La musique orientale et le chant arabe
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
Genres
بقلم نيافة المطران: كيرلس رزق
لما كان مؤتمر الموسيقى على أهبة الانعقاد بمصر بإيعاز من حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول المعظم حامي العلوم والفنون الجميلة، وعناية الحكومة المصرية النشيطة، رأيت أن ألقي دلوي في الدلاء؛ لمزاولتي الأنغام الكنسية واطلاعي على أنواع الأنغام الشرقية العربية المدنية؛ لعلي أؤدي بعض الفائدة لهذا الفن الجميل فيما يدور بحث المؤتمر عليه فأقول:
اختلفت الأقوال في أصل الموسيقى ومبادئها عند الأمم وأنا لا أجزم بأصح الأقوال لغموض الأمر. واختلفوا في تحديدها، فقال بعضهم إنها كل حركة واهتزازات في الطبيعة كحركة الأشجار والنبات وما أشبه، وقال البعض الآخر إنها من الأصوات الطبيعية الإنسانية إلى غير ذلك من الأقوال. وقد قال ذلك غير واحد من علماء الموسيقى «أن تحديد الموسيقى الصحيح هو فن التأثير في النفس، ويتم ذلك كله بتأليف أصوات تلذنا فتثير فينا هذه العواطف المختلفة من أول وهلة فيصل تأثير الموسيقى إلى النفس مباشرة، فيجب والحالة هذه أن تسمى الموسيقى لغة النفس».
والذي ينظم نغمة موسيقية فإنما ينظمها على مثال ما يشعر به في نفسه من العواطف، ففن الموسيقى يفترق جوهريا عن سائر الفنون كالتصوير مثلا فإنه خاضع للإصلاح مرارا تحت نظر الرسام، وليست الموسيقى كذلك في إنشاء التأثير مع خضوعها للمؤلف في إصلاح بعض التراكيب الصوتية إذا كان مخالفا لمبادئ الفن، أما الشعر فهو أقرب ما يكون إلى الموسيقى لصدوره عن النفس، ولكنه يفارقها بكونه خاضعا لروية العقل، ولإصلاح لغوي منطبق على وزن خاص.
أما تاريخ الموسيقى فغير محدود بعصر من العصور، بل هو تاريخ الإنسانية نفسها، وكانت الشعوب القديمة تقدرها حق قدرها، فالهنود نسبوها لإلههم برهم، والمصريون لأوزيريس مخترع المعرفة وهرمس موجد العود. وكان اليونانيون يلقنونها لأولادهم في المدارس وخارجها ويمنعونها عن العبيد، وأن الحيوانات الضارية نفسها كانت تستأنس بها. وقد عد قدماء اليونانيين أول موسيقي العالم، وأحصى كبار الموسيقيين عندهم بين آلهتهم، وامتزج فن الموسيقى بفن النظم في بلاد اليونان فاعتبروا هوميروس شاعرا وموسيقيا وكان يغني منظوماته أمام الأبواب. ومن لفظة موسا اليونانية وهي إلاهة الشعر اشتقت الموسيقى.
نيافة المطران كيرلس رزق.
وكان عند العبرانيين أثر كبير لهذا الفن يتأكده من تصفح التاريخ المقدس وقس سائر الشعوب على ما ذكرناه. وأن ما أوردناه هو توطئة للكلام على الموسيقى العربية التي نرمي إلى الكلام عنها اشتراكا في أغراض المؤتمر الذي سيعقد في القاهرة بشأنها.
نقول إن العرب لم يكونوا أقل ميلا إلى الموسيقى من غيرهم من الأمم، وكانوا يتغنون بأشعارهم لمقاصد جمة أخصها إثارة الحماسة في المتحاربين. ولما اختلطوا بالأمم الأخرى بعد الإسلام وتأسست دولهم اقتبس الخلفاء من رعاياهم الجدد أفضل ما عندهم من الأنغام الموسيقية، فاختلط بالأنغام العربية الأصلية، ففاقت بعد التنظيم سائر أنواع الموسيقى عند بقية الشعوب، وزادت شهرتها وتأثيرها في عهد العباسيين، ولا سيما عهد هارون الرشيد، وكانت أكثر القصائد تنشد. وكان عند العرب والفرس حتى اليوم سبع أنغام أصلية، وضعوها على أسماء السيارات، وهي الرست والدوكا والسيكا والشركا والنوى والحسيني والعجم ويضاف إليها الحجاز، ومن هذه الأنغام اشتقت عدة فروع تقارب التسعين، ولها ديوان (سلم) يتألف من جملة مقامات، وإذا قابلنا الموسيقى العربية بالأفرنجية من حيث الشعور باللذة والتأثير في المجموع العصبي وجدنا العربية أشد تأثيرا ولذة. ولقائل أن يقول ولماذا لا يتذوق الإفرنج الموسيقى العربية فالجواب على ذلك هو: أولا لأن ليس في موسيقاهم ما في الموسيقى العربية من التقاسيم الدقيقة للمقام ولم يتعودوها. وثانيا وأن لكل أمة عادات وأمزجة وأميالا تختلف عن الأخرى، ولكن متى ألفت سماع الموسيقى عند أمة أخرى تكررا ينتهي بها الحال إلى أن تجدها لذيذة. ومما يثبت هذه النظرية هو أن الحكومة الفرنسية أرسلت بعثة موسيقية في أواسط القرن الماضي إلى الشرق للدرس، فمرت في أثينا ومصر، وبعد المراقبة وصلت إلى النتيجة التي ذكرناها، وقد لبث أعضاؤها أكثر من شهرين في مصر سمعوا في أثنائهما الموسيقى والمغنين غير مرة، وأخيرا صاروا يلتذون بالموسيقى العربية وفضلوها على موسيقاهم بعد ما كانوا يتأففون في بدء الأمر من سماعها، فضلا عن أن الأوتار العربية أكثر حساسية من أوتارهم المعدنية. ولا بد للوصول إلى ذلك من مراعاة عدة أمور أخصها اتفاق أصول النغم عند الغناء أو الترتيل، ومراعاة الضرب الخفيف والثقيل، وتطبيق المعنى على النغمة، وحسن النطق اللفظي، وتكييف النغمات لئلا تمل السامع إذا بقيت على وتيرة واحدة، بشرط الانتقال بمهارة من نغمة إلى أخرى، والعودة إلى النغم الأساسي من دون أن يشعر السامع بمفاجأة. على أنه لا ينبغي أن يستنتج مما تقدم أن الموسيقى العربية بلغت حد الكمال، أو أنها تفضل الموسيقى الأوروبية في كل شيء، فلا بد من ذكر الفوارق بينهما من هذا القبيل والنواقص الواجب تلافيها بمناسبة انعقاد المؤتمر:
أولا:
أن الموسيقى العربية بحالتها الراهنة لم ترتق إسوة بسائر الفنون فإن تحسنها ضئيل من قرن مضى حتى الآن. والرقي واجب لكل شيء مسايرة للحركة العامة بخلاف الموسيقى الإفرنجية الدائبة على التحسن.
Page inconnue