الْمُقدمَات الممهداَت
لبَيَان مَا اقتضتهُ رسوم الْمُدَوَّنَة من الْأَحْكَام الشرعيَّات وَالتحصيلات المحكماَت لأمهات مسَائِلها المشكلاَت
تَأليف
أَبُو الْوَلِيد مُحَمَّد بن أَحْمد بن رشد الْقُرْطُبِيّ الْمُتَوفَّى ٥٢٠ هـ
تَحْقِيق
الدكتور مُحَمَّد حجي
دَار الغرب الإسلامي
Page inconnue
[مقدمة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
قال الفقيه محمد بن أحمد بن رشد، أما بعد، حمد الله تعالى الذي هدانا للإيمان والإسلام، والصلاة على نبيه الذي استنقذنا به من عبادة الأوثان والأصنام، وعلى جميع أهل بيته وصحابته النجباء البررة الكرام، فإن بعض أصحابنا المجتمعين إلى المذاكرة والمناظرة في مسائل كتب المدونة سألني أن أجمع له ما أمكن مما كنت أورده عليهم عند استفتاح كتبها وفي أثناء بعضها مما يحسن المدخل به إلى الكتاب وإلى ما استفتحت عليه من فصول الكلام وتعظم الفائدة ببسطه وتقديمه وتمهيده من معنى اسمه واشتقاق لفظه وتبيين أصله من الكتاب والسنة وما اتفق عليه أهل العلم من ذلك واختلفوا فيه بوجه بناء مسائله عليه وردها إليه وربطها بالتقسيم لها والتحصيل لمعانيها، جريا على سنن شيخنا الفقيه
1 / 9
أبي جعفر ابن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وطريقته في ذلك واقتفاء لأثره فيه، وإن كنت أكثر احتفالا منه في ذلك لا سيما في أول كتاب الوضوء، فإني كنت أشبع القول فيه ببنائي إياه على مقدمات من الاعتقادات في أصول الديانات، وأصول الفقه في الأحكام الشرعيات، لا يسع جهلها، ولا يستقيم التفقه في فن من فنون الشرع قبلها، فله الفضل بالتقدم والسبق؛ لأنه نهج الطريق وأوضح السبيل ودل عليه بما كان يعتمده من ذلك مما لم يسبقه من تقدم من شيوخه إليه. فلقد سألته- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عما كان يستفتح به شيخه الفقيه أبو عمر بن القطان مناظرته في ابتداء كتب المدونة، فقال لي: كان لا يزيد على ما ذكره ابن أبي زيد في أوائل الكتب من مختصره، وكان لا ينتهي إلى ما وفق إليه فلقد كان- أكمل الله كرامته لديه- أفقه من شيوخه وأنفع للطالب منهم، وليس ذلك بغريب، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ومبلغ حديث إلى من هو أوعى له منه، والتوفيق بيد الله يؤتيه من يشاء. فأجبت السائل لما سألني من ذلك رجاء ثواب الله تعالى ورغبة في حسن المثوبة عليه، ووصلت ذلك ببعض ما أستطرد القول فيه من أعيان مسائل وقعت في المدونة ناقصة مفرقة، فذكرتها مجموعة ملخصة مشروحة بعللها مبينة، فاجتمع من ذلك تأليف مفيد لم يسبقني أحد ممن تقدم إلى مثله، سميته بكتاب المقدمات الممهدات، لبناء ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات، والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات. والله أسأله التوفيق في القول والعمل. من الزيغ والزلل بعزته ورحمته.
1 / 10
فصل
في معرفة الطريق إلى وجوب
التفقه في الوضوء وغيره من الشرائع
قال الله ﷿: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: ١٣] والدين الذي أمرنا بإقامته هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله سواه. قال الله ﷿: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩]، وقال: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: ٨٥]، وإقامته تفتقر إلى التفقه في شرائعه التي شرعها الله لعباده، وأوجبها عليهم في محكم كتابه، من الوضوء والصلاة والزكاة وسائر شرائع الدين، والتفقه فيها لا يستقيم إلا بعد المعرفة بوجوبها، ولا طريق إلى المعرفة بوجوبها إلا بعد المعرفة بالله تعالى على ما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله، أو ما يقوم مقام المعرفة من الإيمان والتصديق، على القول بأن أول الواجبات الإيمان بالله تعالى؛ لأن المعرفة بوجوب الواجبات وحظر المحظورات مع الجهل بموجبها والجحد له من المستحيل في العقل، فلا يعلم الله تعالى إلا بالنظر في الأدلة التي نصبها لمعرفته والاستدلال بها عليه. ولا يصح النظر والاستدلال إلا ممن له عقل ينظر به ويستدل. وقد جعل الله ﵎ لمن أراد تكليفه من عباده عقولا يعرفونه بها بما نصب لهم من الأدلة على معرفته، ويعقلون بها ما خاطبهم به وشرعه لهم في كتابه وعلى ألسنة
1 / 11
رسله، إذ لا يصح تكليف من لا يعقل التكليف. وأنعم على المؤمنين بأن وفقهم لذلك وهداهم له وشرح صدورهم لمعرفته. قال الله ﷿: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ [الأنعام: ١٢٥]، وقال الله ﷿: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ [الشمس: ٧] ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: ٨].
فصل
في معرفة شرائط التكليف
وشرائط التكليف ثلاثة: أحدها العقل، ومحله عند مالك ﵀ القلب. وحده معرفة بعض العلوم الضرورية كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الجسمين لا يجتمعان في مكان واحد، وأن السماء فوقنا وأن الأرض تحتنا، وأن الجمل لا يلج في سم الخياط، وما أشبه ذلك مما تعلم معرفته العقلاء. وألخص من هذا الحد أن يقال فيه إنه مادة يتأتى بها درك العلوم؛ والأول أصح وأبين، وهذا أخصر.
والدليل على أن العمل شرط في صحة التكليف من الكتاب قول الله ﷿: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: ٧]، وقَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: ١٩٠]. وقوله: ﴿لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ١٦٤]. ومن السنة قول النبي ﷺ: «رفع القلم عن ثلاث»،
1 / 12
فذكر فيهم المجنون حتى يفيق. والثاني البلوغ، وهو الاحتلام في الرجال أو بلوغ حده من الأعوام. واختلف في ذلك فقيل خمسة عشر، وقيل سبعة عشر، وقيل ثمانية عشر، والاحتلام أو الحيض أو الحمل في النساء، أو بلوغ ذلك أيضا من الأعوام. والدليل على ذلك قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [النور: ٥٩]، وقول النبي ﷺ: «رفع القلم عن ثلاث»، فذكر الصبي حتى يحتلم. فصل وللصبي فيما دون الاحتلام حالان: حال لا يعقل فيها معنى القربة، وحال يعقل فيها معناها. فأما الحال التي لا يعقل فيها معناها فهو فيها كالبهيمة والمجنون ليس بمخاطب بعبادة ولا مندوب إلى فعل طاعة. وأما الحال التي يعقل فيها معنى القربة فاختلف هل هو فيها مندوب إلى فعل الطاعة كالصلاة والصيام والوصية عند الممات وما أشبه ذلك، فقيل إنه مندوب إليه، وقيل ليس بمندوب إلى شيء من ذلك وإن وليه هو المخاطب بتعليمه وتدريبه والمأجور على ذلك. والصواب عندي أنهما جميعا مندوبان إلى ذلك مأجوران عليه. «قال رسول الله ﷺ للمرأة التي أخذت بضبعي الصبي ورفعته من المحفة إليه وقالت ألهذا حج يا رسول الله قال نعم ولك أجر» وهذا واضح. والثالث بلوغ دعوة الرسول ﷺ. والدليل على ذلك قول الله ﷿: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾ [الإسراء: ١٥]، وما أشبه ذلك من الآيات.
فصل
في وجوب الاستدلال
وقد نبه الله ﵎ عباده المكلفين على الاستدلال بمخلوقاته على
1 / 13
ما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله في غير ما آية من كتابه، وضرب لهم في ذلك الأمثال، وتلا عليهم فيه القصص والأخبار، ليتدبروها ويهتدوا بها، فقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٥]، وقال: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾ [ق: ٦] ﴿وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [ق: ٧] ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [ق: ٨]، وقال: ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية: ١٧] ﴿وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ﴾ [الغاشية: ١٨] ﴿وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ﴾ [الغاشية: ١٩] ﴿وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [الغاشية: ٢٠]، وقال: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: ١٩٠]، وقال: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ١٦٤]، وقال: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ - أَأَنْتُمْ﴾ [الواقعة: ٥٨ - ٥٩] الآية إلى أخرها. وقال: ﴿وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ [الذاريات: ٢٠] ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: ٢١]، وقال: ﴿وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الرعد: ٤]، وقال تعالى:
1 / 14
﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ - وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ - فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الروم: ٤٨ - ٥٠]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج: ٧٣]، وقال: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ﴾ [الروم: ٢٨]، وقال ﷿: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ٢٥٨].فصل وليس رجوع إبراهيم ﷺ عما استدل به أولا من أن الله يحيي ويميت إلى أنه يأتي بالشمس من المشرق انتقالا من دليل إلى دليل لأن الانتقال من دليل إلى دليل عجز عن قطع الخصم بالدليل الذي استفتح الكلام به، ولا يصح ذلك، بل إنما قطع الكافر بالدليل الذي استدل به أولا ولم يخرج عنه إلى غيره لأنه إنما حكم بالربوبية لمن يقدر على خلق الأفعال واختراعها فقال إن الله يحيي ويميت أي
1 / 15
يفعل الموت والحياة، فلما ادعى الكافر القدرة على ما يصح أن يراد بالإحياء والإماتة من فعل ما أجرى الله العادة بخلق الموت والحياة عنده في الجسد المفعول به ذلك كما قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: ٣٢]، وكان القتل أيضا قد يعبر عنه بالإماتة عند العرب، بين له إبراهيم ﷺ أن علته ليست الأفعال التي حمل عليها كلامه جهلا منه بمراده أو تمويها؛ لأن الإحياء والإماتة إذا أطلقت أظهر في اختراع الموت والحياة منها فيما حمله عليه الكافر، فكيف إذا اقترنت بها قرينة تدل على أنه لم يرد بها إلا ذلك، وهي ما استفتحا الكلام فيه. من الربوبية التي تقتضي ذلك، وأتاه ﷺ بألفاظ لا يمكنه فيها تمويه ولا يسعه فيها عمل، ولم يخرج عما ابتدأ به الكلام معه من الحكم بالربوبية لمن يقدر على اختراع الأفعال وخلقها؛ لأن الصفة في ذلك واحدة لا تتزايد ولا تختلف، فقال له: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: ٢٥٨] أي إن كان ما ادعيت حقا من أن الإحياء والإماتة أنت فاعلها وتقع بحسب إرادتك؛ لأن من يقدر على فعل شيء يقدر على فعل مثله. فلما رأى الكافر ما ألزمه ﵊ به ولم يقدر على دفعه ولا أمكنه فيه تمويه ولا عمل بهت كما قال تعالى. فلم يخرج إبراهيم ﷺ من دليل إلى دليل، بل إنما قطعه وأبهته بالدليل الذي استفتح به كلامه والحمد لله. وقال ﵎: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: ٧٥] ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ [الأنعام: ٧٦] إلى قوله ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٧٩]، فاستدل إبراهيم ﵊ بما عاين من حركة الكواكب والشمس والقمر على أنها محدثة؛ لأن الحركة والسكون من علامات المحدثات. ثم علم أن كل محدث فلا بد له من محدث وهو الله رب العالمين. وهذا وجه الاستدلال وحقيقته قصه الله ﵎ علينا تنبيها لنا وإرشادا إلى ما يجب علينا. وهذا- في القرآن كثير
1 / 16
لا يحصى كثرة. ولم يستدل إبراهيم ﷺ بما عاينه في الكواكب والشمس والقمر لنفسه، إذ لم يكن جاهلا بربه ولا شاكا في قدمه، وإنما أراد أن يري قومه وجه الاستدلال بذلك ويعيرهم بالذهول على هذا الدليل الواضح ويوقفهم على باطل ما هم عليه، وكان من أحج الأنبياء - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - وذلك بين من كتاب الله تعالى. ألا ترى إلى ما حكى الله ﷿ من قوله بعد أن أراهم أنهم على غير شيء ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٧٩] ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي﴾ [الأنعام: ٨٠] فِي اللَّهِ إلى قوله ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾ [الأنعام: ٨٣] وقوله في أول الآية: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: ٧٥] وقد قيل إن ذلك كان في صباه وفي أول ما عقل، والأول أصح وأبين والله ﷾ أعلم.
فصل
في وحدانية الله ﷿ وأسمائه
وما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله
فالله ﵎ إله واحد قديم بصفاته العلى وأسمائه الحسنى لا أول لوجوده، وباق أبدا إلى غير غاية ولا انتهاء، تعالى عن مشابهة المخلوقات، وارتفع عن مماثلة المحدثات، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وردت بذلك كله النصوص عن الرسول ﵊، ودلت عليه دلائل العقول.
فمن أدلة العقول على أنه واحد أنهما لو كانا اثنين فأكثر لجاز أن يختلفا، وإذا اختلفا لم يخل ذلك من ثلاثة أقسام لا رابع لها. أحدها أن يتم مرادهما جميعا، والثاني أن لا يتم مرادهما جميعا، والثالث أن يتم مراد أحدهما ولا يتم مراد الآخر. فيستحيل منها وجهان وهو أن يتم مرادهما جميعا، وأن لا يتم مراد
1 / 17
واحد منهما؛ لأنه لو أراد أحدهما إحياء جسم وأراد الآخر إماتته فتمت إرادتهما جميعا لكان الجسم حيا ميتا في حال واحد، ولو لم تتم إرادة واحد منهما لكان الجسم لا حيا ولا ميتا في حال واحد، وهذا من المستحيل في العقل، فلم يبق إلا أن يتم مراد أحدهما ولا يتم مراد الآخر. فالذي تتم إرادته هو الله القادر، والذي لم تتم إرادته ليس بإله لأنه عاجز مغلوب. وهذا الدليل يسمونه دليل التمانع، وقد نبه الله تعالى عليه في كتابه بقوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: ٢٢]، وبقوله: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون: ٩١].
ومن أدلة العقول على أنه قديم أنه لو كان محدثا لوجب أن يكون له محدث، إذ لو جاز وجود محدث دون محدث لجاز وجود كتابة دون كاتب وبناء دون بان، وهذا من المستحيل في العقل. وكذلك القول في محدثه ومحدث محدثه حتى يستند ذلك إلى محدث أول لا محدث له وهو الله رب العالمين. فصل ومن أسمائه التي دلت دلائل العقول على استحقاقه لها كونه حيا عالما قادرا مريدا.
فمن أدلة العقول: على أنه عالم قادر مريد كونه خالقا لجميع المخلوقات مخرجا لها من العدم إلى الوجود. فلو لم يكن قادرا لما تأتى له الفعل؛ لأن الفعل لا يتأتى إلا لقادر. وقد نبه الله تعالى عليه بقوله: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ﴾ [يس: ٨١]، ولو لم يكن عالما لما ميز ما يوجده ويخلقه مما لا يوجده ولا يخلقه، ولاشتبهت عليه صفات المخلوقات على اختلاف أجناسها تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وقد نبه الله تعالى
1 / 18
على هذا الدليل بقوله: ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: ١٤]، ولو لم يكن مريدا لما صح تقدم المتقدم من الحوادث والمخلوقات على المتأخر منها ولا تأخر المتأخر منها على المتقدم، إذ ليس المتقدم بأولى بالتقدم من المتأخر ولا المتأخر بأولى بالتأخر من المتقدم، ولما صح اختصاص كل جنس منها بصفته دون صفة صاحبه لاحتماله صفة صاحبه. فعلمنا بهذا أن المتقدم إنما تقدم على المتأخر وأن المتأخر إنما تأخر عن المتقدم وأن كل جنس من الأجناس إنما اختص بصفته دون صفة صاحبه بقصد الفاعل إلى ذلك وإرادته له. وقد نبه الله ﵎ أيضا على هذا الدليل بقوله: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: ٤٠].
فصل
وإذا علمنا أنه عالم قادر مريد علمنا أنه حي لاستحالة وجود العلم والقدرة والإرادة من الموات. وقد نبه الله ﵎ على هذا وأعلم به بقوله: ﴿هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [غافر: ٦٥]، وقَوْله تَعَالَى: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥]، وقوله: ﴿الم﴾ [آل عمران: ١] ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ - نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [آل عمران: ٢ - ٣] يريد ﷿ من الكتب المنزلة على من قبله من الأنبياء، ومثل هذا في القرآن كثير. وإذا علمنا أنه حي عالم قادر مريد علمنا أنه سميع بصير متكلم مدرك لجميع المدركات من المشمومات والمذوقات والملموسات، لاستحالة خلوه منها، إذ لو خلا منها لكان موصوفا بضدها، وأضدادها نقائص يستحيل وجودها به
1 / 19
تعالى. إذ لو جازت عليه صفات النقص وصفات الكمال لما اختص بإحداهما دون صاحبتها إلا بمخصص يخصصه بها وذلك باطل. وإذا علمنا أنه حي مريد عالم قادر سميع بصير متكلم مدرك لجميع المدركات علمنا أن له علما وحياة وقدرة وإرادة وسمعا وبصرا وكلاما وإدراكا يدرك به جميع الملموسات، وإدراكا يدرك به جميع المذوقات، وإدراكا يدرك به جميع المشمومات، لاستحالة وجود حي بلا حياة، وعالم بلا علم، وقادر بلا قدرة، ومريد بلا إرادة، وسميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، ومتكلم بلا كلام، ومدرك بلا إدراك.
فصل
فهذه عشر من صفات ذاته تعالى لا تفارقه ولا تغايره، تدرك من جهة العقل ومن جهة السمع، ولا اختلاف فيها بين أحد من أهل السنة. وأما ما وصف به نفسه تعالى في كتابه من أن له وجها ويدين وعينين فلا مجال للعقل في ذلك، وإنما يعلم من جهة السمع، فيجب اعتقاد ذلك والإيمان به من غير تكييف ولا تحديد، إذ ليس بذي جسم ولا جارحة ولا صورة. هذا قول المحققين من المتكلمين. وقد توقف كثير من الشيوخ عن إثبات هذه الصفات الخمس وقالوا لا يجوز أن يثبت في صفات الله تعالى ما لا يعلم بضرورة العقل ولا بدليله، وتأولوها على غير ظاهرها فقالوا المراد بالوجه الذات كما يقال وجه الطريق ووجه الأمر أي ذاته ونفسه. والمراد بالعينين [إدراك المرئيات، والمراد باليدين] النعمتان. وقَوْله تَعَالَى: ﴿بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥]، أي ليدي لأن حروف الخفض يبدل بعضها من بعض والصواب قول المحققين الذين أثبتوها صفات لذاته تعالى، فعلى هذا تأتي صفات ذاته تعالى خمس عشرة صفة.
1 / 20
واختلفوا فيما وصف به نفسه من الاستواء على العرش، فمنهم من قال إنها صفة فعل بمعنى أنه فعل في العرش فعلا سمى به نفسه مستويا على العرش. ومنهم من قال إنها صفة ذات من العلو، وإن قوله استوى بمعنى علا، كما يقال استوى على الفرس بمعنى علا عليه. وأما من قال إن الاستواء بمعنى الاستيلاء فقد أخطأ؛ لأن الاستيلاء لا يكون إلا بعد المغالبة والمقاهرة، والله يتعالى عن أن يغالبه أحد. وحمل الاستواء على العلو والارتفاع أولى ما قيل، كما يقال استوت الشمس في كبد السماء أي علت، ولا يمتنع أن يكون صفة ذات وإن لم يصح وصفه تعالى بها إلا بعد وجود العرش كما لا يوصف بأنه غير لما غايره إلا بعد وجود سواه. واختلفوا أيضا في القدم والبقاء، فمنهم من أثبتهما صفتين، ومنهم من نفى أن يكونا صفتين وقال إنه قديم لنفسه وباق لنفسه لا لمعنى موجود به. والذي عليه الأكثر والمحققون إثبات البقاء ونفي القدم. فصل وأما صفات أفعاله تعالى فكثيرة. منها التفضل والإنعام والإحسان والخلق والإماتة والإحياء وما أشبه ذلك. فصل وكذلك أسماؤه تعالى كثيرة. قال رسول الله ﷺ: «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة» وهي تنقسم على أربعة أقسام: (قسم)
1 / 21
منها راجع إلى نفسه وذاته كشيء وموجود وغير لما غايره وخلاف لما خالفه وقديم وباق على مذهب من قال من أهل السنة إنه قديم لنفسه وباق لنفسه وما أشبه ذلك. (وقسم) منها راجع إلى صفة ذاته كحي وعالم وقدير وسميع وبصير وما أشبه ذلك. (وقسم) منها راجع إلى نفي النقائص عنه تعالى كغني وقدوس وسلام وكبير وعظيم ووكيل وجليل؛ لأن معنى غني لا يحتاج إلى أحد، والقدوس الطاهر من العيوب، والسلام السالم من العيوب، والكبير والعظيم الذي لا يقع عليه مقدار لعظمته وكبره، والجليل الذي جل عن أن تجري عليه النقائص، والوكيل إنما تسمى الرب به لما كانت المنافع في أفعاله لغيره، إذ لا تلحقه المنافع والمضار، فهو على هذا التأويل راجع إلى نفي نقيصة. ويحتمل أن يكون الوكيل بمعنى الرقيب والشهيد، فيرجع ذلك إلى معنى العالم. (وقسم) منها راجع إلى صفة فعله كخالق ورازق ومحيي ومميت وما أشبه ذلك. فصل ولا يجوز أن يسمى الله تعالى إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله ﷺ وأجمعت الأمة عليه، هذا قول أبي الحسن الأشعري. وذهب القاضي أبو بكر بن الباقلاني إلى أنه يجوز أن يسمى الله تعالى بكل ما يرجع إلى ما يجوز في صفته مثل سيد وجليل وجميل وحنان وما أشبه ذلك، ما لم يكن ذلك الجائز في صفته مما أجمعت الأمة على أن تسميته به لا تجوز مثل عاقل وفقيه وسخي وما أشبه ذلك. وإلى القول الأول ذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فقد سئل في رواية أشهب عنه من العتبية عن الرجل يدعو بيا سيدي فكرهه وقال أحب إلي أن يدعو بما في القرآن وبما دعت به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وكره الدعاء بيا حنان. فصل فأما ما لا يجوز في صفته تعالى فلا يجوز باتفاق أن يسمى الله تعالى به وإن كان الله ﷿ قد وصف نفسه بالفعل المشتق منه ذلك الاسم، نحو قوله:
1 / 22
﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥]، وقوله: ﴿سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ [التوبة: ٧٩]؛ فلا يقال يا مستهزئ ولا يا ساخر؛ لأن ما يستحيل في صفته تعالى فلا يجوز أن يجري عليه منه إلا قدر ما أطلقه السمع عليه مع الاعتقاد بأنه على ما يجب كونه تعالى عليه من صفاته الجائزة عليه. واختلف في وقور وصبور، فذهب القاضي أبو بكر إلى أنه لا يجوز أن يسمى الله تعالى بهما لأن الوقور الذي يترك العجلة بدفع ما يضره، والصبور الذي يصبر على ما يصيبه من الأذى، وذلك ما لا يجوز في صفته تعالى. ومن أجاز ذلك على أحد المذهبين فإنما يرجع معناهما إلى الحلم. فصل ولا يجوز عليه تعالى ما يجوز على الجواهر والأجسام من الحركة والسكون والزوال والانتقال والتغير والمنافع والمضار، ولا تحويه الأمكنة ولا تحيط به الأزمنة. فصل فإذا علمنا الله ﵎ على ما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله وما يجوز عليه مما لا يجوز، عرفنا صحة نبوة الأنبياء - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بما أظهره الله تعالى على أيديهم من المعجزات؛ لأن المعجزة لا تكون إلا من الله تعالى. فإذا أظهرها على يدي من يدعي الرسالة عليه فهي بمنزلة قَوْله تَعَالَى صدق رسولي. ولا يصح عليه تعالى أن يصدق إلا صادقا؛ لأنه لو صدق كاذبا لكان كاذبا، والكذب مستحيل عليه تعالى؛ لأنها صفة نقص، وصفات النقص لا تجوز عليه تعالى، ولا تليق به ﷾ على ما قلناه وبيناه. فصل وإذا علمنا صحة نبوة الأنبياء - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - علمنا صدقهم فيما
1 / 23
جاءوا به عن الله ﵎ من الشرائع وغيرها، وأنه أوجب على عباده أن يؤمنوا به ويوحدوه ويعبدوه ولا يشركوا به شيئا؛ لأنه قال في كتابه الذي أنزل على رسوله: ﴿وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا﴾ [الفتح: ١٣]، وقال تعالى: ﴿فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [الانشقاق: ٢٠] ﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ﴾ [الانشقاق: ٢١] ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ﴾ [الانشقاق: ٢٢] ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾ [الانشقاق: ٢٣] ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الانشقاق: ٢٤] ﴿إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [الانشقاق: ٢٥]، وقال تعالى: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [النساء: ١٣٦]. والأمر على الوجوب. ومن قال من أصحابنا إن الأمر ليس على الوجوب فقد وافقنا على أن الأمر بالإيمان على الوجوب لما اقترن به من الإجماع. وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ٢١]، وقال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: ٣٦]، وقال تعالى: ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [العنكبوت: ١٧]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج: ٧٧]، وهذا في القرآن كثير. وأما قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]، فإنها آية عامة وليست على عمومها. والمراد بها السعداء من الجن والإنس لأنهم هم الذين خلقهم الله تعالى لعبادته، وأما الأشقياء منهم فإنما خلقهم لما يسرهم له واستعملهم به من الكفر والضلال. قال الله ﵎: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ [الأنعام: ١٢٥]،
1 / 24
وقال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [المدثر: ٣١]، وقال النبي ﵊: «كل ميسر لما خلق له». وجاء في الحديث «أن رجلا من مزينة أتى النبي ﵊ فقال يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس فيه ويكدحون أشيء قضي عليهم ومضى أو فيما يستقبلون، فقال: بل شيء قضي عليهم ومضى، قال فلم نعمل إذا قال من خلقه الله لواحدة من المنزلتين فهو يستعمل لها». وتصديق ذلك في كتاب الله: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ [الشمس: ٧] ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: ٨]. وقد قيل إن معنى الآية وما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي. وقيل معناها ليذعنوا لي بالعبودية ويعترفوا لي بالربوبية؛ لأن معنى العبادة التذلل للمعبود. فكل الخلق على هذا التأويل متذلل لأمر الله مذعن لقضائه لأنه جار عليه لا قدرة له على الامتناع منه إذا نزل به. وإن خالف الكافر أمر الله تعالى فيما أمره به من الإيمان والطاعة فالتذلل لقضاء الله الجاري عليه موجود منه.
فصل
وحكم الله تعالى أن لا يعذب الخلق على ترك ما أمرهم به وإتيان ما نهاهم عنه إلا بعد إقامة الحجة عليهم ببعثة الرسل إليهم. قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾ [الإسراء: ١٥]، وقال تعالى: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ - قَالُوا بَلَى﴾ [الملك: ٨ - ٩]، وقال ﷿: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ﴾ [النحل: ٣٦]؛ فبعث الله ﷿ في كل أمة رسولا بما أوجب عليهم من الإيمان به والانقياد لعبادته والتزام طاعته واجتناب معصيته، فكان من آخر المرسلين
1 / 25
بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، نبينا محمد ﷺ سيد المرسلين وأمين رب العالمين وأكرم البشر وأفضل الأنبياء والرسل، بعثه الله إلى الخلق كافة كما قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ١٥٨] بالمعجزات التي دلت على نبوته، وأوجبت العلم بصحة رسالته، فدعا إلى الإسلام والإيمان، ونهى عن عبادة غير الرحمن، وبين مجمل التنزيل، ودل على طرق العلم ووجوه التأويل؛ لأن الله تعالى فصل كتابه فجعل منه نصا جليا ومتشابها خفيا ابتلاء واختبارا ليرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات بتدبرهم آياته واعتبارهم بها واستنباطهم منها الأحكام التي فرض الله عليهم امتثالها وتعبدهم بها؛ لأنه تعالى رد إليهم الأمر في ذلك بعد الرسول ﵊ فقال تعالى: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: ٨٣]، فجعل المستنبط من الكتاب علما والمصير إليه عند عدم النص والإجماع فرضا.
فصل في الطريق إلى معرفة أحكام الشرائع
فأحكام شرائع الدين تدرك من أربعة أوجه، أحدها كتاب الله ﷿ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، والثاني سنة نبيه ﵊ الذي قرن الله تعالى طاعته بطاعته وأمرنا باتباع سنته فقال ﷿: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [المائدة: ٩٢]، وقال تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: ٨٠]، وقال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧]، وقال: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ﴾ [الأحزاب: ٣٤]
1 / 26
والحكمة السنة. وقال. ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١]. والثالث الإجماع الذي دل تعالى على صحته بقوله. ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: ١١٥]؛ لأنه ﷿ توعد باتباع غير سبيل المؤمنين فكان ذلك أمرا واجبا باتباع سبيلهم. وقال رسول الله ﷺ. «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، والرابع الاستنباط وهو القياس على هذه الأصول الثلاثة التي هي الكتاب والسنة والإجماع؛ لأن الله تعالى جعل المستنبط من ذلك علما وأوجب الحكم به فرضا فقال ﷿: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: ٨٣]، وقال ﷿: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾ [النساء: ١٠٥] أي بما أراك فيه من الاستنباط والقياس؛ لأن الذي أراه فيه من الاستنباط والقياس هو مما أنزل عليه وأمره بالحكم به حيث يقول: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة: ٤٩].
فصل
فإذا ثبت هذا فالكتاب ينقسم إلى قسمين مجاز وحقيقة.
فالمجاز: ما تجوز به في اللفظ عن موضوعه، وهو في القرآن كثير، ينقسم على أربعة أضرب: زيادة كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١]، وقوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ [المائدة: ١٣]. ونقصان كقوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢]،
1 / 27