Les Prairies d'or
مروج الذهب ومعادن الجوهر
وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرني أبو العينا، قال: أخبرني شبل الترجمان، قال: كنت مع الرشيد حين نزل على هرقلة وفتحها، فرأيت بها حجرا منصوبا مكتوبا عليه باليونانية، فجعلت أترجمه والرشيد ينظر إلي، وأنا لا أعلم، فكانت ترجمته. بسم الله الرحمن الرحيم، يا ابن آدم غافص الفرصة عند إمكانها، وكل الأمور إلى وليها، ولا يحملنك إفراط السرور على المأتم، ولا تحمل على نفسك هم يوم لم يأت، فإنه إن يك من أجلك وبقية عمرك يأت الله فيه برزقك، ولا تكن من المغرورين بجمع المال، فكم قد رأينا جامعا لبعل حليلته، ومقترا على نفسه، موفرا لخزانة غيره وقد كان تاريخ هذا الكتاب في ذلك اليوم زائدا على الذي سنة. وباب هرقلة مطل على واد وخندق يطيف بها، وذكر جماعة من أهل الخبرة من أهل الثغور أن أهل هرقلة لما اشتد بهم الحصار، وعضتهم الحرب بالحجارة والسهام والنار فتحوا الباب فاستشرف المسلمون لذلك - ، فإذا رجل من أهلها كأجمل الرجال قد خرج في أكمل السلاح، فنادى: يا معشر العرب: قد طالت مواقفتكم إيانا، فليخرج إلي منكم الرجل والعشرة إلى العشرين مبارزة، فلم يخرج إليه من الناس أحد، ينتظرون إذن الرشيد، وكان الرشيد نائما فعاد الرومي إلى حصنه، فلما استيقظ أخبر بذلك، فتأسف ولام خدمه على تركهم إيقاظه، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إن امتناع الناس منه اليوم يطمعه ويطغيه ويجرئه أن يخرج في غد فيطلب المبارزة ويعود لمثل قوله، فطالت على الرشيد ليلته، وأصبح كالمنتظر له، إذ فتح الباب، فإذا الفارس قد خرج، وعاد إلى كلامه، فقال الرشيد: من له؟ فابتدره جلة القواد، فعزم على إخراج بعضهم، فضج أهل الثغور والمتطوعة بباب المضرب، فأذن لبعضهم، وفي مجلسه مخلد بن الحسين وإبراهيم الفزاري، فدخلوا، فقالوا: يا أمير المؤمنين، قوادك مشهورون بإلباس والنجدة، وعلو الصيت ومباشرة الحرب ومتى خرج واحد منهم وقتل هذا العلج لم يكبر ذلك، وإن قتله العلج كانت وصمة على العسكر عظيمة، وثلمة لا تنسد، ونحن عامة لا يرتفع لأحد منا صيت فإن رأى أمير المؤمنين أن يختار رجلا منا يخرج إليه فعل، فصوب الرشيد رأيهم وقال مخلد وإبراهيم: صدقوا يا أمير المؤمنين، فأومؤا إلى رجل منهم يعرف بابن الجزري مشهور في الثغور موصوف بالنجدة، فقال له الرشيد: أتخرج إليه؟ قال: نعم، وأستعين بالله عليه، فقال: أعطوه فرسا وسيفا ورمحا وترسا، فقال: يا أمير المؤمنين أنا بفرسي أوثق، ورمحي في يدى أشد، ولكن قد قبلت السيف والترس. فلبس السلاح، وأشتدناه الرشيد فودعه وأتبعه بالدعاء، وخرج معه عشرون من المتطوعة، فلما انقض في الوادي قال لهم العلج وهو يعدهم واحدا: إنما كان الشرط عشرين، وقد إزددتم رجلا ولكن لا بأس، فناده: ليس يخرج لك منا إلا رجل واحد، فلما فصل منهم ابن الجزري تأمله العلج، وقد أشرف أكثر الروم من الحصن يتأملون صاحبهم، فقال له الرومي: أتصدقني عما أسألك عنه؟ قال: نعم، قال: أنت ابن الجزري بالله. قال: اللهم نعم، فكف لك، قال: بل كف، ثم أخذا في شأنهما، فتطاعنا حتى طال الأمر بينهما، وكاد الفرسان أن يقوما تحتهما، وليس واحد منهما خدش صاحبه، ثم رميا برمحيهما هذا نحو أصحابه وهذا نحو حصنه، وانتضيا سيوفهما وقد اشتد الحر عليهما، وتبلد جواداهما، فجعل ابن الجزري يضرب الرومي الضربة التي يظن أنة قد بالغ فيها فيتقيها الرومي، وكانت درقته حديدا، فيسمع لها صوت منكر، ويضربه الرومي فيغوص سيفه لأن ترس ابن الجزري كان درقة تبتية، وكان العلج يخاف أن يغوص السيف فيعطب، فلما يئس كل واحد منهما من صاحبه انهزم ابن الجزري، فداخلت الرشيد والمسلمين من ذلك كآبة لم يصبهم مثلها، وعطعط المشركون من حصنهم، وإنما كانت حيلة من ابن الجزري، فاتبعه العلج وعلا عليه، فلما تمكن منه ابن الجزري رماه بوهق فاختطفه من سرجه، ثم عطف عليه، فما وصل إلى الأرض جسده حتى فارقه رأسه، وكبر المسلمون، وانكسر المشركون، وبادروا الباب ليغلقوه، واتصل الخبر بالرشيد، فصاح بالقؤاد أن يجعلوا في حجارة المجانيق النار، فليس عند القوم دفع بعدما، وعاجلهم المسلمون إلى الباب فدخلوها بالسيف، وقيل: إنهم نادوا بالأمان، فأمنوا، وافتتاحها عنوة أشهر من قول من قال.: إنها فتحت صلحا، فقال في ذلك الشاعر الحكمي وهو أبو نواس:
هوت هرقلة لما رأت عجبا ... جواثما ترتمي بالنفط والنار
كأن نيراننا من جنب قلعتهم ... كمشعلات على أرسان قصار
وهذا كلام ضعيف ولكن قد عظم قدره في ذلك الوقت للمعنى، وعظمت لصاحبه الجائزة، وصبت الأموال على ابن الجزري، وقؤد، وخلع عليه، فلم يقبل شيئا من ذلك، وسأل أن يعفى ويترك على ما هو عليه. ففي هذا يقول الشاعر أبو العتاهية:
ألا نادت هرقلة بالخراب ... من الملك الموفق للصواب
Page 148