وأحدثت عليه رقة في نفسه، ووحشة في خاطره، وشدة أسف على ما نغص عليه من عصارة ملكه.
فذكر أنه قال يومًا لأكابر خدمته الخاصة، وقد حفوه في مرضه، وفيهم سعدون زعيمهم الذي اختصه بعد مهلك حظيه نصر ومن يليه: يا بني! - وبذلك كان يخاطبهم مستلطفًا لهم ومرفقًا بهم - لقد اشتقت أن أعاين ضوء الدنيا وفسحة الأرض، إذ قد حميت عن الخروج إليها، فلعلني أعلو مرقبة يسافر بصرى فيها، فأتسلى بالنظر إلى بسيطها، وجسمي منزع، فهل سبيل إلى ذلك؟ فقالوا له: نعم يا مولانا.
وابتدر أكابرهم إنفاذ أمره، فأخذوا سرير خيزران لطيفًا، وثيق الصنعة من أسرة الخلافة، ووضعوا فوقه فراشًا خفيفًا وثيرًا حشوه الريش، أجلسوه فوقه، واحتملوه على أعناقهم، فصعدوا به إلى العلية على هيئته التي كانت من بنيان الأمير على باب الجنان من أبواب القصر القبلية، ثم هبطوا كذلك، فعانوا ذلك مرات يسوقون به الأمير في تعاريج درجة الدائرة، حتى استوى لهم ذلك كما أرادوه، وأمنوا على الأمير المشقة فيه.
فوضعوا الأمير عبد الرحمن عند ذلك فوق ذلك الفراش، وشدوه من جهاته، واستوثقوا من اضطرابه، وصعدوا به هونًا، حتى صيروه بأعلى تلك العلية، فأجلسوه صدرها، وأدنوه إلى الباب الأوسط منها، فأشرف على صحراء الربض قدام باب القصر، وسرح بصره فيها، ورآها إلى كدى القنبانية، ونظر إلى النهر أمامه، والسفن تجري فيه صاعدة ونازلة.
فاستروحت نفسه، وانشرح صدره، وشكر لخدمه ما تجشموه من إدنائه من مسرته وقال لهم: يا أولادي اجلسوا الآن حولي، وأنسوني بكلامكم، ومتعوني بأحاديثكم، ولا تنقبضوا عني بشيء مما تتحدثون به بينكم إذا انفردتم، كيما أشتغل بذلك عما أقاسيه من علتي. ففعلوا، وأنس هو بذلك وانبسط، وقطع أكثر نهاره في تلك العلية. ودنا المساء، فدعوه إلى النزول إلى مجلسه، فبيناه يتهيأ لذلك، إذ وقعت عينه في الصحراء قدامه على قطيع شاء وهي ترعى في منحدرها، ولم ير معها راع يسوقها، فقال لهم.
1 / 159