ثم قال أخيرا: «حسنا، ما دمت لا تعرفين فلا بأس، ذلك جل ما أردت معرفته. سينبغي علي أن أقوم بتحرياتي الخاصة.»
قال قوله ذلك مازحا، لكن ظلت الفكرة تراوده. إذ إنه عاد للمنزل ومنه إلى الممشى الخلفي. ثم رفع مزلاج بوابة الشاطئ بأصابع مستكشفة. واتخذ المسار الممهد بالطين الصلب والحصى نزولا إلى حيث تلتقي الرمال بالبحر، ووقف يجول بنظره بإمعان شديد وحرص بالغ في الرمال. وبعد برهة خيل له أنه بدأ يميز أثر قدم، وبعد بضع ياردات وجد ما كان يبحث عنه، أثر كان قد رآه من قبل، شكل الحذاء نفسه، العرض نفسه، والكعب العريض نفسه الدال على رجاحة العقل. وعندئذ أيقن من دون أي شك أن فتاة العاصفة كانت في منزله.
مضى متقدما في الشاطئ نحو الجنوب، مقتفيا آثار الأقدام، وأخيرا وجد الأكمة الرملية نفسها حيث كانت تنمو زهور رعي الحمام. ووجد السيقان التي قصت منها الزهور. ثم خطرت لجيمي فكرة، فدار وكاد يركض في اتجاه العرش. وبقلب خافق صعد المسار المؤدي إلى القمة، وتسلق الصخور، حتى أصبح في مواجهة الموضع الذي صمد فيه هو وفتاة العاصفة أمام العاصفة معا.
راحت الشمس في ذلك المساء تهبط إلى المحيط في هالة من الجلال حمراء اللون. فيما كان الغيم في الأفق يبدو أقرب إلى حمرة الدم في أشعتها، والمياه تلونت بزرقة نيلية داكنة في أبعادها الممتدة حتى الصين، وبلون زمردي فاتح ساحر قرب الشاطئ، بينما تلون السطح في بهاء تارة أرجواني وتارة وردي داكن مع الأمواج الخفيفة التي جعلت تتدفق في هوادة. وكان زبد الشاطئ والرمال نفسها متلونة بألوانها في رقة. وفي موضع قريب جدا راح طائر محاك يغرد ونوارس بيضاء تحلق عائدة لأعشاشها، وبضعة طيور طيطوي صغار تتشاجر على الشاطئ. كان ثمة أشياء كثيرة أجدر بجيمي أن يراها ويعجب بها ويحمد الله عليها، لكنه لم ير سوى أن سيدة العاصفة جلست في مكانها ونسقت الزهور التي أحضرتها له. حيث ألقيت على الصخور عند قدميه أوراق صغيرة ذابلة من رعي الحمام، وأسقطت براعم مهملة لكونها عجوزا جدا. تقدم جيمي خطوة أخرى وجعل ينظر، فكان في مكانه على الصخور ثلاثة براعم بديعة، وساق طويلة ممتدة وأخرى متوسطة وأخرى قصيرة محبوكة معا ببراعة، ومجدولة من بعد الأوراق وقد وضعت حيث كان يجلس كما قد نضع إكليلا جميلا على قبر أحد الموتى. وعندئذ طرأت لجيمي تلك الفكرة نفسها.
فقال: «يا إلهي! ترى ماذا قد تظن إن عرفت أنني أفضل عشر مرات عما كنت يوم تزوجتها! أتساءل إن كانت ستظن أنني كنت مخادعا إن عرفت أنني أبذل قصارى جهدي لأصبح بكامل صحتي. وأتساءل ماذا ستظن إن عرفت أنني لم أحفظ وعدي بعدم محاولة البحث عنها. أتساءل ماذا ستظن إن عرفت أنني حنثت به حين ذهبت إلى مارجريت كاميرون لأرى إن كانت تستطيع إخباري بأي شيء، وحنثت به مرة أخرى حين قطعت الشاطئ مقتفيا أثر قدم أعرفه. أتساءل ماذا ستظن إن عرفت أنني من أعماق قلبي أكاد أكون عاشقا لها. أتساءل ماذا ستظن إن عرفت أنه منذ الليلة التي ضممتها فيها بين ذراعي لم تمر علي بضع دقائق دون أن ترد على ذاكرتي وأريدها وأتألم من أجلها وأعمل من أجلها وأفكر فيها، حتى بلغ بي الحال أنني لم أعد أكترث كثيرا لسبب احتياجها إلى اسمي. وأتساءل ماذا ستظن إن عرفت كم مرة قرأت خطابها وكم راق لي، وأتساءل ماذا خطر لها وهي تجمع زهور رعي الحمام لتضعها بين أصابعي وتحملها على بعد بضع أقدام من وسادتي. ويحي! أتساءل إن كانت قد اطمأنت لي كفاية حين تزوجتها حتى إنها قد تأثرت قليلا بشخصيتي! أتساءل إن كانت تشعر أنني بحق حطام رجل على أي حال. أتساءل إن كانت الأيام الصعاب قد أوشكت وإن كانت بحاجة إلى رجل بمقدوره رعايتها والتسرية عنها وفعل ما بوسعه ليمدها بالقوة. أتساءل إن كانت تلك الزهور إلى جانب وسادتي هي طريقتها لتطلب مني مخالفة وعدي، والبحث عنها، ومساعدتها؟ أتساءل إن كانت هي طريقتها لتقول إنها تحتاج مني إلى أكثر من اسمي؟»
ظل جيمي جالسا حتى الغسق، ثم نهض ببطء وسلك الطريق إلى منزله لتناول غدائه. وبينما يعبر الرواق الخلفي طرأت له فكرة. سار عبر الممشى وانعطف إلى نافذة غرفة نومه، وبينما كان يتفحصها عن كثب لفت نظره كومة من رعي الحمام على الأرض. لقد أخبرته مارجريت كاميرون الحقيقة. إنها لا تعرف من هي فتاة العاصفة. ولم تزود أحدا بالمفتاح لتتيح الدخول إلى منزله. لقد فعلت فتاة العاصفة ما كانت قادرة تماما على فعله. فقد تخفت في الممشى الخلفي في خلوة الشجيرات، التي حجبتها عن الشوارع والمنازل المجاورة ودخلت من نافذته. كان ذلك ما حدث إذن، وهو ما لم يساعده البتة على اتخاذ خطوات نحو الموت. بل إنه دعاه، في واقع الأمر، إلى التفكير أكثر وأعطاه المزيد من الأسباب للعيش أكثر من أي أسباب سيطرت عليه من قبل.
بعد تلك الواقعة عاش جيمي في ترقب دائم. فلا شك أنها يوما ما ستأتي مرة أخرى. يوما ما سيوجد في الحديقة حين تأتي، أو سيجدها على العرش. كاد يحمله الهوى على كتابة رسالة وتركها هناك، لكن أثناه عن ذلك معرفته أن العديد من الناس يتسلقون المسار الوعر المؤدي لقمة الصخرة المتعرجة. لم يستطع أن يجازف فيعثر أي شخص آخر على الرسالة الموجهة لفتاة العاصفة. لم يستطع في أعماق نفسه الامتناع عن التفكير فيها كما رآها، مكروبة وحزينة في وهج البرق، أو بشفتين مرتعشتين وعينين محدقتين كما كانت حين تركته. لم يستطع ألا يحاول تخيل كيف قد يبدو وجهها وهو متلهف ومتوهج بالسعادة، وكم قد تلمع عيناها وهي مسرورة ومتحمسة، وكم ستصبح رفيقة رائعة عند مواجهة الأمواج أو تسلق الجبل، أو العمل في الحديقة، أو عند الجلوس قبالة المدفأة. مهما يكن ما قد ظنه عنها حين رآها امرأة غامضة، امرأة تجلى عرقها وأصلها في وجهها وحركاتها ونبرات صوتها، امرأة يملك دمه حق أن يهفو إليها لأنهما ينتميان للجنسية نفسها، من ناحية الجد، تظل الحقيقة أنه لا يمكن أن تكون غامضة بالنسبة إليه قط. فقد انطبعت في ذاكرته في وعيه بطريقة مختلفة عن أي امرأة أخرى.
قال جيمي: «لأنها زوجتي أمام الله وأمام القانون، وهو الواقع الذي لا يمكنني التملص منه، ولا تستطيع هي التملص منه. لا يمكنها أن تتزوج أي رجل آخر من دون الإعلان عن نفسها والطلاق مني.»
وإذا بجيمي يتلقى صفعة أخرى أردته فاقد النطق وربما فاقد الحس لبرهة.
إذ قال لنفسه وكل ما حوله حين اكتسب طاقة كافية ليتحدث: «كذلك أنت يا جيمس لويس ماكفارلين، لا تستطيع الزواج من أي امرأة، ولا يمكن أن يصبح لديك بيت حقيقي ولا عائلة ما دمت متزوجا شرعا من فتاة لا تريد سوى اسمك، أو على وجه الدقة من واحدة لا تريدك أنت شخصيا على الإطلاق!»
Page inconnue