فإذا كانت الديمقراطية هي حكم الشعب، وتسوية الحقوق والواجبات بين أفراده، فلا مناص مما يحمل الجماعة على المطالبة بهذه التسوية وذاك الحكم. فأي محرك يا ترى بعث على إلغاء الملكية والأرستقراطية وإحلال الدساتير الديمقراطية محلها؟ نعم، إن بين القوى الإنسانية ترابطا متينا، وائتلافا تاما؛ بحيث إن التيقظ إذا بدا في قوة لا يلبث أن يمتد فيتناول القوى جميعا. على أن هذا لا ينفي أن لكل حركة باعثا رئيسيا تتفرع منه بواعث جمة؛ ففي الماضي كان الجيش اليوناني يتألف من الأشراف الذين لم يكونوا ينازلون العدو إلا على الخيل أو في المركبات، وقد لاحظ أرسطو أن جيشا يرجح فيه الفرسان لجيش حكومة أرستقراطية. ولكن الحروب المتزايدة في الداخل والخارج ثلمت صفوف الفرسان إزاء مهاجم عتي؛ فأرغم الأشراف على تعزيز الجيش بفيالق المشاة من الشعب، وإمدادها بالسلاح والمعدات، وتدريبها على القتال والدفاع؛ فشعر هؤلاء بضرورتهم لحفظ كيان الوطن، وانبروا يبثون في البلاد الثورة والشقاق حتى ظفروا بالمساواة المدنية والسياسية. كذلك في روما التي لم يكن لها من شاغل سوى الفتح والاستعمار، وأشرافها يربئون بأنفسهم عن التجارة والصناعة والفلاحة وغيرها مما أقبل عليه الشعب فأصبح صاحب الثروة. وترامي أطراف الإمبراطورية، واحتياجها الشديد إلى زيادة جيوشها البرية والبحرية أوجب ضم الشعب إلى صفوف الفاتحين والمحاربين، ومنحه من الامتيازات ما لم يطل أن تمتعت به الأمة جميعا؛ فصار لها مجلس نيابي يتكلم بصوتها، وانقسمت الإمبراطورية إلى حزبين: حزب الأشراف وحزب الشعب كما يوجد في عصرنا الرأسماليون والعمال. فكان إن استأثر مجلس الأشراف برأي امتنع مجلس الشعب عن التصويت ورفض مساعدته لتتميم الأعمال - وفي ذلك صورة للإضراب في هذا العصر. ولم يوفق بين الحزبين إلا بعد قرن ونصف قرن ؛ إذ تنازل الأشراف عن الامتيازات السياسية أولا والدينية بالتالي؛ لأن الوظائف الدينية كانت سياسية أيضا.
اشتراك الشعب في الحرب هو إذن مصدر الديمقراطية القديمة. وأما الحديثة فمصدرها اثنان متلازمان هما؛ أولا: الاختراعات الآلية والاكتشافات العلمية، وثانيا: تعميم المعرفة وسهولة التعليم. ففطن الذين كانوا بالأمس يذعنون غير متذمرين - وربما مسرورين شاكرين - فطنوا إلى أهمية عملهم في هذه الأساطيل التي تمخر البحار وتدني ما شسع من الأمصار، وتلك السكك الحديدية التي تشق الأطواد وتطوي القفار وتطوق الكرة بنطاق مكين، وهاتيك الآلات البخارية والكهربائية والهوائية التي تفيض على العالم النضار وما يمثله من ثروة، وتحبو الناس بأسباب الرغد والهناء. وبينا الثروات الباهضة تقيم السدود بينها وبين الفقر المدقع إذا بالمعرفة تزيل الفروق وتقرب بين الطبقات؛ فتنبهت الأطماع العامة وأحدثت في النفوس غليانا أثارها على التقاليد الموروثة، فنادى الجمهور بالديمقراطية ملخصا مطالبه في بندين جوهريين، أحدهما سياسي والآخر اجتماعي، وهما: أن الديمقراطية قائمة على أكثرية العدد التي يستمد منها القانون قوته، وأنها تقضي بحذف الفروق الاجتماعية، أو على الأقل بتحويلها إلى أقلها ليتمكن جميع الأفراد من إنماء مواهبهم وإظهارها بلا ضغط أو مقاومة.
ولقد لمست موجة الديمقراطية شواطئ الشرق الأدنى، وأول من هتف بها في مصر لطفي بك السيد، يوم كان بعضهم يطلقون عليه مزاحا لقب «الفيلسوف الديمقراطي». ولم تقف المسألة عند حد المزاح، بل هو لاقى من اعتناق الأفكار الحديثة مصائب واحتمل سخافات؛ منها أنه يوم كان مرشحا لعضوية الجمعية التشريعية سنة 1914 حاربه أحد مزاحميه بما لو فهمه القوم لكان للطفي بك لا لخصمه حجة. قال الخصم: «يبقى نائب عنا ازاي؟ دا راجل ديمقراطي!» فأرعبت الناخبين هذه الكلمة الأعجمية وأولوا معناها بأسوأ ما يتموهمون. بيد أن التغير ناموس الكون، ولم تمض خمسة أعوام حتى صار لمصر الفتاة حزب يدعى «الحزب الديمقراطي المصري» تنتسب إليه فئة من أرقى الشبان المتعلمين في أوروبا، العائدين من مدارسها العالية بمعتبر الشهادات ومحترم الألقاب. وهنا الوقائع التاريخية تقضي بالاعتراف أن اسم الديمقراطية جديد في هذه البلاد ولكن معناها غير جديد؛ لأن الإسلام كان أبدا ديمقراطي المبادئ ديمقراطي الأساليب. وهل من ديمقراطية أتم من أن نرى الملوك يتخذون لهم من الجواري زوجات شرعيات ويرفعونهن إلى مراتب الملكات؟ أوهل من ديمقراطية أوفى من أن يخرج من الطبقة الدنيا قوم يرتفعون بكفاءتهم الشخصية ورجاحة عقولهم فيحملون أعظم الألقاب ويقلدون أجل المناصب؟ ولكن على مقربة من هذا التساهل والإنصاف تقوم أرستقراطية مزدوجة؛ لأن موقف الأجير المصري إزاء صاحب الأرض يكاد يكون - فضلا عن موقف العامل المصري إزاء الممول - موقف الرقيق إزاء الشريف في نظام الإقطاع. وكانت الحال على ذلك في سوريا وفلسطين حتى الحرب العظمى. أما في لبنان فالديمقراطية نافذة منذ أن حور النظام الأساسي في سنة الستين.
وليس هو الإسلام وحده، وإنما قالت بالمساواة قبله البوذية والنصرانية. على أن مؤسسي هذه الأديان جاءوا باستثناء واستدراك؛ إذ ذكر بوذا التناسخ، وأن من البشر من هم (بذلك التناسخ) أكبر سنا، وأعظم فضلا، وأوفر طهرا. وقال السيد المسيح: «المدعوون كثيرون والمختارون قليلون.» وجاهر النبي العربي بأن الله يهدي من يشاء. وكيف لا يرى هؤلاء المشرفون على أسرار النفوس فروق البشرية تفصل بين هؤلاء الذين تجمعهم جامعة الروح العليا؟! فجاءت السياسة تؤيد ما لم تفلح في توطيده الأديان ولا فازت بتثبيته حضارة اليونان والرومان.
وأما الفرق بين الماضي والحاضر فهو أن الديمقراطية القديمة قامت على العبودية فظلت الطبقة السفلى مسخرة للأعمال الدنيا والخدمة، لتتفرغ الطبقات العليا للحكم والقضاء. كان الفرد ينتمي أبدا إلى سيد أو قبيلة أو عشيرة (على ما نرى اليوم بين الأعراب أهل البادية وسكان الريف)، فيفاخر بقوله «نحن» كأن لا رأي له ولا قيمة في ذاته منفصلا عن جماعته. على نقيض هذا العصر وفخر الفرد فيه أن يقول «أنا» وأن يكون قيما في نفسه، مجردا عن أي أحد، وأيا كان حسبه ونسبه. الفرد اليوم يقوم مقام المجموع، وليست نقابات العمال وشركات التعاون لتثبت غير ذلك. الواحد للكل، نعم، ولكن على شريطة أن يكون الكل للواحد. وهي ميزة تفرد بها هذا العصر ولم تعهد من قبل ، ولئن قبلناها من غير دهشة فلأننا نحياها. أما مؤرخو المستقبل فسيتخذونها محور أبحاثهم، ويرون فيها ما لا بد أن تكونه: فاتحة عهد جديد. •••
وبعد كل هذه الحرية وكل هذا التقدم، ترى هل حصل الفرد على السعادة المنشودة؟ وهل تم للمجموع السلام والهناء؟ هل جاءت الديمقراطية بكل ما ينتظر منها؟
هناك ميزة تلازم ميزة «الفردية» العصرية، وهي طلب التوسع والاستعباد على الطرز الحديث. مفهوم أن الأمم الكبيرة تقول برغبتها في إنهاض الأمم الصغيرة من جهلها وخمولها، وتسييرها وإياها جنبا إلى جنب في موكب الحضارة العظيم. ولكنه مفهوم أيضا أن هذا القول أسلوب من أساليب البيان السياسي، وأن تلك الأمم لا خلاص لها مع هذا التزاحم الدولي والأزمات الاقتصادية في غير استغلال المستعمرات وتصريف تجارتها فيها. وما استعدت ألمانيا نصف قرن وفاجأت - أو زعموا أنها فاجأت - أوروبا بالحرب الضروس إلا توصلا إلى انتزاع ما يمكن انتزاعه من عدو حسبت اندحاره أمرا واقعا. ولكن ألمانيا هي التي اندحرت ولو إلى حين، والشعوب المرجو استغلالها واستنتاج أراضيها بدأت تتحرك وتأبى أن تستعمر وتستغل. دع عنك الخطر الأصفر الذي اكتسح الغرب مرتين في مطلع القرون الوسطى وفي آخرها، وطالما تخوفته أوروبا قبل الحرب الكبرى، وما زالت تخشى منه إغارة جديدة تجيء أشد هولا وأفتك بطشا.
هذه مظاهر الديمقراطية في الخارج، وما حال تلك الحكومات في داخلها؟ أي صنوف المساواة يسري بين مراتبها الاجتماعية وبين أفرادها؟ أزالت الفروق من بينها ولم يعد فيها صغير أو حقير؟ يخيل إلينا أن أقرب الأمم إلى الديمقراطية هي الأمة الأمريكية لقلة ما وراءها من التقاليد؛ فهل حالت المساواة دون ما يقابل به البيض السود من ازورار واحتقار؟ هل حالت الحرية والمساواة دون هدر الدماء والتشنيع والتفاضل؟ إن تلك القدرة الهائلة التي تغلي فيها جميع عناصر الدنيا ما زال يؤبه فيها لفروق الجنسية والثروة والذكاء والعلم والتربية، ما زال يؤبه لتلك الفروق بالفعل وإن نفيت بالقول، بل ما زالت الانتقادات تملأ صحفهم، وتعدد الأحزاب يقسم مجالسهم، وقرب ثروتهم القارونية نرى العوز الأقصى والحرمان الوجيع. فإذا كانت الديمقراطية الدواء الناجع، فما هذا الذي نسمعه من صخب الشكاية والتهديد؟ ما هذه البراكين الفائرة ضمن أنظمة المساواة التي سنت بدماء الأنام؟ وما بال موقف العمال إزاء أصحاب الأموال يشبه موقف الشعب إزاء الأرستقراطية في القرن الماضي؟
سئل صولون الشارع اليوناني يوم وضع أسس الديمقراطية: «أتظن أنك أعطيت أهل أثينا أحسن نظام ممكن؟» فأجاب: «بل أعطيتهم أحسن نظام يوافقهم.» وقيل إنه لم يكن يطمع في نفوذ نظامه أكثر من مائة عام. وقال آخرون بل كان يتوقع تغييره بعد عشرة أعوام. ويحسب صولون من حكماء اليونان السبعة، فلا عجب إذا هو لم يثق من دوام القانون لأنه يعلم - وهو الحكيم - أن طيبة الإنسان فردا كان أو جماعة، متبدلة متحولة متكيفة مع الأحوال، وأن القوانين توضع للأفراد وليس الأفراد بموضوعة للقوانين.
وإزاء حركات الدول في داخلها وفي خارجها، إزاء حرب الأحزاب وسخط المراتب وتربص الطبقات، إزاء حاجة المدنية وإنتاجها وما تفنيه من جديد وتحييه من قديم، إزاء الفروق الجوهرية والكره الطبعي وضرورة الحرب والمناضلة، يقف المفكر متأملا، وإذ تتعالى إليه أصوات الهاتفين وضجيج الغاضبين، ترتسم في الفضاء أمامه صور الشارعين يكتبون الأنظمة، ويسنون القوانين متفائلين مستبشرين. فينظر إليهم صامتا وفي نظره هذا السؤال الذي لا جواب عليه: «أين المساواة التي تدعون؟»
Page inconnue