحسون بوجود الجنرال الذي يرتفع للأعلى وحوله بقايا الأشياء التي تحيط به، وهو يقف مثل الصنم لا يبدي أية حركة، ينظر بعيدا نحو عمق المسرح، يسمع صوت طائرة تعبر السماء، يرقد الناس كلهم على الأرض، يحتمون بما يحملون، ويصمتون في خوف، يظل الجنرال واقفا منتصبا مثل صنم منسي في صحراء، لا خرائط تقود إليها، يسمع صوت إطلاق رصاص، ينظر الجنرال للبشر الذين تحته، يحتمون برفع أياديهم على رءوسهم، أو يجعلون من متعلقاتهم مصادر حماية وساتر) : من أين جاء هؤلاء الناس، ألم يرسلهم جنودنا البواسل للجحيم؟ (عندما يختفي صوت الطائرة نهائيا يعود الأشخاص إلى الهرج والمرج، يعالجون متعلقاتهم؛ النساء يرضعن أطفالهن، الأطفال الأكبر عمرا يتجولون حول المكان يكتشفون مفرداته، الرجال وهم قلة يتناقشون في جماعة بجدية، ويظهر على الجميع الوهن والخوف وضعف البنية الجثمانية ، تبدو ملابسهم متسخة ممزقة وملوثة بالدماء، يتدلى الجنرال من أعلى الركام، يتجول بين الأشخاص الذين لا يظهرون أية علامة على أنهم يرونه) : الله! هل أنتم عميان؟ ألا تحسون؟ أم أني أتوهم مجرد توهم؟ (يلمس طفلا صغيرا يلعب ببقايا بندقية، لا يظهر الطفل اهتماما به) : إذا أنا أتوهم، ماذا أصابني! (يجري بين الأشخاص، يعثر على البعض، يضرب البعض، يتمتم بكلام غير مفهوم) : آآآآه هل أنا الوهم؟ هل أنا شبح وهؤلاء أحياء أم أنا حي وهم مجرد أشباح، أشباح حرب تافهون لا أكثر؟ هل هم الخونة الذين قتلناهم؟ (يسمع مارش عسكري يأتي من بعيد ويعلو تدريجيا. يبدو الارتباك على الأشخاص، ويقومون باتخاذ الساتر، يخفون أوجههم بأكفهم، البعض يضع أصابعه في أذنيه وهم يختفون خلف كومة الأشياء، يصعد الجنرال إلى أعلى كومة، يحيي تحية عسكرية وهو منتصب كالصنم، ويعلو صوت المارش إلى أن يبدو وكأن الموسيقيين يعزفون المارش في داخل المسرح، ويستمر إلى ما يقارب الدقيقة، ثم يأخذ في الاختفاء تدريجيا، وعندما يختفي تماما ينزل الجنرال يده من صدغه مبتسما ابتسامة صفراء):
أنا قوي إذا أنا موجود، (يعبث بالركام تحت قدميه، يخرج أسطوانة معدنية كبيرة، كتلك التي تستخدم لحفظ غاز الأكسجين، يتهج ما هو مكتوب عليها بطريقة طلاب المدارس) : مبيد لقتل الأشباح. (يضيف مبتسما) : معقول، هل يوجد مبيد لقتل الأشباح؟ (يتهج مرة أخرى بذات الطريقة) :
Made in soooooba
حسنا، إنه صناعة محلية، صنع هنا في سوبا، وهل يمكن صناعة هذا الشيء في غير هذه المدينة التي نصفها غابة ونصفها الآخر جبل وسكانها ينعمون في قبورهم؟ آن الأوان أن نتخلص من الحشرات الشبحية بمبيد أنتج محليا. (مخاطبا الأشخاص) : آن الأوان للتخلص منكم أيتها الأشباح الآدمية، (ينظر الأشخاص في ازدراء وهو يفتح قفل الأسطوانة الضخمة، تنفتح مصدرة صريرا مخيفا، تخرج من الأسطوانة سحابة كبيرة مثل الدخان تعم المسرح كله تدريجيا حتى تنعدم الرؤية ويظلم المسرح تماما، ثم تبدأ في الانقشاع التدريجي، يظهر الأشخاص وهم يقومون بعمل دمى لجنرالات من القماش المحشو بالقطن، إلى أن تتضح الرؤية أخيرا وينجلي الظلام؛ حيث تظهر عشرات النسخ من الجنرال في شكل دمى كبيرة من القماش المحشو بالقطن بأحجام مختلفة، لها ألوان بيضاء وسوداء وحمراء وصفراء وبرتقالية معلقة على سقف المسرح متدلية برأسها للأسفل، وأمام المسرح على اليمين قليلا طفل يضع اللمسات الأخيرة للوحة يرسم فيها الدمى المعلقة على سقف المسرح رءوسها مدلاة للأسفل، وفي مقدمة المسرح عن الوسط قريبا جدا من الجمهور يجلس رجل ضخم على كرسي دوار وهو يعطي ظهره للمشاهدين، فجأة يدور بكرسيه دورة كاملة، ثم يتوقف وهو في وضع المواجهة الكاملة للجمهور، وجهه هو ذات وجه الجنرال، يرتدي ذات ملابسه، في صدر بذلته العسكرية مريلة بها بقعة دم كبيرة، يصمت لثوان، يحملق في المشاهدين، من ثمة ينفجر بالضحك بأعلى صوته، يتجاهله الطفل وبقية الشخصيات الذين بخشبة المسرح تجاهلا تاما كأن لم يكن، يستمر في الضحك بينما يسدل الستار تدريجيا، أو يسقط الستار من أعلى.)
11 / 11 / 2011
الأم
مثله مثل كثير من أبطال القصص التي أكتبها، كان الرجل لصيق الصلة بأمه، ليس لأنه وحيد أو أنه أصبح كذلك فيما بعد، ولكنه هكذا وجد نفسه وبقي على هذه الحال، هذا اليوم سوف يصبح نقطة تحول في حياته، هو يعرف ذلك ويعيه جيدا، سوف يفقدها فيه، وهذا ليس من علم الغيب بالنسبة لطبيب متمرس وخبير في مسألة الموت والحياة، أمه تحتضر الآن، وستموت في ساعة ما في اليوم، كما مات في يديه مئات الأشخاص رجال ونساء وأطفال، لم يخطئ قط في تقدير وقت وفاتهم، ولكن احتضار الأم ليس كاحتضار الآخرين، كان حزينا جدا وبائسا جدا، ولم يستطع أن يبقى معها للحظة الحاسمة التي تحتاج فيها إلى من يقبض على يدها ويهمس في أذنها بكلمة قد لا تسمعها، ولكنها تجعلها تغادر هذا العالم في سلام، طلب من أخوته أن يقوموا بهذه المهمة وهرب هو بعيدا لا يدري إلى أين، ركب عربته ومضى في الطريق الذي صادفه في الاتجاه بالسرعة، ومضى، ولكنه في وقت لاحق من سفره قرر أن يذهب إلى مدينة تقع على بعد خمسمائة ميل في الاتجاه الذي تسير فيه العربة، أغلق موبايله، انطلق لا يلوي على شيء.
وصل في منتصف الليل، لم يذهب إلى منزل أقاربه أو أصدقائه، إنما ارتكن إلى فندق عجوز وحشر نفسه في قراءة الكتب ومشاهدة الأفلام، كانت تطوف بذهنه أفكار كثيرة متضاربة، ولكن سيطرت عليه فكرة أن أمه سوف لا تموت، وأنها قد احتضرت عدة مرات من قبل واستطاعت أن تبقى حية وتمارس حياتها وحبها له لسنوات، لكن تلك ليست كهذه؛ فهي ما فوق الثمانين، وليس للمرأة كلية عاملة على الإطلاق، وإنها لم تستجب لعملية غسيل الكلية بصورة مطلوبة، بل إن عقلها قد بدأ يموت تدريجيا، ولكنه استطاع أن يصبر على هذه الأفكار ليوم، ثم ليومين ثم لثلاثة ثم لأربعة، ثم رضخ أخيرا إلى فكرة أن يفتح موبايله وينتظر مكالمة من أحد أصدقائه أو أسرته ليبلغه بأنهم قد حضروا الدفن، وأنهم افتقدوه وأن أسرته كلها كانت هنالك ما عدا هو، كانت ترعبه فكرة الوداع، ولكن قد يتقبل مسألة الموت.
الساعة تشير إلى الخامسة مساء، عندما فتح موبايله لم تمض دقيقة واحدة حتى رن جرس الموبايل، كان رقم البيت، قبل أن يفتح الخط هيأ نفسه لأحد الأمرين: إما أن يبشروه بحياة أمه أو يخبروه بموتها، وهو مستعد للاثنين معا.
Page inconnue