ثم ذهب للاغتسال، وعندما تمكن من وضع ضمادة جديدة على صدره الأيسر، انتابه تردد بشأن المطهرات، فأغفلها. لم يرد أن يذهب إلى عروسه بينما تفوح منه رائحة الدواء. حيث إنها هي نفسها كانت تفوح منها رائحة الزهور، فسوف يحذو حذو أعظم حبيب عرفه العالم على الإطلاق بأن يجعل الرائحة المنبعثة منه رائحة الملابس الجديدة فحسب، رائحة النظافة المطلقة.
كان جيمي في جوهره رجلا نبيلا. وحين أوصد الباب الأمامي وسار الممشى من أجل رحلة قصيرة إلى خط الترام الواقعة نهايته على بعد ما يقرب من العشرين مترا، كان شاحب الوجه واليدين كما حتمت حالته. أما فيما عدا ذلك، فقد كان رجلا جذابا. وقد شمخ برأسه عاليا. وجعل قامته منتصبة، كما كانت تقتضي التدريبات العسكرية الكثيرة. وخرج مرتديا أفضل حذاء لدى سيد النحل وسرواله الرمادي ومعطفه الأسود، وبقميصه الحرير الرمادي وربطة عنقه ذات اللون الأزرق الفاتح، وقبعة سوداء عريضة الحواف؛ خرج مرتديا الملابس اللائقة التي قد يرتديها أي سيد محترم وهو ذاهب إلى عرسه. ومن ثم سار متوخيا بالغ الحذر لئلا يتراكم الغبار على حذائه قبل أن يبلغ الترام؛ وإذ هو متخذ حذره خطر على ذهنه أن يتساءل أين توجد الفتاة التي سيتزوجها في تلك اللحظة؟ وماذا كانت تفعل؟ وهل ستأتي في المكان المحدد لملاقاته؟ وكيف ستبدو؟ وماذا ستقول له؟ وبأي كلمات ستتركه وقد حصلت منه على الأشياء التي أقرت بأنها في أمس الحاجة إليها، اسم، وعقد زواج، وخاتم.
حين خطرت له مسألة الخاتم، اشتعلت وجنتا جيمي بحمرة باهتة. فقد ساوره هاجس أنه بالغ في الشطط. حيث قبل أن يحمل سيد النحل من منزله كان قد أشار إلى درج صغير في مكتبه سيجد فيه جيمي نقودا للطوارئ، من أجل الحليب، أو الثلج، أو أي شيء قد يحتاج إليه إلى حين عودة سيد النحل. وقد أخذ جيمي عشرة دولارات، حفظا لكرامته من ذلك الدرج، في هذا الصباح. لم يكن متأكدا إن كانت العشرة الدولارات ستفي بتكلفة إذن الزواج. إذ كان إذن الزواج من السلع التي لم يفكر فيها من قبل. فلم يكن لديه فكرة عن تكلفة ذلك الشيء، لكن ساوره يقين بأنها لن تزيد عن عشرة دولارات. القليل من الفكة من أجل أجرة الترام، ولشطيرة يتغدى بها والنقود من أجل الإذن. من الوارد أن تكون الفتاة قد توقعت سداد ثمنها من مالها الخاص، لكن لن يقبل جيمي البتة مبدأ أن تدفع امرأة تكلفة إذن زواجه. وما دام قد انبرى للأمر على كل حال وسيتزوج الفتاة، والعرس عرسه، العرس الوحيد الذي قد يحظى به؛ لذا أراد أن تكون ملابسه لائقة وأنيقة، حتى إن اقترض الملابس، وأراد أن يسدد نفقات عرسه حتى إن اقترض النقود. لو لم يكن قد مكث هناك واعتنى بالنحل، كان سيطلب من شخص آخر القيام بذلك ويتقاضى نقودا، كما أنه سوف يعيد العشرة الدولارات حين يستلم أول أجر له. فقد اقترض ذلك المبلغ.
أما بخصوص حلقة الذهب الرفيعة الصغيرة المنقوشة التي بدت كما لو كانت تناسب إصبع امرأة، بخصوص الخاتم الصغير الذي صادفه بين أزرار ياقات سيد النحل وأغراضه الصغيرة، فقد كان بحوزته. كان في جيب سترته. قد يكون تذكارا، قد يكون شيئا ثمينا، ربما لم يكن بين أغراض سيد النحل شيء أعز منه عليه. لم يكن قد قرر بعد إن كان سيستخدمه أم لا، لكنه كان بحوزته على أي حال. وبذلك استمد القوة من الملابس والنقود والخاتم، إذا حمل نفسه على استخدامه.
وعندئذ خطرت له فكرة. كان احتمال تحقيق فكرته ضئيلا، وهكذا تشاور مع السائق، وبعد عدة تغييرات نزل أمام دار القضاء القديمة بينما ما زالت لديه بضعة دقائق قبل الموعد. فذهب مسرعا إلى مكتب أذون الزواج في الطابق الأرضي. وأخبر الموظف أنه سيعود بعد قليل مع سيدة شابة للحصول على إذن زواج، وسأل عن تكلفته، فوجد أن لديه فائضا من النقود مما بث فيه شعورا بالراحة. وحينئذ بأقصى سرعة تلائم حالة ركبتيه، غادر دار القضاء وعاد إلى الشارع. ونظر حوله، عن يمينه وعن يساره وأمامه، وأثناء ذلك البحث وجد متجر مجوهرات.
بدا له متواضع المظهر، فدخله واتجه نحو البائع الذي أمامه صندوق مليء بالخواتم. فوضع النقود التي يستطيع الاستغناء عنها على المنضدة وقال: «هل من الممكن أن تعطيني خاتما بسيطا ومتواضعا مقابل هذا المبلغ؟»
لم يكن البائع معتادا على بيع خواتم مقابل ذلك المبلغ من المال، لكنه كان من أصل عبراني؛ فكان فطنا، لقد أدرك أن النقود التي على المنضدة هي كل ما ينوي الرجل الماثل أمامه إنفاقه. وإن لم يأخذها فسوف تضيع عليه. وهكذا بعد بعض البحث وجد خاتما رأى جيمي أن حجمه سيكون مناسبا. وقد بدا مقبولا إلى حد ما، وبذلك حصل السيد العبراني على المال وحصل جيمي على الخاتم . ومن ثم نقل الخاتم الذهبي اللامع الذي اقترضه من سيد النحل إلى الجيب الأيسر للسترة التي يرتديها، وفي الجيب الأيمن، في متناول أصابعه، دس الخاتم، الذي كان له ميزة اللمعان على الأقل.
بعد ذلك عاد أدراجه إلى دار القضاء، وبمجرد أن دخل المكتب وجد قبالته امرأة تعرف عليها في الحال. عرفها من طولها، وعرفها من عينيها؛ تعرف عليها من دون أن يعلم كيف عرفها أو السبب على وجه الدقة. كان هو عروسا، أما المرأة التي أمامه فلم تكن عروسا. إنما بدت كأرملة، هكذا دلت عنها ملابسها. فقد كانت فتاة العاصفة متشحة بالسواد من رأسها إلى قدميها. حيث ارتدت على رأسها قبعة محكمة صغيرة وقد أخفضت بشدة حتى إنه بالكاد استطاع أن يلمح العينين اللتين كان على يقين أثناء وهج البرق من أنهما سوداوان أو بنيتان. وقد بدتا في إضاءة المكتب بنيتين، بنيتين يخالطهما لون رمادي. كان الشيء المثير للدهشة في الزي الذي ارتدته الفتاة هو الطرحة. إذ يمكنه القول إنها طرحة أرملة. فقد كانت سميكة وسوداء، وتنتهي أطرافها بشريط ستان عريض. وغطى الشريط فمها وذقنها، وأظلت القبعة العينين فكانت عينين خاليتين من التعبير وخط من الوجنتين والأنف هم كل ما سمح لجيمي أن يراه من عروسه المرتقبة.
اعتراه شعور بالصدمة لمدة دقيقة، ثم أدرك أن الموت بطريقة ما تجسد في المغامرة التي هو مقدم عليها في ذلك اليوم. كانت الفتاة في حالة حداد. من الجائز إذن، على كل حال، أن الرجل الذي سيحل هو محله رجل ميت ربما كان سيؤدي واجبه لو منح الفرصة؛ لكن مهما يكن من أمر لقد قالت الفتاة بالحرف إنه يجب إنقاذها من العار. وإن كان الرجل الضالع في المسألة قد مات، فإنه لم يكن رجلا بحق، إذ كان من المخجل أن يترك مراسم الزواج تتعرض لأي كارثة.
كانت هذه الأشياء تجول في دماغ جيمي بسرعة البرق، فيما رفع جيمي نفسه قبعة سيد النحل وضم قدميه وتقدم بهيئته التي تستحق أن تنظر إليها أي امرأة بعين الاعتبار على أي حال. ويمكن القول إن اندفاعه الملهوف بحثا عن الخاتم بهدف إنقاذ كرامته، والذي توجه بشيء من الكبرياء في زفافه الوحيد، قد جعل قلبه يخفق بشدة، فلم تعد وجنتاه شديدتي الشحوب كما كانتا، ولم تعد شفتاه بالغتي الزرقة. إذ تدفقت حمرة الدماء في وجهه، فبدا إلى حد كبير رشيقا ومعتزا بنفسه وأنيقا كما قد يبدو أي رجل اسكتلندي الأصل وأمريكي النشأة والتعليم. من تأثير العادة، حين استقام من انحنائه، مد جيمي يده، وتعرف على لمسة اليد التي قابلت يده، ثم وقف قريبا منها وقال بعفوية: «كأننا نعرف الوقت من الساعة نفسها، أليس كذلك؟»
Page inconnue