استلقت ريكو على الكرسي المريح، تركتها كما هي في حالتها تلك لبعض الوقت وسط إضاءة خافتة للغاية.
هذه هي المرة الأولى التي أكون فيها مع ريكو ليلا في غرفة بمفردنا. بجواري مباشرة أنفاسها الهائجة ووجهها المغمض العينين في ألم، ولكنني تعمدت ألا أنظر إليها. وكنت راضيا، بل في منتهى الرضا.
استمر الصمت لمدة خمس أو ست دقائق، ثم بدأت ريكو في التكلم أخيرا. - «هل أغلقت الغرفة بالقفل يا دكتور؟» - «أجل. كما هي العادة دائما.» - «لن يدخل إلى هنا كائن من كان، أليس كذلك؟» - «لا تقلقي، فلن يدخل أحد.» - «أنا سعيدة. لكم اشتقت وتمنيت العودة إلى هذا المكان!» - «ولكنك لم تعودي رغم مرور كل هذا الوقت، أليس كذلك؟» - «أنا امرأة مذنبة! امرأة مجرمة! ولا أعرف كيف أعتذر لك يا دكتور. امرأة أنانية أوقفت العلاج وفعلت ما يحلو لي ... كل ذلك بسبب أنني امرأة مذنبة. أليس كذلك؟ قل لي يا دكتور، أليس كذلك؟» - «عدم المجيء إلى هنا ليس ذنبا! ليس ذنبا وليس جريمة. إن لك مطلق الحرية في فعل أي شيء.» - «ماذا تقول؟ ماذا تقول يا دكتور؟ هل تمنحني حريتي؟ أنت إذن المخطئ يا دكتور لمنحك الحرية لي. ولهذا فقد أصبحت هكذا ...» - «هكذا؟ ماذا تعنين بكلمة هكذا؟»
ثم أدرت نظري أتفحص جسد ريكو. لم يعد ذلك الجسد يرتعش ولم تعد الأنفاس مضطربة. فقط الصدر اللين المتضخم يعلو ويهبط، وبفضل الإضاءة المعتمة بدت متألقة بدرجة مدهشة. - «إنه أمر عجيب. بمجرد دخولي هذه الغرفة، ارتاح إلى حد ما صدري الذي كان يعاني آلاما جمة، وأشعر أن العقدة التي كانت معقودة داخل جسمي قد انحلت وتحررت فجأة.»
إنني أحرص على عدم الاستماع إلى شكاوى المرضى في مثل هذه الحالة. وإن سئلت عن السبب؛ فلأن سماعهم والتلطف معهم في حالات الشكوى من أمر سيئ يجعلها أحيانا تزداد، أما في حالات الادعاء بالتحسن فجأة مثل الآن، فإظهار السرور يسبب رد فعل مشاكس وتعود حالته السيئة مجددا.
لذا أجبت بلا مبالاة: «عظيم جدا. هذا يعني أنك مستعدة للإجابة عن العديد من الأسئلة.» ولم أنتظر أن يستعد قلبها فسألتها ما يلي فجأة: «لقد ذهبت للاحتماء عند السيد إغامي وأنت تقولين إنك مطاردة، فمن الذي يطاردك؟»
لحظيا بدا نوع من التردد في عيني ريكو. ولم أغفل عن تلك الحركة. - «المقص.» - «ها؟» - «المقص هو الذي يلاحقني. لقد سبق لي أن ذكرت ذلك من قبل في جلسة تداعي الأفكار الحر، أليس كذلك؟» - «بلى، أنا أتذكر ذلك المقص بالتأكيد. ولكن، الآن، الأمر مجرد مجاز؛ أليس كذلك؟» - «ليس مجازا يا دكتور. سأقول لك. لقد كنت على وشك أن أقتل حقا بمقص.» - «ماذا؟!»
ثمة رائحة مريبة حقا تفوح من كلامها، ولكنني فكرت هذه المرة ألا أدعها تحكي القصة بتتابع أحداثها زمنيا، بل أن أكون كالصقر الذي يسقط فجأة من السماء بالتفاف وانحناء مستهدفا أرنبا يجري بعيدا جدا في البراري، بأن أوجه لها أسئلة متتالية لتجيب عنها. - «لنستمع للأسباب التفصيلية فيما بعد، ولكن المقص ... لم المقص خاصة؟!» - «كان هناك مقص عن طريق الصدفة.» - «أي نوع من المقصات؟» - «مقص لقطع الزهور.» - «أين كان؟» - «ما من غرابة في الأمر يا دكتور. فقد كنت أقيم مختبئة عند أستاذة تعلم فن تنسيق الزهور للأجانب، ويقع بيتها في حي روبونغي.» - «مختبئة؟! يعنى ذلك أنك في حالة خطر من قبل؟» - «لم تكن الحالة بتلك الدرجة من الخطورة، فجأة كرهت ذلك الشاب ذا السترة السوداء الذي كتبت لك عنه في رسالة سابقة. لذلك هربت سرا، في أحد الأيام، من فندق كوجيماتشي الذي كنا نقيم فيه معا وانتقلت للسكن هناك.» - «ثم بحث الشاب ذو السترة السوداء عن ذلك المكان وطاردك حتى هناك، أليس كذلك؟ حالة تحدث كثيرا.» - «أجل حالة تحدث كثيرا.»
ثم لشدة العجب تنهدت ريكو تنهيدة مبهرة؛ تنهيدة تختفي داخلها معان عديدة، كبرياء يتظاهر بالكراهية، انفعال يتظاهر بالملل؛ تنهيدة يتنهد مثلها فجأة طفل عاد إلى بيته ورأى وجه أمه بعد أن ظل يجري متجاوزا عاصفة عاتية بخدين فاقعي الحمرة. - «كنت أقيم عند أستاذة تنسيق الزهور بدون أن أتعلم، وبدون أن أساعدها، بل لمجرد أن أتأمل حركات يديها الجميلتين، وأقول يا لهما من يدين جميلتين ... وقتها دق جرس الباب، وعندما فتحته وجدته أمام الباب. كنت قد ذهبت لفتح باب المدخل وأنا ألعب بمقص قطع الزهور في يدي اليسرى.» - «في الماضي كان مقص خياطة غربيا، والآن مقص قطع زهور ...» - «ماذا تقول يا دكتور؟!» - «لا شيء، بل كنت فقط أحاول أن أرتب ذاكرتي. أرجوك استمري في الحديث.»
بعد أن قطعت حديثها حركت حاجبيها قليلا وهي مستاءة، ولكنني تعمدت فعل ذلك. ربما كانت في ذلك الوقت تحمل حقا في يدها مقص قطع زهور، ولكن من خلال قطع حديثها هكذا، كنت أمنعها من تحويل الأمر إلى قصة مأساوية، ومن جهة أخرى، كنت أريد أيضا أن ألفت نظرها إلى تغير رمزية المقص لها شخصيا. «... عندما رأيت الشاب بالسترة السوداء، واسمه هاناي عند مدخل البيت، كاد قلبي يتوقف من الخوف. ما دام استطاع أن يقتفي أثري ويصل إلي حتى هنا فلا يمكن توقع ما يفعله شخص بصفاته الشخصية تلك من أفعال متهورة.» - «ثم ... هل فعل شيئا متهورا؟» - «كلا. لقد عاد في ذلك اليوم في هدوء. طلب بإلحاح وكآبة أن أعود إليه، وهددني قائلا: إن فقدتك فسوف أموت حقا هذه المرة، فأنت فقط الوحيدة التي أحبها في هذا العالم. ومع أنني قلت هددني، إلا أنه قال ذلك بنبرة كئيبة وابتسامة موحشة.» - «ولم يحدث وقتها شيء يشكل خطورة، أليس كذلك؟» - «بلى ... لم يحدث شيء ...» - «ومقص قطع الزهور؟» - «ها؟» - «ماذا حدث لمقص قطع الزهور؟ ألم تقولي إنك كدت أن تقتلي به؟» - «آه، قلت ذلك، ماذا حدث لي؟ إنني أتذكر أنني خرجت فعلا حتى باب البيت وفي يدي اليسرى مقص الزهور. ولكن من شدة صدمتي بمجيئه لا أتذكر مطلقا أين وضعت المقص بعد ذلك ... ماذا أفعل؟ إن الذاكرة غريبة حقا. تستمر حتى نقطة زمنية معينة بوضوح تام كأنها مشهد فيلم سينمائي بالألوان الطبيعية، ثم فجأة ينقطع الفيلم. مراعاة لمعلمة تنسيق الزهور مالكة البيت، خرجت مع هاناي للتحدث ونحن نتنزه في الخارج.» - «ووقتها لم يكن المقص في يدك، أليس كذلك؟» - «لا أعرف ذلك مهما حاولت التذكر.» - «حاولي تجربة ملاحقة الذاكرة بنفسك. لقد قلت بنفسك إنك كنت على وشك أن تقتلي بمقص الزهور.» - «أجل ... ولكن كان ذلك زلة لسان. أعتقد أنني أخفيت المقص بمهارة شديدة بمجرد رؤيتي لوجه هاناي. من المؤكد أن رعب المفاجأة وقتها جعلني أعتقد أن هاناي سيقتلني بمقص الزهور.» - «ولكن الشخص الطبيعي لا يفكر في قتل شخص بمقص. فالمقص يستخدم في القطع والاستئصال أكثر من استخدامه في الطعن. مثل سرطان البحر في حكايات الأطفال، الذي يهدد بالقول: أسرعي يا بذرة بإخراج النبتة ثم أسرعي بإنماء تلك النبتة وإن لم تفعلي سأستأصلك، هو المقص. لقد كان لديك خوف من أن يقطع هاناي شيئا ما منك باستخدام المقص. ما يقطع من المرأة في المعتاد هو الشعر، ولكن في حالتك لم يكن خوفك من ذلك.
Page inconnue