وخوفا من أن يذيع أمره وهو ما زال في بداية مغامرته الكبرى، فقد أغفل جيمي ذكر اسمه، لكنه قال إنه يسعده للغاية الاستمرار في الركوب معهم ما داموا ماضين في وجهته.
كان مسرورا بالركوب، لكن ليس بقدر سعادته حين توقفت السيارة ونصب مخيم عند مدخل أحد الأودية بجوار الطريق. تمنى ألا يلاحظ أحد أنه يترنح في سيره أو كم أخذ يلهث حين حاول المساعدة في إنزال حمولة السيارة. كان عليه توخي الحذر لأن الشيء الهام الذي جعله من الامتنان في غاية قد حدث. ومن ثم نظر فقط نحو التلال. ولم يكن قد خطر له سوى أن يطلب العون من الله. وتساءل نوعا ما إن كان ربما من المحتمل أن الله ينظر إليه في تلك اللحظة، إن كان قد رأى حاجته، إن كان قد أرسل هؤلاء الناس الطيبين المؤنسين الذين قدموا له غداء، ومرتبة مخيم لقضاء الليل، وتوصيلة في رحلته خلال اليوم التالي. فقد كان أمرا جللا. وهكذا تظاهر بقدر ما استطاع بأنه رجل معافى وبكامل صحته وهو يجمع الحطب لإشعال النار ليلا، ويبحث عن مكان ليفرشوا فيه مراتب المخيم ويلتمسوا الراحة. وقد راوده شعور أنه لا يستحق ذلك الشيء الذي يحدث له. لقد راح يتساءل إن كان سيضطر إلى الزحف بين الشجيرات مثل كلب ضرب بالسوط حتى يجد ملاذا أكيدا في برودة الليل وإن كان مؤلما. لكن ما يحدث له الآن ليس بالضبط ما قد توقعه. فها هو سيحصل على غداء من طعام ساخن ودثار. ومراعاة لوجهه الشاحب ويديه المرتعشتين؛ سمح له باختيار موقع قريب من نار المخيم، ومن ثم لم يكن هناك سبب يجعله أسوأ حالا في مغامرة اليوم التالي.
كانت آن برونسون شخصية مرحة. وهي ممن يأنس بصحبتها الكل. وقد راحت تنادي جيمي «أيها السيد الجندي»، وحين رأت كم كان شديد الشحوب ومضطرب الخطوات، أشفقت عليه وأعطته مقعدا وجعلته يقشر البطاطا، بينما تركت ابنتها وزوجها يتوليان مهام إتمام المخيم الأشد مشقة.
حين مضى في سبيله هابطا الدرب من المستشفى إلى الطريق، خطر لجيمي ماكفارلين أن خروج رجل في حالته من المأوى الوحيد المكفول له على وجه الأرض من دون قرش في جيوبه كان مغامرة كبرى. وبينما هو جالس يقشر البطاطا من أجل آن برونسون في الوقت الذي راحت فيه ابنتها وزوجها يريانه كل الحيل التي يمكن بها إخفاء أشياء داخل وحول جسم سيارة تتسع فقط لخمسة ركاب - من الخزانة الصغيرة المرتبة عند الدواسات الجانبية من أجل الصحون والطعام، والثلاجة الصغيرة، وموقد الغاز ذي الصفيحتين من أجل تسخين القهوة وطهي اللحم والبطاطا، وإمكانية وضع الأشياء في حيز صغير لدرجة مذهلة - خطر على باله أن مغامرته ستكون مؤنسة وعادية، وأن البلد مليء بالناس الطيبين الذين لم ينسوا أبناءهم الجنود. كان هناك أمل ضئيل في أن يجد عملا خفيفا يقوى على القيام به، وفي أن يحدث شيء ما أفضل على الأقل من الانعزال إلى الأبد في مدينة الطاعون الأبيض. وهكذا حاول توخي الحذر بشدة وقشر البطاطا تقشيرا رفيعا وتفحصها كما علمته أمه المدبرة حين كان يساعدها في المطبخ صغيرا. أثناء عمله لم يخطر له احتمال أنه مع كل دقيقة كانت ثمة مغامرة تقترب أكثر فأكثر. لقد اتخذ احتياطه بالجلوس خلف السيارة حتى لا يراه أي مار، وبعد الانتهاء من الغداء وإعداد الأفرشة، ارتفع بعينيه المدربتين على الاستكشاف فرأى ضوءا وامضا بعيدا في الأفق، لكنه كان يهبط ببطء، فقال إنه سوف يذهب في تمشية قصيرة.
ومن ثم ترك عائلة برونسون وسلك طريقه عائدا على مهل وفي هدوء، متوغلا في الوادي بين أجمة أشجار البلوط الأخضر والحي، باحثا عن بقعة يمكنه الخلود فيها للراحة ولو مدة قصيرة، ومراقبة ذلك الضوء الغامض، والانفراد بنفسه ومحاولة التخطيط لليوم التالي. وقد أدرك أن هناك شيئا ضروريا يجب فعله من أجل نجاح عملية هروبه، هو التخلص من زيه الرسمي بأسرع ما يمكن. فإذا لاحظ المسئولون غيابه من المستشفى بالفعل، وإذا وزعوا استدعاء عاما، فسوف يصبح زيه هو الشيء الذي سيفصح عن هويته سريعا. سوف يخضع كل رجل يرتدي زيا رسميا لنظرات متفحصة، وسوف تلاحقه محطات إذاعية واتصالات هاتفية وصحف. لا بد أن يفكر فيما يمكنه فعله وكيف عساه أن يفعله.
وهكذا ارتقى جانب الوادي حتى غاب عنه ضوء المخيم الواقع وراءه والأصوات الآتية منه، وحين وجد نفسه متعبا، جلس في ضوء القمر الأبيض وتطلع ببصره باحثا عن الضوء لكنه اختفى. كان من الحماقة أن يجزع. فعلى ما يبدو كان ذلك أحد الأشخاص ضل السبيل وقد وجدها الآن. لم يدرك أن الصخرة التي جلس عليها كانت متداخلة جدا مع الفروع المتدلية لشجرة بلوط حي مما جعله غير ظاهر. لم يدرك ذلك حتى وجد نفسه، بعد هبوب نسمة خفيفة واحدة على الجبل القائم خلفه، وجها لوجه مع مغامرة عظيمة وبالخطورة التي ترضيه. لم يدرك كم أمضى جالسا يفكر فيما قد يسعه فعله. ما نبهه كان شيئا ما، راح يهبط الأخدود على يمينه، وحين أدام النظر في ذلك الاتجاه، رأى خيال رجل ضخم يخرج من بين الشجيرات ويهم بشق طريقه في حذر، محدثا أقل صوت ممكن، متجها إليه مباشرة.
لما صار الرجل واضحا للعيان ودخل في ضوء القمر الساطع استطاع جيمي رؤية أنه كان طويلا، وعاري الرأس، يرتدي قميصا من دون معطف، وينتعل حذاء برقبة ويرتدي سروالا حتى الركبة. وقد أحاط بخصره حزام سميك مليء بطلقات الخرطوش، وحين استدار ليلقي نظرة على المسار الذي قد قطعه وليصغي السمع، استطاع جيمي ماكفارلين أن يرى المسدس الكبير المعلق على الفخذ اليمنى في متناول يد الرجل. هنا انخفض صوت أنفاسه جدا، وبالهدوء نفسه الذي يسود المناطق المحرمة ظل يتسلل للخلف بين الفروع المتدلية.
السبب الذي يجعل من مغامرة كبرى مغامرة من الأساس هو أن الأشياء التي تحدث بسيطة للغاية وطبيعية للغاية. أما ما يجعلها كبرى فهو مجرد أن الشخص لم يتوقعها، وليس لأنها من الأشياء التي من الممكن أن يتوقعها المرء وهو في كامل وعيه. ظن جيمي أن نزول رجل ضخم بمسدس كبير متجها نحوه قد يشكل مغامرة نوعا ما. وتطور الاحتمال إلى احتمالات كثيرة حين أدرك جيمي بأذنه، وهو الذي له باع طويل في الاستطلاع والزحف على بطنه بين خطوط إطلاق النار، أن ثمة شيئا آخر حيا يتحرك إلى أسفل الجبل على يساره، شيء ينزلق، متوخيا أقصى حذره، ومتجها نحوه ببطء وثقة.
بدت المغامرة خطيرة خطورة تليق بأكثر أفكار جيمي جموحا عن المغامرات حين باعد بين الشجيرات ببطء رجل ثان، ليس بنفس ضخامة الرجل الأول لكنه ضخم أيضا، وقد بدت هيئته أكثر قتامة نظرا إلى أنه يرتدي معطفا وقبعة، وهو يحمل مسدسا قبيحا في يده اليمنى، وخطا نحو الوادي من جهة اليسار قليلا.
حينئذ جلس جيمي فاغرا فاه في حيرة أثناء لقاء هذين الرجلين بناء على إشارة الضوء التي قد رآها، حيث أخبر الرجل الضخم الرجل الآخر أنه قد نزل نحو الطريق ليرى ما وراء الدخان والنار، وأن هناك مجموعة من السائحين، مجرد رجل ضئيل الحجم يستطيعان إلحاق الأذى به لكونه غير مسلح، ويستطيع أي منهما تولي أمره بيد واحدة. بدا في نهاية المطاف أنه من المؤكد وجود بضع مئات من الدولارات في مكان ما مع الرجل، أو إحدى المرأتين، أو في السيارة.
Page inconnue