مقدمة
القسم الأول
القسم الثاني
القسم الثالث
مقدمة
القسم الأول
القسم الثاني
القسم الثالث
مرور في أرض الهناء ونبأ من عالم البقاء
مرور في أرض الهناء ونبأ من عالم البقاء
تأليف
شكري الخوري
مقدمة
في مكتبتي بضعة عشر كتابا، اشتريت بعضها منذ سنتين وبعضها منذ سنة وبعضها منذ أشهر، وقد أكون اشتريتها إذ الحالة تقضي بإمساك ثمنها، أو نفقته في شئون أكثر لزوما، وأنا حتى الآن لم أتصفح منها كتابا، كنت أمر أمام معرض مكتبة غارو فأرى «فيكتور هوغو»، و«ليون تولستوي»، و«جول سيمون»، و«هنريك سينكيوفيتش»، وسواها من أسماء نبهاء الكتاب فوق عناوين تلك الكتب وأشتريها، على كون الوقت غير موفور لي لمطالعة كل ما تصبو إليه النفس، وكون الحالة المادية لا تسمح بمشترى كل كتاب مفيد، كانت شهرة المؤلفين تحملني على مشترى تلك الكتب. وكم مجلدا هناك ينطوي على أفكار أسمى، وأساليب أدل وألطف، ولا يعنى به أحد؛ لأن اسم المؤلف لا يكون بعد قد ذاع.
ومن حق الناس بين شيوع التأليف والنشر هذا الشيوع الكثير ألا يقبلوا على الكاتب حتى يكون له في عالم المطالعة حيثية معلومة معترف بها. نعم، إن النظر إلى القول أصح من النظر إلى القائل، وإن اعتبار القول لمجرد كونه لآرنست رنان مثلا هو نتيجة اعتبار القول لذاته، إلا أن لاعتبار القول دورا من الاختبار طويلا بطيئا، وليس من شأن المطالعين كلهم أن يختبروا، الذي لا يستطيع أن يشتري ويطالع أكثر من خمسة كتب في السنة لا يشتري - على الغالب - إلا كتبا لمؤلفين ذوي شهرة، فإذا طالع كتابا لمؤلف غير شهير فكأن يقع له بصدفة أن يتصفح منه شيئا يحرك فيه الرغبة.
فانظر كم هو صعب، وكم يستوجب من الوقت اشتهار الكاتب، والكتاب كثيرون، والذين اشتهروا منهم وانصرف إليهم معشر المطالعين كثيرون أيضا.
وبديهي أن الكاتب لا ينشئ مقاله إلا واسطة ينقل بها من نفسه إلى نفوس الناس فكرا يحسب انتقاله مفيدا في سبيل ما، فإذا أراد نشر مقاله، وهو غير مشهور بعد، والجمهور منصرف إلى ذوي الشهرة من المؤلفين، فلا بد له من واسطة تجعل لكتابه نصيبا من عناية الناس.
فذلك سبب.
وقد يكون موضوع الكتاب مستوجبا لأن يسبق بكلمة بيانية لكاتب غير المؤلف، معروف بالبحث في الموضوع نفسه.
وذلك سبب.
ويساق المؤلف أحيانا - بحكم الضرورة - إلى ذكر شيء عن نفسه وعن قيمة كتابه في المقدمة، إلا أن الأمر على كون المؤلف يساق إليه مضطرا، فلا يبرح أن يكون معثرة، قال فولتر في كلام عن المقدمات: «إن الحديث عن «أنا» - كما قال باسكال - ممقوت. قلل الحديث عن نفسك ما استطعت، فإن محبة الذات في القارئ ليست أقل منها فيك، إنه لن يغتفر لك أقل محاولة لإكراهه على أن يحبك.»
وذلك سبب.
ثلاثة وقد تكون هي كل الأسباب التي لأجلها جرى بعض كتاب الغرب على تصدير بعض الكتب بمقدمات لغير المؤلفين.
أما في السبب الأول، فلكي يشهد صاحب المقدمة لمعشر القارئين بأنه طالع الكتاب ورآه حريا بالمطالعة، وهو على الغالب لا يكتب المقدمة إذا لم يوافقه ضميره على هذه الشهادة.
أما في الثاني، فلكي يبدي رأيه في آراء المؤلف وأفكاره، كأخصائي في موضوع الكتاب.
أما في الثالث، فلكي يقول عن المؤلف وعن الكتاب ما تحكم الضرورة بأن يقال، ولا يستطيع المؤلف أن يقوله عن نفسه وعن كتابه.
قدمت هذا البيان لأني - على ما أظن - أول كاتب عربي ينشئ مقدمة لكتاب لكاتب آخر، بطلب من صاحب الكتاب نفسه.
ولقد بحثت فيما عساه أن يكون من هذه الأسباب، الأمر الذي حمل شكري أفندي الخوري على أن يسألني مطالعة هذا الكتاب، فكتابة كلمة يصدر بها، فكانت نتيجة بحثي أن الأمر لا يمكن أن يكون متفرعا من السبب الأول والثالث من الأسباب الثلاثة التي بسطتها، فإن المؤلف معروف وله جمهور يطالعه، فهو غني عن أن يشهد لكتابه بأنه حري بالمطالعة، وموضوع الكتاب لا يقضي على مؤلفه بأن يورد في المقدمة شيئا عن نفسه. ولم يبق إلا أن الصديق أحسن بي نيته فعدني أخصائيا في موضوع كتابه ، ويريد أن أبسط رأيي في الأقوال التي تزدان بها هذه الصفحات التالية. •••
منذ نحو ثلاثة أشهر وردني من شكري أفندي الخوري نسخة من نشرة أذاعها في عزمه على طبع كتاب عنوانه «مرور في أرض الهناء ونبأ من عالم البقاء»، ولا أقول إنني لم أحفل بموضوع النشرة، ولكنني لم أتوقع من وراء العنوان شيئا كبيرا، غاية ما قدرت أن وراء العنوان تصورا جميلا، فلما كلفت مطالعة أول نسخة جمعت من الكتاب لأكتب له مقدمة - وعهدي أن الكتب التي يكتب مقدماتها غير مؤلفيها يجب أن تكون سامية الموضوع خطيرة الشأن - ضايقني أنني وقعت بين محظورين، لا هان علي أن أكتب مقدمة لكتاب لا أتوقع أنه يستحق هذا الاهتمام، ولا هان علي أن أقول للصديق: إن الكتاب لا يستحق كل هذه العناية. ما خطر لي أن ذلك التصور الجميل الذي تم لي به عنوان الكتاب سيكون قالبا بديعا لأبحاث ومواضيع ذات شأن خطير.
انظر ما هو هذا الشيء الذي يجب أن يصفق له الكتاب الذين يعتبرون هذه القاعدة أول قواعد الإنشاء؛ التوفيق بين الأسلوب والغرض.
أراد المؤلف أن يصف وينتقد الفساد الذي يعتور الهيئة الاجتماعية على اختلاف مصادره - ولا سيما في المجموع الشرقي - فاتخذ لغرضه هذه الواسطة البليغة.
جعل كلامه كله رسالة من صديق ميت إلى صديق حي.
ووصف بلسان المكاتب مشهدين عظيمين؛ عالما أرقى من هذا العالم، ودينونة على مدخل عالم البقاء.
وما كان أقدر المؤلف إذ اختار هذه الواسطة.
أما جعله الكلام رسالة من عالم البقاء، فمن شأنه أن يجعل أبعد الناس عن الأوهام أن يعنى بالحديث ويتروى فيه.
أما وصفه للمشهدين، فقد استطاع به أن ينتقد نقائص الهيئة الاجتماعية بدقة متناهية، وحيلة لطيفة، في المشهد الأول مثل لنا كيف كانت الطمأنينة سائدة في هذا العالم، وكيف كانت الراحة تشمله، لولا الجهل والطمع والشراسة والمناكرة والمكر، وما يتفرع منها ومن أمثالها، كل ما هو قابل للزوال من مفاسد هذا العالم ذكر أنه قد زال من «أرض الهناء»، ووصف كيف أن الناس هناك بعد زواله قد أصبحوا أقرب إلى الملائكة منهم إلينا، وفي المشهد الثاني وضع تحت الدينونة «أحد ملوك الشرق العظام»، وراهبا، ومتصرفا من متصرفي لبنان، وواحدا من مشايخ المسلمين، وبخيلا، ولصا، وكاهنا، وصحافيا، وطبيبا، وسكيرا، ومحاميا، أكثر إذا لم أقل: كل نقائص الهيئة الاجتماعية - ولا سيما الشرقية - ورد ذكرها هناك بصورة جلية قبيحة، وأية صورة لتلك النقائص أمثل وأسوأ من هذه التي ترى فيها مصادر النقائص نفسها من الحكام، والكهنة، والأطباء، والصحافيين، وسائر المصادر تحت طائلة الديان ينالون جزاء ما قدمت أيديهم.
نعم، إن المؤلف أجاد كثيرا في الواسطة التي اتخذها لغرضه، وما كان هذا الغرض إلا نبيلا، فالكتاب - على ما أرى - واحد من بضعة كتب جليلة ظهرت بالعربية في عهد النهضة الأخير.
وليس هذا يعني أن الكتاب خال من العيب، فيه عيوب كلية وعيوب جزئية، وأنا ذاكر من هذه العيوب ما لا يزال عالقا على الذهن وهو أظهرها.
اقتتال الروحين اللذين كانا يخفران «أبا الأجران» واحد تلك العيوب، قد كان في إمكان المؤلف ابتكار حيلة أخرى للتعريج بأبي الأجران على «أرض الهناء».
لهجة الديان في المحاكمات عيب آخر، قد كان ممكنا للمؤلف أن يجعل الديان أكثر رزانة.
طريقة القصاص غير لائقة، كان أولى بالمؤلف أن يصرف بعض الخطاة إلى الجحيم، وبعضهم إلى المطهر.
وقد انتقدت على الكتاب اكتفاء المؤلف بذكر الراهبات من الأجواق التي رآها صاعدة إلى السماء، ما كان أكمل الحديث لو أنه تضمن ذكر غير الراهبات من أهل الصلاح، أو لو أن المؤلف وضع تحت الدينونة فريقا من أهل الصلاح هؤلاء، كما وضع تحتها الفريق المفسد، وعين مكافأة الصالحين كما عين جزاء الطالحين.
ولقد كان ممكنا استدراك هذه العيوب بشيء من الروية، ولكن المؤلف - على ما علمت - كان يكتب ما يكفي الملزمة الواحدة، وبعد أن يطبعه يكتب ما يكفي الملزمة الأخرى، وما كانت الروية مع هذه الطريقة ممكنة. إن المؤلف لا يجب أن يطبع كتابه قبل أن يراجعه مرارا.
أما الأغلاط اللغوية، ففضلا عن كونها ليست من الأغلاط التي تؤثر على جوهر الحديث، لا يجب أن تنتقد على كاتب يمارس الكتابة ويمارسها في مثل هذا الكتاب، وهو لم يدرس قط قاعدة لغوية.
ذلك، ولولا هذه العيوب التي صرحت ببعضها وأشرت إلى بعضها، ولو أن المؤلف لم يتقيد في بعض ظروف الحديث بشيء من «المراعاة»، لكنت أضع هذا الكتاب إلى جانب «جهنم» دانتي ولا أخشى معارضا.
نعوم لبكي
سان باولو، 25 نيسان سنة 1905
القسم الأول
رسالة من أبي الأجران إلى فنيانوس
يا أخي العزيز، إن جئت لأصف لك حالتي بعد فراقك، وما أنا عليه من الشوق إلى رؤياك، يلزمني على الأقل عشرون رسالة من مثل هذه الرسالة لأشفي غليلي؛ خصوصا لأني فارقتك قبل أن أتمتع برؤياك وأتلذذ بمسامرتك، فأكتفي الآن بقولي: «دس قلبك بيد لك.»
وعدتك قبل فراقك أنني سأفرغ جهدي حتى أكاتبك، وأخبرك عن كل ما أراه في هذه الدنيا وما يحدث لي فيها، وها قد مضى على مفارقة روحي جسدي أكثر من سنتين، وفي هذه المدة كنت أترقب الفرص وأسعى السعي المتواصل، وأعمل جميع الوسائط، وأرشو زيدا، وأترجى عمرا من الملائكة الذين يذهبون نحوكم لجلب الأرواح التي تفارق أجسادها، حتى سهل الله لي أن حظوت بابن حلال اسمه الملاك «حنوش»، وبعد تعب كلي اقتنع بأن يأخذ مكتوبي هذا، بالرغم عن شدة المراقبة التي تقف بوجه كل من يريد أن يجعل صلة بين هذه الدنيا وبين دنياكم، ولا أظن أن أحدا قبلي أرسل من هذه الدنيا أخبارا وأنباء عما يجري كما سأخبرك الآن. كم كنا نتشوق إلى عود واحد من الدنيا الآخرة حاملا لنا شيئا من أخبارها، أو يبعث لنا على الأقل بخبر يفيدنا عما فيها، وما يحدث للبشر هناك، حتى يكون الإنسان منا على بصيرة من أمره.
وأما الآن فأخوك أبو الأجران قام بهذا الواجب، الذي هو أهم عمل فيه نفع للبشر، وأرسل هذه الرسالة التي بين فيها كل شيء يهم بني الإنسان، فأرجوك أن تطبعها وتنشرها في كل المسكونة، حتى يعلم الجميع حالة هذه الدنيا؛ ليكونوا على بينة من أمرهم ويسيروا على نور.
أصغ يا حبيب القلب فنيانوس لما سأقصه عليك.
في الساعة التي كانت بها روحي تتملص من جسدي، وأنت وأم موسى بجانبي تندبان، وتنوحان، وتعددان، شعرت حينئذ بيدين قابضتين علي، وبعد أن انفصلت الروح عن الجسد تماما رأيت بجانبي ملاكين واقفين وهما باللباس الأبيض، أحدهما ذو وجه باش، والآخر ذو وجه قطوب، ثم حملاني وصعدا بي الفضاء وسارا كالنسيم، وبعد أن قطعا مسافة طويلة «طحل» أحدهما وقال لرفيقه: «عامهلك يوه احترق مسيننا ونحن مروجين، شو صاير علينا آخدين المسألة مقاطعة، انشا الله عمرو لا يطلع، مانك شامم ريحتو عرق.»
فنظرت إليه نظرة «ورابية»، وقلت له: ماذا يعنيك من الناس حتى تمس إحساساتهم، إن كنت «شريب عرق أو شريب هوا»، فهذا أمر لا يعنيك، أنت عبد مأمور، وليس من شأنك أن تدين العالم. فقال له الملاك الذي قلت لك عنه إنه بشوش: فماذا يهمنا نحن، سواء صعدت منه رائحة العرق أو رائحة الخمر؟! فجاوبه صاحبنا وقال: هل تريد أن تنحرف معه وتساعده؟ «بدي أحرق ديبك عاديبو عاديب الساعة اللي صرنا فيها ملايكة». ورفع يده وضربه بملء كفه، فقام الثاني وأراد أن يجاوبه بالمثل، فصرخت أنا: يا ويلاه، يا حالاه! وصرت خائفا أن أسقط من ذلك المكان السحيق، «قرود الله ما بتعود تهديني». فقلت لهما: اعملا معروفا لأجل خاطري، حلا هذا المشكل، فمتى وصلنا اعملا الذي تريدانه، لعنة الله على شرب الخمر، حتى في السماء مكروه. فرضخ الأول لكلامي وسكتنا، ولكنه قال لرفيقه: عندما نصل «يفرجها الله بيني وبينك». عند هذا الحد وقف الخصام وتابعا السير.
ولما نظرت الملاك الأول لطيفا بهذا المقدار صاحبته، وكنت من ذلك الوقت أحادثه ويحادثني بأمور شتى.
فسألته عما إذا كان محل قصدنا لم يزل بعيدا، فأجاب: إننا سنصل قريبا إلى محطة نستريح فيها يوما واحدا، فقلت له: ماذا تكون هذه المحطة؟ قال: أرض مثل أرضكم إلا أن اسمها «أرض الهناء».
واستأنفت الحديث معه في شئون كثيرة، فلم يطلعني على شيء منها، وإنما أخبرني عن حالة رفيقه الذي قال عنه إنه كان بزمانه لصا، ولما سمع رفيقه كلمة لص، أوسعه شتيمة وسبابا، وما زالت القضية تتجسم بينهما حتى جرتهما إلى الملاكمة، وكنت أنا بينهما واقعا في حيص بيص فصرخت: «بعرضكم يا هو هلق بتوقعوني دخل الله ودخلكم، يا فلان يا علان.» والمصيبة أني كنت أجهل اسميهما، فبدأت أصرخ وأستغيث: يا شدراخ ويا مدراخ «بيعوناياها بحقها، المسألة موش حارزه». وبعد أن بح صوتي من فرط الصراخ عادا إلى السكينة، ثم سألت صاحبي عن اسمه، قال: اسمي «حنوش»، واسم رفيقي «منوش». فقلت له: عاشت الأسماء يا حنوش.
وما مضى علينا قليل من الوقت حتى نظرت عن بعد أرضا، فقلت: ما هذا يا حنوش؟ قال: هذه هي أرض الهناء، وبعد قليل نصل إليها. فصرنا كلما قربنا منها تنكشف لنا بوضوح، وبعد برهة قصيرة وجدت نفسي واقفا مع حنوش ومنوش على الأرض، فلما دخلنا وجدت مدينة عامرة، فقال حنوش: هذه هي المحطة التي سنمكث فيها يوما واحدا، فيمكنك أن تروح وتجيء فيها كيفما شئت، فلا خوف عليك من أحد، فالدنيا أمان وسلام، وغدا في مثل هذه الساعة نستأنف المسير إلى الدنيا الآخرة.
فتركتهما يا أخي فنيانوس وتوغلت في المدينة أسرح فيها نظري، فلم أر إلا جمالا مجسما، شوارع واسعة نظيفة مبلطة، والأشجار على جوانبها، وفي منعطف كل شارع قائمة حديقة صغيرة، وفيها المقاعد للاستراحة، والناس قعود بكل احتشام ووقار، وفي وسط كل حديقة بركة ماء لطيفة، ووجدت البيوت كلها على طرز واحد وعلو واحد، لا يزيد البيت عن طابقين، وفي جانب كل بيت حديقة، ورأيت الناس بين رائح وغاد، وجوههم كالفضة النقية، يطفح منها البشر والسرور، وترتسم عليها سمات الانشراح والطمأنينة، معتدلي القامة، مرتدين بثوب من العافية قشيب، إذا ابتسم أحدهم ظهرت أسنانه كاللؤلؤ المنضد، عيون كالبلور، والنساء يا فنيانوس «الله يطعم كل محب»، منظرهن يسبح الخالق، جمال متناه خال من كل تصنع، لا خطوط، ولا حمرة، ولا بودرا، ثياب بسيطة بغاية اللطافة والجمال، لا مشد يضغط على صدر المرأة، ولا أذيال طويلة تكنس الأرض بها، فإذا قلت لك: «بيتاكلوا من غير ملح صدقني»، وسلامة الطوية وطيبة القلب ظاهرة على وجوه الناس عموما، ومن شدة تزاحم الناس في الأسواق أكدت أن هذا اليوم يوم عيد كبير عندهم، ومع هذا فلم أجد من يمس أحدا، ولا من يعكر صفاء رفيقه، والذي أعجبني أكثر من كل ما رأيته منظر الأطفال والغلمان، فإنهم حقا ملائكة، وقد نغص علي هذا المنظر عندما افتكرت بإهمال الوالدين عندكم أولادهم، وتركهم ينامون بالأوساخ ويقومون بالأوساخ، ويأكلون مائة مرة في اليوم، ولا رادع يردعهم، فتسقم أجسامهم، وتصفر ألوانهم «وتعمص أعينهم».
أما عن عربات الكهرباء فحدث ولا تخف، تسير بدرجة وسطى من السرعة، من غير ضجيج ولا غوغاء، نظيفة جميلة مرتبة، وبالإجمال إن القوم بفرح دائم، وسرور متواصل، ولم يقع نظري مع كل ما رأيته من الخلائق على رجل أعور، أو أقرع، أو أكتع، أو مشوه الوجه، أو «وسخ»، أو أعرج، أو أصفر اللون، أو سقيم، فالجمال ظاهر في كل شيء، والهنا شامل الجميع في هذه الدنيا التي سميت بحق «أرض الهناء».
وفيما أنا سائر انتهيت إلى حديقة جميلة من حدائق هذه المدينة، فدخلت إليها فرأيتها متجملة بالأزهار والرياحين المتنوعة الأشكال، وشلالات المياه تصب في أحواض واسعة نظيفة، سابحة فيها الطيور المتنوعة كالسفن الماخرات، تتيه عجبا بجمالها، وفيها كثير من الملاهي وأدوات الرياضة، وفيما أنا أسرح الطرف بهذا الجمال الفائق الوصف، حانت مني التفاتة إلى رجل مسن جالس على مقعد من مقاعد الحديقة، ذي نظر حاد، وقد وخط الشيب رأسه، مهاب الطلعة، فتفرست به لأتمتع بجمال الإنسان الكامل، فنظر إلي الشيخ وكأن في نظره قوة مغناطيسية جذبتني إليه، وتقدمت منه ففاتحني بالحديث وقال: ألست أنت من الآتين من أرض آدم؟ قلت له: نعم، وقد وصلت اليوم مع ملاكين، وسنستريح من تعب السفر يوما واحدا، وحبذا لو كانت الفرصة أكثر من ذلك، لأشترك في هذا الهناء الذي أنتم تتمتعون به، ويا ليتني كنت من سكان هذه الأرض؛ لأن الذي يعرف أرضنا ويرى هذه الأرض يحزن ويأسف؛ لأنه لم يكن من سكانها.
فأخذني بيدي وأجلسني بجانبه، وقال: يا ولدي إن هذه الدنيا كدنياكم في كل شيء، وكلتاهما بشكل واحد، ولا فرق بين هذه وتلك، إلا أن السكان هنا أرقى من السكان هناك وأقدم منهم بالعمران؛ ولذلك تجد أننا مرتقين في كل شيء، فلا بد من أن تصل أرضكم يوما إلى ما وصلنا إليه نحن من التقدم، فنحن لم نسبقكم بهذا العمران إلا جيلا واحدا تقريبا، فإنه منذ مائة سنة لم تكن حالتنا كما هي الآن من التقدم والعمران والبساطة، فالذي يخاطبك الآن قد ذاق حلوها ومرها؛ لأنه نظر بعينه أيام الانقلاب وهو لم يزل في سن الصبوة.
فقلت: من أين لك أيها الشيخ الجليل معرفة حالة أرضنا، حتى قابلتها بحالة هذه الأرض من حيث الارتقاء والعمران؟
فأجاب: من الذين يمرون علينا من الأرواح التي كانت في أرضكم، فقد حادثت كثيرا منهم على اختلاف أجناسهم، وألسنتهم، وبلادهم، فعلمت منهم عن حالة أكثر الممالك السياسية والأدبية، فوجدت أن بعضها أوشكت أن تصل إلى ما وصلنا إليه نحن، وبعضها لم تزل كأنها باقية من عهد الخليقة متأخرة لكثرة ما يجري فيها من العسف والظلم، فمن مدة 10 سنوات تقريبا وصل إلى هنا أكثر من نصف مليون روح، وقد علمت منها أنها فارقت أجسادها بسبب القتل والفظائع، وقد نالت من الظلم والجور ما تقشعر منه الأبدان، وفي هذه السنة أيضا وصل قسم كبير كلهم يشكون مما شكاه الأولون، وقد طبق صراخهم وتظلمهم الخافقين، وكلهم يئنون من جور الحاكم الذي لولاه لكانوا سعداء في كل شيء، فبكاء العذارى والنساء والأطفال منهم قد كان أشد تأثيرا على عواطفي، حتى كنت أبكي لبكائهم، وأشاركهم ببلواهم. ولم ينته الشيخ من كلامه حتى جال الدمع في عيني؛ لأن الذين يعنيهم هم أولاد بلادي، هم إخواني في الوطنية، هم من البلاد التي قال إنها لم تزل كأنها باقية على حالها من عهد الخليقة بتأخرها وشقائها، وحق ما قال، فنظر إلي الشيخ وقال: ما بال أحوالك قد تغيرت، والدمع بلل وجنتيك، هل أنت من تلك المملكة المتأخرة؟ فسكت عن الجواب، وأخذت أمسح دموعي لعله يكتفي بهذا الجواب، ويوفر علي حديثا عن بلادي يؤلمني، تلك البلاد التي طبق ذكر مظالمها واختلالها الخافقين حتى وصل إلى أرض الهناء. صرنا والله نستحي أن ننتمي إليها ولو كنا في غير أرضنا، فأمسكني الشيخ من يدي وأخذ يقول: لا تحزن يا ولدي، فأنا علمت أنك من تلك البلاد، فلا بد من يوم ترزقكم فيه العناية حكاما مخلصين، عفيفي النفس، عادلين، ذوي شفقة على الرعية، ينهضون بكم من هذه السقطة؛ لأن قيام البلاد متوقف على أفراد من الحكام، فمتى تحولت القوة إلى يد أهل العدل والإنصاف ضغطت على الفساد وأخمدت أنفاسه.
فكل ما تنظره يا ولدي في هذه الأرض من التقدم والحضارة، وما تراه من السعادة والراحة والهناء، عائد فضله إلى أفراد قلائل، اتحدوا مع الملك الأكبر وأخلصوا الخدمة، واتخذوا العدل لهم دليلا، والمساواة هاديا، فأنقذوها من وهدة التأخر والجهل والانحطاط.
كانت أسباب الانحطاط والتأخر والشقاء كثيرة في هذه الأرض كما هي عندكم الآن، مثل طمع أرباب الأموال الذين جمعوا أموال العالم في صناديقهم، وبات أكثر العمال هم وعيالهم بحالة من الشقاء لا يمكن وصفها، ومثل انتشار المسكر الذي عم الكبير والصغير، والغني والفقير، حتى هدم أركان الأجسام، وأفسد العيال، وشوه وجه الإنسانية، فقل الزواج الشرعي، وكثر الفساد، وضعف النسل، وكثرت الأمراض المخيفة، ومثل إهمال التعليم الذي هو شر من كل ما سبق.
ولكن قد أرسلت إلينا العناية أفرادا قبضوا على القوة ونفذوها بما يعود على هذه الأرض بالخير، فألقوا الأمان أولا، ثم أوقفوا تيار مطامع أرباب الأموال عند حد معلوم، وعضدوا العمال الذين قاموا بثورات كثيرة، وقتلوا بعض أصحاب المال، فخاف هؤلاء على حياتهم فتساهلوا، وأعطوا العمال أكثر مطالبهم العادلة، كاقتصارهم على 8 ساعات عمل في الأربع والعشرين ساعة مع زيادة في المعاش، وقد اتفق على ذلك كل أرباب المعامل في أربعة أقطار هذه الدنيا، حتى لا يلحق الضرر مملكة دون أخرى بالتزاحم، وأجبرت الحكومة العمال على تحسين معيشتهم، فعمرت لهم البيوت الصالحة للسكنى، ونظمت عيشتهم على قدر ما تسمح لها الظروف، ثم وضعت ضرائب فادحة على الخمر؛ كي لا يتمكن الفقير الجاهل من معاطاتها، وأنذرت أصحاب معامل التقطير بإقفال محلاتهم بعد عشر سنين من تاريخ الإنذار، وألزمتهم أن يقللوا كمية التقطير سنة بعد سنة، حتى إذا أتت السنة العاشرة يكونون قد سلموا من الضرر الذي كان واقعا عليهم لو كانت أبطلت معاملهم بغتة، ولما نقص شرب المسكر ظهرت النتيجة الحسنة في صحة السكان، وتوفر لديهم المال الذي كان يذهب ليجلب لهم الموت العاجل، وصاروا ينفقونه فيما يعود عليهم بالنفع.
ثم ساعدت على إنشاء المدارس، وجعلت التعليم إجباريا على طريقة جديدة، فمنعت تدريس الكتب التي لا يفهمها التلميذ ولا يقبلها عقله، ووضعت قاعدة يدرس عليها التلميذ نظريا وعمليا معا، وأجبرت الجميع على تعلم مبادئ الطب قبل كل شيء، فكانوا يأتون ببعض الحيوانات التي تشرح أمام الطلبة عموما؛ لتتبين لهم مواضع الأعضاء الداخلية والأعضاء الرئيسية في الجسم، وكيفية سير الطعام وتحوله إلى دم، وكيفية الدورة الدموية في الجسم، فيشب التلميذ عارفا بكل ما يقتضي لحفظ حياته، وصيانة جسمه من الآفات والأمراض، عالما بأسرار تركيب ذلك الهيكل الإنساني، الذي يجب عليه مداراته وعدم إفنائه بالإفراط، ويصبح عارفا ما سيتأتى مثلا عن شرب الخمر من المصائب، والأمراض، وانحطاط القوة الأدبية والجسدية، ويدرك الأضرار التي ينتجها الإفراط في التدخين، كالسعال، وضعف الهضم، ورخاوة الأعصاب، والتسمم البطيء، ويهرب من البطالة والكسل؛ لعلمه ما تورث جسمه من الضعف والخمول، وما تجلبه من الفساد الذي يقصر العمر ... ويعلم أن النوم في المحلات الرطبة يورث الأمراض العصبية، ويضعف الدم، ويكمد اللون، فيتجنبها، ويمتنع عن السهر الطويل المتواصل؛ لأنه يدرك أن النوم يعوض كل ما يفقده الجسم من القوة، ويتجنب المكوث في المجتمعات مدة طويلة؛ لأنه يدرك ما ينتج عن ذلك من فساد الهواء وجلب عدوى الأمراض، ويعلم بعدئذ أضرار العزوبة فيستدرك حاله بالزواج الشرعي، ويعيش عيشة هنيئة صالحة، فيسلم من الأمراض القتالة، ولا يغفل عن الأضرار التي تتأتى من كثرة ألوان الطعام، وما يزيد منها عن حاجة الجسد من الفضلات التي تتعب الجسم وتسقمه، ويداوم غسل جسمه وتبديل ثيابه؛ لئلا يمتلئ سطحه من الجراثيم المضرة، فتذهب بقوته وجماله وبهائه.
وجعلت أيضا علم الحقوق من جملة الدروس العمومية، حتى تعم معرفته بين الناس، وليعلم الفرد ما له وما عليه من الحقوق نحو حكومته ونحو الناس ونحو نفسه، وتجبر عموم المدارس الطلبة على تعلم الصنائع والفنون كافة، حتى إذا خرج التلميذ من المدرسة يكون عضوا عاملا في الهيئة الاجتماعية لا عالة عليها.
ومن شروط المدارس عندنا أيضا ألا يدرس التلميذ أكثر من 4 ساعات في اليوم، وما تبقى من الوقت يصرفه في الرياضة المعتدلة، والنزهة، والموسيقى.
أما البنات فتقتصر دروسهن على العلوم البسيطة، ويعتنى بهن على نوع خاص، بتلقينهن تربية الأطفال وما يتعلق بصحتهم ونموهم وترقية عقولهم، وغير ذلك مما يختص باستحضار الأطعمة على طريقة صحية، ثم الخياطة على أنواعها، وقد قام من طلب من الحكومة تعليم المرأة كل العلوم التي يتعلمها الرجال كالحقوق، والمحاماة، ومسك الدفاتر، والمتاجرة، وغيرها من الأعمال التي لا تليق إلا بالرجل، فبعد البحث والتروي رفض هذا الطلب؛ لأن المرأة لها وظيفة طبيعية لا يمكنها أن تتحمل غيرها، كالحبل والولادة والرضاعة وتربية البنين وسياسة العائلة، وقد تكفيها هذه الأتعاب وحدها، فلا يجب أن نضيف عليها أعمالا خلقت للرجل وحده ولو كانت المرأة تتمكن من عملها.
ولهذا ارتقت حالتنا من كل الوجوه، والفضل في ذلك عائد إلى الحكومة الملكية الدستورية، فقلت الجرائم، وتحسنت الصحة العمومية، وخفت وطأة الأمراض، ونقصت الوفيات كثيرا؛ لأن المثري وغير المثري يعيشان عيشة صحية بسيطة بدون عناء ولا تعب، وقد أصبح أكثر الناس يعرفون أسباب الأمراض فيتجنبونها؛ ولذلك قل عدد الأطباء الرسميين؛ لأن الجميع أصبحوا شبه أطباء، وقل استعمال العقاقير الطبية؛ لأن طرق الوقاية أصبحت معروفة من العموم، فالذي يصاب بمرض يلتجئ إلى الطبيعة، فيتنشق الهواء النقي، ويشرب الماء القراح الطاهر، ويكثر من أكل الفواكه والنباتات المقوية المنعشة، ويمتع نظره بجمال الطبيعة، ويريح عقله وجسده من المتاعب.
وفضلا عن ذلك فقد ارتقت عقولنا وسمت مداركنا إلى حد أن أصبح الإنسان منا يعلم ما في أفكار غيره تقريبا، فكثرت الاختراعات والاكتشافات المفيدة لنوع الإنسان، ومع كل ذلك فالبساطة سائدة في كل أعمالنا، وسلامة النية شاملة عموم الناس من كافة الطبقات.
ومع كل هذا فقد سنت الحكومة قانونا للزواج بغاية الصرامة، فإذا دخل الشاب في سن الثلاثين وهو بصحة تامة ولم يتزوج، يجازى كأنه جان؛ لأن الشاب إذا طالت مدة عزوبته أصبح ضارا بالهيئة الاجتماعية من حيث الآداب العمومية، ومن حيث النظام الطبيعي، فوجوده على هذه الحالة خطر على العفاف؛ ولذلك استعمل الضغط على حريته الشخصية المعتبرة في كل شيء عندنا.
فالحكومة يا بني عندنا كالأم الحنونة، لا تغفل عن كل ما يعود علينا بالنفع، فهي تجمع الأموال منا بالقسط، وتصرفها بكل دقة، وتبين للشعب في آخر كل حول مداخيلها ومصاريفها، فلا يقع حيف على أحد. وقد خففت الضرائب على بعض النباتات والأثمار النافعة؛ لكي يكثر زرعها وترخص أثمانها؛ حتى يسهل على الفقير الانتفاع بها والتلذذ بأكلها، فأصبحنا بعد هذا في هناء وراحة دائمين، وطالت أعمارنا، حتى صار أكثرنا يعمرون فوق المائة عام. كل هذا عائد - كما سبق القول - إلى إخلاص القابضين على زمام الأحكام، وشفقتهم وحسن عنايتهم بالهيئة المحكومة، فالويل للأمة التي حكامها بعيدون عن شرف النفس وعفتها، والشفقة والإنصاف والعلم والمعرفة.
فلما سمعت هذه الأقوال، ونظرت بعيني هذه الدنيا الجميلة، صارت نفسي حزينة حتى الموت؛ لأنني افتكرت بحالة أرضنا، وعلى الخصوص بلادنا وظلم حكامها، الذين هم أعداء الرعية الألداء، لا، بل هم أشبه بالذئاب الكاسرة، يفترسون الخراف الأليفة، ويمتصون دماءها، حتى أصبح الشقاء مخيما على ربوعنا، فالبلاد التي كانت منذ خمس سنوات رازحة تحت سلطة الجهالة والظلم - كالسودان المصري في وسط أفريقيا - أصبحت الآن بفضل الحكام أرقى من بلادنا في كل شيء، فمتى كان الحاكم عادلا محبا للرعية ، لا يقف في طريقه تعصب الأديان، ولا اختلاف المذاهب، ولا تباين المعتقدات، ولا جهل الشعب، فالحاكم العادل يوقف كلا عند حده، فيجري القانون على الجميع.
وفيما أنا أتفكر بهذه الأمور، وأقابل حالتنا بحالة هذه الأرض، تنبهت إلى أن الوقت قد أزف، فنهضت وأخذت يد الشيخ وقبلتها، ثم شكرته كثيرا على مؤانسته، وودعته، وذهبت إلى المكان المعين؛ لأن وقت السفر قد قرب، وبعد أن مشيت مسافة طويلة تنبهت لأمر هام، هو أنني لم أسأل الشيخ عن ديانات هذه الأرض، ولا هو أتى على ذكر شيء منها، فتمنيت لو كان بالإمكان العودة إليه لأسأله عن هذا الأمر. ولكن ما الحيلة، فقد آن الرحيل إلى عالم البقاء، وهناك البكاء وصرير الأسنان. وصلت إلى المكان المعين، ولم أجد حنوش ولا منوش، فقلت: لعلهما استبطآني وذهبا يفتشان علي، أو تركاني وسافرا، فصرت أتمنى أن تصح الأخيرة؛ لكي أعيش في هذه الأرض ثانيا، وأتمتع بجمالها، وأستريح بعدلها وعزها وكمالها.
وفيما أنا أفتكر إذ أقبل علي حنوش وعلى وجهه علائم الغضب والكدر، وفيه تخدش طفيف، وحالته «بالويل»، فقلت له: ما بالك يا حنوش على هذه الحالة، قد أشغلت بالي؟ قال: لا أشغل الله لك بالا، فإن المسألة بيني وبين رفيقي منوش، فهذا النحس بقي غاضبا علي منذ الساعة التي تخاصمنا فيها ونحن في الطريق، ولما وصلنا عاد إلى التحرش بي، فانتهت المسألة بالملاكمة، وقد تركته الآن وهو منهوك القوى من كثرة ما في قلبه من الحقد والكيد، لا يقوى على متابعة السير، فالتزمنا أن نبقى إلى الغد، ففرحت لهذه الصدفة، وشكرت منوش الذي كان السبب لهذا التأخر.
ولكنني عجبت، كيف أنه يوجد في عالم البقاء أناس كمنوش ذوي طباع رديئة، بعد أن يتركوا المادة! وهل يسمح لهم أن يتصرفوا بهذه الطباع الشرسة مع الناس؟ فسألت حنوش عن ذلك، فأجاب: إن طباع السوء لا تتغير، فالذي كان سيئا في العالم يبقى سيئا هنا، والنفوس الساقطة ساقطة في كل مكان، والنفوس الشريفة شريفة في عالم المادة وفي عالم الأرواح ، فنفس بونابرت، ونفس لاون الثالث عشر، ونفس بستور مكتشف أسباب الأمراض في العالم، وغيرهم من أقرانهم، تلك النفوس المدركة السامية هل تظن يعتريها تغير في عالم البقاء؟ إنها ممتازة على ما سواها من النفوس، كبيرة وعظيمة كما كانت على الأرض مع المادة، فصغير النفس وقليل المعرفة، والخامل والذي لا تشعر نفسه بلذة الوجود، ولا تتفلسف في موجودات العالم، ولا تتلذذ بمناظر نباته وجباله وبحاره وحيواناته، ولا تسبح الخالق المبدع؛ تبقى كذلك في دنيا البقاء. فالنفوس الكبيرة الشاعرة التي كانت تتحد مع السماويات هي وحدها التي تتلذذ بعالم الخلود، ومن حالة رفيقي حنوش التعيسة تتحقق ذلك، فإنه كان على الأرض لصا شرسا، لا يعرف من الدنيا إلا إملاء بطنه، ولا يهتم لغيره، ولا يتوجع لمصائب الناس، ولا يشفق على مظلوم، ولا يرحم مستجيرا، ولا يعزي حزينا، أما سمعت القول الحقيقي: «كما في السماء كذلك على الأرض.» فقلت له: إن ما قلته حق يا صاحبي حنوش. ثم استأذنته بالعودة إلى المدينة مرة ثانية؛ لأن ميعاد السفر قد تأجل للغد، وذهبت إلى المحل الذي التقيت فيه بالشيخ لأسأله عن ديانات هذه الأرض، وكيفية سير الناس من هذا القبيل.
وقبل أن أصل إلى الحديقة وجدته خارجا من بابها، وهو يثب وثبا كأنه شاب في الثلاثين من عمره، معتدل القامة، خفيف الحركة، فلما قربت منه سحرني ببشاشته ولطفه، ثم ظهرت على وجهه علائم الاستغراب ببقائي أكثر من يوم في عالم الهناء، وقبل أن يسألني عن سبب بقائي حكيت له حكايتي مع الملاكين، ثم أعادني إلى الحديقة فجلست بجانبه، وقلت له: يا سيدي قد سها عني أن أسألك عن أمر هو من الأهمية عندي بمكان، وقد شكرت الله على وقوع الخلاف بين الملاكين حتى أتيح لي أن أعود ثانيا وأسألك عن هذا الأمر. فقال: لك ما تريد. فقلت: ما هو دين هذه الأرض؟ وكيف فعله في الناس؟ فهل هو كما في أرضنا؟
فقال: قد قلت لك يا ولدي قبل الآن إن حالتنا كحالتكم من كل الوجوه ، إن كان في الدين، أو في السياسة، أو في غير ذلك، ولكن ارتقاء عقولنا وارتفاعها عن الأمور الصغيرة غير الجوهرية جعلانا أن يبقي كل منا اعتقاده في قلبه، فاختلاف الناس بالمعتقد كثير في هذه الأرض كما هو عندكم، ولكن لا يتعرض أحد لمذهب الآخر، فالكل يعتقدون بخلود النفس، ويؤمنون بخالق قدير حليم عادل رحوم شفوق، لا ينتقم من الخلائق عن الهفوات الصغيرة.
وقد أخذت شعوب هذه الأرض دورها من الشقاق والانقسام بما يختص بالأديان، عندما كان الجهل مخيما على ربوعنا، أما اليوم فقد حلت المعرفة محل الجهل، وارتفع الشقاق والخصام، فرجال الدين اليوم كثيرون، وربما أنهم يزيدون عن الذين عندكم، ولكنهم لا يعيشون كعيشتهم عندكم من الوظيفة الدينية، فقد تطوعوا بالخدمة الروحية حبا بالغاية المقدسة فقط، وعلى رجاء سعادة نفوسهم في الآخرة، فهم يخدمون مبادئهم بدون مقابل؛ لأن الذي يؤخذ مجانا يعطى مجانا، فتراهم فوق قيامهم بخدمة النفوس - التي من الطبع لا تستغرق إلا القليل من وقتهم - يشتغلون مثل بقية الناس بالصنائع، والفنون، والمتاجرة، والتأليف، وتثقيف العقول، والوعظ والإرشاد، وبث روح الشفقة، تابعين الوصية القائلة: بعرق جبينك تأكل خبزك.
هذه يا بني حالتنا الدينية، وقد يمضي علي وقت طويل لا أتباحث فيه مع أحد، ولا أجادل أحدا في هذه المسائل، ولكني كنت إذا رأيت أحدا يهزأ بالروحيات، وينكر وجود الخالق، أتأثر وأعمل الجهد في إقناعه؛ لأن حياة الجحود - أي الحياة المادية وحدها - هي حياة خشنة قاسية، لا تعرف الشفقة والحب ولا تشعر براحة داخلية.
فقلت له: صدقت أيها الشيخ المهاب، فإني حينما كنت حيا في أرضنا كنت أنظر بعض النساء المتقدمات في السن يذهبن إلى المعابد وبأيديهن الشموع، وقلبهن مفعم بالأمانة، فأحسدهن على حياتهن الروحية، وأقول: هنيئا للمؤمن الذي يرجو السعادة، فإن قلبه كله محبة.
ولما بلغنا إلى هذا الحد من الكلام كانت الشمس قد مالت إلى الغروب، فقال لي الشيخ: بما أنك ستبقى في هذه الأرض إلى الغد، فاذهب معي هذه الليلة إلى بيتي، فتأكل العشاء معي وتنام. فلم أمانع وسرت معه في طريق كلها مخازن ودكاكين ملآنة بالبضائع المتنوعة، مرتبة مهندمة نظيفة، والقائمون بإدارتها أنقياء باسمون، على محياهم لوائح الأمانة والاجتهاد في العمل، والنصاحة في الخدمة، وكان قد ابتدأ بعضهم بقفل أبواب المخازن، فسألت الشيخ عن سبب قفل المخازن في مثل تلك الساعة، فقال: إن كل الأعمال والأشغال عندنا هي في النهار، أما الليل فهو للراحة؛ ولذلك كل الناس تقف عن العمل عند الغروب، ولا يبقى إلا بعض المحال العمومية؛ ليذهب الناس إليها للنزهة والرياضة والاستفادة، وتمضية قسم من الليل ليستعيضوا بعض ما فقدوه من القوة في عمل النهار.
وبعد برهة وصلنا إلى بيت بسيط للغاية، جميل الهندسة، فقال: هذا هو بيتي. فلما قربنا من الباب الخارجي سمعت أصوات الفتيان والفتيات من الداخل يقولون: ها قد أتى الجد. وأقبلوا عليه، فتعلق بعضهم بأثوابه، والبعض الآخر أخذوا يثبون عليه ويقبلون يديه، وهو ينهض الصغير منهم ويقبله، فوصلنا إلى داخل الدار بهذا الموكب الذي يفوق موكب الملوك والسلاطين مجدا وبهاء؛ لأن أصوات الأولاد كانت أطرب من الألحان، وأشد وقعا في النفس؛ وحينئذ فكرت بالحالة التي قضيتها في أرضنا «كالمسمار الأقطش» وحيدا، لا امرأة تشاطرني الأتعاب، ولا أولاد أتلذذ بهم، الآن أدركت لذة البنين، الآن علمت أن لا سعادة إلا سعادة العائلة، ولكن ماذا يفيد الآن وقد «عدى السبت في مخ اليهودي»، ولا ينفع الندم على ما فات.
ولما صرنا ضمن الدار ونحن على الحالة المتقدم ذكرها، أقبل البعض من أهل البيت، وقبلوا يد الشيخ، ثم عرفهم بي، وقال: إن هذه الروح هي روح أحد سكان أرض المرحوم آدم، وقد أسعده الحظ بأن يبقى هنا أكثر من يوم، وغدا يستأنف المسير إلى العلى. فرحبوا بي كثيرا ثم جلسنا، وبعد قليل دخل علينا رجل، وبعد أن ألقى السلام قبل يد الشيخ وجلس، فقال لي الشيخ: هذا أحد أولادي، وستراهم الآن جميعا، فإنهم يأتون من أشغالهم، وسترى أيضا أولاد أولادي، وهم الآن شبان كبار، وهؤلاء الأطفال الذين تجدهم أمامك هم أولاد أولاد أولادي ، فقلت له: «الله يجبرك بهم ويمتعك برؤية أحفاد أحفادك.»
وفيما نحن بالحديث إذ دخل رجل وعلى منكبيه مجرفة وبيده فراعة، ثم دخل رجل آخر لابس لباسا كلباس الكهنة، ثم تبعه ثالث وعلى وجهه غبار من الفحم، فأقبلوا جميعا على يد الشيخ وقبلوها، وبعد ذلك دخلوا الدار وهم بالحالة التي ذكرتها، وبعد برهة دقت الساعة السادسة، فقال لي الشيخ: قم إلى العشاء. فقمت ودخلنا إلى فسحة جميلة مزينة الجدران بالرسوم المفرحة التي تسر النفس وتشرح الخاطر، وفي وسطها مائدة طويلة تسع أكثر من عشرين شخصا، مغطاة بغطاء أبيض ناصع كالثلج، وعليها باقات من الزهور البديعة الألوان، والصحون موضوعة على دائرتها، وبجانبها الملاعق والسكاكين والشوكات، وهي تلمع كالبلور، نظيفة كالثلج، فجلس الشيخ إلى رأس المائدة وأجلسني بجانبه، ثم أتى الرجال والنساء والأولاد الكبار وأخذ كل مركزه، وبعد ذلك أحضر الطعام، وأخذ كل منهم حاجته، وابتدأت تلك الأفواه الجميلة تفتح وتطبق، ودارت حركة الأكل بهدوء وشهية، ثم بعد برهة أتي بشكل آخر، وأدير على العموم، فالتفت إلي الشيخ وقال: كيف رأيت طعامنا؟ أما هو لذيذ؟ قلت له: إنه لذيذ جدا، وعلى فرض أنه لم يكن لذيذا، فبهذا الاجتماع وبهذا المنظر الذي يسبح الخالق يصير لذيذا. قال: كل ولا تستح؛ لأنه لا يوجد غير هذين الصنفين من الطعام، فإن العادة القديمة التي كنا نكثر فيها ألوان الطعام قد بطلت؛ نظرا للأضرار التي تتأتى عنها، فصرنا نقتصر على شكل واحد أو شكلين في اليوم، والمأكولات عندنا حيوانية ونباتية، ولكننا نكثر من الثانية لأنها ألذ وأفيد.
فقلت بنفسي: لو علموا حقيقة ما نحن عليه من الشراهة في أكلنا وشربنا، لكانوا يعجبون لبقائنا أحياء، فكم نشرب من العرق قبل الأكل ومن النبيذ معه، كم نطبخ من الألوان التي لا تهضم إلا بعد شق النفس، يكفينا الكبة والمحشي، هذا فضلا عن الحلويات والسيكارات وراء الأكل، ثم القهوة والشاي، بقطع النظر عن الأركيلة وتوابعها.
حقا إننا في ضلال، إننا في ظلمة من الجهل، نقصف أعمارنا بأيدينا من كثرة ما «ندهور» في ذلك الزلعوم من المأكولات في وقت الطعام وفي غير وقته، سائرين على المثل المعهود: «تضر ولا تفوت.»
وفيما أنا أفكر بهذا كنت أسمع النكات اللطيفة تصدر من البعض، والضحك يخرج من الأفواه قهقهة مطربة، تدل على انبساط وانشراح وعافية.
فالتفت إلي الشيخ وقال: ما لك شديد الفكرة؟ قلت: أفكر بحالتنا في دنيانا، وحالتكم من حيث المشروبات الروحية، واقتصاركم على الماء. فأعاد علي الحديث الأول وقال: إننا كنا مثلكم من هذا القبيل، ولكن ارتقاء عقولنا ومعرفتنا التامة بما يضر وينفع، جعلانا ننبذ كل هذه الأمور القتالة ظهريا، ونتمسك بكل مفيد، ناظرين إليه نظرة حكمية حيث لا تقوى علينا ملكة من الملكات، فلا بد يا ولدي من أن يأتي يوم يصير فيه سكان أرضكم مثلنا، فإن الارتقاء زاحف كالجيوش الجرارة، وسيدوس بأرجله كل معاند، وأخيرا يسود التأخر ويلاشيه من أرضكم، وإذا وجد من يصادمه الآن فهذا سيسحق ويضمحل من أمامه.
وقبل أن ننهض عن المائدة أحضروا كمية وافرة من الفاكهة المتنوعة الأشكال والألوان، من تفاح وخوخ وعنب وتين ومشمش، وغير ذلك من الفاكهة التي يأكلها الإنسان بعينيه قبل فمه، ثم ابتدءوا يلتهمونها التهاما، فقال الشيخ: كل يا ولدي وإلا «راحت عليك»، فنحن نتشاره فقط في أكل الفاكهة، فإنها هي التي تنعش القلب، وهي التي تبل الريق وتشرح الصدر وتنقي الدم.
وبعد أن انتهينا نهض الشيخ ونهض الجميع، ثم رفعوا أياديهم ورنموا هذه الترنيمة:
نشكرك اللهم يا واجد الوجود، ومبدع الكائنات؛ لأنك أشبعتنا من خيراتك، ونسألك أن تشبع كل جائع، وتعطي كل محتاج؛ كي لا يدفع الجوع أحدا إلى الكفر بعزتك الإلهية، واجعلنا أن يحب بعضنا بعضا محبة أكيدة، وامنح أجسادنا قوة، وعقولنا رفعة؛ لنقترب منك ونسبحك تسبحة لا يدخلها رياء، ولا يمازجها غش.
بعد ذلك ذهب الكل وغسلوا أفواههم، ورجعوا إلى القاعة التي كنا فيها، حيث اجتمع كل أفراد العائلة؛ رجال ونساء، وأولاد وبنات.
قال لي الشيخ: يجب أن أعرفك بأولادي وجميع أهل البيت. فقلت له: لي الشرف الأكبر يا سيدي. فأشار إلى أحد الجلوس وقال: هذا ولدي البكر، ومهنته الزراعة، وهو الذي نظرته داخلا قبل العشاء والفأس بيده، وهو الآن جالس كالملك؛ لأنه بدل ثياب الزارع بثياب الراحة، وهذا ولده الذي بجانبه يشتغل معه في الحقل، انظر إلى وجهه الذي أكسبته الشمس لونا جميلا، ومنحته قوة ونشاطا. وهذا الآخر ولدي، وهو كاهن، ولكنه يشتغل بالتأليف وتثقيف العقول، ويعيش من تعبه، وقد تطوع بخدمة النفوس مجانا، فهو يزور المرضى، ويسلي الحزانى، ويسعى في حل المشاكل، وهو متزوج وله أربعة بنين ها هم بجانبه، ثم أشار إلى ثالث وقال: هذا مصور بارع، وهذه الرسوم التي تراها الآن على جدران هذه القاعة هي من عمله، وأولادي كلهم أصحاب صنائع، وعندي حفيد طبيب متغيب الآن في بلدة قريبة من هذه المدينة، أما البنات والنساء اللواتي تراهن أمامك فهن قرائن وبنات أولادي.
فهذه هي العائلة يا ولدي، الرجال تقضي معظم النهار بالعمل باعتدال، ولا فرق عندنا بين الزارع والصانع والتاجر والحاكم، وبين الطبيب والحائك، الكل شرفاء، ولا يوجد حقير ذليل إلا الكسلان الخامل القليل العمل، فهذا - والحمد لله - أصبح وجوده قليلا بيننا، ونساؤنا يقتصرن بأشغالهن على ما يتعلق بالبيت، ولا يتداخلن بأعمال الرجال، ولا يتعدين الحدود التي وضعتها لهن الطبيعة.
وبعد قليل نهض أحد أولاده واستأذن وخرج، ثم تبعه آخر وخرج، ولم يمض إلا القليل حتى خرج أكثر أعضاء العائلة من رجال ونساء، ولم يبق في البيت إلا أنا والشيخ وبعض الأفراد.
فسألت الشيخ عن سبب ذهاب أكثر الحضور، فقال: إن منهم من يذهب إلى الجمعيات العلمية حيث يتلقنون العلوم والمعرفة والفنون، ومنهم من يذهب إلى استماع العظات الدينية، ومنهم من يذهب لزيارة خطيباتهم، ومنهم من يذهب لرصد الفلك والاستفادة من ذلك العلم الشريف المطرب، ومنهم من يذهب للنزهة ليخففوا عنهم أتعاب النهار، ويكسبوا أجسادهم قوة وانتعاشا بتنشقهم الهواء النقي، ومنهم من يذهب للرياضة الجسدية التي تقوي العضلات وتشد المفاصل، وقبل مضي ساعتين من الوقت تجد الجميع هنا، الكل ينامون باكرا؛ لكي يتمكنوا من النهوض باكرا، ويذهب كل منهم إلى أشغاله. فقلت له: حقا إنكم سعداء بكل شيء، وإن أرضكم هي أرض الهناء بلا مراجعة، ترى هل يرتجى لأرضنا التي يسميها بعضهم أرض الشقاء أن تصير يوما كأرضكم، ويصير سكانها يعرفون واجباتهم نحو نفوسهم، ونحو قريبهم، ثم نحو خالقهم، كما أنتم الآن تعرفونها بالفعل لا بالقول؟!
قال: هذا لا بد منه يا ولدي، فسيأتي يوم تصبح فيه تلك الأرض سعيدة تبعا لسنة الارتقاء، وقد ابتدأ أن يظهر ذلك فيها كما علمت من القادمين منها، وإذا كان يوجد - حتى الآن - قسم منها لم يزل منحطا كبلاد آسيا وأفريقيا مثلا، فسترزق من يقوم اعوجاجها، ويضبط شئونها، فلا تستبعد شيئا يا ولدي، فالانقلاب يأتي بغتة. قلت: من فمك «لدينة ربنا» أيها الشيخ الوقور.
ثم تناول الشيخ مجلة من على الطاولة الموضوعة في وسط القاعة وأخذ يطالع، وما كان أشد استغرابي عندما رأيته يطالع مع كبر سنه بدون نظارات، ولما فرغ من المطالعة قلت له: إن قسما كبيرا من سكان أرضنا - وخصوصا أهل النشأة الجديدة - لا يمر عليهم وقت طويل إلا ويضعون على أعينهم النظارات، إما لقصر في النظر؛ أو لتسطح في القرنية، وكثيرون الذين لا يستطيعون أن يقرءوا كلمة بدون نظارة.
فقال: هذا يا ولدي من كثرة المطالعة، وقد حصل ذلك في أرضنا من قبل، فقد كانوا يدرسون التلميذ ليلا ونهارا حتى يخرج من المدرسة شغفا بمطالعة القصص الغرامية، والحكايات الخيالية التي لا تفيد شيئا إلا ضياع الوقت، وضعف النظر، فضلا عن أنها تهيج في الشبان عاطفة بغير أوانها، وقد كثرت الجرائد التي صدرت في أول النهضة؛ لأن كل من له أدنى إلمام بالكتابة أنشأ جريدة، أو أصدر مجلة، أو ألف قصة في حب سعد لسعدا، أو غرام حنا بحنة، ولما تفاقم الخطب، وصار أكثر الشبان ينظرون إلى هذا الكون البهي ذي الجمال العجيب بعيون من زجاج، أوقفت الحكومة أكثر الجرائد التي لا تفيد، ونشطت الجرائد الصادقة المهمة، وعززت المجلات والمؤلفات العلمية، وأبقت على بعض الجرائد الفكاهية تسلية لخواطر السكان، فخف بذلك الضرر، وصار الشعب لا يطالع إلا الحقائق المجردة التي يستفيد منها حقيقة، ونبذ كل الكتب والجرائد التي ليس في مادتها غذاء للعقل فماتت، والآن تجد أن المطالعة أصبحت أقل من قبل، ولكنها تفيد أكثر؛ لأن كل كلمة تكتب الآن - إن كان من قبيل العلم أم الأدب أم الفكاهة أم السياسة - هي خلاصة الحقائق، ولم يبق في ميدان الإنشاء إلا من نبغ فيه، وشهد له الجميع بالمقدرة العلمية والأدبية؛ ولهذا تعزز هذا المركز كثيرا. هذا هو التغير الإصلاحي الذي جعل الإنسان منا أن يستفيد من المطالعة القليلة، ويريح عينيه ويبعد عنهما العلل وقصر النظر.
وأمامك الآن جريدة واحدة يومية ومجلة، فنطالع في الأولى أصدق الأخبار عن أبعد أقطار هذه الكرة، ونطالع في الثانية أهم الاكتشافات العلمية، وبعض فصول في الأدب والفلك والصناعة والهندسة والطب وعلم الطبيعيات والفلسفة.
وفي أثناء حديثي مع الشيخ كنت أرى النساء يطالعن بعض المقالات الفكاهية ويضحكن، فعجبت من اتفاق الكنة مع الحماة وجلوسهن معا في سرور وانبساط؛ لأنني كنت أرى في بلادنا عداوة الكنة مع الحماة كعداوة القط والفأر، فاقتربت من الشيخ وأسررت إليه كي لا تسمع السيدات قائلا: هل لك أن تفيدني عن الأسباب التي جعلت الكنة أن تتفق مع حماتها، فإني أرى الآن في هؤلاء السيدات غير ما كنت أراه في أرضنا. فضحك الشيخ وقال: كان زمان ومضى، فإن ما تراه الآن من الاتفاق بين الكنة وحماتها هو أولا من حكمة الرجل، ومقدرته على إدارة شئون عائلته، وثانيا من انتشار الأدب ومعرفة كل منهن واجباتها، فمتى كان الرجل رجلا في بيته بكل زبدة الكلمة، سار كل شيء على نظام تام، فالعداوة التي كانت تقع بين الكنة وحماتها لم تكن إلا على أمور تافهة، وكلها ناتجة عن اختلاف في الأذواق والطباع، وعن الجهل الذي كان متسلطا على المرأة، أما الآن فقد زال كل هذا، وحل محله الوفق، وسلطة الرجل في البيت هي من أهم دعائم راحته وسعادته، اللهم السلطة المقرونة بالحب والاعتدال.
ثم سألني الشيخ عما إذا كنت أريد أن أنام، فأجبته بنعم؛ لأنني تعب من مشاق السفر، فأدخلني إلى غرفة ضمن الدار لم يكن فيها إلا سرير بسيط لطيف، مغطى بالأغطية البيضاء النظيفة، وكرسي واحد، وطاولة عليها إبريق من الماء، وحنفيتان خارجتان من جدار الحائط، يصبان الماء عند اللزوم في حوض للاستحمام، وبجانبهما مرآة وفرشاة ومشط، وفي الغرفة أربع نوافذ، وفي أعلاها نوافذ صغيرة تفتح عند اللزوم لتجديد الهواء في الليل، وقال الشيخ: مثل هذه كل غرف النوم عندنا، خالية من كل أثاث، ومع اتساعها لا ينام فيها أكثر من اثنين أو ثلاثة على الكثير، وطول النهار تفتح النوافذ ليتجدد فيها الهواء وتدخلها الشمس فتطهر، فهذه حالة كل السكان هنا من فقراء وأغنياء، وكلهم يراعون - قبل كل شيء - القواعد الصحية على قدر ما تسمح حالة كل منهم، فالفقير الجاهل عندنا بعد أن كان في سالف الزمن ينام على الحضيض هو وأولاده، وينفق أكثر مدخوله على المسكر والتدخين، وعلى أمور تضره، أصبح الآن - بعد أن أدرك ما هي الحياة الحقيقة - في نعيم تام، يؤثث بيته، ويعد فيه وسائل الراحة من دريهمات قليلة، يجمعها من اقتصاده، ولا أظن أن في الكون أحدا يدرك ما هي الحياة، ويعجز عن تنظيف مسكنه وترتيبه على طريقة بسيطة، فإذا لم يكن من الحرير يكون من الصوف، وإذا لم يكن من هذا فيكون من القطن والكتان، فالاعتماد على النظافة والترتيب والذوق، لا على قيمة المفروشات والملبوسات.
ثم تركني الشيخ بعد أن أشار علي بغسل وجهي وأسناني قبل النوم، حتى لا تنام معي الجراثيم المرضية، التي تتجمع في بحر النهار على وجهي ويدي من المعاملة ومصافحة الناس، وقال: إن أفضل الغسيل ما كان قبل النوم. وقفل باب الغرفة وذهب.
فبعد أن نزعت ثيابي الخارجية، وغسلت وجهي كما قال الشيخ، استلقيت على السرير، وبعد قليل من الوقت نمت نوما هنيئا لم أذقه في كل حياتي الماضية، لا برغوث يقلقني، ولا بق يمتص دمي، ولا بعوض يحرمني راحتي ويأتي بالأدواء ، «ولا قع ولا مع»؛ لأن الأولاد - على ما ظهر لي في هذه الأرض - لا يعرفون البكاء على الإطلاق، ولا قنديل من الغاز يملأ الغرفة رائحة كريهة مميتة، ولا روائح «عطنة»، ولا شيء من كل هذه، ولا جيران يتخاصمون.
وفي الصباح انتبهت من نومي، فوجدت حركة في داخل الدار، فنهضت وتحممت، فكان الماء باردا في حنفية وسخنا في أخرى، ثم لبست ثيابي وخرجت، وفي من النشاط والقوة شيء كثير، فوجدت أكثر أهل البيت وقوفا على مائدة، عليها من المأكولات البسيطة كالجبن والزيتون والحليب والعسل، يتناول كل منهم ما يشتهي، فدعوني لمشاركتهم، فأكلت قليلا وقلت بفكري: هؤلاء الناس يعرفون كيف يعيشون حقيقة، نحن نقوم من الصباح إلى التدخين والقهوة والأركيلة، ونسم أجسادنا ونضعف معدنا بهذه المواد السامة، فإلى متى يبقى الإنسان في أرضنا غائصا في الجهالة، يستعمل كل وسائط الانتحار البطيء. آه، ما أمر تلك المعيشة مع تلك العوائد المضرة التي تتملك فينا.
ثم خرجت فوجدت الشيخ في الحديقة يشتغل فيسقي الأشجار، ويحرث الأرض، فأقبلت عليه وحييته، وفيما أنا أتحدث معه سمعت صوت حنوش ينادي: أبا الأجران، قد آن أوان الرحيل.
فحالا هممت على يد الشيخ فقبلتها وقلت له: «خاطرك دعيلنا بالتوفيق»، فقد آن وقت الرحيل. فقال: مع السلامة، ربنا يبلغك السعادة.
فخرجت من الدار وقابلت حنوش، فسألني عن صحتي وانشراحي، ثم سرنا إلى المكان المعهود، وقابلنا منوش، وبعد ذلك صعدنا في الأعالي بسرعة النسيم، ولم تمض برهة إلا وعالم الهناء قد احتجب عنا، ولم نعد نرى شيئا منه.
وبعد أن سرنا مسافة طويلة سألني حنوش عما إذا كنت سررت في أرض الهناء، فقلت له: إنني أشكر رفيقك منوش الذي كان السبب في مكوثي يوما ثانيا فيها، وكنت أود أن يبقى متوعك المزاج إلى أيام كثيرة، حتى أتمتع بهناء هذه الأرض الجميلة، فنظر إلي منوش نظرة كلها معان، فسكت خوفا من إعادة الخصام.
ثم قلت لحنوش: يا ليت أرضنا تصير يوما مثل هذه الأرض التي لا ظلم فيها، ولا جوع، ولا طمع ، ولا سكر، ولا فساد، ولا مزاحمة، ولا قساوة، ترى هل يتم لتلك الأرض - وخصوصا بقعتنا - ما تم لهذه؟! آه «يا حسرتي»! قد تركتها وأنا غير مجبور الخاطر، تركتها وأنا بعيد عن مسقط رأسي، بعيد عن بلاد نخر عظمها سوس الاستبداد، ومزق لحمها الظلم والعسف، وبدد شمل سكانها الانشقاق، كنت أود أن يطول عمري لأرجع إليها وأنظر ذلك الانقلاب الموعود به، ولكن خابت آمالي لأن الموت قد عجل علي وأنا في سن الكهولة؛ السن الذي يهدأ فيه الفكر، وتسكن أمواج الشهوات في الجسد، ويعتدل في كل مطاليبه؛ السن الذي يجب أن أخدم فيه وطني وأولاد جنسي، ولكن الذنب ذنبي في تقريب أجلي، أنا أستأهل «ضرب البراطيش»؛ لأنني خالفت الوصايا، خالفت شروط الحياة الحقيقية. إني استعملت كل وسائط الانتحار البطيء، كنت أكرع العرق من «الصرماية»، كنت لا أنام من الليل إلا ربعه، وما تبقى كنت أمضيه «بأكل الهواء والتعتير»، كنت أنام في أوضة مظلمة رطبة لا تنظرها الشمس بعين مع أربعة أو خمسة أنفس، كان يمضي علي سنة وسنتان وجسمي لا يترطب بالماء، وكنت لا أنزع ثيابي إلا كل شهر أو شهر ونصف مرة، كنت آكل كيفما اتفق لي، لا أراعي في الطعام شرطا من شروط النظافة والتغذية. وكانت كسوتي خفيفة أمضي فيها فصول السنة كلها، فكان البرد يخرق عظامي، وفضلا عن هذا كله كنت أحمل على ظهري حملا يرزح تحته البعير، وأمشي وأنا على تلك الحالة طول النهار، والعرق يسقط من جسمي بغزارة.
آه يا أخي حنوش! إن كثيرين أمثالي من أولاد جنسي تركوا بلادهم وتغربوا، فانهدمت أركان أجسامهم من ثقل الحمل، فهم بهذا يعجلون انقراض أعمارهم، كل ذلك لأجل كسب المال، وهذا المال الذي يكسبونه من وراء هذه الحرفة المنهكة لا يكفيهم بعد ذلك أجرة تطبيب وثمن دواء.
ولكن الذنب ليس عليهم، بل على الظروف التي وجدوا فيها، فهي التي تقودهم وهم صاغرون، ولا أنسى أن للجهل يدا في ذلك.
فنظر إلي حنوش نظرة الشفوق الرحوم، وكفكف دمعتي، وطيب خاطري بكلام رقيق لطيف معز.
ثم سألته عما إذا كنا اقتربنا من دنيا الآخرة، فقال: إننا قربنا من مكان القصاص الأول، وستنظر بعينك كل شيء، وأنا ورفيقي سنبقى معك إلى النهاية، وربما بقينا إلى ما بعد قصاصك الذي سيكون الآن خفيفا بسيطا؛ نظرا لما أنت عليه من طيبة القلب، وخلوص النية، وسلامة الطوية، ومحبتك لوطنك وأهله.
فلا تجزع، فإن الله شفوق رحوم غفور.
القسم الثاني
ولم ينته حنوش من كلامه حتى وصلنا إلى مكان ساد فيه السكوت، وتولى عليه النظام التام، وفي صدر المكان رجل مهاب جالس على كرسي، ومن حوله الجنود، وفي أيديهم آلات متنوعة الأشكال، وفي القرب منه جمع كبير من الناس، كلهم شاخصون إليه، فسألت حنوش عن هذا المشهد المهيب، فقال: هذا هو مكان القصاص الابتدائي، وهذه الجموع هي الأنفس التي ستحاكم الآن، وهذا الرجل الجالس على كرسي الحكم، هو المأمور الذي ينفذ الأحكام على المذنبين بأمر من العزة الإلهية.
ثم أشار إلي حنوش بأن أجلس بجانبه إلى أن يأتي دوري بالمحاكمة، فجلست أنتظر محاكمة البشر.
وبعد هنيهة نادى ذلك المأمور بصوت عال: أحضروه إلى هنا. وحالا أحضر الجنود رجلا تظهر على محياه العظمة والكبرياء، ذا وجه عبوس، يستدل من حركاته التذمر والأنفة لكونه مساقا كمجرم، فسألت حنوش عن هذا الرجل، فقال: هذا أحد ملوك الشرق العظام. ولما وقف أمام المأمور، أمر له بمائة جلدة بقضبان من حديد محمية، فلما سمع بهذا القصاص وهذا الحكم كبر عليه الأمر، وصاح موجها كلامه للمأمور: أنا أقاص؟! أنا ملك جليل القدر، أجازى من رجل صعلوك مثلك؟! اعرف من الذي أمامك، إن ألوفا من الجند وملايين من الخلائق كانت طوع إشارتي.
فتأثر المأمور لهذه العظمة الفارغة، وأجابه بقوله: اصمت أيها الظالم، إنك في مكان لا فرق فيه بين الملك والجندي. كتفوه أيها الجنود، وألقوه على الأرض، الآن أريد أن «أفرك رقبتك» جزاء على مطاولتك وعدم طاعتك، هل تظن نفسك أن ملكك سيدوم في العالم الأول والآخر، لو كنت عادلا نزيها شفوقا على رعيتك، محبا تقدمها ونجاحها في العالم الأرضي، لكنت الآن مكرما معززا سعيدا، ولكنك كنت ظالما غليظ القلب، تصم آذانك عن نداء المظلومين والمصابين من جور مأموريك وأعوانك وجواسيسك، وكنت فوق هذا مستبدا لا تقبل نصيحة نصوح ولا مشورة مخلص، ولا تريد أن يشاركك أحد في سياسة الرعية، فألغيت مجالس الشورى، وأبعدت عنك كل ذي نفس أبية، وقربت إليك كل مدلس منافق، قلبه كالصخر الأصم، حتى أصبحت بلادك في مؤخرة البلدان من حيث العلم والتمدن والصناعة والزراعة، فنخر عظمها سوس الفساد من جرى حكمك، الذي أبعد الأمان عن السكان، وأصبحوا لا يأمنون على عرضهم ومالهم وأرواحهم. هذه العظمة التي تريد أن تتظاهر بها الآن، هل كنت تتظاهر بها عندما يأتيك أحد معتمدي الدول، ويرغمك على المصادقة على مطاليب تكون فائدتها راجعة إلى بلاده، ومضارها على رعاياك، يظهر أنك «لا تجيء إلا بالكسر مثل البطيخ».
دمرت بلادك من كثرة الضرائب التي فرضتها على الرعية التعيسة، وجعلت فلاحها في حالة من أتعس الحالات، هل نسيت يا أيها النحس أنك كنت تقتني في دار ملكك ما يزيد عن الألف امرأة تسجنها وتجعلها رهن شهواتك الحيوانية، وتحرمها من الحياة العائلية السعيدة «تشتهي الرزق»، إن الوحوش الضارية أعف نفسا منك، فكيف مع هذا يمكنك أن تدير أعمال الملك وتسوس الرعية، وأنت غائص ببحر الفساد، وساقط على حضيض الفحشاء، كان الواجب عليك أن تكون قدوة صالحة لرعيتك، «يا قليل الهيبة» في نظام العائلة التي يتوقف عليها عمار البلاد وإسعاد العباد.
كم قتلت من أقرب الناس إليك، كم ظلمت منهم من الأبرياء، وأوديت بحياتهم في ظلمات السجون، لمجرد ظن فاسد، أو من وشاية واش، كل ذلك لخوفك على هذه الروح الشقية.
لو كنت عادلا لما كنت تخاف من أحد، لو كنت شفوقا رحوما لما كان أحد يسطو على حياتك، وكنت تسير في الشوارع والأسواق بلا حراس ولا جنود، لو كنت محبا لبلادك لكنت في غنى عن ذلك التحفظ والحذر وقلق البال، ولكن الظالم سيبلى بالظلم.
كم اغتصبت من أملاك الفقراء، وجعلتها من أملاكك الخاصة يا غاشم! كم اغتصبت من العذارى البتولات، وضحيتهن على مذبح شهواتك الرديئة، وفرقتهن عن أهلهن! كم سفكت من الدماء في الحروب التي أنتجتها مطامعك وعنادك، فعادت نهايتها عليك بالفشل والخراب!
ملكت بلادك فعلا للغرباء بما أعطيتهم من الامتيازات، وأصبحت حاكما عليها بالقول فقط، وأمست الرعية في أسوأ حال.
خسئت أيها المنافق الغاشم، تحمل الآن العذاب المر أيها الوحش؛ لتكون عبرة لغيرك، واخفض من كبريائك وأنانيتك. انزلوا عليه أيها الجنود بسياط الغضب المحمية.
فلما نزلوا عليه صرخ المسكين: «آه دخيلك» ارحمني، أنا الخاطئ حقيقة، أنا الجاني، أنا الظالم، إنني أعترف بهذا كله، فقط ارحمني واعف عني، الآن عرفت أنني أستأهل كل عذاب، الآن تمثلت أمامي كل أعمالي الوحشية، الآن أسمع في أذني أصوات المظلومين والمنكوبين الذين كنت السبب في بلواهم، وأصوات اليتامى والقاصرين يصرخون، الآن شعرت بوخذ الضمير، أنا المسئول وحدي عن شقاء رعيتي وتأخر بلادي، أنا كنت قادرا على السير بموجب القوانين الدستورية، وعلى إبعاد الخونة المدلسين المنافقين عني، وألا أجعل ميزة بين المسلم والنصراني واليهودي والدرزي، ولكن آه من الذين كانوا يخدعونني ويزينون لي كل أعمالي ويقدسونها! آه لو كنت أظفر بواحد منهم الآن، لكنت أمتص دمه، وأشفي غليلي، وأبرد نار قلبي.
أيها المأمور العادل، أسألك أن تعفو عني وتنجيني من هذا الضرب المؤلم المميت، آمان.
فجاوبه المأمور: إن أيام الرحمة قد مضت، فلتمت الآن بعذابك أيها المجرم. فصرخ المأمور ثانيا: «تمموا القصاص أيها الجنود، وانزلوا عليه بشدة لتشفى قلوب المظلومين الذين ينظرون إليه الآن.»
آه يا أخي فنيانوس، إني لا أقدر أن أصف لك حالة هذا الملك المسكين، فيا ليته كان خسر كل ملكه وعاش حقيرا وضيعا في دنياه، ولا رأى هذا العذاب المر القاسي، إن لحمه قد نثر عن عظمه، وأصبح بحالة تقشعر لها الأبدان، وقد غاب عن الوجود من شدة الألم، ما ضره لو كان عدل في حكمه، وهدم ذلك السور الواقف بينه وبين رعيته، وتقرب منها ونادى تعالوا إلي أيها المظلومين فأنا أنصفكم! ما ضره لو كان جعل بجانبه مجلسا يستشيره في شئون الدولة! فهل كان ذلك يخفض من منزلته؟! أو جمع من أطراف البلاد أفرادا تقيمهم الرعية نوابا عنها ليساعدوه ويطلعوه على مطاليب الرعية، ويبينوا له ما تحتاجه البلاد من المشروعات النافعة.
لو كان أنفق نصف ما ينفقه على الهدايا العظيمة إلى القياصرة والملوك، على تعزيز بحرية الدولة، أو على الأقل على إشباع بطون العساكر التي أضناها الجوع والعري والمرض والويلات، لكان نهض بوطنه نهضة يستحق عليها الجزاء الحسن، أما وإنه قد اهتم لنفسه، وقال بعد حياتي لا حياة، وبدد أعظم الأموال في غير محلها، ورشا بها الجرائد العظيمة في بعض الممالك الغريبة؛ كي تمدحه وتطنب بصفاته، وضغط على حرية أصحاب الجرائد في بلاده وأخرس ألسنتهم؛ لئلا ينشروا عنه عيبا أو يكشفوا سترا؛ فاستحق هذا القصاص.
فلتعتبر ملوك الشرق وسلاطينه، وليشفقوا على رعاياهم، ويسيروا على طريق العدل، ويتقربوا من الرعية؛ ولينصفوا المظلوم من ظالمه ولا يحابوا، وليخافوا الله ويقتصروا على امرأة واحدة؛ لكي يتمكنوا من رفع منار العدل في الرعية، وينشطوا الصنائع، ويقووا الزراعة والتجارة، ويرفعوا عن عاتق الفلاح المسكين تلك المظالم التي لا تحتمل ولا تطاق، حتى لا يصيبهم ما أصاب رصيفهم من العذاب وتبكيت الضمير والشقاء الذي لا يحتمل في القصاص الابتدائي، والله أعلم كيف يكون القصاص النهائي. •••
وبعد هنيهة أتوا بشخص «كاتع رقبته مثل أبو زهرا»، فعرفته من أول نظرة، إنه راهب، ولما وقف أمام المأمور أمر له بخمس جلدات «على كعابه تكون سخنة»، فلما سمع الراهب هذا القصاص جثا على ركبتيه وقال بخشوع كلي: أي ذنب فعلته يا سيدي حتى استوجبت هذا القصاص؟ قد تركت العالم وملاذه وزخارفه، وانفردت في الدير منقطعا إلى العبادة والصوم، وبعد هذا كله أجازى بمثل هذا الجزاء.
فقال له المأمور: اصمت «يا دقن التيته»، نسيت الآن ما كنت تفعله من الأمور المغايرة للقانون الرهباني، أول كل شيء كانت قناني العرق المثلث تعد بالعشرات تحت سريرك مع توابعها، كالمحالي والمكسرات ، وكنت لا تشرب أقل من 400 درهم عرق كل يوم، أهذا من قانون الرهبنة؟! وثانيا نسيت عندما كنت تتلصص من خلف السياج «يا منقوم».
فجاوب الراهب وقال: لست أنا يا سيدي، فإنك غلطان، بل هذا أبونا الرئيس. فأجابه: أبونا الرئيس يأتي دوره، فأمره لا يعنيك، وأيضا أي شغل لك عند شركاء الدير حتى كنت أكثر الأحيان «تظمط» إلى هناك، ألا تعلم أنك تطوعت لخدمة الله والقريب، أين مواظبتك على العمل في الحقل؟ أين مواصلتك المطالعة والتنقيب في العلوم والصنائع لكي تفيد الناس بها؟ هل خلقت فقط لكي تملأ بطنك «مخلوطة وتطرق طلم» ولتمسيد الدقن، واستماع كلمة «مجد لله يا بونا»؟ الله يتمجد بالعمل لا بالكسل، الله يتمجد بضرب المعول في الحقل، وزرع البنادورة والقلقاس، لا بالقعود تحت السنديانة. الله يتمجد عندما تكون مع رفاقك الرهبان دائبين على اقتباس العلوم والمعارف لتنفعوا بها الناس، بمثل هذه الأعمال تمجد الله، لا بجمع المال وتستيف الليرات في الكمر، ماذا ينفعك المال؟ وأي لزوم له ما دمت ناذرا العفة والطاعة؟ هل أولادك يعوون من الجوع؟ كنت تحسد على الأقل رهبان الإفرنج الذين يؤسسون المدارس والمعالم والكنائس في كل مكان، ويفيدون بني البشر، ويخففون عنهم المتاعب المتأتية عن الجهل والغباوة.
فبكى الراهب المسكين وقال: كل ما قلته حق أيها المأمور، «خطيتي عظيمة»، ولكن مسألة «التلصص» من خلف السياج أنت غلطان فيها، فاعف عني وارحمني.
فقال المأمور: لا رحمة الآن، انزلوا عليه أيها الجنود. فنزلوا عليه بالقضبان المحمية خمس جلدات، حتى فقد رشده وحملوه إلى الداخل بحالة تعيسة، فليعتبر الرهبان من هذا القصاص، وليعلموا أنهم وجدوا لحمل أثقال البشر، لا لتكثير الصلاة وترديدها كالببغاء، بدون أن يعلموا مضامينها ومقاصدها السامية، كنت أود ألا أرى هذا القصاص الذي وقع على راهب من أولاد وطني، الذين أحبهم وأعتبر دعوتهم الشريفة، ولكن ما العمل وقد قدر لي أن أبقى مكسور الخاطر في تلك الدنيا وفي هذه. •••
وساد السكوت برهة من الزمن، ثم خرق هذا السكوت صوت المأمور بقوله: أحضروا المجرم إلى هنا. فحالا أحضر شخص تلوح على محياه علائم الرزانة والهدوء، وأول ما وقع نظري عليه عرفته، وقلت لحنوش: أليس هذا الرجل أحد متصرفي جبل لبنان؟ قال: نعم، ومن أين لك معرفته؟ قلت: أعرفه عندما كنت في العالم الأول. ثم أشار علي بالسكوت فسكت.
ولما وقف المتصرف بين يدي المأمور فاتحه بقوله: إن ما استوجب قصاصك الآن هو خيانتك لوظيفتك، وعدم قيامك بالواجب نحو ذلك الجبل المقدس، فقد أفسدت فيه، وارتشيت، واستبددت، وعسفت، وكنت تجعل الحق باطلا والباطل حقا، كنت كأحد جواسيس الأستانة تشي بمن تريد أن تلحق به ضررا من سكان لبنان، وكنت تنم برؤسائه أنهم يتظاهرون بالميل إلى الدولة تظاهرا ويميلون في الباطن إلى دول أوروبا، كنت تفعل كل هذا غير خائف من توبيخ الضمير ولا من غضب الله.
ثم أمر الجنود بأن يجلدوه 70 جلدة بقضبان الانتقام، فصرخ المتصرف قائلا: تصبر أيها المأمور ولا تعجل علي بهذا الحكم القاسي، أمهلني لأدافع عن نفسي، فإني أعلم أنني بريء مما اتهمتني به، وسينظر سيدي ذلك متى سمح لي بالكلام.
فلما رأى المأمور تواضع الرجل وخضوعه، سمح له بالدفاع عن نفسه.
فقال المتصرف: أمرت أيها المأمور الجليل بمجازاتي ومقاصتي بناء على ما تراءى لك من أنني المسبب تأخر لبنان، وأنني وحدي المرتشي الخائن وظيفتي وذمتي، وأن كل ما حصل في لبنان في أيامي من الفوضى في الأحكام، وما أنتجته هذه الفوضى من تزعزع أركان العدالة فيه أنا المسئول عنه، مع أن الواقع بخلاف ذلك. إن خوفي من هذا القصاص المخيف المرعب الذي أمرت به يجعلني أن أبوح بكل شيء؛ لأبرئ نفسي وأرفع عن عاتقي تلك الأوزار والذنوب التي رميتني بها.
أنت تعلم يا حضرة المأمور العادل أن الوظائف في حكومتنا لا تنال بالأهلية والاستحقاق، بل بالمحسوبية والتوصيات والرشوة، ولما انتهت مدة سلفي المتصرف «فلان»، سعيت بوسائط عديدة منها محلل ومنها محرم، وأهمها وعودي للبعض بالمال الكثير بعد نوال الوظيفة على سبيل الرشوة وإن تكن دينا، وغير ذلك مما لا لزوم لذكره الآن، حتى حصلت على هذه الوظيفة، التي كنت أسمع أن الذي ينالها يسعد إلى آخر يوم من حياته؛ لأن المتصرف في ذلك الجبل الجميل كالسلطان في الأستانة، مطلق التصرف، يفعل ما يشاء، ومن جملة الوسائط التي استعملتها والتي أعترف بها أمامك أني جعلت نفسي لاتينيا، مع أنني كنت غير لاتيني، أو بالحري كنت على لا شيء؛ لأنه من الواجب - كما لا يخفى - أن يكون متصرف لبنان لاتينيا، ولو اقتضى الأمر أن يكون المتصرف يهوديا لما كنت تأخرت عن أن أجعل نفسي كذلك لكي أنال الوظيفة.
ولما كان تعيين المتصرف الذي يقدمه الباب العالي أولا لسفراء دول الغرب كفرنسا وإنكلترا وروسيا وإيطاليا، موقوفا على قبول هؤلاء ورضاهم، جعلت همي بعد ترشيحي لهذه الوظيفة إرضاء هؤلاء السفراء، واستعملت ما استطعته من السياسة والدهاء، ولما كنت أزور سفير روسيا كنت أعده بأنني سأسير في ذلك الجبل على ما يوافق نفوذ روسيا ومصلحتها؛ لأن روسيا هي صديقة دولتنا الأبدية القرار، فيصدق السفير كلامي ويمد إلي يد المساعدة لتعييني، ومثل ذلك كنت أفعل مع باقي السفراء، حتى أحوز على رضاء الجميع، وأتخلص من المعارضة؛ لأنه كثيرا ما كان يحصل في مثل هذا الوقت اختلاف ما بين السفراء على تعيين المتصرف؛ لأن كلا منهم يسعى ليجعل المتصرف منفذا لمصالح دولته، غير مهتم لصالح ذلك الجبل الذي تعهدت الدول بحمايته وحفظ استقلاله.
وفي اليوم الذي تم فيه تعييني متصرفا على لبنان باتفاق السفراء مع الباب العالي، أنعمت الحضرة السلطانية على عبدها المطيع ...
هنا قاطعه المأمور بقوله: ألا تخجل من أن تقول عبدها؟ حذار أن تعيد مثل هذه الكلمة، عد إلى حديثك. - أنعمت علي الحضرة السلطانية برتبة الوزارة؛ لكي تظهر سيادتها على الجبل من طرف خفي، وأعلن ذلك رسميا، ثم طير الخبر حالا إلى لبنان بواسطة بعض المكلفين بذلك من وجوه لبنان ورؤسائه، وكان ذلك قبل أن ترسل الحكومة الخبر رسميا إلى لبنان.
ولم تغرب شمس ذلك اليوم إلا وقد تواردت علي أنباء التهاني من بعض كبار لبنان ورؤسائه، وكلها تعرب عما خالج أفئدة اللبنانيين من الفرح والسرور بتعييني متصرفا عليهم؛ نظرا لما يعهدونه بي من الدراية والحكمة والاستقامة، وغير ذلك من الصفات الشريفة، مع أنه لم يسبق لي أن عرفت أحدا منهم، ولا سمعوا باسمي من قبل، فاستدللت من هذا على فساد وصغارة في المحيط اللبناني المرتقي.
وقبل تعييني كانت تمضي علي سنوات لا تردني فيها رسالة برقية من أحد، ولا أسمع فيها كلمة تعظيم ولا تكريم؛ لأن في الأستانة من البشوات أمثالي ألوف، وقد أصبحوا بسعر الفجل، فاستكبرت بعد تعييني هذا الأمر، ونفختني العظمة وشمخت بأنفي، وبعد أن كنت بشوش الوجه رقيق الجانب شأن بعض أكابر الأتراك، «عقدت نونتي وصار ذنبي يفرط الجوز»، وأنت لا تجهل الطبع البشري المنحوس.
ومن ذلك الحين دخلت في طور جديد من أطوار حياتي، فكثر زواري، وتقرب الناس مني، فصرت كيفما سرت يأخذ القوم سلامي، ويحيوني ويكرموني الإكرام الزائد.
هذا وقد أرسل بعض وجهاء لبنان على إثر تعييني إلى بعض معارفهم في الأستانة من البشوات، وذوي المكانة لكي يعرفوهم بي، لينالوا حظوة في عيني عندما أصل إلى لبنان وطنهم، فتعرفت بمدة أسبوع واحد على أكثر وجوه لبنان وأمرائه ومتوظفي الحكومة فيه، وأنا لم أزل في الأستانة منتظرا الأوامر بالسفر.
وعند ورود البريد من لبنان ومصر وصلني من الجرائد والرسائل ما يكفي لإيقاد فرن يوما كاملا، ففضضتها كلها، ووجدت فيها القصائد الرنانة بمدحي وتهنئتي وتفخيمي، وقرأت المقالات الضافية والفصول الطوال عن صفاتي وعدلي، ثم عن جمالي وجسمي وطولي وعرضي، وعن كيفية نومي وأكلي وشربي، وعن مشروبي من الخمور، وعن عدد أولادي وبناتي، وقد زادوا فيهم وأطنبوا - على الأخص - بمعارفي الواسعة، وتضلعي في عدة لغات كالإفرنسية والإنكليزية واللاتينية وغيرها، مع أنني لا أعرف من هذه اللغات إلا اسمها، ولا أدرك من العلوم والمعارف إلا علم المجاملة التركية وبعض اصطلاحات بالإفرنسية.
فهذه المظاهرة وهذه الخفة التي ظهرت من أرباب أقلامهم، وقادة أفكارهم وكبارهم، جعلتني أطمع بهم، وداخلني شيء من الاحتقار لأولئك الناس الذين يعدون نفوسهم كبارا.
والأجمل من كل ذلك هو أن أحدهم لما علم بتعييني متصرفا على لبنان، وقف على الإثر في غرفته، وارتجل شعرا بمدحي، وهنأ لبنان واللبنانيين في، فهل ينتظر بعد هذا من إنسان ضعيف ألا يأخذه البطر والتكبر، وألا يطمع بمثل هؤلاء الناس ويحتقرهم ويستبد بهم.
فصار المأمور يقلب شفتيه ويرفع حاجبيه علامة الاستغراب، وأنا من جهة أحترق غيظا لثبوت هذه التهم على إخواني، الذين كنت أود ألا أسمع عنهم في هذا العالم مثل هذه الأخبار المحزنة. آه «يا حسرتي» عليك يا لبنان! آه «يا حرقة قلبي» على عزك الماضي ومجدك القديم! يا أيها الجبل الذي ينطح بهامته السحاب، يا من قد نظرت عيناي النور في ربوعك، وانتفخ صدري لأول مرة من نسيمك المحيي، اغفر لنا هذه الذنوب التي نقترفها باسمك، بحق أرزك، بحق قممك العالية، بحق وهادك وبطاحك، بحق نبوعك وعيونك، بحق جمالك وبهائك، بحق كرمك وزيتونك، وتوتك وليمونك، انعطف علينا، واجعلنا أن نعتصم بالإخاء، ونتكاتف على محبتك وخدمتك، وألا نعظم الغريب ليذل بعضنا بعضا، ناد أولادك المهاجرين الذين تركوك، لا بغضا فيك، بل كرها للفساد السياسي الحاصل بين بنيك، نادهم ليعودوا إليك ويحتموا تحت كنفك ويعتزوا بك، قد أضناهم البعاد وتولدت في قلوبهم الحسرات؛ نادهم كي يعودوا حاملين الهدايا من المحبة الحقيقية، والألفة الأخوية، والحرية التي أعطانا إياها الله، الحرية المقدسة البعيدة عن الزيغ والتطرف؛ ليسعدوا بقربك ويمجدوا الخالق في معابدك وأديرتك الدهرية، واذكرني - أنا المسكين الخاطئ الذي فارقت الحياة الجسدية - وأنا بعيد عنك ومشتاق إلى لقياك، وادع لي بالسعادة الدائمة لأحيا إلى الأبد.
ثم عاد المتصرف إلى الكلام وقال: وقبل أن أبارح الأستانة أخذت من الحكومة التعليمات الكافية لحفظ سلطة الدولة في ذلك الجبل، ومع هذا أخذت أيضا وصايا كثيرة من بعض أصحاب النفوذ ببعض الوجوه في لبنان لأجل الوظائف، وبعد إتمام كل ما يلزم وصدور الأمر بالسفر سافرت، ولما وصلت إلى برت سعيد، استقبلت بعض الرسائل البرقية الترحيبية من لبنان، وعند وصولي إلى ميناء بيروت احتاط الباخرة أسطول كبير من الزوارق والقوارب، حاملة الذوات، والوجوه، والحكام، والمأمورين، والمتوظفين، الذين تركوا أشغالهم وأتوا من أمكنة بعيدة للسلام علي، والأخذ بخاطري ورضاي، وقد صعدت إلى البر بين الجماهير الكثيرة المصطفة على الرصيف، فقابلني هناك - بصفة رسمية - حكام ولاية بيروت، وبعض الجنود الذين أخذوا سلامي.
ولكيلا أطيل الشرح وأثقل عليك، صعدنا إلى مركز المتصرفية في الجبل، وكان على كل الطريق التي مررت فيها جموع وخلائق لا تحصى ولا تعد، وصوت البارود يدوي دويا يصم الآذان، فتجاوبه الأصدية من تلك الوديان، وكبار الرجال والوجهاء والأمراء كلهم بخدمتي، يحيطون بي من كل جانب، والفرسان أمامي تلعب بالجريد، وكلهم يدعون لي ولعائلتي بطول العمر، وينشدون الأناشيد الحماسية لرفعة مقامي، وكيفما حولت نظري أجد التحية والتعظيم وإحناء الرءوس.
حينئذ أخذت أتأمل بعبودية هذا الشعب، وصغر نفس كباره الذين يجبرون العامة على هذا التظاهر المعيب، ويفنون قوى هذه الطبقة النشيطة التي كلها استعداد للأعمال العظيمة في سبيل رضائي، مع صرف الأموال وتعطيل الأشغال، فقلت: ماذا رأوا مني حتى عاملوني هذه المعاملة كفاتح عظيم، إنهم لم يروا بعد شيئا من خيري ولا من شري، بالحقيقة إنهم أذلاء.
نعم، كنت أسمع عن مثل هذا عندما كنت في الأستانة، ولكن ليس السمع كالعيان، رأيت أكبر ذات في لبنان يقف بين يدي صاغرا ذليلا، يتمنى أن يكون في خدمتي أينما ذهبت، ويفتخر أن يسمى من ياوران المتصرف.
وبعد أن حللت في سراي الحكومة، وأخذت الراحة الكافية وحان وقت تلاوة الفرمان، اجتمع في بتدين مركز المتصرفية جميع الحكام والوجوه، وكثير من رؤساء الطوائف، وجم غفير من الشعب، ولما تلي الفرمان رفعت الأيدي وأمن الجميع، وهتفوا بالدعاء، وهم غير عالمين بأن تلاوة مثل هذا الفرمان - الذي لا يفرق شيئا عن فرمانات الولاة في ولايات المملكة، والذي هو على نص واحد يعطى به الوالي الحكم المطلق تقريبا - هو برهان كاف على محاولة الدولة نزع امتياز لبنان، ومحو استقلاله الإداري؛ لأنها تعلم أن لا مطالب بهذه الحقوق؛ لأن الشعب ضعيف وجاهل، والكبار منه لا يهتمون إلا بالوظائف والعظمة الفارغة.
أما سعيهم لنوال الوظائف فهو غريب؛ إذ إن كلا منهم يعمل كل واسطة، وينفق الأموال الطائلة، وربما رهن أرزاقه لأجل الوظيفة؛ كل ذلك لكي يتظاهر أمام أقرانه بالعظمة، ويستبد بذويه وأهل بلده، متخذا قوة الحكومة لتنفيذ غايته في الناس، مع أنه عندما يقف الواحد منهم أمامي يكون كأنه واقف أمام العزة الإلهية، وقد يكون الشخص منهم أغنى وأعلم مني، عارفا بالقوانين، ذكيا متضلعا بجملة لغات، وربما يكون في بيته كالملك عائشا برغد وهناء، ذا أرزاق كثيرة، تغنيه عن مثل هذا التذلل، ومع ذلك فهو يفضل أن يكون خادما لي - أنا الغريب عنه - من أن يكون مخدوما معززا في بيته، مستقلا حرا، كل ذلك لكي يتظاهر بالفخفخة المعيبة، ويقطب حاجبيه في وجه أقرب الناس إليه، وينتقم ممن يحسبهم أعداءه.
وقبل أن جئت لبنان، لم أكن أظن أن الشعب يسترسل في الرشوة إلى هذا الحد، كنت أرى «خيالة الإنكليز» الليرات تتوارد علي فرقا وفيالق حتى بهرت عيني.
أما الوسائط لذلك فكثيرة، إنهم يغتنمون فرصة الأعياد والمواسم، ويرسلون إلي التحاويل، أو يتركون القيم المهمة بعد زيارتهم لي، ومثل ذلك تفعل نساء الوجهاء والكبراء مع امرأتي، فيأتينها بالهدايا الثمينة والأموال الوفيرة، ويتوسطنها في أمور كثيرة، والذي يرى نفسه مقصرا بالمال يعمل وسائط أخرى، كالالتجاء إلى الرؤساء الروحيين واستنجادهم لما لهم من النفوذ، وهؤلاء كل منهم يعمل على مناصرة أبناء طائفته والمحافظة على حقوقها المهضومة، فأصبح أنا - بعد هذه الأعمال - تائها في بحر هذا المحيط المضطرب، الذي يصلي ويتعبد كثيرا، وأضطر إلى استعمال الخداع والدهاء، فأعد هذا وذاك اليوم وأخلف بوعدي في الغد، وأنتحل الأعذار، وأجامل الرؤساء وألاطفهم، وأساير كلا على حسب هواه، وبعض الأحيان أتظاهر بالغضب، وأمتنع عن مقابلة الناس هربا من إيفاء الوعود، أو أتمارض وأحتجب عن الأنظار.
وآخرا لما أتعب من هذه الأعمال المضنية وهذا التصنع المقلق للبال، الذي لا يتعبون هم منه، آخذ لي منهم معينا وأسميه «كاخيه الباشا»، وأجعله واسطة بيني وبين الشعب من جميع الطبقات، فهو الذي يستلم الرشوة، وهو الذي يعزل ويوظف، ويصبح هو المسئول عن كل شيء، وبالاختصار هو القاضي الماضي، فأرتاح أنا من جميع أعمالي فائزا بالغنيمة.
أما الوشايات التي يستعملونها ضد بعضهم فحدث عنها ولا حرج، قد تصلني مكاتيب غفل كلها قذف وطعن وفضح أسرار بعضهم بعضا، هذا عدا عما أسمعه في أذني، وقد صرت أخيرا لا أصدق أحدا ولا أكذب أحدا، أسمع الكلمة من هذه الأذن وتخرج من الأذن الثانية.
وما كنت أعتبر من اللبنانيين إلا المتنحين عن الوظائف، فهؤلاء قد كان لي منهم بعض الأصدقاء، أقضي معهم أوقاتا طويلة للإفادة والاستفادة، وكنت أرى فيهم عفة نفس وحب الاستقلال الذاتي، وأدبا ومعرفة، إلا أن التنغص كان مالئا أفئدتهم، والتذمر ظاهرا على وجوههم، من كثرة ما يرونه من الحيف والظلم والفساد في الأحكام، ولكن يا للأسف فإن مثل هؤلاء قليلون في لبنان.
أما الاستقلال الذي يتبجحون به ويتشدقون بذكره، فهذا اسم لغير مسمى؛ لأن القانون الذي هو حبر على ورق لا يصنع وحده استقلالا إذا كانت الرجال صغارا، فلو كنت وجدت في لبنان رجالا أعزاء النفوس، أصحاب حزم وعزم، ذوي أمانة ومحبة لوطنهم، لا تهمهم الوظائف، لكنت أعضدهم وأعمل معهم على حفظ استقلالهم، وأعيش وإياهم إلى آخر حياتي، وأستغني عن الأستانة وعن كل بلاد غير لبنان، الذي هو أشرف بقعة، وأجمل موضع في الشرق كله، وأهنأ عيشا من سواه، ولكن أهل البلاد متغافلون، لا يطالبون بحقوقهم المعطاة لهم من أعظم دول الغرب، والذي لا يطالب بحقوقه تضيع لا محالة، فلماذا يجعلون علاقتهم مع الأستانة وحدها؟ لماذا يخولون الحق للمتصرف وحده بمخابرة الباب العالي في كل أمور لبنان؟ مع أن مجلس الإدارة هو فوق المتصرف، وعلاقة حكومة لبنان بالأستانة كعلاقتها بحكومة فرنسا وإنكلترا وروسيا وإيطاليا تماما، فإهمال نواب الأمة هذه الواجبات وهذه الحقوق، وانشغالهم بالمفاسد والوشايات، وتزاحمهم على الوظائف، يجعل للدولة حقا شرعيا بالمداخلة في شئونهم ومعاملتهم كمعاملة باقي رعاياها، مع أن استقلال لبنان مكفول من الدول المار ذكرها ، ولا يتعين حاكم إلا بمصادقتها جميعا.
هذا وللبنانيين الذين هاجروا إلى مصر وأميركا جرائد قد أنشئوها في ديار غربتهم؛ خدمة لمصالحهم وصالح الوطن الذي أقاموا فيه، وقد جعلت أكثر اهتمامها بشئون لبنان، ولما تعينت متصرفا، أظهرت كل شهامة وعزة نفس، ولامت الشعب على مظاهراته بإكرامي قبل أن يرى أعمالي، وهي مهتمة بالجبل وحكومته أكثر من المقيمين فيه، ولكنها في أكثر الأحيان تبني أقوالها وانتقاداتها على الوهم، فتارة تسلقني بألسنة حداد، وطورا تمدحني وتثني على أعمالي، ثم تعود إلى ذمي تبعا لما يتراءى لها عن بعد، وقد تدرج كل ما يردها من الأخبار إن كان كذبا أو صحيحا، وتبني عليه العلالي والقصور، ولكنها جاعلة الحق كله على مجلس الإدارة، فكثيرا ما طعنت على أعضائه وانتقدتهم انتقادا مرا جعلهم صغارا في عيون نفوسهم، ولا أنكر أن كلام تلك الصحف قد أفاد وجعل بعض التأثير.
ولا خفاك أن المال الذي كنت أجمعه من الرشوة والهدايا والعطايا من سراة اللبنانيين وكبارهم، الذين يمتصون دم الشعب اللبناني، ويسلبون أمواله من طريق الرشوة والاستبداد، كنت أدفع فائضه إلى الأستانة؛ لأنها تعلم حالة الجبل وأهله، فتفرض علي إيفاء «البركة» أي العشر.
فهل تجد بعد هذا الإيضاح أيها المأمور الكريم أنني مذنب ومستحق القصاص؟ والله لو كنت مكاني في متصرفية لبنان، محاطا بالمفاسد والمخاصمات، لكنت تفعل فعلي، وتقول: «اللي من إيده الله يزيده»، وتجمع الأموال التي تأتيك عفوا، وتتنعم بها إلى ما شاء الله.
فهذه هي مصيبتي في لبنان واللبنانيين، فعسى أن تكون هذه الإيضاحات كافية لتبرئتي، وإعفائي من هذا القصاص الشديد الذي حكمت علي به، فقد أظهرت للمأمور العادل كل دقائق الأمور، وتبين له أن الحق على اللبنانيين أنفسهم لا علي.
فأجابه المأمور بعد أن فرك جبهته: إن كل هذه الأعذار التي قدمتها لا تبرئك من تبعة المسئولية، فإن الحاكم يجب عليه أن يكون مخلصا للشعب، محبا له، شفوقا عليه، غيورا على مصالحه، وإذا كان الشعب على الحالة التي ذكرتها عنه، فيجب عليك تربيته بصرامة القانون، لا أن تجاريه وتسير معه في طريق الغش والفساد، وتساعد على سقوطه. ثم صرخ المأمور بالجنود، وأمرهم بتنفيذ القصاص، فحالا سقطوا على المتصرف المسكين بالجلد، فوقع على الحضيض فاقد الرشد، وصرخت أنا صرخة الفرح، وقلت: «سلم دياتكم»، فإنه باستحقاق نال هذا الجزاء؛ لأنه كان يعد كثيرا ولا يفي، بالقول فتح ميناء جونيه، وعمر البلاد، ووسع نطاق الزراعة، وأنشأ المعاهد العلمية، وجعل لبنان جنة، وبالفعل خرب لبنان، وجعله كإحدى الولايات العثمانية.
فالتفت المأمور إلى الجهة التي صدر منها صوتي، وقال: من هو الذي تجاسر على الكلام؟ أحضروه إلى هنا، فحالا رأيت حنوش ومنوش سائقي إلى أمام المأمور، فقال: اجلدوا هذا الإنسان جلدة واحدة؛ لأنه كثير الغلبة. «فنفضوني» جلدة، يا الله، حسيت روحي طلعت من أظافر رجلي «ريتو ما حدا يدوق» موت أحمر، ثم أرجعوني إلى مكاني مقطوع الظهر، ومنوش من جهة يقول لي: تستاهل «يا ديوس». •••
أخيرا حمل الجنود المتصرف التعيس إلى الداخل، وهو بحالة تنفطر لها الأكباد، ثم رجعوا ومعهم رجل على رأسه عمامة وعيناه «معمصتان»، وعليه هيئة السرساب، وقد عرفت لأول نظرة أنه أحد إخواننا مشائخ الإسلام، ولما اقترب من المأمور صرخ فيه: تحضر لاستقبال القصاص أيها المذنب نحو وطنك، والعامل على تفريق قلوب الشرقيين، بحثك أولادك الإسلام على عدم الاتحاد مع إخوانهم المسيحيين، وتبشيرك بالجامعة الدينية بدلا من الجامعة الوطنية، قد حكمت عليك بثلاثين جلدة من يد سطانائيل الجبار، بقضبان ملتهبة من نار الانتقام.
فلما سمع الشيخ بهذا القصاص شهق شهقة، وغاب عن الصواب برهة، ثم عاد فأفاق وهو يفرك عينه ويبكي وقال: أيها المأمور الشفوق، إن هذا الحكم الذي صدرته علي لهو جائر لا يحتمل، وأنا لست أول من نادى بالاتحاد الديني، فقد تعلمت من الذين سبقوني أن لا أمان لغير المسلم؛ فلذلك حرضت أولاد جنسي على ألا يؤمنوا لغير المسلمين؛ ولهذا يعود الذنب على الأولين، ولو كنت أعلم أن هذا التعصب ذنب لكنت عدلت عنه.
فأجابه المأمور: لا بد من تنفيذ الحكم. وأمر سطانائيل بالجلد، فرفع هذا يده، ونزل على الشيخ، ومن أول جلدة سقط المسكين لا حراك به.
وقد أثر في منظره، حتى أبكاني وأخذتني الشفقة عليه؛ لأنه بعد تلك الجلدة لم ينبس ببنت شفة، حينئذ قلت بفكري: متى يزول هذا التباعد الواقع بين المسلم والنصراني، إنني أرى النصارى تتقرب من الإسلام وتتساهل معهم، فقد فتحوا المدارس وأنشئوا الجرائد، وكل ذلك خدمة للجامعة الوطنية، ومدوا أيديهم إلى إخوانهم المسلمين، وقالوا لهم: تعالوا نتحد، ونهدم أركان ذلك السد الذي بيننا والحائل دون اقترابنا. ولكن كلما زاد المسيحيون تقربا، زادوا هم تباعدا، فأصبح كل فريق يشتغل لنفسه، ولكن ليس لخدمة البلاد بل لتقهقرها.
فيا أيها المشائخ الأجلاء، اعتبروا بقصاص رصيفكم، واعملوا على تقريب المسلم من أخيه المسيحي، وأوصوا شعبكم بالاتحاد معهم، والتكاتف على النهوض؛ لأن كلمة من فمكم تفعل ما لا تفعله مائة جريدة ومجلة في مئات من السنين، فأحسنوا النية بالمسيحيين إخوانكم بالوطنية، واعملوا معا على الانضمام تحت لواء الجامعة الوطنية، وحرضوا الحكام الذين تتسلطون عليهم ليحكموا بالعدل والمساواة، وينفذوا القانون على الجميع بدون تمييز، ودعوا الدين معززا مكرما ضمن المعابد ولا تمزجوه بالسياسة، وهذا القول يوجه إلى رؤساء النصرانية أيضا.
واعلموا - حفظكم الله - أن النهوض من كبوتنا - نحن الشرقيين - وحل المسألة الشرقية، متوقف على الأمة الإسلامية؛ لأنها هي الدعامة القوية في جسم الأمة الشرقية، ومتى سارت في مقدمة باقي الملل تحت علم الجامعة الوطنية فأنا الكفيل بالفوز القريب، ولكن إذا بقيت على ما هي عليه من الابتعاد وعدم التقرب من باقي الشعوب الشرقية بداعي الدين فالسقوط قريب؛ لأن أفاعي الغرب فاغرة أفواهها لابتلاع بلادنا، فنضيع أخيرا بين تلك الأمم الغربية، ونخسر كل شيء لنا. •••
وبعد أن نفذوا الحكم على الشيخ حملوه إلى الداخل، وهو لا حراك فيه من شدة الألم الذي أصابه، وعادوا وهم سائقون رجلا ذا هيئة كئيبة، فقلت لحنوش: من هذا؟ قال: أحد البخلاء. ولما وقف أمام المأمور أمر بجلده أربعين جلدة على بطنه، فلما سمع البخيل هذا الحكم، جثا على ركبتيه، ورفع يده ، وقال: ارحمني يا سيدي، وأشفق على مسكنتي، إنني كنت في حياتي «كافي الناس خيري وشري»، لا أتداخل بأمر أحد، ولا أسيء إلى أحد. فأجابه: اصمت يا بخيل، تكفيك هذه الوصمة - وصمة البخل - تطلب الآن الشفقة يا ذا النفس الساقطة، كان الأحرى بك أن تشفق على نفسك التي حرمتها من ملاذ العالم المحللة، مع وجود المال الكثير معك، أنزلوا عليه أيها الجنود - بدون إبطاء - أربعين جلدة من «كعب الدست»؛ لأن وجوده كان في ذلك الكون كالعدم، فكم رد من أمامه جائعا فقيرا، وكم خيب طلب سائل محتاج، وتمنع عن دفع بارة واحدة للمشاريع الخيرية، كم حرم أهله وذويه من أكثر لزوميات الحياة كالإقامة في البيوت الصالحة للسكن، وكالكساء اللازم، وكالمأكولات المغذية النظيفة، كم نادى الدينار: أنت معبودي، أنت سندي ومرغوبي، فابق في جيبي ولا تتزحزح. فسقط الجنود عليه بالضرب حتى أغمي عليه، وفي وسط هذا الإغماء كان يتقيأ الليرات الإنكليزية والفرنساوية والعثمانية، ومنها ليرات من أبي الخمسة وبشالك ومتاليك وزهراويات مقدحة، وغير ذلك من العملة القديمة، التي يظهر أنه جمعها من عهد بعيد، فقلت: ليت شعري! هل أنقذته أمواله من هذا العذاب المر، فقد أهان نفسه في العالم الأول وفي الأخير، وحرمها من الطيبات، وأضر غيره بجمعه تلك الأموال، التي كان يجب أن تكون متوزعة بين أيدي الناس ليستفيدوا منها، وينتفعوا بصرفها. •••
ثم حملوا المنحوس إلى الداخل، «والمصاري تهر» من جميع منافذ جسمه ... وعاد الجنود بشخص ذي عيون كعيون النمس، فقلت لحنوش: لا شك أن هذا الرجل لص. فقال: وهو عند قولك. فلما انتصب أمام المأمور، أمر له بعشر جلدات على يديه، ومثلها على رجليه، فانتفض اللص عند سماعه هذا القصاص، وحنى رأسه وبكى، ثم نظر إلى المأمور وخاطبه قائلا: إن ذنبي لا يستأهل هذا القصاص الشديد، ارفق بحالي، وتحنن على ضعفي، فإن جسمي لا يقوى على حمل هذا القصاص. فقال له المأمور: اسكت «يا حرامي»، تقول إن جسمك لا يقوى على حمل هذا القصاص، مع أنك كنت تحمل بأسة البريم ، وبالة المقصور الأميركاني، وتذهب بها كأنك «موش حامل شي»، نسيت كل ذلك يا ابن الحرام، نسيت عندما كنت تمد يدك إلى جيوب الناس، وتنشل منها الريال «والسينكونتا ميل ريس»، وربما يكون المسروقة منه بحاجة إلى إعالة عائلته، كم مرة سرقت الدجاج من «القن» بواسطة لم يسبقك إليها أحد، حيث كنت تربط حبة الحمص بخيط وترميها إلى داخل القن، فتنقرها الدجاجة وتبتلعها وتبقي الخيط بيدك، فتسحبها من القن بهدوء وسكينة؛ لأن الدجاجة لا تقوى على الصياح لوجود حبة الحمص مع الخيط بحلقها، نسيت عندما كنت تسطو على عرائش عنب بيض الحمام، وتحرم أصحابها من أكل عنقود منها.
ثم صرخ المأمور: نفذوا الحكم أيها الجند حالا. فما كاد الجنود ينزلون عليه بالسياط المحمية حتى سقط على الأرض كالقتيل.
وقد لحظت على قميصه ماركة «برج إيفل» فتأكد عندي أنها مسروقة من معمل القمصان، الذي يخص معلوف شركاء في سان باولو، وقد يظهر أنه كان «ماسكهم زباين»؛ لأنه علم أنهم قد اشتروا المغسلة بما فيها من العمار والأرض والآلات، فطمع وقال: إن سرقة قميص لا تؤثر شيئا.
لعنة الله على الحرام، ما أقبحه! لأنه مهما تحاشى اللص كتم سرقته، فلا بد من أن تظهر يوما ولو في غير دنيا. •••
وعلى حسب العادة، أدخلوا اللص إلى الداخل، وأتوا برجل عبوس بلحية طويلة، وعليه علائم الحدة والعنفوان، فقلت لحنوش: أليس هذا أحد الكهنة؟ فقال: نعم. فقلت: الكهنة أيضا يحاكمون؟ قال: كهنة، ورؤساء كهنة، ومنسونيورات، وخورفسقفات، وأرشمندريتات، وجميع طبقات الإكليروس، الكل يقفون أمام المأمور بدون استثناء.
فلما اقترب من المأمور قال له: يا أبانا، أريد أن تجلد 14 جلدة، فلا تأخذ على خاطرك؛ لأن العدالة تقضي بذلك. فنظر إليه الخوري وقال بحدة: أي عدالة هذه، لا أفتكر أنني عملت شيئا يقتضي القصاص. فأجابه المأمور: طول بالك يا أبانا، لا تأخذ المسألة بحدة، نعم، أنت لا تفتكر أنك عملت ذنبا؛ لأنك كنت تحل وتربط لنفسك. «اندفوه» أيها الجنود بالقضبان السود، ولكن بهدوء، «لأن أبونا طبعاته حدين». وغمزهم، فعاود الخوري إلى الاعتراض، وقال: كيف أقبل هذا القصاص المحط من قدري الآن، وكنت في زماني أقف بوجه مطراني غير مهتم له ولا لأحد في الكون، وأيضا قد سافرت إلى أميركا من غير إذن، فكيف أنت الآن تعمل على إهانتي واحتقاري؟
فجاوبه المأمور: خذ المسألة برواق يا محترم، وافحص ضميرك، تجد أنك تستأهل القصاص، هل كنت تقوم بواجب الإنسانية نحو المنكوبين والضعفاء والفقراء، وتعزيهم في مصائبهم؟ هل أغثت يوما فقيرا ونشلته من مصيبته ولو مؤقتا؟ إن وظيفتك تقضي أن تكون للفقراء نصيرا، وللحزانى معزيا، وللخطاة موبخا، وللمرضى مسليا، وللمصابين مقويا، سيدك أوصاك بالكرز والإرشاد دائما بدون التفات إلى الماديات، فهل سرت حسب وصيته؟ لا أظن ذلك. كنت تسر كثيرا عندما تسمع الطعن والقذف بحق رصيفك الكاهن، وتلتذ مثل إذا «سقسقوا على بطنك موي باردة»، لماذا هذا كله؟ كم مرة صعدت على المذبح وقلبك كله حقد؟ كم مرة لبست وجهك بالمقلوب عندما تكون في الكنيسة؟ ولا تخاطب الناس إلا «بالنبر والقفط»؟ كم مرة ضربت الشماس «المعتر» لغير ذنب؟ أما يكفيه أنه خادم «بلاش»، نسيت لما كنت تنظر من تحت لتحت، عندما تكون الصينية دائرة على الجمهور لترى إذا كانت موفقة أم لا؟ نسيت لما كنت تأكل نصف القداس وتنهيه بربع ساعة؟ نسيت مزاحمتك أنت والخوري طاميش على تكبير الجرس حتى صيرت جرس كنيستك قنطارا ونصف قنطار؟ كم سببت بذلك تسقيط صدور الشبان الذين كانوا يبصقون الدم؟ كل ذلك من تكبير جرسك يا حبيبي، كم مرة ضربت الخورية بعصاة الغليون بدون شفقة ولا رحمة؟ كم مرة ذهبت لعند المطران ووشيت بالخوري روكز؟ كم من الأحزاب عملت؟ وكم من المشاكل أوجدت؟ وأهم شيء كان متمكنا منك العناد، العناد يا أبانا، كان من الواجب أن تكون رقيق الجانب، متساهلا متواضعا، تغفر لمن يسيء إليك لتستحق أن تدعى كاهن الله، كاهن المسيح، الذي هو معدن الوداعة والشفقة والحنان، «ولكن النبيدات كانوا عامينلك قلبك، كنت تشم ريحة النبيذ الطيب سفر سنة.»
فلما سمع الكاهن هذا الكلام، تنهد وطفرت الدموع من عينيه، وصار يقرع صدره ويقول: خطيئتي عظيمة أيها المأمور، إنني نادم على جميع خطاياي، اعفني من هذا القصاص. فأجابه المأمور: هذا غير ممكن، ما كتب فقد كتب.
فأجابه الكاهن: ما دام العفو محالا فإني أقبل القصاص إكراما لجروحات المسيح. فقال له المأمور: مثل ما تريد يا أبانا. حالا «ندفه» الجنود 14 جلدة مؤلمة أفقدته صوابه، فحملوه أخيرا إلى الداخل، وعادوا برجل حركاته كحركات «أبي زهرة». •••
فقلت لحنوش: لا شك أن هذا الرجل صحافي. قال: هو عند قولك. فلما وقف أمام المأمور أظهر الخضوع، وحياه تحية معتبرة، ثم لفظ خطابا وافتتحه بقوله: أطال الله بقاء مأمورنا المعظم وحاكمنا المكرم، ومتعنا بعدله وحلمه، فإنه - حفظه الله - معدن الرحمة والشفقة، كريم النسب، غيور ووطني صادق ...
فقاطعه المأمور بقوله: ما هذا «الطق الحنك»؟ هل تريد أن تنشئ جريدة هنا؟ أما كفاك تدليسا وتبخيرا في تلك الدنيا حتى جئت الآن تعيدها؟ هل تظن أن هذه العملة تسلك هنا كما تسلكها هناك؟ «ألبخوه» أيها الجنود 30 جلدة من قضبان الرصاص. فصرخ الصحافي وقال: العفو يا سيدي، فإني لا أعرف لي ذنبا يستحق هذا القصاص، هذا جزاء من كرس نفسه لخدمة العموم؟ يا الله ما هذا الظلم؟ فصاح به المأمور: اصمت يا ثعلب، إن ذنبك عظيم لا يغتفر، نسيت أنك قلت: إنني سأخدم وطني ومواطني الخدمة المنزهة، وأضحي مصلحتي الذاتية حبا بالمصلحة العمومية. ثم بعد مدة قصيرة أخلفت بوعدك هذا، وبعت مبدأك باشتراك واحد، كم مرة تظاهرت بالغيرة على الدين وأنت جاحد لا تؤمن بشيء؟ كم مرة اتخذت الطوائف وسيلة لتنفيذ غاياتك وترويج جريدتك عند البسطاء، وناديت: الأرثوذكسية قد أهينت، انهضوا يا قوم، وقفوا بوجه الجريدة التي تقصد إهانة الملة والدين؟
ثم تميل إلى جهة أخرى وتنادي بأعلى صوتك: يا بني مارون، إن الصحافي الفلاني قد أهان طائفتكم، أهان رؤساءها، كل ذلك لكي تلقي الشغب والفساد في الناس يا كاذب، كم مرة كتبت مقالات الطعن والقدح بقلمك وذيلتها بإمضاء سوري، أو وطني حر، أو «ب. ع.» أو «خ. ر.»؟ كم مرة خنت ضميرك وسكت - حبا بذاتياتك - عن المطالبة بحقوق الشعب الذي تجندت لخدمته؟ كم مرة تظاهرت بالغيرة على الوطنية ثم انقلبت عليها لما لم تجد فائدة مادية؟ أين مبدؤك؟ أين عهودك يا منافق؟ إذا كنت لم تخجل من القراء أفلا تخجل على الأقل من رصفائك، وتخاف من أن تصغر في عيونهم؟ أنسيت ادعاءك ومظاهرتك بالترفع، مع أنك كنت «أحمر من أبي حيط» لا تعرف كيف تفتكر ولا كيف تكتب، إن ثوب الغش والتمويه رقيق شفاف، فلا يلبث أن يظهر كل شيء تحته.
وأهم ما كنت تفعله النميمة، والمساعي الشريرة، والكذب، ومحبتك ضرر رصفائك، حتى كنت تشتهي لهم الموت ليخلو لك الجو - كفى كفى - نفذوا القصاص أيها الجنود بكل سرعة. فلما سقطوا عليه صرخ: «دخيلك أمان جانم»، إنني أتوب يا سيدي، أتوب، اعف عني، ارحمني، فإني لا أعود ثانيا إلى التدليس، ولا أغير مبدئي، ولا أكذب، ولا ... ولا ... فجاوبه المأمور: لا يلزمنا جريدة هنا، هذا الكلام كان يصح قبل الآن، امتنع عن الكلام وإلا ضاعفت لك القصاص. ولم ينهوا جلده حتى صار صاحبنا في عالم الغيب مما أصابه من الأوجاع؛ لأن الضرب كان بالأكثر على أصابع يده اليمنى التي كان يقبض بها القلم، فحملوه بعدئذ إلى الداخل. •••
وعاد الجنود ومعهم رجل مهاب، على عينيه نظارات، يمشي بتأن، فقلت لحنوش: من هذا؟ قال: أحد الأطباء.
ولما اقترب من المأمور قال: إنني أستغرب كثيرا يا حضرة المأمور من استدعائي للمحاكمة؛ لأن طبيبا مثلي حائزا على شهادة الدكترة بالطب، فضلا عن الألقاب العلمية مثل: «ب. ع.»، و«د. ف.» وما أشبه ذلك من الحروف ... لا يفعل شيئا يستوجب المحاكمة، فقد يصعب علي الوقوف هنا كمذنب، وأراني متأثرا جدا من هذه الإهانة التي لحقتني الآن.
فجاوبه المأمور بقوله: «لا تأخذ على خاطرك» يا جناب الدكتور، فلو لم تكن مذنبا لما كنت دعيت إلى الوقوف أمامي الآن، فإن التشكيات من أعمالك كانت تتصاعد إلى هذه الدنيا بتواتر من المرضى الذين كنت تداويهم، وخصوصا الفقراء منهم؛ لأنك ما داويت مريضا إلا «وتجيب آخرته» كونك لم تراع حالة الأشخاص، وظروف المكان والزمان، فكنت تصف الدواء كما تعلمته من المدرسة، بدون أقل فلسفة ولا تفكير بحالة المريض الوراثية، ومعيشته العائلية، فضلا عن حرفته وما يتعلق بها، وكثيرا ما كنت تصف الدواء قبل أن تتحقق المرض، مستخفا بحياة البشر الثمينة، التي كان يجب عليك - بعد أن عاهدت نفسك على القيام بهذه المهنة الشريفة - صيانتها والاعتناء بها، وإنقاذها من الأمراض على قدر استطاعتك.
فأجابه الطبيب: إن ما بلغك أيها المأمور هو غير صحيح، واسمح لي بأن أقول لك: إن في قولك مبالغة.
فأجابه المأمور: إن ما أقوله حق، وليس فيه أقل مبالغة، ولا لزوم للأخذ والرد، فقد حكمت عليك الآن بجزاء ...
فقاطع الطبيب المأمور بقوله: قبل أن تحكم علي أيها الفاضل تبصر بالأمر جيدا؛ لأنني - كما سبق القول - بريء مما اتهمت به، وإذا كنت لم تزل بريبة من قولي، فيمكنك أن تختبرني بأحد المرضى هنا، فإذا وجدت بعدئذ في قصورا وعدم خبرة في فن الطب فلك ما تريد من القصاص، فإذا أجبت سؤلي وليتني ممنونية كبرى.
فقال المأمور: «أستغفر الله يا دكتور»، فإن ما طلبته عدل. والتفت إلى الجنود وقال لهم: اذهبوا وأحضروا ذاك الرجل المريض المرتمي في الداخل. وفي الحال أتوا برجل ذي هيئة كئيبة من الخمول، عيناه كبرك الدم، ووجهه منتفخ ذو احمرار مائل إلى الزرقة، رجلاه ضخمتان، وعلائم الانحطاط بادية عليه، فقلت لحنوش: من هذا المصاب بهذه العاهات؟ قال: هذا أحد المدمنين على شرب المسكر.
ولما اقترب العليل أشار المأمور إلى الطبيب لكي يفحصه بتدقيق، ولا «يتحجج» بشيء، فإن كل لوازم التطبيب كالسماعة والقراعة وميزان الزئبق وغيرها موجودة.
فاقترب الطبيب، وأخذ يفحص العليل، وبعد أن تمم ذلك التفت إلى المأمور وقال: إن العليل مصاب بداء الزهري.
فنظر إليه المأمور مبتسما وقال: غلطان يا جناب الدكتور. دقق جيدا بالفحص، فأعاد الطبيب ثانيا ثم قال: لا يستبعد أن يكون داؤه مرض النقرس؛ لأن هذا الداء يشبه ببعض أطواره داء الزهري.
فأجابه المأمور: إذن لم تتحقق للآن مرض العليل؟
فقال الطبيب: لا أخفي - حضرة المأمور - أن الأمراض الباطنية تصعب معرفتها قبل أن تجرب فيها الأدوية.
أجابه: إذن تريد أن تداوي المريض «عالخيري»، ما شاء الله يا حضرة الدكتور. فقال الطبيب: اسمح لي لأعيد الفحص مرة أخرى وأدقق جيدا.
أجابه: لك ما تريد يا دكتور، بشرط أن تكون هذه المرة هي المرة الأخيرة.
وبعد أن أعاد الفحص للمرة الثالثة، وقلب العليل ظهرا لبطن، «وحرق مسينو بالمقلوب»، قال: أظن أن مرضه غير قابل للشفاء، نظرا لتراكم ال...
فحالا قاطعه المأمور بقوله: كفى، كفى. «بينت غزلتك». هل لك بعد هذا أن تكذب ما قيل عنك إنك دجال، وكل بيت تدخله يتبعك إليه عزرائيل؟ هل تظن أن المدرسة والألقاب تصنع أطباء؟ ليتك تعلمت الدباغة لكان أفيد لك، فإن للطب أناسا خلقوا له وهو خلق لهم.
ولكي أبين لك ماهية مرض هذا الرجل، سأحضر في الحال الطبيب القانوني الماهر الدكتور «شمروخ»؛ لكي يفحصه أمامك، وينبئك عن مرضه، ثم يشرحه لترى الأعضاء المصابة بأم عينك، وبعد ذلك أنفذ الحكم عليك قصاصا لك، وعبرة لسواك.
فبهت الطبيب، واصفر لون وجهه، وألقى بنظره إلى الأرض.
وأرسل المأمور حينئذ، ودعا الدكتور شمروخ، فحضر للحال، وأمره بفحص المريض ففحصه حالا، وقال: إنه مصاب في كل أعضائه الرئيسية بالتهابات حادة، وأسباب ذلك معاطاته المسكر.
فتنحنح المأمور والتفت إلى الطبيب «ب. ع.» وقال له: ما رأيك؟
فجاوبه بنظرة من «تحت لتحت» بدون أن يقول كلمة واحدة.
وبعد ذلك صرخ المأمور بالسكير، وقال له: أيها الشقي المجرم، إن جزاءك الآن التشريح، حتى تكفر عن ذنبك بإفادة الطب، بتمثيل أعضائك الداخلية للعيان.
فصاح المسكين قائلا: ارحمني أيها المأمور المحترم، إنني نادم من كل قلبي.
فأجابه المأمور: تطلب الرحمة يا شقي، كنت ترحم على الأقل امرأتك وبنيك، عندما كنت تتركهم النهار بطوله بدون زاد، وتأتي في المساء «عميان» من السكر، فتطعمهم بدل الخبز ضربا ولكما، وبدلا من أن تقابلهم بالكلام اللين والعاطفة الأبوية ، كنت تنفجر كالبركان بالسباب والشتائم والقول المعيب، حتى اضطررتهم أخيرا إلى التسول، وقدتهم إلى التعاسة، وجعلتهم من أولاد الأزقة، وصيرت امرأتك التي يجب أن تكون وإياها جسدا واحدا، بحالة لا يرضاها لها العدو فضلا عن الصديق، وفوق كل ذلك فقد هدمت بناء جسدك بما أدخلته فيه من الكحول، وجعلته أن يتلاشى وينحط، الأمر الذي ألبسك جناية القتل.
فقال السكير وهو يتلعثم: إنني أتوب يا سيدي، اعف عني، فإني لا أعيدها مرة ثانية، «وعيب علي» إذا كنت أذوق العرق بعد أو النبيذ أو الكاشاصا أو الويسكي، وغير البيرا وقليل من الفرموت قبل الأكل لا أشرب، فأشهد علي بذلك، والله خير الشاهدين.
فقال له المأمور: «إنشا الله تضل بخير». وحالا أمر الجراح بتشريحه، وبأسرع من لمح البصر بنج الجراح السكير، ومدده على طاولة، وشقه من أعلى صدره إلى أسفل بطنه، ثم نادى رصيفه لكي يساعده، وينظر إلى العلل التي أورثها شرب المسكرات، فأول ما تناول فحص الرئة، فكانت متكمشة من الخلل الحاصل من وقوف حركة الدم فيها، وعدم تمكنها من الحصول على الهواء النقي، لانسداد شعبها، وفي أثناء الزفير والشهيق كان يسمع صوتا كصوت الصفارة تماما، وكان لون الرئة قاتما قبيحا.
ثم مد يده إلى القلب فوجده مضطربا، وضرباته غير منتظمة، وهو أشبه بحالة صاحبه المتعبة، ثم فحص المعدة فوجدها مفحمة محترقة من تأثير الكحول عليها، وهي لا تقوى على هضم الطعام، فتتركه للأمعاء بدون أن تأخذ منه شيئا مما يحتاجه الجسم من الغذاء.
وبعد ذلك أخذ بفحص الكبد، ذلك العضو الكبير الحجم، والأكثر قبولا لأضرار المسكر؛ نظرا لقربه من المعدة، فوجد الالتهاب قد تطرق إلى كل أجزائه، وأصبح منظره مخيفا، وهو أشبه بكتلة من اللحم المنتن الفاسد.
ثم فحص دم العليل فوجد المادة الليفية ضعيفة فيه؛ ولذلك لا يمكن لهذه المادة بعد أن تمسك قوام الدم في حالة نزفه، ولو كان من أصغر جرح في الجسم.
وفي أثناء العملية تصاعدت رائحة كريهة من جوف السكير، ملأت المكان حتى تعسر على الناس التنفس؛ ولذلك سمع صوت من الداخل يقول: «ما هذا يا حضرة المأمور؟! فقد زهقت أرواحنا من هذه الرائحة الكريهة، وصرنا نخاف أن تتفشى الأوبئة بيننا، فاعلم أن المسئولية عليك وحدك.»
فالتفت المأمور إلى الداخل وقال: من هذا الذي تجاسر ورفع صوته؟ فقال جندي: إنه أحد المحامين. قال: تحفظوا عليه ريثما ننهي محاكمة الطبيب.
وأخاط الجراح جراح السكير، وعمل كل ما هو واجب لحفظ حياة العليل، ثم تحول إلى فحص الرأس، فشقه من الجهة الخلفية، فظهر الدماغ للعيان يشبه خارطة مرتسما عليها خطوط وزوايا وتعرجات وعلامات.
فقال الجراح لرصيفه: انظر كيف فعل الخمر بالرأس، انظر كيف أن خطوط الفطنة والإدراك قد فقدت بالكلية، وزوايا الحافظة قد تكسرت، انظر الاضطراب الحاصل فيه، انظر إلى الأوعية الدموية كيف هي مائتة، ومكان العقل فيه قد صار في ظلمة مدلهمة، وقد أصبح كدماغ الخنزير تماما.
وبعد هذا كله ضمد الجرح، وأعاد كل شيء إلى حاله الأصلي، ومنع البنج عن السكير، فأفاق وهو غير شاعر بشيء، إلا أن المأمور أمر بأن تفرك جراحه بالملح قصاصا له على ما أتاه من الذنوب والمعاصي من جرى إدمانه على شرب المسكر.
فنفذ الجنود الحكم على التعيس، وهو يصرخ ويستغيث، ولا من مغيث، ثم حملوه إلى الداخل، وذهب الدكتور شمروخ من حضرة المأمور، وبقي الطبيب المذنب وحده، ففاتحه المأمور بقوله: كيف حال الدكتور بعد هذا الفحص؟ أين شهادتك؟ أين «ب. ع.» و«بلوط»؟ قد حكمت عليك بخمسين حقنة مورفين تحت الجلد، وإن فهت بكلمة واحدة جعلتها مضاعفة.
فعض الدكتور على إصبعه، وبكى بكاء مرا، ثم قال: هذا جزاء الكسل والإهمال، فإني أستحق القصاص، وبعد هنيهة أتوا بالحقن، وابتدءوا بحقنه، فتخدر جسمه وتورم، ولسان حاله يقول: طابخ السم آكله. •••
بعد هذا نظرت إلى حنوش، ذلك الصديق المحبوب، وقلت له: يا أخي حنوش، إن أمثال هذا الطبيب كثيرون على الأرض، فإن الواحد منهم يكتفي بالحصول على شهادة المدرسة التي يتعلم فيها، ولا يعود بعد خروجه منها يتعب نفسه بالدرس والتنقيب والتمرين لاكتشاف المفيد من العلاجات لتخفيف ويلات البشر.
كم كنت أرى الطبيب يدخل إلى بيت العليل بوجه عبوس، وجبهة قاطبة، كأنه ذاهب إلى خصام وقتال، فيسرع حالا إلى جس نبض المريض، ثم يطلب منه مد اللسان، فيراه وقبل أن يحقق جيدا ما هو مرضه يأخذ القلم، ويكتب الوصفة على التخمين، ويذهب غير ملتفت إلى جسم المريض، إذا كان بحاجة إلى غسل وتنظيف، ولا يستفحص عن المأكول والمشروب الذي يأكله، ولا عن المسكن إذا كان صالحا لإقامة المريض فيه، ولا يتحرى الأسباب التي قادت الشخص إلى المرض ويمنعها، ولا يوصي أهل البيت بضرورة تجديد هواء غرفة المريض، ومنع الاجتماعات عنده وكثرة اللغط والتدخين؛ كل هذه الأمور المهمة يهملها الطبيب جانبا، ويتكل على ملعقة الدواء! فماذا تنفع الأدوية إذا كان لا يمنع أسباب الأمراض، ويساعد المصاب على إزالتها؟! فالعقاقير الطبية مهما كانت خالصة من الغش نافعة، فإنها لا تفيد شيئا إذا لم تقرن مع المعيشة «الهيجينية»؛ أي: الاقتصار على المآكل البسيطة المغذية، واستنشاق الهواء النقي، والسكن في الأمكنة الجيدة المناخ، مع نظافة الجسم وإراحة العقل، والرياضة الخفيفة.
كل هذا يا حبيبي حنوش هين بجانب مداواة الأطباء للفقراء، قد يداوونهم ويطببونهم، ويكتبون في الجرائد وعلى أبواب بيوتهم أنهم يداوون الفقراء مجانا. نعم، يداوونهم مجانا ولا أنكر ذلك، ولكن كيف تكون هذه المداواة وأين؟ هل يذهبون إلى بيوتهم كما يذهبون إلى بيوت الأغنياء؟ كلا، بل يجب على المريض الفقير - مهما كان مرضه - أن يذهب إلى محل عيادة الطبيب، مسكين ذلك الفقير المصاب بذات الرئة أو بالحمى، فإنه يلتزم أن يترك فراشه، ويذهب ماشيا على قدميه المائتين والهواء البارد، ينشر عليه عباءة من القشعريرة فتزيد في مرضه، مسكين الفقير المصاب بداء المفاصل المضطر إلى المداواة، فإنه يذهب متوكيا على عصاه، تسنده أمه أو امرأته أو ولده، ويذهبون به إلى المداوي الذي يكتب له الوصفة من غير أن يعزيه بكلمة أو يطمنه بابتسامة، فيأخذ المسكين زجاجة الدواء معه ظانا أنه أتى بترياق الحياة، فيصل إلى بيته منهوك القوى ، لا يقوى على الكلام، ثم يأتوه بملعقة ربما تكون بيد الأولاد يلعبون بها في الأرض، أو تكون من نحاس وعليها الصداء المسم، فيتناول بها الدواء لجهله، ويتركها على كرسي أو يرمي بها على طاولة قذرة فتتلوث بالجراثيم؛ فيزيد بذلك مصاب العليل بزيادة العلل، وقد لا يكون عنده قدح من الزجاج ليشرب به، فيستعمل الوعاء الذي تستعمله العائلة، ويكون مع هذا كله نائما على فراش ناشف في غرفة مظلمة، يوقدون فيها النار ويشعلون في الليل قنديلا من زيت البترول، وينام فيها أكثر من أربعة أو خمسة أنفس.
مسكين الفقير الذي يصاب بألم الأضراس، فإنه لا يجد من يداويه ويخفف عنه أوجاعه المرة؛ لأن أطباء الأسنان لا يداوون الفقراء مجانا، فبعد أن تنكد عيشه الأوجاع يذهب إلى أحد الحلاقين، فينزع له ضرسا أو ضرسين في وقت واحد، فيخسر بذلك أهم عضو في جسمه، ويفرط عقد أسنانه الذي عليها تتوقف لذة الحياة، وجمال الوجه، وراحة المعدة، وحسن التغذية.
تصور يا عزيزي حنوش هذه الحالة المحزنة، وقل: مسكين الفقير الجاهل، مسكين؛ ما أشقاه عند حلول المرض على جسمه، مسكين الفقير الذي يكون في بلاد ليس في رؤسائها وحكامها وأطبائها رحمة ولا شفقة، فقد يداس ويسحق.
هذا، ولا أنكر أنه يوجد بعض الأطباء ذوي عواطف شريفة، تطفح الرحمة من قلوبهم، برعوا في مهنتهم، فلا يصفون الدواء قبل تحقيق الداء، فيطببون الفقير بعناية كما لو كانوا يطببون الغني، وكثيرا ما أنفقوا من جيوبهم ثمن الدواء، وسعوا في ترغيب الفقراء الذين يخافون من المستشفيات وذكرها - لاعتقادهم أن من يدخل إليها لا يخرج منها إلا مائتا - إلى الذهاب إليها؛ لأنها أصلح للمعالجة من البيوت، ولكن هؤلاء الأطباء الرحماء قليلون. •••
بعد أن حملوا الطبيب إلى الداخل، أمر المأمور بإحضار المحامي الذي تجاسر على الكلام في أثناء محاكمة الطبيب، فذهب بعض الجنود لإحضاره، وبعد هنيهة عادوا وهم يقولون: إن المحامي عاص، لا يريد أن يحضر إلى هنا، فقد تطاول على مقامكم بالكلام، ونسب إليكم الظلم والاستبداد والإخلال بالحكم. فأمر بإحضاره بالقوة الجبرية إذا تمنع ثانيا عن الحضور، فدخل الجنود ثانيا، وكان قد اجتمع حول المحامي أكثر رصفائه المحامين، وتعصبوا ضد الجنود، ولما وجد الجنود ذلك استعملوا القوة، وأتوا بالمحامي وهو يصرخ ويصخب، ويقول: إنني لا أقبل بحكم المأمور؛ لأنه ظالم شرير مستبد، أريد أن أميز الدعوى إلى المحكمة العليا.
ولما أوقفوه أمام المأمور انتهره هذا بقوله: إني سأزيد بقصاصك أيها الوقح لمخالفتك النظام، ولتطاولك علي بالكلام، ولعصيانك الجنود، ولما سببته من الشغب، وخرق حرمة النظام، هل تظن أنك تقدر على استعمال وظيفتك في هذه الدنيا كما كنت تستعملها على الأرض «طويلة على دقنك»؟ فأجابه المحامي: إن الحرية المعطاة لنا من لدن الخالق تخولنا أن نطالب بحقوقنا أينما كنا، ومهما كنت مستبدا فلا تقوى على إسكاتنا والضغط علينا، أنت ظالم أيها المأمور، أنت غشوم.
فتأثر المأمور لهذه الإهانة، وصاح: كتفوه أيها الجنود، واضربوه «بنبوت الغفير» خمس ضربات. فصرخ المحامي ورفس الأرض وقال: إن الضرب للبهائم، لا «للأوادم»، احذر من أن تنفذ هذا القصاص علي؛ لأنه مخالف للشريعة، هل تظن أنك تقدر على أن تسوق الكل بعصا واحدة، ألا تعلم أن المحامين - ولو كانوا بعض الأحيان يستعملون الحيل والمواربة - هم دعامة الأمة ورجالها العظام؟! انظر إلى كل الحكام والوزراء والقضاة في العالم، فإنهم كلهم كانوا محامين، تيقظ جيدا فإن البند الماية والسابع والأربعين من القانون يجعل لي الحق بتمييز دعواي، والقساوة التي استعملتها نحو الأنفس قد هيجت في القلوب نار الثورة، التي ربما لا يتمكن أحد من إخمادها إلا بعد أن تسيل الدماء أنهارا.
فالتفت المأمور إلى الجنود وهو متهيج بالغضب، وقال: انزلوا عليه بنبابيت السنديان القاسية. فسقطوا عليه حالا وهو يصرخ: فليمت الاستبداد، فليسقط المأمور، ولتعش «الأبوكاتية».
وفيما هم على هذه الحالة، إذ سمع صراخ وصياح في الداخل، ثم تعاظم كثيرا، وكنت أسمع هذه التقاطيع: فليمت المأمور، فليسقط الظلم والظالمون. حينئذ أقبل أحد الجنود يرتجف خوفا وهو يقول: ثورة يا سيدي المأمور في الداخل، قد أصلوا نارها «الأبوكاتية» انتقاما لرصيفهم الذي أمرت بضربه، قد هيجوا الأنفس كلها بما ألقوه من الخطب الحماسية ضدك، والحالة حرجة جدا، فأسرع لتدارك الأمر قبل استفحاله.
فوقف المأمور مذعورا، وأمر بالنفير، فاجتمع الجنود من كل جهة، ولما وجد أن الحالة زادت خطارة أعلن الحكم العرفي، وقال: ويل للمحامين، ويل للمنافقين ... أما كفاهم قلة دين وتلاعب بحقوق البشر على الأرض حتى اتصل بهم الأمر إلى إقلاق الراحة، وتهييج الأنفس في هذه الدنيا أيضا، إنني «سأربي القمل في رءوسهم».
ولم يمض إلا القليل من الوقت حتى اشتبك الجنود مع الثائرين، وعلت الضوضاء، وتواترت الطلقات النارية، وصار الجنود يلقون القبض على كل من يرونه أمامهم، فوقعت الرعبة في القلوب، وتعاظم الخطب، وانقطع التواصل بين الأنفس. •••
فأسرع حنوش ومسكني بيدي وقال: اتبعني بعجل حتى لا تصاب بمكروه؛ لأن الحالة حرجة، والأحكام العرفية شديدة الوطأة. فذهب بي إلى مكان ساد فيه السكوت، فشعرت بانشراح بعد تلك الشدة، ثم قال لي: أنت الآن يا أبا الأجران مشرف على طريق السعادة، وسترى أجواق الصديقين صاعدة فوق هذه السحب البيضاء الجميلة إلى العلى، حيث السعادة الدائمة، فإني سأتركك برهة وأعود إلى المكان الذي كنا فيه لأرى ماذا جرى بأمر الثورة.
فقلت له: إياك تهملني يا صديقي حنوش، فإني أخشى أن تذهب وتتركني قبل أن أحاكم. فقال: هذا لا يمكن، فإني سأعود إليك قبل أن أذهب إلى أرضكم لجلب الأرواح. فقلت له: أيها الصديق الذي ليس في صداقته غش، إذا كلفتك بغرض ما هل تتمه لي؟ أود أن أبعث معك رسالة إلى صديق لي على الأرض اسمه فنيانوس، وأظنك ما نسيته، فإنه ذلك الشاب الذي كان يبكي ويتفجع ساعة موتي، وقد وعدته بأن أطلعه على بعض ما يحدث لي في هذه الدنيا، والآن أحب أن أكتب ما شاهدته، فهل لك أن تفعل معي هذا الجميل وتنقل إليه رسالتي.
قال: إن طلبك هذا صعب المنال يا أبا الأجران؛ لأن المراقبة شديدة على الملائكة الذين يذهبون إلى أرضكم، فكم من الناس غيرك حاولوا إرسال بعض الأخبار عن هذه الدنيا إلى تلك الديار ولم يفلحوا، ولكن ... ولكن اكتب أنت الآن ما تريد أن تكتبه، وبعد عودتي ننظر في الأمر، لعلنا نهتدي إلى طريقة تكون سليمة العاقبة.
بعد هذا ذهب حنوش وبقيت وحدي في ذلك المكان الجميل، الذي لم تر عيني أبهج منه، فأخذت أكتب وقد جادت قريحتي، وصار فكري يسبق قلمي بسرد الحوادث وتبيانها، وبقيت مجدا في التحرير إلى أن سردت كل ما جرى لي، وما رأيته من اليوم الذي فارقتك فيه إلى الآن، وفيما أنا أكتب كنت أسمع أصوات الصاعدين إلى العلى من الناحية اليمنى، يرتلون ويترنمون بالتسابيح المطربة الشجية، وقد حجبت عن ناظري الغيوم البيضاء رؤية هؤلاء الصديقين السائرين مع السحب نحو السعادة، وهذه الأنغام الرقيقة المنعشة للنفس كانت كأصوات الأجراس التي تقرع في ليلة ذات أرياح، فتارة تقوى وتارة تضعف تبعا لسير الرياح، وتترك في الفضاء الواسع صدى حفيفا لتلك الأصوات الجميلة.
وكانت أصحاب تلك الأصوات تتراءى كالأشباح من وراء السحب الشفافة بأثوابها البيضاء، وما أشبهني في هذا الوقت بصاحب الرؤيا الغريبة.
وفيما أنا على هذه الحالة سمعت من الجهة الخلفية صراخا وضوضاء، فأيقنت أن الثوار قد أقبلوا إلى هذا المكان، فارتعدت فرائصي، واضطربت بكليتي، وأصابتني في الحال قشعريرة، واستولى علي الخوف لوجودي منفردا في هذا المكان، فوقفت مكاني رافعا نظري إلى فوق، فشاهدت عن بعد سحابة بيضاء سائرة نحو العلى، ملتفة حول جوقة ترنم وتسبح بأصوات منعشة رخيمة، وكانت من أطرب ما سمعته أذني، وشد ما كانت دهشتي عندما ظهر لي من خلال تلك السحب راهبات جاثيات، متشحات بالبياض، وعلى رءوسهن الأكاليل، رافعات أيديهن إلى العلى، ومن شدة بهجتي وسروري بمرآهن الملائكي، صرخت وأنا على هذه الحالة المطربة، تعالي إلي أيتها العذارى الطاهرات، اقتربن مني وأبعدن عني الخوف والفزع، اقتربن يا من كنتن رحمة للإنسانية، فإن بقربكن شجاعة لي وقوة. ولما سمعن ندائي اقتربن قليلا، وهن ملتفتات إلي بوجوههن الطافحة بشرا ومحبة، وقلن: تشجع أيها الأخ ولا تخف، فإنك في مكان أمين.
وما كدن ينهين كلامهن حتى صعدن إلى الأعالي ببطء وهدوء، فرفعت يدي وصرخت بأعلى صوتي: قفن أيتها الصديقات، قفن لأمتع نظري بمرآكن المعزي، طوباكن يا ذوات الشفقة والحنان، أما كفاكن أتعابا على الأرض بحملكن مصائب البشر، حتى جئتن إلى هنا وكنتن سببا لتحفيف ويلاتي وتشجيعي. قفن قليلا لأسبح معكن الخالق لعله يستجيبني ويخلصني. مهلا أيتها النقيات، ولا تتوارين عن نظري بسرعة، مهلا يا من كرستن ذواتكن لفادي البشر، وكنتن على الأرض رحمة للعالم، إن السعادة لمثلكن، يا من وجدتن في محيط لا يعرف إلا كلمة أنا، أنا، كل شيء يتطلبه لنفسه، فلا يشبع ولا يرتوي، أعمته الأنانية، وجعلته يدوس أخاه في الإنسانية، ولا يبالي بسقوطه، فكنتن بين هذه الخشونة تنادين ليس لنا بل للفقير، لليتيم، للبائس، للمتوجع، للمنقطعين، للمرذولين من الهيئة، للإنسانية أجمع، لا تتطلبن شيئا إلا القوت.
آه ما أشرف عواطفكن وأرق إحساساتكن! كم جبرتن من القلوب المنكسرة بكلامكن المعزي! كم داويتن من المرضى الذين تركوا من أهلهم وأصدقائهم وكنتن لهم خير مواس وأكبر معين! كم وقفتن على الأبواب متسولات مستعطيات لتطعمن اليتامى الفقراء! كم كنتن تذهبن إلى المقابر، وتجثون على قبور المنقطعين وتصلين عن نفوسهم، وتضعن من زهور الحقل ضمات على تلك القبور العارية فتنعشنها! أنتن إذا نظر إليكن الجاحد الذي لا يؤمن بالثواب والعقاب يعود إلى الإقرار بذلك، إذ يسمع صوتا في قلبه يقول له: من المستحيل أن تذهب أعمال كأعمالكن في العالم الآتي بدون جزاء، فإذا كان لا يوجد ثواب وعقاب، فلا فرق إذن بينكن وبين من كرسن ذواتهن للرذيلة والفحشاء.
طوباكن، طوباكن يا من كنتن قدوة طاهرة للفتيات. طوباكن يا من أنكرتن ذواتكن ونذرتن الفقر الاختياري حبا بالله والقريب. اصعدن إلى الأعالي واجلسن في الأماكن المعدة لكن، اصعدن وصلين لأجل أبي الأجران هذا الخاطئ الرافع يديه الآن نحوكن؛ لكي يكون معكن يوما يسبح الله ويمجده، صلين لأجل أخي فنيانوس كي لا يحيد عن سبل الحق. اطلبن من الرب؛ لأن طلباتكن مستجابة لكي يلهم من بيدهم الأمر والنهي في العالم ليتجنبوا أسباب الحروب المخيفة. اطلبن على الأخص لكي يسكب على قلوب ولاة أمورنا نعمة العدل؛ لترتفع عن عاتق الرعية المظالم والمغارم. تضرعن لأجل المهاجرين السوريين المتفرقين في أربعة أقطار المسكونة؛ كي لا تنطفئ في قلوبهم نار المحبة لبلادهم، حتى يعودوا يوما إليها، ويشفوا قلوب والديهم من لوعة الفراق. اطلبن للشبان منهم سلامة من الأشراك المنصوبة لهم التي تجلب الأمراض والعاهات؛ ليعودوا أيضا إلى أرض لهم فيها من هن بانتظارهم ليكن لهم شريكات في الحياة ...؟
تضرعن لأجل وقوف المهاجرة السورية عند حد، فقد أصبحت البلاد خالية خاوية من الرجال، وكل ذكر من سن الخامسة عشرة إلى سن الخمسين قد هجر البلاد، إنها لحالة مخيفة ومحزنة معا لم يدون مثلها المؤرخون.
ولبثت رافعا نظري وباسطا يدي، ومناديا إلى أن توارين عن عيني، فالتفت إلى الوراء وأنا أمسح دموعي المتساقطة، وأتنهد تنهدات عميقة، وقد نشف ريقي من كثرة النداء، فرأيت حنوش قادما، ولما وصل ورآني على هذه الحالة المؤثرة سألني عما أصابني، فأخبرته بالأمر، ثم قال: هيا بنا لنعود إلى المكان الذي كنا فيه كي تنتظر المحاكمة، وأخبرك أن الثوار قد فازوا ببعض مطاليبهم، وعين مأمور جديد غير ذلك الذي سبب الثورة بكثرة ضغطه وقساوته، واعلم يا أخي أبا الأجران أنه لولا الثورات لما استقامت حكومة، فإن الثورة في أكثر الأحيان تكون دواء شافيا من مرض الظلم والجور، أنا لا أنكر أن ذلك المأمور المعزول كان طيب القلب، ولكنه كان قاسيا لا يرحم ولا يشفق، وقد استعمل الضرب والجلد في الوقت الذي أبطل في كل مكان، واستعيض عنه بالعقوبات غير المؤذية.
وقبل أن نترك هذا المكان سمعنا أصواتا كالأصوات السابقة، صادرة من بين الغيوم، فالتفت إلى مصدر الأصوات، فرأيت أجواقا محمولة على السحب رافعة أعلام الصليب الأحمر، فصرخت ثانية وبسطت يدي نحوهم وقلت: أنتم أيضا تستحقون السعادة، أنتم يا من انضممتم تحت رسم الصليب، وخضتم الحروب لتخففوا ويلاتها، باستحقاق وعدل نلتم السعادة يا من خدمتم هذه الراية الشريفة، هذا الرسم الذي تطمئن لرؤيته القلوب، وترتاح إليه النفوس، فسلام وألف سلام على مبادئكم السامية الشريفة وعواطفكم الرقيقة. •••
ثم رجعت مع حنوش إلى المكان السابق الذي كنا فيه، فوجدنا الحالة قد انتظمت وعاد كل شيء إلى مجراه، وكانت الجنود في تلك الساعة تستعد لاستقبال المأمور الجديد الذي يرجى أن يكون رحوما شفوقا، حتى لا أنال منه ما كنت أتوقعه من المأمور السابق؛ لأنني - كما تعلم - كنت من الذين تعاطوا المسكرات ومن محبي «الدمعة».
وقد هيأت هذه الرسالة وتوسلت إلى حنوش لكي يوصلها إليك، فقبلها بعد أن تردد طويلا، ولي تمام الثقة بوصولها ليدك.
وسيذهب حنوش قبل أن أتحاكم، ولا أعلم ما الذي ينالني من القصاص، فادع لي وصل لأجلي وزر قبري كلما سنحت لك الفرص، فإني أشعر من هنا براحة.
والآن أستودعك الله يا فنيانوس الحبيب، يا أعز الناس إلي، أستودعك الله إلى وقت نلتقي فيه في هذه الدنيا؛ حيث نكون معا في السعادة. ابتعد عن كل ما يحرمك إياها، لا تسكر ولا تظلم، كن شفوقا مخلصا محبا للجميع، لا تحرم المحتاج من مساعدتك، كن قويا نشيطا ذا ضمير حي، حافظ على صحة جسدك كما تحافظ على صحة نفسك؛ لكي تعيش سعيدا على الأرض، لا تهمل واجباتك، اصنع البر وساعد على إنماء الفضيلة وحارب الظلم والظالمين.
هذه وصيتي لك، وسلامي إلى جميع السوريين المحبوبين، وخاصة إلى أم موسى التي لها علي أتعاب «وشوتفة».
وأختم رسالتي بتقبيل وجنتيك تكرارا.
أخوك بالرب
شعيا أبو الأجران
عن عالم البقاء، في 1 كانون الثاني سنة 1905
القسم الثالث
فنيانوس يناجي أبا الأجران
من أين لي الآن أن أجاوبك يا حبيب القلب، يا أبا الأجران، على رسالتك التي هبطت علي وأنا سائر للنزهة في ضواحي سان باولو، فأنا أشكر لك اهتمامك بأخيك فنيانوس بإرسالك هذه الرسالة التي لم يسبقك إليها أحد من قبل.
لما وعدتني قبل فراقك هذه الدنيا بأنك ستجتهد وترسل شيئا من تلك الدنيا إلى هذه، ما كنت أتوقع أن يتم ذلك، وقد تم الآن ما كنت أحسبه محالا ووفيت بوعدك.
إن محبتك لأولاد وطنك واهتمامك بهم في هذه الدنيا وفي الآخرة، وإفادتك للعالم أجمع عما يحدث للبشر في عالم البقاء قد خلد لك ذكرا أبديا، فطوباك يا حبيب القلب طوباك، إنني سأسير بحسب وصيتك وأذكرك على ممر الدقائق والساعات. •••
آه لو أتمكن من إعلامك عن حالتنا الحاضرة، وما جد عندنا من الأمور وما صارت إليه النزالة السورية في هذه البلاد! آه لو يتيسر لي ذلك؛ لأنني أعلم شدة رغبتك في الاطلاع على أحوال إخوانك الذين فارقتهم قبل الأوان وربيت الحسرات في قلوبهم.
أين عيونك تنظر الآن حالة جرائدنا وجمعياتنا ومطابعنا ومدارسنا وكنائسنا وتجارتنا، وقد كثر إنشاء الجمعيات في كل مكان، فمنها تموت قبل أن تخلق، ومنها تعيش أياما قليلة ثم تموت، ومنها يحصل لها غيبوبة مدة من الزمن ثم تعود وتفيق، ومنها موجودة بالروح، ومنها باقية في قيد الحياة تعارك الأيام والأيام تعاركها، ولا بد من نتيجة من وراء هذه الحالة التي هي درس وتعليم.
ومن الجمعيات التي لا يخشى عليها من السقوط الجمعية التي تعرفها، وهي الجمعية الخيرية المارونية؛ فقد ارتبطت ببعض المشاريع المهمة، مثل إنشائها صاحبتك جريدة المنارة، وإنشاء المدرسة واعتنائها بتشييد الكنيسة التي تمت في السنة الماضية على أحسن هندسة وترتيب؛ فلذلك قلت: لا يخشى عليها من السقوط، وهذا لا يمنع من أن أقول إنه يوجد بعض التهاون في كثير من أمورها يجب ملافاته بزيادة السعي في سبيل الخير، الذي هو أقوم سبيل يصل بالإنسان إلى الكمال والسعادة الحقيقيتين.
ومن الجمعيات الحية - والتي غايتها دينية محضة - الأخوية المارونية، وجمعية القديس نيقولاوس في عاصمة البلاد، وأظنك ما نسيتهما، فكل واحدة منهما مهتمة ببناء كنيستها، وربما في الوقت القريب تباشر العمل.
أما جمعية الشبان السوريين، فهي لم تزل باقية كما تعهدها، وقد زاد فيها أنها سعت في فتح مدرسة هي الآن في سن الطفولية؛ لأن رغبة السوريين في تثقيف أولادهم قليلة، وهي حالة تستوجب الأسف.
وقد تأسس من مدة مجلس ملي في سان باولو للروم الأرثوذكس ، غايته القيام بالشئون الدينية، وقد اجتهد وسعى بإنشاء كنيسة للطائفة، وقد تم بناؤها الآن.
ويوجد في أكثر القرى الكبيرة جمعيات للسوريين، مما يدل على تنبه الأفكار في هذه الأيام، وميلها إلى العموميات.
أما جرائدنا فهي الآن تعد على أصابع اليد، كما كانت في زمانك، ف «المناظر» يصدر الآن مرتين في الأسبوع بدون انقطاع وبكل نظام، وقد أصبحت مطبعته من المطابع المستعدة؛ نظرا لما فيها من المعدات، فهي تطبع الكتب والجرائد والأوراق على اختلاف أجناسها، إن كانت بالعربية أو بالبرتغالية؛ ولذلك قد أصبح «المناظر» معززا من كل الوجوه، وصار ينتظر منه بعد هذا الإفادة المطلوبة للسوريين المهاجرين وللوطن.
و«صاحبك الصواب» لم يزل كما تعهده يصدر أسبوعيا مع زيادة في مادته، ومطبعته مستوفية الشروط، مستعدة لطبع كل ما يأتيها من الكتب والجرائد وغيرهما، وبالفكر مضاعفة صدوره وربما يصدر يوميا.
والمنارة التي تصدرها الجمعية الخيرية المارونية قد أصبحت من الجرائد المهمة، وهي باقية - على ما تعهد - أسبوعية، وفي النية تكبير حجمها حتى تزيد فائدتها وتعم منفعتها.
وجريدة العدل كذلك - كما تعهدها - تصدر كل أسبوع بدون انقطاع.
وقد صدر بعد موتك بمدة قصيرة جريدة اسمها «الأفكار»، وهي وارثة جريدة «البرازيل» تصدر أسبوعية أيضا.
ويوجد مطبعة مستقلة اسمها المطبعة الشرقية تخص جناب الأديب نخول أفندي حنا، وهي تطبع كل ما يطلب منها بإتقان، وفي عزم صاحبها جلب أحرف عربية من جميع الأجناس.
أما جرائد الولايات المتحدة العربية «يا حياتي»، فقد تكاثرت حتى زادت على 12 جريدة، ولكن في هذين اليومين قد دب فيها الفناء، فمات منها في برهة أسبوعين 5 جرائد، وباق الآن في قيد الحياة: الكوكب، الذي هو أساس الجرائد العربية في المهجر كله، وهو يصدر 3 مرات في الأسبوع.
وجريدة الهدى - التي يحبها قلبك - صارت الآن أكبر الجرائد العربية في العالم كله، تصدر كل يوم ملآنة بالمقالات البليغة والفوائد الكثيرة. وتليها جريدة «مرآة الغرب»، التي تصدر يومية أيضا بحجم كبير، وهذه الجريدة اشتهرت بعدائها للدولة العثمانية، وهي تنتقد أعمالها بكل جرأة. وقد صدرت أيضا جريدة اسمها «المحيط»، وهي الآن تصدر مرتين في الأسبوع، ثم ظهر بعدها جريدة أخرى اسمها «المهاجر»، وهي تبحث بأمور شتى، وقد كتبت في ترك الوطنية السورية، وحضت السوريين على الاندغام بالأميركان، وهي أسبوعية، وصدر بعدها جريدتان أسبوعيتان الواحدة اسمها «البستان» والأخرى «الدليل».
ولم يقم في نيويرك غير الجمعية التي تعهدها «جمعية الشبان المارونيين»، أما في غير النيويرك، فيوجد كثير من الجمعيات، وفي جمهوريات أميركا الوسطى قد أنشأ السوريون أيضا جمعيات كثيرة. •••
وفي الأرجنتين لم يظهر غير الجريدتين اللتين تعرفهما «الصدق» و«السلام»، الأولى أسبوعية والثانية تصدر مرتين في الأسبوع، وفيها قسم باللغة الإسبانية، تدرج فيه بعض نبذ تاريخية عن سوريا ولبنان، وللنزالة هناك مدرسة يديرها اثنان من كهنة الموارنة الكريميين، وقد مضت مدة طويلة ولم أسمع صوت جمعية سورية في تلك البلاد، ولعلها راقدة رقادا وقتيا.
هذه يا أخي المحبوب أبا الأجران حالة مشاريعنا السورية في المهجر، فإنها قلما زادت عما كانت عليه في أيامك السعيدة. فأسألك أن تدعو لها بالنجاح والفلاح؛ لأن دعاءك مستجاب، وألق نظرك عليها من العلو، واذكرها بصلواتك وتضرعاتك. •••
أما الحالة التجارية، فقد تنظمت عن ذي قبل، وأصبح بعض التجار السوريين لا يضاهيهم أحد بضبط الأشغال، وحسن الإدارة.
ومن هؤلاء التجار الذين يستحقون الذكر ... الخواجا بطرس روفايل كرم، الذي كان دخوله إلى هذه البلاد في 29 أيار سنة 1984، وأظنك ما نسيت محله الذي تأسس سنة 1988 في ريوجنايرو في شارع الفندكا نمرو 192، ذلك المحل الشهير الذي زاد الآن نجاحا واتساعا؛ نظرا لحسن إدارة صاحبه الغيور، الذي له في كل مشروع عمومي يد كريمة.
بطرس روفايل كرم «عمشيت»
.
يجد الطالب في هذا المحل كل ما يحتاجه من البضائع التي تستجلب من مواردها الأصلية بأثمان معتدلة، توافق الشاري والبائع.
ومن الذين عرفوا كيف يلجون باب التجارة الوسيع، وكيف يتصرفون بحكمة ودراية في الشئون التجارية، الخواجات أرسانيوس منضور وشركاه، وبعد مزاولة التجارة سنين عديدة في عاصمة بلاد البرازيل، عرفوا أن النفع الأكيد لا يتأتى لهم ولزبائنهم إلا إذا جلبوا البضائع من الفبارك الأوروبية رأسا، فعمدوا إلى جلب الخردة والروائح المتعددة الأشكال من باريس ولندرا وغيرهما من العواصم.
وقدر كم يرتاح الشاري مع من كان صاحب خبرة في التجارة، وكم يسر إذا وجد الرزانة والجد في المعاملة مع الصدق والإخلاص، وهذا شأن أصحاب هذا المحل المؤسس على الجد والنشاط من زمن مديد.
A. Mandur & Comp
Rua da Alfandega, 225. Rio de Janeiro
ومن المشاريع الصناعية التي يفتخر السوري بها، هي ما قام به الخواجات «معلوف شركاء» بشرائهم المغسلة الوحيدة في سان باولو «لافاداريا بوليستا» بما فيها من المعدات والآلات والعمار مع نبعة الماء، وقد تبلغ مساحة أرضها مائة متر عرضا وطولا.
ومتوسط الدخل من أجرة الغسيل والكي 11 كونتا شهريا.
وقد ضموا إليها معمل القمصان خاصتهم، فأصبح عدد العمال في ذلك البناء الواسع ما يزيد عن 170 عاملا، ما عدا الذين يشتغلون للمحل في بيوتهم.
جورج معلوف «أحد أصحاب المعمل».
وهو ينجز كل يوم من 25 إلى 30 دزينة من القمصان، و80 إلى 100 دزينة من كمام وأطواق.
وقد اشتهرت قمصان معملهم في كل مكان بماركتها «برج إيفل» الشهير، حتى إن أكثر المحلات الكبيرة في الريو وسان باولو تستورد منها. هذا فضلا عن مقطوعية البرور؛ لأن جودة القماش وحسن ألوانه، وإتقان الشغل، واعتدال الأثمان، تجعل الناس أن يتواردوا على هذا المعمل، الذي يديره شباننا الأذكياء أصحابه الخواجات قيصر وجرج ونقولا معلوف.
وفي المعمل 3 عربات للنقل وغير ذلك من المعدات المسهلة للعمل.
نمرة التلفون 505 وهذا العنوان:
Maluf Co. Alameda Barão da Limeira, 117. S. Paulo .
أما عزيزنا الخواجا مخايل يوسف الحكيم «بشري»، ذلك الرجل الذي لا يكل ولا يمل عن العمل، والذي هو عنوان النشاط والإقدام، قد وسع دائرة أشغاله وجلب إلى محله البضائع المختلفة الأشكال والأجناس من أقمشة وخردة وأثواب مخيطة، كل هذا يباع في محله بأثمان مناسبة، وكل من عامله عرف كيف يستفيد من وراء معاملته البسيطة، فما أجمل البساطة في كل شيء، محله في شارع 25 دي مارسو نمرو 10 سان باولو.
ولا أظنك نسيت ذلك البنك اللبناني الذي تأسس سنة 1892 في بلدة ربيرونزينيو البرازيل، من أعمال ولاية سان باولو، لصاحبه الشاب الأمين الخواجة يوسف جبور «مزياره » ذلك الشاب الذي بمجرد نظرك إليه يتجسم لك الصدق والاستقامة في شخصه.
وهذا البنك يسحب البوالص على أوروبا وآسيا، ويرسل إليها أية كمية كانت، ويخصم الحوالات على سان باولو وسانطوس وريو دي جنايرو وبرتو الكري، وهو يراسل أكثر الشركات البحرية، وفوق ذلك فهو ممثل محل كونسيسون وشركاه في هذه الجهة.
لديه ماكينة كبيرة من آخر طرز لقشر وتهيئة البن والأرز، وهو يشتري من هذه الأصناف ويدفع كعادته أعلى أسعار البندر إذا صار تهيئتها في ماكينته، له ممثلون في خط باوليستا وأرارا كوارا.
Banco Libano
Fundado no anno de 1892
José Gabriel Misiara
وكم يسر قلبك إذ تعلم ما وصل إليه ذلك الشهم النشيط الدكتور فريد جبور، نزيل مدينة كامبوس، ففضلا عن أنه يطبب الأسنان، ويخفف أوجاع الناس من أغنياء وفقراء، فإنه قد أنشأ محلا للتصوير الشمسي كامل المعدات، وهو المحل الوحيد المتقن في تلك المدينة الكبيرة. ولا عجب في ذلك، فإنه تلقن دروسه الابتدائية في المدرسة البطريركية في بيروت، وفوق ذلك فهو من معاصر الشوف، فما أحلى هذا العصير الجيد وألذه.
مخايل يوسف الحكيم «بشري».
فريد جبور «معاصر الشوف»
Alfredo Jabôr .
ولكثرة مداخلته بين أهالي هذه البلاد، استطاع أن يفيد أولاد بلاده بأمور كثيرة في كامبوس وضواحيها، وله أياد بيضاء في الأعمال الخيرية العمومية.
ومحله الآن في براسا سان سالفادور نمرو 22 كامبوس من ولاية ريو برازيل.
وفيما تقدم دلالة على أن السوريين قد خطوا خطوة كبيرة في الصنائع، وأصبح قسم كبير منهم يشتغل بأعمال شتى، ومن هؤلاء ذلك الرجل البشوش ذو القلب الطيب الخواجة بولس عبد الله الخوري، صاحب معمل الشمسيات في ريو جنايرو، فقد كملت في ذلك المعمل كل المعدات، حتى صار يجاري أكبر المعامل الوطنية في إتقان الشغل ومتانته، يصنع الشمسيات من الحرير والصوف والقطن والكتان للرجال وللنساء وللأولاد، وفضلا عن ذلك، فإنه يتمكن من أن يبيع بأرخص ما يباع في السوق.
وقد عرف ذلك مواطنوه السوريون، فأقبلوا عليه إقبالا يدل على تقديرهم إياه حق قدره.
ومحله الآن في شارع الفندكا نمرو 155 ريو جنايرو برازيل.
155, Rua Da Alfandega, 155
Rio de Janeiro
وكم تستعجب يا أبا الأجران لو قلت لك: إن أحد شبان السوريين الأذكياء، وهو أسعد أفندي فارس، قد افتتح مكتبة مختصة لمبيع وشراء كتب ومؤلفات إفرنجية على اختلاف أجناسها، فمتى أراد السوري يفعل كل شيء، ويتمكن من مجاراة باقي الأمم، وهذا شاب غريب عن هذه البلاد، غريب اللغة أيضا، استطاع بذكائه أن يجاري الوطنيين في تجارة الأدب، ويفوز.
أما المكتبة فواقعة في شارع مارشال ديودورو نمرو 13 سان باولو.
أسعد فارس «عبادات»
Assad Fares .
وكثير من السوريين قد أصبحوا الآن ثقة عند أصحاب معامل الأقمشة في البرازيل، فجعلوهم وكلاءهم ومعتمديهم، ففي سان باولو مستودع كبير لأقمشة فابركة «أراتوزينا» في بيراسيكابا لصاحبها رودولفو ميراندا، وقد اعتمد صاحب هذه الفابركة وطنينا اللبق النشيط الخبير في تصريف البضائع الخواجة سليم بطرس عبد القادر، وجعله وكيلا عموميا في حاضرة سان باولو، وقد يتصرف عن يده كمية وافرة من الأقمشة المعروفة بهذه الماركات مسكلا برازيل كازميرا إيبيرانكا، كازميرا باوليستا، رزكادو إيتاليانو بريم عربي، بريم ث.
سليم بطرس عبد القادر «بشري».
المكتب العمومي في شارع جوزه بونيفاسيو نمرو 9 أول طابق، وفي ريو جنايرو فابركة سان جوان شارع الفندكا نمرو 11 أول طابق.
Fabrica De Tecidos “Arethuzina” Em Piracicaba
DE
Rodolpho Miranda
Escripterio em S. Paulo: Rua José Bonifacio 3 (1 ° andar)
Caixa do Correio, 357-Endereço telegr. “COMPA”-S.
Correspondencia na Capital Federal: FABRICA S. JOÃO
Rua Da Alfandega, 11 (1 ° Andar)
ومن الأعمال الكبيرة التي للسوري يد فيها أيضا، هي فابركة لعمل الروائح الوطنية، خاصة بوغار وشركاه، فهي تصنع نوعا خاصا من الكينا المثبت من مصلحة الصحة وكافة الأصناف من المياه النباتية وزيوت وبرليانتينا، ومسحوق أونغارا، وخل وبودرا رز ودواء للأسنان.
وتعمل هذه الفابركة أيضا صابون مرسيليا 72 في الماية، صابون معطر جيد على الطريقة الأجنبية، صابون للمداواة، صابون غليسارين وكوكو، مسحوق الصابون وكرامي دي صابون، إلى آخر ما هنالك من الأشكال والأجناس.
والذي يسهل على الزباين السوريين المشترى، مستخدمو المعمل، الذين يوجد فيما بينهم شبان سوريون.
المعمل في شارع فيكتوريا، نمرو 15، سان باولو، نمرة التلفون 335، صندوق البريد 393.
على الزباين أن يطلبوا الكاتالوك.
Bogaert & C.
وقد أصبح للسوريين مطاعم وفنادق غاية في الإتقان والهندام.
من هذه الفنادق لوكندة الخواجا نجيب جرجر شعيا، في ريو جانيرو، فهي واقعة بأهم نقطة في شارع الفندكا، نمرو 340 علوي.
نجيب جرجر شعيا .
فإذا رقد الزائر على فرشها، فكأنه راقد في بيته، وإذا شبع من المأكولات اللذيذة التي تأكلها العين قبل الفم، فإنه لا يشبع من لطف صاحبها وبشاشته وحسن استقباله.
النظافة في هذه اللوكندة مستوفاة كل الشروط، فلا لزوم لزيادة شرح، أما الذين يقصدون السفر إلى الوطن وغير جهات، فلهم من همة نجيب ودرايته ما يسهل لهم ذلك، إن كان من معرفة أترام البواخر، أو من قطع أوراق السفر.
Nagib Chaia
340, Rua Da Alfandega, 340
Rio De Janeiro
ولا أظنك نسيت ذلك الغيور الذي قل من يهتم بالعموميات مثله، وهو الخواجة يوسف لطيف، صاحب الفندق السوري الشهير، فإنه قد نقل من محله القديم من مدة سنة إلى محل بني خصوصيا على ذوقه، وهو واقع في شارع 25 دي مارسو نمرو
A
161 في سان باولو.
يوسف لطيف
José Lotaif .
وإذا دخلت إليه فكأنك داخل إلى رتوسري أوروباوي؛ لأن الإتقان ظاهر في كل شيء.
وإذا صعدت إلى الطابق العلوي تجد الغرف مثل الهفاف، يشتهي الإنسان النوم فيها، ولو كان غير نعسان، وفي البناية صالون خصوصي للزوار، مزين بالرسوم الجميلة، ومفروش بالسجاد الثمين، ويوجد فيه الكتب والمجلات والجرائد، للمطالعة وتمضية الوقت.
أما البضائع السورية، فحدث عنها ولا حرج، فإنك تجد كل ما تطلبه نفسك وما يشتهيه قلبك، مكسرات ومفقشات ودمعات وحلويات وططلات ومربيات ونقولات وغير ذلك من الأشكال التي لا يحصيها عد.
وإذا نظرت إلى داخل الدار تجد بركة ماء جميلة، وفي وسطها النوفرة، فإنها تبهج النظر وتسر الخاطر.
الشيخ جبران العيراني.
أما حبيب قلبك - الشيخ جبران العيراني - فإنه إذا مسك التراب يقلب ذهب، قد أنشأ معملا «مسلقا» للبرغل، وهو يجلب القمح من موارده الأصلية كالشيلي والأرجنتين، فإذا دخلت المحل، وجدت كوم البرغل تلولا متراكمة فوق بعضها بعضا، وقدر كم هي مقطوعية السوريين من هذا الصنف الذي يحافظون على استعماله في هذه البلاد كمحافظتهم على الوطنية.
فالنبع الوحيد الذي يستقي منه الجميع هو عند الشيخ العيراني، الذي أصبح أشهر من نار على علم.
هذا من خصوص البرغل، أما من خصوص المحل الواقع في شارع 25 دي مارسو، نمرو 177 في سان باولو، فهو ملآن من جميع البضائع والحبوب، فهو لا يفرق شيئا عن محلات بيروت، فكل الذي تطلبه من مشروبات ومخللات وزيوت وأسمان وحلويات، فهو موجود بكثرة.
وإذا سألت عن صاحبك الودود الخواجا لاون أبليان، ذلك الندب الخفيف الروح، فإني أطمنك عنه، وقد وسع دائرة أشغاله وصارت الفيرما هكذا:
L. Apelian & C.
Rua Da Alfandega, 378. Rio De Janeiro
وقد سافر مرارا عديدة إلى باريس، وعقد مقاولات مع أهم معامل أوروبا لتصدير البضائع إليه رأسا.
ونظرا لخبرته وطول ممارسته في بيع وشراء الأقمشة على أنواعها، أصبح محله مقصودا من الجميع، وكل من عامل هذا المحل استفاد كثيرا؛ لأن تعدد أشكال الأقمشة التي ترد متتابعة وحسن ألوانها تجعل سوقها رائجة.
والبضائع التي توجد في محل لاون أبليان وشركاه لا يجدها الشاري في غير محلات، ناهيك عن رخص الأسعار ولطافة أصحاب المحل وحسن معاملتهم وسماحتهم، والله مبارك في السموح. •••
واذكر يا حبيبي أبا الأجران صاحبك الدكتور يوسف رزق الله، ذلك المحامي القدير البارع، فإن مكتبه الآن في لاركو داسه نمرو 1، ومسكنه في شارع غالباون بوينو، نمرو 8 في سان باولو، وهو مستعد دائما لقضاء المصالح الشرعية - وأخصها التجارية - بمهارة ودقة نظر، قلما يسبقه بهما أحد.
وافتكر أيضا بصاحبك الخواجا خليل قواص صاحب محل الخياطة، فإنه يصنع الكبات المختلفة الأجناس، ويصدر منها إلى الداخلية بأثمان قلما يجدها الطالب في غير محل، ذلك مع جودة الأقمشة وحسن الذوق بالتفصيل والتخريم والخياطة، هذا فضلا عن الثياب التي يجهزها بإتقان كلي، ويضاف إلى ذلك جودة الأقمشة الموجودة دائما في محله الواقع في شارع 25 دي مارسو، نمرو 111 في سان باولو.
ويكون بعلم الجناب أن حبيبنا الشيخ حبيب زخريا وأخاه، قد افتتحا معملا لعمل المرايات والبراويز على اختلاف الأشكال والأقيسة، فمنها المذهب ومنها الملون والمعرق الفاخر، ويوجد فضلا عن كل هذا صور القديسين والقديسات على أنواعها، وهذا المعمل يصلح المرايات الكبيرة المصابة ببعض الخدوش بضبط وإتقان، كل هذا لا يذكر بجانب لطف الشيخ وكرم أخلاقه، أما المحل ففي شارع 25 دي مارسو، نمرو 109، في سان باولو.
حنا المقدسي.
أما الخواجة متري شاغوري الذي تعرفه من زمان العز، فهو الآن قد فتح محلا للصياغة وتصليح الساعات في شارع 25 دي مارسو، نمرو 103، في سان باولو، والإقبال عليه من الجميع عظيم؛ نظرا لإتقانه العمل في كلا الصنفين وسرعة إنجازه!
هذا كله «بوش» عند عمك أبو عبد الله الخواجة حنا المقدسي، فإن شهرته في عالم المهاجرة تغني عن الوصف.
فمتى دخل الزائر إلى لوكندته المعروفة، فأول ما يقابله به «كوم باصو»، ثم يأكل الزائر مريا ويشرب هنيئا.
ولا أظن أنه يوجد أحد من المهاجرين لا يعرف لوكندة أبو عبد الله، فإنها كعبة القصاد، ومحط رحال الغريب، فالكل دخلوا تحت سقف لوكندته بدون استثناء.
نجيب إلياس الشويري.
العرق المثلث، السنامورا، الصنوبر، التنباك تجده عند عمك أبو عبد الله، وإذا كنت طماع فوشوشه، أما نفسه في الطبخ فلا لزوم لنشرحه.
ولم تزل اللوكندة في شارع 25 دي مارسو، نمرو 2 في سان باولو.
وفي هذه الآونة الأخيرة قد تقدم السوري في البرازيل إلى الأمام وولج أبوابا كانت في الماضي مقفلة بوجهه، من هذه الأبواب باب طب الأسنان؛ نظرا لاحتياج السوري إليه في هذه البلاد.
ومن الذين درسوا على أساتذة ماهرين بهذا الفن، وبرعوا في تطبيب الأسنان وأتقنوه كما يجب، نجيب أفندي إلياس الشويري، فقد فتح محلا جميلا متقنا في شارع فلورنسيو دي أبريو، نمرو 11 في سان باولو، وفرشه وزينه وجلب إليه العدد والآلات والاستحضارات الكهربائية المخترعة حديثا.
فإذا قلع الضرس أو السن، فلا يشعر المصاب بأقل ألم، هذا فضلا عن الأعمال المدهشة فيما يختص بتحضير وجبات الأسنان الذهبية، وسبكها وتركيبها بالفم ثابتة، فقد يفوق الصياغ في وضعها وضبطها وجمالها وثبوتها في الفم وجمال منظرها، ويوجد في محله أيضا من المطهرات والمضادات للفساد، والأدوية المقوية للأضراس والأسنان وإزالة الرائحة الكريهة من الفم، مما يساعد على حفظ الأسنان وجمالها.
أما المسألة التي يشكر عليها نجيب أفندي، هي أنه قد خصص ساعة من النهار لتطبيب الفقراء مجانا.
وفضلا عن ذلك، فهو مهتم الآن بتصنيف كتاب عربي في طب الأسنان، وهو أول كتاب - على ما نظن - من نوعه، وسيكون له فائدة كبرى للعيال، وحفظ أسنان الأولاد من التلف؛ لأن بحثه يكون عاما بهذا الخصوص. •••
هذا الرسم - كلام بسركم - هو لمؤلف هذا الكتاب، وضعناه هنا سيرا على الطريقة التي جعلناها للإعلانات في هذا الكتاب؛ لأن عندنا بضائع قديمة رأينا من المناسب الإعلان عنها، من هذه البضائع كتاب: «التحفة العامية».
الذي قال فيه الشاعر العامي اللطيف منصور أفندي خنفور:
حاوي لطائف كلها حكمة وأدب
بتلذ للقاري الذكي وبتطربه
حاوي لطائف كلها حكمة وأدب
بتلذ للقاري الذكي وبترتغب
في وضعه أول كتاب بينحسب
أيمن قراه يلقاه وافق مشربو
أيمن قراه يلقاه عافكره تمام
سهل العبارة حر في معنى الكلام
خالي من الغايات وصنوف المرام
مبني على أس الفوائد مذهبو
مبني على التعليم جامع للمثال
يسحر الأفكار كالسحر الحلال
لو قراه إنسان مرة بالتمام
لا يمكنو غير يوضعو في مكتبو
لا يمكنه غير يوضعه بمكتب حصين
ويحفظو تاريخ حينا بعد حين
وإذا جئنا أن ننقل ما قالته الجرائد عنه، يلزمنا على الأقل أكثر من نصف هذا الكتاب، فقد وصفه بعض الكتاب بأنيس العيال، ومسلي الهموم، ومبعد الغموم، ومعمل الضحك، ومعين الإنسان على النجاح، ومصون الوجه من الغضون، ومساعد على الهضم، ومدرسة لأخلاق الشعب اللبناني.
وبرهانا على ذلك، فإن حضرة المعلم الشهير يوسف أفندي حرفوش قد نقل قسما كبيرا من التحفة لكتابه «المنتخبات العامية في اللغة العربية»، الذي جعله كدستور لتعليم من يأتي إلى كلية حضرات الآباء اليسوعيين في بيروت من الأجانب.
فمن هنا تعلم أهمية التحفة العامية، ومركزها في عالم الأدب.
ومن الكتب التي اعتنينا بطبعها ونشرها، كتاب «الخطوة الأولية في اللغة البرتغالية».
وهو الكتاب الوحيد الذي يعين السوري على حفظ لغة البلاد البرازيلية.
وقد قابلته جرائد هذه البلاد بوجه باش، وكتبت عنه الكلام الجميل، وحضت السوري على استخدامه لينتفع به.
وقد ذكره المقتطف، والهلال، والمشرق، والجامعة، وجميع الجرائد العربية بالحسنى.
ويليق بنا أن نأتي على شهادة حامي ذمار اللغة البرتغالية، ورافع منارها الدون كارلوس ملك البرتغال بكتاب الخطوة الأولية.
قال كاتب أسراره الخصوصي الكونت د أرنوزو:
حضرة السنيور شكري خوري
أمرني جلالة الملك المعظم والمحبوب، لأشكر لحضرتكم النسخة «المقدمة» من تأليفكم الجميل في اللغة البرتغالية لاستعمال العرب التأليف الذي قدره جلالته قدره ...
الإمضاء
قد طبعنا من هذا الكتاب ألف نسخة، وجلدنا منها 500، وقد مضى على ظهوره سنتان، والخمسماية نسخة المجلدة باق منها ماية نسخة، فيكون قد بيع منه 400 نسخة، مع أن السوريين في البرازيل يزيد عددهم على الأربعين ألفا، كلهم بحاجة إلى مساعد يساعدهم على إتقان لغة هذه البلاد، ومع هذا لم يبع من الكتاب أكثر من القيمة المذكورة أعلاه!
وفي العام الماضي صدرت إدارة الهدى كتابنا «طولة العمر في حديث أبو يوسف ونمر»، بعد أن نشرت قسما منه في الجريدة، ولما احترقت إدارة الهدى، أكلت النار قسما منه، ثم أعادت الإدارة طبعه مرة ثانية.
وإليك الصدى الذي أحدثه «طولة العمر» في العالم العربي.
قالت مجلة المشرق المعروفة بدقة بحثها في المسائل الشرقية:
ونزيد صاحب الكتاب علما بأننا وجدنا تأليفه الحديث أهلا بشقيقه السابق في طريقته الكتابية، وتفننه بالمواضيع، وحسن وصفه للعادات بذوق سليم، ودقة نظر، وكل ذلك باللهجة الشائعة في لبنان، فمن يقرأ فصوله يجد في كل سطر منها مرآة حية لأحوال أهل الجبل في كل أطوار حياتهم، لولا بعض استخفاف في أمور الدين في ثلاثة أو أربعة أمكنة، لقلنا إن هذا المصنف في جنسه بلغ الكمال.
ثم نشرت المجلة نبذتين من الكتاب.
وقالت مجلة المنار الإسلامي الشهيرة: «طولة العمر» كتاب ألفه شكري أفندي الخوري السوري المقيم في البرازيل باللغة العامية السورية، وأودعه من الفوائد والنصائح الصحية والأدبية ما لا يستغني عنه أحد من العامة، على أنه لا يقصر عن إفادة الخاصة ... وقد رأينا فيه من قدرته على تصوير أفكار العوام، ما يناسب قدرته على ضبط عباراتهم في الكتاب، وكلا الأمرين عسير على الناشئين في دور العلم، والمشتغلين بالكتابة والتأليف باللغة العربية الصحيحة، وإننا لنعرف من أنفسنا العجز عن المضي في ذلك ...
ثم انتقدت ما جاء في الكتاب عن الجرائد والجامعة الإسلامية وسوريا والحجاز والسياسة، بكلام أخذ من المجلة صفحتين.
ومن أقوال جريدة مرآة الغرب: ... فهو كتاب يصح أن يكون سميرا للفتاة والشاب معا ...
ومن قول جريدة الكوكب: ... هو حديث فكاهي ملذ، ذو فائدة تستحق الاعتبار.
وقال السلام:
لهجة الكتاب تشوق إلى الناس قراءته.
وهذا مقدمة قول المناظر في الكتاب:
أصدر ... شكري أفندي الخوري كتابا ثانيا باللغة العامية، وأهدانا منه نسخة.
الكتاب الأول هو التحفة العامية، ولكن أين التحفة من «حديث أبو يوسف ونمر».
هذا الكتاب أسمى بحثا وغرضا من ذاك ... وأخص ما بحث فيه «أبو يوسف» المسألة الشرقية، وما في شئون الدولة العلية من الخلل والزيجة والعزوبة، والعيشة الصحية، بحث فيها موفيا، وملأ بحثه فوائد وفكاهة وإسخانا.
وقالت المنارة: «طولة العمر» أقل فكاهة من التحفة العامية، ولكنها أجزل فائدة؛ لأنها تبحث بموضوع الصحة والحياة المعيشية.
وقال الصواب:
هو كتاب نفيس فيه من النصائح والأدب ما يفيد فائدة كبيرة، ومن المجون ما يسلي ويجلي الغم عن الصدر، ومن قرأ التحفة العامية يعلم ما هي طريقة شكري أفندي الخوري بتدبيج النكات الأدبية التي تدخل القلوب من غير استئذان، فتجلي عنها الهم.
وقد كتبت جريدة الاتحاد المصري مقالة افتتاحية بإمضاء «نجيب» عن «طولة العمر»، وأشارت بوجه إجمالي إلى مغازي الكتاب، ومن قول النجيب:
لما استلمت هذا الكتاب، ورأيت غلافه البنفسجي القاتم، وقرأت عنوانه الطويل، كتبت عنه ما نكتبه عادة عن الكتب التي ترد إلى الإدارة مثنيا على المؤلف، سائلا للكتاب مزيد الانتشار، وأخذت الكتاب «بنوع الصدفة» معي إلى المنزل، فلما قرأته في الليل أمام أولياء العهد من أوله إلى آخره، ورأيت ما فيه من حكم باهرة، ومغاز أدبية سامية، ونوادر ونكات لطيفة، قلت إن هذا الكتاب يستحق أكثر من تلك الكلمات «البائخة»، وأسرعت صباحا إلى المطبعة، فألغيت ما كتبته عنه قبلا على نية أن أفيه بعض حقه من التقريظ.
ومن قول الشاعر الفكاهي اللطيف أسعد أفندي رستم:
وهو في مذهبي كتاب فريد
كل شيء مما حواه ابتكار
ثم قال:
فلمنشيه خالص الشكر مني
وثنا يستحقه واعتبار
هو في العلم صاحبي ونسيبي
وابن بكفيا للشويري جار
وكلانا في عالم اللطف فرد
ولنا فيه لا يشق غبار
ولئن لي به يحق افتخار
فبمثلي له يحق افتخار
وقال جرجس أفندي عساف الشاعر المحبوب:
كتاب كما يرجو «العوام» ومبحث
كما يشتهي الأحرار من كاتب حر
فجد له محتاجة كل صحة
وهزل به تجلى الهموم عن الصدر «ومنها»:
وبين أضرار الخمور مقدما
لنا جرعات السم في قدح الخمر
هذا بعض ما قاله أهل الأدب عن كتبنا، وضعناه لنظهر فضلهم عليها.
Page inconnue