Passage en terre de bonheur et nouvelles du monde de l'au-delà
مرور في أرض الهناء ونبأ من عالم البقاء
Genres
وعدتك قبل فراقك أنني سأفرغ جهدي حتى أكاتبك، وأخبرك عن كل ما أراه في هذه الدنيا وما يحدث لي فيها، وها قد مضى على مفارقة روحي جسدي أكثر من سنتين، وفي هذه المدة كنت أترقب الفرص وأسعى السعي المتواصل، وأعمل جميع الوسائط، وأرشو زيدا، وأترجى عمرا من الملائكة الذين يذهبون نحوكم لجلب الأرواح التي تفارق أجسادها، حتى سهل الله لي أن حظوت بابن حلال اسمه الملاك «حنوش»، وبعد تعب كلي اقتنع بأن يأخذ مكتوبي هذا، بالرغم عن شدة المراقبة التي تقف بوجه كل من يريد أن يجعل صلة بين هذه الدنيا وبين دنياكم، ولا أظن أن أحدا قبلي أرسل من هذه الدنيا أخبارا وأنباء عما يجري كما سأخبرك الآن. كم كنا نتشوق إلى عود واحد من الدنيا الآخرة حاملا لنا شيئا من أخبارها، أو يبعث لنا على الأقل بخبر يفيدنا عما فيها، وما يحدث للبشر هناك، حتى يكون الإنسان منا على بصيرة من أمره.
وأما الآن فأخوك أبو الأجران قام بهذا الواجب، الذي هو أهم عمل فيه نفع للبشر، وأرسل هذه الرسالة التي بين فيها كل شيء يهم بني الإنسان، فأرجوك أن تطبعها وتنشرها في كل المسكونة، حتى يعلم الجميع حالة هذه الدنيا؛ ليكونوا على بينة من أمرهم ويسيروا على نور.
أصغ يا حبيب القلب فنيانوس لما سأقصه عليك.
في الساعة التي كانت بها روحي تتملص من جسدي، وأنت وأم موسى بجانبي تندبان، وتنوحان، وتعددان، شعرت حينئذ بيدين قابضتين علي، وبعد أن انفصلت الروح عن الجسد تماما رأيت بجانبي ملاكين واقفين وهما باللباس الأبيض، أحدهما ذو وجه باش، والآخر ذو وجه قطوب، ثم حملاني وصعدا بي الفضاء وسارا كالنسيم، وبعد أن قطعا مسافة طويلة «طحل» أحدهما وقال لرفيقه: «عامهلك يوه احترق مسيننا ونحن مروجين، شو صاير علينا آخدين المسألة مقاطعة، انشا الله عمرو لا يطلع، مانك شامم ريحتو عرق.»
فنظرت إليه نظرة «ورابية»، وقلت له: ماذا يعنيك من الناس حتى تمس إحساساتهم، إن كنت «شريب عرق أو شريب هوا»، فهذا أمر لا يعنيك، أنت عبد مأمور، وليس من شأنك أن تدين العالم. فقال له الملاك الذي قلت لك عنه إنه بشوش: فماذا يهمنا نحن، سواء صعدت منه رائحة العرق أو رائحة الخمر؟! فجاوبه صاحبنا وقال: هل تريد أن تنحرف معه وتساعده؟ «بدي أحرق ديبك عاديبو عاديب الساعة اللي صرنا فيها ملايكة». ورفع يده وضربه بملء كفه، فقام الثاني وأراد أن يجاوبه بالمثل، فصرخت أنا: يا ويلاه، يا حالاه! وصرت خائفا أن أسقط من ذلك المكان السحيق، «قرود الله ما بتعود تهديني». فقلت لهما: اعملا معروفا لأجل خاطري، حلا هذا المشكل، فمتى وصلنا اعملا الذي تريدانه، لعنة الله على شرب الخمر، حتى في السماء مكروه. فرضخ الأول لكلامي وسكتنا، ولكنه قال لرفيقه: عندما نصل «يفرجها الله بيني وبينك». عند هذا الحد وقف الخصام وتابعا السير.
ولما نظرت الملاك الأول لطيفا بهذا المقدار صاحبته، وكنت من ذلك الوقت أحادثه ويحادثني بأمور شتى.
فسألته عما إذا كان محل قصدنا لم يزل بعيدا، فأجاب: إننا سنصل قريبا إلى محطة نستريح فيها يوما واحدا، فقلت له: ماذا تكون هذه المحطة؟ قال: أرض مثل أرضكم إلا أن اسمها «أرض الهناء».
واستأنفت الحديث معه في شئون كثيرة، فلم يطلعني على شيء منها، وإنما أخبرني عن حالة رفيقه الذي قال عنه إنه كان بزمانه لصا، ولما سمع رفيقه كلمة لص، أوسعه شتيمة وسبابا، وما زالت القضية تتجسم بينهما حتى جرتهما إلى الملاكمة، وكنت أنا بينهما واقعا في حيص بيص فصرخت: «بعرضكم يا هو هلق بتوقعوني دخل الله ودخلكم، يا فلان يا علان.» والمصيبة أني كنت أجهل اسميهما، فبدأت أصرخ وأستغيث: يا شدراخ ويا مدراخ «بيعوناياها بحقها، المسألة موش حارزه». وبعد أن بح صوتي من فرط الصراخ عادا إلى السكينة، ثم سألت صاحبي عن اسمه، قال: اسمي «حنوش»، واسم رفيقي «منوش». فقلت له: عاشت الأسماء يا حنوش.
وما مضى علينا قليل من الوقت حتى نظرت عن بعد أرضا، فقلت: ما هذا يا حنوش؟ قال: هذه هي أرض الهناء، وبعد قليل نصل إليها. فصرنا كلما قربنا منها تنكشف لنا بوضوح، وبعد برهة قصيرة وجدت نفسي واقفا مع حنوش ومنوش على الأرض، فلما دخلنا وجدت مدينة عامرة، فقال حنوش: هذه هي المحطة التي سنمكث فيها يوما واحدا، فيمكنك أن تروح وتجيء فيها كيفما شئت، فلا خوف عليك من أحد، فالدنيا أمان وسلام، وغدا في مثل هذه الساعة نستأنف المسير إلى الدنيا الآخرة.
فتركتهما يا أخي فنيانوس وتوغلت في المدينة أسرح فيها نظري، فلم أر إلا جمالا مجسما، شوارع واسعة نظيفة مبلطة، والأشجار على جوانبها، وفي منعطف كل شارع قائمة حديقة صغيرة، وفيها المقاعد للاستراحة، والناس قعود بكل احتشام ووقار، وفي وسط كل حديقة بركة ماء لطيفة، ووجدت البيوت كلها على طرز واحد وعلو واحد، لا يزيد البيت عن طابقين، وفي جانب كل بيت حديقة، ورأيت الناس بين رائح وغاد، وجوههم كالفضة النقية، يطفح منها البشر والسرور، وترتسم عليها سمات الانشراح والطمأنينة، معتدلي القامة، مرتدين بثوب من العافية قشيب، إذا ابتسم أحدهم ظهرت أسنانه كاللؤلؤ المنضد، عيون كالبلور، والنساء يا فنيانوس «الله يطعم كل محب»، منظرهن يسبح الخالق، جمال متناه خال من كل تصنع، لا خطوط، ولا حمرة، ولا بودرا، ثياب بسيطة بغاية اللطافة والجمال، لا مشد يضغط على صدر المرأة، ولا أذيال طويلة تكنس الأرض بها، فإذا قلت لك: «بيتاكلوا من غير ملح صدقني»، وسلامة الطوية وطيبة القلب ظاهرة على وجوه الناس عموما، ومن شدة تزاحم الناس في الأسواق أكدت أن هذا اليوم يوم عيد كبير عندهم، ومع هذا فلم أجد من يمس أحدا، ولا من يعكر صفاء رفيقه، والذي أعجبني أكثر من كل ما رأيته منظر الأطفال والغلمان، فإنهم حقا ملائكة، وقد نغص علي هذا المنظر عندما افتكرت بإهمال الوالدين عندكم أولادهم، وتركهم ينامون بالأوساخ ويقومون بالأوساخ، ويأكلون مائة مرة في اليوم، ولا رادع يردعهم، فتسقم أجسامهم، وتصفر ألوانهم «وتعمص أعينهم».
Page inconnue