ثم جاء الأمر: «أيها الفتيان أمسكوا عن الكلام وتفرقوا ما تبقى من اليوم!»
بعدئذ سار قائد الكشافة حتى جاء أمام جيمي، ووقف ثابتا، وراح ينظر إليه متسائلا، بينما اصطف بيل والطفل المطيع وذو الوجه الملائكي على مقربة منهما، بعيون كلها ترقب.
رغم أن جيمي ربما كان متعبا، ورغم أنه لا شك اسكتلندي، فقد عاودته ذكرى مبهمة من أيام كان صبيا وكان يحارب هنودا من نسج خياله، ويصطاد ببنادق خشبية ويشهر سيوفا خشبية ويصنع أسلحة بعجلات متزعزعة، ويحمل في جسده معدة خاوية على الدوام. وقد ساوره يقين أن المعدة الخاوية على الدوام هي ما يتصدر الموقف الراهن. من ثم نهض جيمي ومد يدا إلى قائد الكشافة والأخرى إلى ذي الوجه الملائكي، الذي تصادف أنه صبي وسيم حتى إن جيمي استسلم للضياء المنبعث من عينيه ولسحر ابتسامته منذ اللحظة الأولى التي نظر فيها إليها مباشرة.
وقال بعفوية: «هيا، يا رفاق.» وتابع: «هيا نذهب إلى الكشك القريب ونأت على كل ما فيه من «سجق» ومياه غازية بنكهة الفراولة!»
كان الهتاف الصاخب الذي استقبلته أذنا جيمي تعويضا مثاليا عن الفراغ الذي ستتركه مكافأة الصغار في جيب سرواله القصير بعد إنفاق المقدار القليل جدا من الفكة التي يحملها بداخله.
وبينما هم مصطفون أمام الكشك، أثناء تلبية طلباتهم المتنوعة، راح فتيان الكشافة الزائرون ينظرون إلى جيمي نظرات مستجلية. راقت لهم اللمعة في عينيه. وراقت لهم الابتسامة الواهنة التي تسللت إلى وجهه الشاحب. وأحبوا الدقة التي رشق بها الحصى، والخفة التي جمع بها المزيد حين نفدت ذخيرته منها. وراقهم أكثر من أي شيء آخر أنه كان يعمل من خلف شجرة. فلو وقف مكشوفا وهو يلتقط الحجارة ويلقي بها ما كان سيعجب كثيرا قائد الكشافة وتلك المجموعة بعينها من الكشافة؛ لكن الرفيق الذي أخذ اللعبة على محمل الجد، ولعب وفقا للقواعد، ولم يجعلها لعبة وإنما حقيقة بأن لعب كما كانوا يلعبون، لهو جدير بأن يكون صديقا حقيقيا، من ثم تزاحم الصغار مقتربين منه وبدءوا يطرحون عليه الأسئلة.
جلس جيمي في ظل شجرة بلوط حي ووضع ذراعا حول قائد الكشافة والذراع الأخرى حول ذي الوجه الملائكي، وحرص على إتاحة مكان لبيل الطيب والطفل المطيع، وأثناء تحميص الخبز وقلي البصل، وشق السجق وتحميره وخفق المستردة وتقطيع الخيار المخلل شرائح، وإحضار المياه الغازية من فوق الثلج، أخبر الأولاد شيئا عن معنى نشاط الكشافة حين مضى رجل ذات ليلة حالكة السواد، على بطنه، زاحفا فوق حفرة كبيرة في حجم منزل من جراء قصف القنابل، وسط صخور محطمة وحطام ساحة معركة مخضلة، يتساقط فوقه وابل من القذائف والشظايا، محاولا الاقتراب كفاية لسرقة سر من العدو، أو متشمما أثر زميل عزيز عليه، أو متصيدا جثة ضابط.
جاء الطفل المطيع وبيل السمين الطيب وتلاصقا مقتربين من ركبتي جيمي. ومال قائد الكشافة برأسه قصير الشعر على الجرح الذي في صدره وظل يحملق فيه بعينين لا تطرفان، ووضع ذو الوجه الملائكي على ذراعيه يدين قويتين ولم يأبه البتة حين قال صاحب الكشك: ««السجق» جاهز!» وبدأ دوي فتح الزجاجات.
صاحوا في آن واحد: «احك لنا المزيد!» وألحوا: «احك لنا المزيد!» وركل بيل السمين الطيب ساق الطفل المطيع ذات اللون القمحي وقال: «يا للهول! لم تسنح لنا قط فرصة كهذه من قبل، أليس كذلك؟ لقد ارتاد أماكن حيث كانت الأرض كلها مخضبة بدماء حقيقية، والسيوف وغيرها تخترق جسمه، والنيران تنطلق فوقه! يا للهول، أليس شخصا رائعا؟»
كان جيمي نفسه هو الذي جعل الجمع ينفض بعد أن استخدم حاسة شمه المرهفة. صحيح أنه قد تحدث عن الفيتامينات والسعرات الحرارية. وصحيح أنه قد اتفق مع مارجريت كاميرون على أن يبدآ نظاما غذائيا يتبعه بصرامة، لكن حيث إن النظام لما يبدأ بعد، وحيث إنه قد بدا له أنه لم يشم في حياته كلها شيئا أثار شهيته للغاية مثل رائحة ذلك «السجق»، فقد مد ذراعا طويلة فوق رءوس الصغار وأخذ أكثر قطعة «سجق» امتلاء رآها، وبالأخرى التقط زجاجة مياه غازية ذات لون وردي زاه. وقال لهم: «أقبلوا على الطعام! تفضلوا يا رفاق!»
Page inconnue