بدت المياه عند قدميه نظيفة. لا بد أنها باردة. إذ كانت تتدفق على الصخور. منحدرة على منحدرات صغيرة. وتنساب أمام كهوف، حفتها السراخس، بديعة الجمال، بينما راحت تنطلق طيور دج صغيرة رشيقة من خلال الرذاذ، غالبا متجهة إلى أعشاشها المستترة بالمياه المتدفقة.
جلس جيمي من فوره في أشد الأماكن إشراقا بأشعة الشمس على أدفأ الصخور التي أمكنه العثور عليها وجعل يتأمل الموقف، وبعد أن استراح برهة نزل وشرب مغترفا المياه بيديه. ثم نفض الغبار عن ملابسه الجديدة، التي استخدمت استخداما قاسيا بعض الشيء، وتناول عصاه وسلك المدق. لم يكن السير عبره صعبا، حيث ينحدر لأسفل حتى نهايته، وقبل أن يقطع مسافة كبيرة بدأ يسمع أصواتا. فأدرك أن مكانا بذلك الجمال الفريد لا بد أن يجذب الناس، فلعلهم مخيمون أو متنزهون يرفهون عن أنفسهم بجوار المياه التي تتدفق بسرعة شديدة لم ير لها مثيلا قط. خطر لجيمي أنه ربما قد أخطأ بالتخلص من ملابسه الرسمية. فقد استنتج من عدد المرات التي عرض عليه فيها الركوب حين كان يرتديه، ومن التجاهل التام الذي لقيه من مئات السيارات التي مرقت بجانبه ذلك اليوم، حتى حين وقف مقتربا جدا ورفع يده طالبا فرصة للركوب معهم، أن الرجل الذي يرتدي زيا رسميا يلقى المساعدة. أما الرجل الذي يرتدي ملابس مدنية فقد يكون محملا بالأسلحة وتملأ رأسه النوايا الشريرة. بدا الوقت متأخرا حتى إن أي مسافر لديه مقعد شاغر سيحتقر نفسه إن لم يتفضل على أي شخص مسافر على قدميه بميزة الركوب.
صار الركوب ضروريا الآن. تقدم بقدمه اليمنى، ثم اليسرى، ثم اليمنى مرة أخرى، يا للألم! كانتا متيبستين من الورم، وآه كم كانتا تؤلمانه! ما إن قرر جيمي خلع حذائه وجواربه وغسل قدميه في المياه الباردة ليرى إن كان سيستطيع الحد من الألم والورم، حتى صار وجها لوجه مع لوحة كبيرة طليت حديثا جاء فيها أن المنطقة الممتدة أمامه تمد بالمياه مدينة كليفتون، التي لا بد أنها مدينة قريبة، وأن ثمة حارسا يطوف الوادي لحمايته، وأن أي شخص يلوث المياه بأي طريقة سيقبض عليه في الحال. فابتسم جيمي ابتسامة جافة ونظر إلى قدميه المتوجعتين فأدرك أنه من المفضل أن يترك حذاءه كما هو، فمن الوارد جدا ألا يستطيع العودة بقدميه إلى الحجم الذي يتسع له الحذاء إذا خلعه.
كان يسير في الاتجاه الصحيح، على كل حال. كانت كل خطوة يجبر نفسه على اتخاذها تحمله للغرب والجنوب. في البداية، رغم تعبه لم يستطع أن يتغافل عن جمال الوادي الذي سلكه. فقد كان نبات مخلدة السطوح مزدهرا على مرمى يده. وهناك سراخس وطحالب، ونباتات العائق والخزامى، وترمس أزرق وأصفر، وخماسية الأسدية حمراء والعديد منها صفراء، وكانت هناك بركة صغيرة امتلأت باللون الأبيض اللؤلؤي لنباتات ذيل السحلية المزدهرة، بأوراقها الكثيفة، وزهورها الفاتنة. لم يكن جيمي على دراية بأسماء هذه النباتات؛ فهي لم تكن ضمن المعلومات المذكورة في منهج علم النباتات الذي درسه أثناء نشأته في شرق البلاد.
ظل جيمي ماضيا في هبوطه نحو قاع الوادي. لم يلحظ كم كان بطيئا في سيره، لكنه بدأ يرى ناسا بعد مدة قصيرة. هنا أدرك أنه كان على صواب حين تخيل سماع أصوات. كان الدخان يتصاعد من بعض الأماكن، فشعر جيمي فجأة على نحو مبهج أن مشكلته فيما تبقى من ذلك اليوم قد حلت. فكل ما كان عليه فعله هو الانتظار لحين مغادرة المتنزهين للوادي وعندئذ يبحث في مكان تجمعهم فيجمع الخشب الجاف من الفروع والأغصان الميتة التي جمعوها أو سقطت، وفي أحد الأماكن التي كانوا يطهون فيها يضرم نارا كبيرة ودافئة جدا حتى يمكن له قضاء الليل دافئا. فجلس وظل ينتظر حتى اقتصرت الأصوات الصادرة من الوادي على شدو الطيور والمياه المتساقطة، المياه الجارية، المياه الضاحكة، المياه الصادحة بالغناء. ثم شرع يلتقط كل ما كبر حجمه بدرجة مناسبة للاحتراق، وراح يكومه في ثنية ذراعه اليسرى أثناء سيره، حتى بلغت حمولته أقصى ما يمكنه حمله. وبعد برهة وجد كهفا حجريا في جدار جانبي من الجدول، حيث كان الناس يطهون، وبعد التفتيش في قاع الرماد الذي صب عليه الماء وجد القليل من الجمرات المشتعلة. فكشط الرماد المبتل وأخذ الجمرات إلى المقدمة وحكها بالأغصان الصغيرة والحشائش الجافة، وبعد قليل حصل على شعلة ضعيفة، فظل يغذيها حتى حصل، مع غروب الشمس ونزوع الهواء للبرودة، على الحرارة التي يريح بها جسده المتعب.
وبعد ذلك، في إحدى جولاته بحثا عن الحطب، عبر الجدول وشق طريقه بمحاذاة الضفة اليمنى القريبة من قاعدة الجدار الهائل الذي مال مقطبا فوقه. وهناك وصل إلى هضبة صغيرة منبسطة من الحجر، فرأى ما جعله يضج بالضحك. كان المتنزهون الذين قضوا يوما سعيدا هناك قد تركوا بقايا غدائهم. وقد وضعوها على الصخور من أجل الطيور والسناجب، ولم تكن السناجب قد عثرت عليها بعد، كما أن الطيور قد رحلت منذ وقت طويل للخلود للراحة. فوجد هناك عدة شرائح من الخبز والزبد. وشطيرة لسان بارد، وبيضة مسلوقة ونصف خيارة مخللة بالشبت، فضلا عن قطع مفتتة من الجبن.
من ثم جلس جندي الحكومة، الذي أضحى جنديا مغامرا حقا، على الصخرة الكبيرة التي كانت لا تزال دافئة من حرارة النهار، وتناول كل ما أراد لغدائه من طعام ممتاز جدا. حين نهض ليذهب قال الأب الكامن بداخله: «اترك ما تبقى للكائنات الصغيرة كما وجدته.» وخاطبه صوت الأم بداخله فقال: «خذ معك كل فتاتة تتبقى من أجل الغد. فإن الكائنات البرية تعرف كيف تعتني بنفسها. أما أنت فمريض وكدت تبلغ حدود قدرتك على التحمل، وسوف تحتاج، وبشدة، إلى شريحة الخبز من أجل فطورك في الصباح.»
تأمل جيمي في الأمر. لم يكن قد وجد أي غضاضة حين أخذ سروال قاطع الطريق. كما أنه لم ينزعج الانزعاج الذي يثنيه عن استخدام محتويات المحفظة. وقد ملأ معدته إلى حد التخمة بما كان متروكا للكائنات البرية، فلم يعتد عليه أي من الكائنات البرية أو يحرمه من أي شيء. قد يكون في كل تلك النباتات التي تسلقت الجدران التي أحاطت به هناك وتدلت منها وكللتها طعام أشهى لذائقة الحيوانات البرية مما قد ترك لها. بيد أن جيمي كان به مسحة من خصلة ما، نفس المسحة التي أخذته إلى الغابات والأحراش، والتي أرسلته أميالا لا تحصى على امتداد ضفاف جداول أسماك التراوت في طفولته، مسحة من اللياقة والنقاء في روحه، وإنها تلك المسحة التي تقول له الآن: «فلتغامر مثلما تغامر تلك الكائنات البرية الصغيرة.»
هكذا جثا جيمي مرة أخرى وفتت الخبز وقطع حوافه. وبحركة عفوية وضع قطعة أخيرة من حواف الخبز في فمه، ثم ذهب للبحث عن حطب. حين شعر أنه قد جمع كمية كافية، زاد من اشتعال النار، فصارت باعثة على الدفء والراحة بقدر ما استدعت حاجته، فتكور أمامها، ومتوسدا ذراعه ومستندا إلى حجر، راح في النوم خلال دقائق قليلة جدا. لم يشعر البتة بالسحالي الصغيرة التي أخذت تجري على قدميه، ولم ير جرذ الغابة الذي جلس على فخذيه وظل يتفحصه بعينين متسائلتين ليرى ما إن كان معه أي شيء قد يريد أن يبادله بنصف الزرار المصنوع من اللؤلؤ الذي كان يحمله في خده الأيسر. استيقظ في الليل من صلابة فراشه قبل أن تنطفئ النار، فحشد عليها ما تبقى من الحطب وتحول بجنبه البارد تجاه النار والدفء ونام على جنبه الدافئ وعاد للنوم مجددا.
حين أقبل الصباح غسل وجهه ويديه بأن بلل منديله في الجدول، وبعد ذلك بلل منديله عدة مرات واعتصر ماءه على الجمرات التي كان قد تركها، مبعثرا بعضها بعيدا عن بعض، وماحيا أي أثر للنار يحتمل أن ينتشر. ثم، بقدميه اللتين كانتا لا تزالان تؤلمانه في الحذاء الذي لم يقدم على خلعه، بدأ السير هابطا نحو قاع الوادي.
Page inconnue