أقول الاشتراكية حاصرة في هذه الكلمة جميع المذاهب المدعوة باسم موجديها في الغرب، بل باسم الذين أحدثوا فيها بعض التغيير والتعديل. وسواها من المذاهب ذات الفروق المهمة ومنها ما يرمي إلى اشتراكية الأملاك ورءوس الأموال فقط، ومنها ما يعمل لشيوعية رءوس الأموال وشيوعية استهلاكها جميعا؛ لأن جميع هذه المذاهب تتفق في المسألة الجوهرية، وهي هدم الملكية الفردية وإقامة الملكية الشيوعية؛ فيمسي الفرد غير مالك بصفته فردا مستقلا، وإن أصبح مالكا من حيث هو جزء من مجتمع تتوزع الخيرات بين أفراده على قاعدة التسوية. أما نزعات طالبي تحقيقها فعلى كثرتها تنقسم إلى قسمين رئيسيين، أحدهما أقوى من الآخر كثيرا، غير أن قوته لا تنفي وجود نده، وهما: النزعة الألمانية الثوروية، أو الماركسية التي انقلبت في الروسيا بلشفية، وموجدها ماركس العظيم؛ والنزعة السلمية التي يجوز أن تنعت بالفرنساوية لأن جل أهلها أفرنسيون - وإن وجد بينهم من قرب إلى الماركسية، أو من شغل الوسط بينها وبين دعاة الإصلاح السلمي. •••
الاشتراكية السلمية كالثوروية ترمي إلى تغيير النظام القائم ولكن بوسائل غير حادة، بل بإدخال أعضائها في الهيئات النيابية والإدارية والقضائية يعدلون ما أمكن تعديله، ويكثر عددهم مع الزمن حتى تصبح يوما أعنة الشئون في أيديهم، فيسنون نظامهم وينفذونه دون استباحة أرواح وسفك دماء. ولقد ولدت الروح الاشتراكية الجديدة مع الديمقراطية الجمهورية في الثورة الفرنساوية التي استفزت في آن واحد الحماسة الوطنية وحماسة توحيد جميع الأوطان. وظلت تلك الروح نامية في فرنسا وسويسرا وإنجلترا وألمانيا حتى خطا بها لوي بلان - صديق فكتور هوغو - خطوة واسعة سنة 1839 إذ أعلن أن غايتها هي حماية العامل من جور صاحب العمل، وجعله قادرا على الإنتاج مستقلا فيما سماه «المعمل الاجتماعي». وأنشأ برودون بنك التعاون المدعو «بنك الشعب» سنة 1849 فانضم إليه عشرون ألف مساهم في ستة أسابيع، ولكن لم يطل أن حكم على برودون بالسجن عقابا على بعض كتاباته، فهرب إلى جنيف فهبط بهربه مشروعه؛ ومنذ ذلك الحين وزعماء الاشتراكية الفرنساوية يتعاقبون معدلين من المذهب ما لا يتفق مع أحكامهم دون أن يتحولوا عن الغاية الجوهرية وهي القضاء على رأس المال والتسوية بين جميع أفراد المجتمع.
وتنضم إلى هذا الحزب السلمي الاشتراكية الأمريكية وزعيمها هنري جورج الذي لم يجد لإزالة الاضطراب الاجتماعي من وسيلة أفضل من إثقال كاهل أصحاب الملك بضرائب تعادل إيراداتهم تقريبا، كأنهم «محصلون» لخزينة الحكومة. على أن تجعل هذه الضرائب رأس مال للعمال يستغلونه في معامل اشتراكية فتتعطل الصناعة الفردية شيئا فشيئا لنقص الأيدي العاملة. غير أن هنري جورج لم يقل لنا هل يقبل أصحاب الملك تأدية تلك الضرائب، وهل تقبل الحكومة فرضها على الذين يملئون خزائنها؟ وإذا هي قبلت، فهل تتنازل عن مثل تلك الثروة لترسمل من غير ربى تلك الطبقة التي تحاربها في قوتها العظمى؟ ولو رفضت الحكومة ورفض أصحاب الملك فماذا يكون؟ أليس أنه إذن يدوي صوت ماركس الرهيب وتخفق الألوية الحمراء فوق جماهير الثائرين؟ •••
ويصح أن يذكر في سياق الكلام على الاشتراكية السلمية «الحزب الاشتراكي المصري» الذي أعلن بروغرامه في شهر أغسطس المنصرم، فكان مسالما إلى حد أغاظ الأستاذ عزيز ميرهم - سكرتير الحزب الديمقراطي - من جهة ، وتخوف لتكونه المحافظون وعلى رأسهم فضيلة السيد محمد الغنيمي التفتازاني - شيخ السادة التفتازانية - من جهة أخرى؛ فقامت بين هذه النزعات الثلاث مناقشة أسفرت عن أمر واحد، هو أن جميع المتناقشين محقون فيما يدافعون عنه؛ فالمحافظ محق في محافظته، والمعتدل مصيب في اعتداله دون أن يكون تطرف المتطرف بمستهجن؛ لأن مذاهبهم هذه ومئات المذاهب الأخرى وجوه للفكر الإنساني يختفي وراء كل وجه منها قسط من الحقيقة، وأجزاء من كلية الحياة ذات ألوف الأنحاء والمناهج. فالرأي الواحد يعبر عن احتياج فرد أو جماعة، وما كانت الحقيقة يوما محتكرة لفرد، ولا الإنسانية محصورة في جماعة.
قلت إن الأستاذ عزيز ميرهم قام يؤدب الاشتراكية المصرية ويحثها على «استكمال اشتراكيتها»، ليس بصفته سكرتيرا للحزب الديمقراطي، ولكن بصفته الشخصية المجردة (وقد يكون في هذا ما يخطر الحزب الديمقراطي بانفصال أحد أعضائه عنه عندما تنضج الاشتراكية في هذه البلاد)، ولقد أجاب سلامه أفندي موسى - أحد أعضاء الحزب الاشتراكي - بما يدل على تصميم الاشتراكيين المصريين على المسالمة وعلى أن رائدهم الإصلاح التدريجي:
ومع تمنينا نجاحهم (البولشفيين) في تجربتهم العظيمة فإنا لن ننصح بالطفرة، وسيكون رائدنا التدرج والتطور. ولا شك أن الاشتراكية المصرية ستكتسب لونا خاصا بتأثير الوسط المصري والمزاج المصري لا يمكننا ولا نرغب في تعيينه الآن، وإنما نأمل أنها تسير في خطة تواد الطبقات فيها أكثر من نصيب التباغض؛ فلا ينبغي أن يفهم الغني من حركتنا أنه خصم لنا نسدد إليه سهامنا؛ فإن الغنى والفقر نتيجتان للنظام الحاضر، والاشتراكية بإنقاصها من حقوق الغني من الجهة الواحدة ستزيد في حقوقه من الجهة الأخرى؛ فهي ستضمن له حياة خالية من هموم العيش ولا تكلفه سوى شغل ساعة أو ساعتين في اليوم، وأظن أنه من الممكن أن نقنع طبقة كبيرة (!!!)
1
من الأغنياء الحسني النية بأفضلية الاشتراكية على النظام الرأسمالي الحاضر، فلا يحتاج الاشتراكيون إلى اتخاذ خطة عدائية نحو الأغنياء.
وأما ما سألنا عنه الأستاذ هيكل عن كيفية تطبيق الاشتراكية على الأراضي في مصر، فهذا مما يسهل الجواب عليه: فإن في القطر المصري نحو خمسة ملايين فدان مغل يشتغل فيها نحو عشرة ملايين نفس، فلو فرضنا أن بضعة من أغنياء أمريكا ذوي الملايين ألفوا شركة واشتروا جميع أراضي القطر المصري، أكانوا يرضون بتشغيل عشرة ملايين عامل لاستغلال هذه الأرض، أما كانوا يكتفون بمليون عامل أو أقل من هذا العدد فيستخدمونهم بواسطة آلات بخارية عظيمة للزرع والري والحرث والحصيد؟ فهذه الشركة المفترضة هي الحكومة الاشتراكية، فإن القطر المصري يكفي زراعته نصف مليون عامل تقريبا إذا اعتمدنا في زراعته على الآلات وفرضنا أنه عزبة واحدة يملكها مالك واحد.
ومن البديهي أننا في نظام اشتراكي لا نخصص نصف مليون عامل للزراعة ونترك سائر الأمة في بطالة إجبارية، فإن تعميم التربية سيمنع عددا كبيرا من شباب الأمة وصبيانها عن الشغل، ثم إن زيادة السكان المطردة ستضطرنا إلى الصناعة، وهذه ستتطلب عددا كبيرا من العمال لا يمكن الحصول عليه الآن؛ لأن الزراعة بكيفية ممارستها الحاضرة تحول بينهم وبين مزاولة أي عمل آخر.
Page inconnue