Introduction à l'étude de la rhétorique arabe
مقدمة لدراسة بلاغة العرب
Genres
تمهيد1
الكلام البليغ ودراسته
الأدب أو البلاغة
أنواع البلاغة
الشعر الجاهلي
البلاغة والاجتماع
النزعات المختلفة في فهم البلاغة
تبعة الشعراء والكتاب
النقد الأدبي
النقد الأدبي في فرنسا
Page inconnue
البيئة وأثرها في العقول
خواص الأجناس البشرية وأثرها في العقول
مذهب التدرج والانتقال في أنواع البلاغة
مذهب التأثير والانفعال في النقد الأدبي
النقد الأدبي عند العرب
تمهيد1
الكلام البليغ ودراسته
الأدب أو البلاغة
أنواع البلاغة
الشعر الجاهلي
Page inconnue
البلاغة والاجتماع
النزعات المختلفة في فهم البلاغة
تبعة الشعراء والكتاب
النقد الأدبي
النقد الأدبي في فرنسا
البيئة وأثرها في العقول
خواص الأجناس البشرية وأثرها في العقول
مذهب التدرج والانتقال في أنواع البلاغة
مذهب التأثير والانفعال في النقد الأدبي
النقد الأدبي عند العرب
Page inconnue
مقدمة لدراسة بلاغة العرب
مقدمة لدراسة بلاغة العرب
تأليف
أحمد ضيف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسله الكرام.
وهذه عجالة نقدمها إلى قراء العربية. على أنها مذكرات لطلبة الجامعة المصرية، ولمن يريد أن يطلع على شيء جديد مجمل عن حركة الأدب الحديثة، وطرق فهم البلاغة في هذا العصر. أما كبار العلماء وأساتذة الأدب، فلا يجدون في هذه الآراء ما يشفي غلتهم، أو يسكن حب الاستطلاع لديهم؛ فعليهم أن يرجعوا إلى كتب الفرنجة الحديثة، وفيها كل التفصيل لما أجملناه وأوجزناه، ذلك في غير الكلام في بلاغة العرب، فإن كل هذا أو جله من آرائنا الخاصة التي اهتدينا إليها بالدرس والتفكير.
وإذا كان كتابنا هذا يدعو إلى سلوك طريق جديد في دراسة بلاغة العرب وفهمها؛ فذلك لأن مصر الآن في حالة رقي (تطور)، يشبه من بعض الوجوه أن يكون عصر نهضة لنا. وفي مثل هذه العصور يحدث في العقول كما يحدث في المجتمعات انقلاب وتغير وميل إلى الجديد في كل شيء، وإننا لنجد هذا الشعور يدب في نفس كل إنسان منا حتى في النفوس التي لا تحب غير القديم.
إن كل ما يراه القراء في هذا الكتاب جديدا، هو ما يجيش في نفوس الأدباء الذين اطلعوا على بلاغات الأمم الحديثة، ورأوا الأطوار التي أدركتها ، فكانت سبب رقيها. وكلهم يعتقد أننا لا ننهض بلغتنا العربية إلا إذا دفعنا بها إلى التحرك من مكانها الذي طال وقوفها فيه؛ لتأخذ مكانا واسعا يليق بها في صف اللغات الحية الآن، وفي اعتقادنا أنه لا يكون ذلك إلا إذا تغيرت طرق الدرس والتأليف عما كانت عليه منذ ألف سنة، وذلك ما نرجو أن يوفق إليه علماء اللغة والأدب عندنا.
والله - سبحانه - المسئول أن يهبنا الإخلاص في عملنا، وأن يوفقنا إلى الصواب.
Page inconnue
أحمد ضيف
يناير سنة 1921
تمهيد1
دراسة الآداب العربية بالطرق المعروفة الآن لا تزال حديثة العهد، والأدب العربي على سعته وغنائه مشوش مختلط مرتبك، لا يزال باقيا على حالته الأولى من البساطة والسذاجة في التأليف والجمع، ولم تحرر بعد عقول أدبائنا من قيود الطرق القديمة والانتصار لها، ولا يزال يعد الخروج من القديم خروجا عليه، ولا نزال نعتقد أن القدماء وصلوا إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه العقل البشري من الذكاء والإتقان، وغير ذلك من ضروب الرضا والارتياح.
ومدرس الأدب يلزمه أن يطلع على أكثر ما كتب في اللغة ليقف على روحها ومؤلفيها، وليعرف الكتاب والشعراء والفلاسفة والمشرعين وغيرهم، ولا يكفي معرفة ذلك من بطون الكتب والفهارس والموسوعات؛ إذ لا بد من قراءة الكتب نفسها والحكم عليها بناء على معرفة الشخص نفسه. وكل حكم مبني على التقليد أو النقل لا قيمة له، ولا يفيد الأدب شيئا، ولا يصح الاعتماد عليه، فلا يصح أن نأخذ بالتسليم بقول من قال: إن النابغة الذبياني أشعر الشعراء؛ لأنه قال: فإنك كالليل الذي هو مدركي ... إلخ، بدون بحث في ذلك، ولا أن المهلهل أول من طول القصائد؛ لأن صاحب الأغاني أو غيره قال ذلك، بدون أن نبحث في صحة هذا الزعم، ولا أن نصدق قول من قال: إن لغة العرب أحسن اللغات، بدون أن نعرف شيئا من اللغات الأجنبية ونوازن بينها وبين اللغة العربية.
وإننا لنسيء إلى اللغة العربية وإلى الأدب العربي وإلى الأمة العربية أكثر من أن نحسن إليها بمثل هذه الأقوال، التي لا يمكن أن يعتمد عليها إنسان مفكر، كما أنها لا تحرك العقول ولا تحملها على البحث. والعقل إن لم يكن طلعة محبا للبحث لا ينتج ولا يدرك حقائق الأشياء. وما يدعوه العلماء الآن حرية الفكر ليس إلا نوعا من البحث المبني على التعقل والاستنتاج، وهو سر تقدم العلوم والفنون في المدنية الحاضرة؛ فلا بد لآدابنا من هذه الحرية المبنية على المعلومات الصحيحة والاستنتاج الصحيح.
والأفكار عندنا مقيدة محصورة محدودة: مقيدة بالعادات، محصورة في دائرة ضيقة من المعلومات، محدودة بشيء أشبه بالعقيدة في صحة ما نحن عليه من العلم والأخلاق. والخروج من العادات عسير، وترك الإعجاب بالنفس شديد على النفس، مهما صحت عزيمة محب الجديد وقويت براهين الداعي. وبلدنا من أشد ما يكون تمسكا بعاداته وطرقه في الفهم والإدراك. ولكنا في إبان نهضة تبشرنا بحسن المستقبل وإقبال شبابنا على العلم وتعلمه، وقبول الجديد يبعث فينا أملا كبيرا في نجاح هذه الحركة المباركة.
العالم متحرك، والعلم والأدب نتيجة هذا التحرك، فهي متحركة معه ومتغيرة بتغيره؛ فلا بد أن نسير في هذه الحركة، وأن ننتقل معها، وأن تتجدد معلوماتنا بتجددها؛ نريد بذلك أن نكون من أنصار الجديد، ونريد بالجديد الحركة التي أحدثتها الأفكار والقرائح منذ وقوف حركة العلم والأدب عند المسلمين إلى اليوم؛ أي نريد أن تأخذ عقولنا ومعارفنا صبغة جديدة غير الصبغة الموجودة في كتبنا وفي معلوماتنا؛ لأن العلم يتغير كلما كثر فيه البحث حتى لقد تنقلب العقيدة في العلم إلى ضدها؛ إذ إن القواعد العلمية مبنية على الحكم على الظواهر الطبعية، وقد يخطئ الإنسان في إدراك هذه الظواهر أو يدركها إدراكا ناقصا، وقد يفهم المجرب من التجربة غير نتائجها حتى في العلوم الرياضية والطبعية؛ لأن جزءا كبيرا من حكم الإنسان على الأشياء سببه العواطف والإحساسات الشخصية، التي تختلف عند كل إنسان باختلاف مزاجه، وكما يكون للإنسان مزاج خاص يقوده ويتحكم فيه يكون أيضا للزمن مزاج خاص يسود فيه ويقود الرأي العام.
يظهر أثر ذلك في المذاهب السائدة والأفكار العامة، ثم يتغير بمرور الزمن وكثرة البحث، والأفكار سائرة على مثال المد والجزر: تتقدم وتتأخر، ثم تتأخر وتتقدم؛ لأن الحركة في كل شيء دليل الحياة، فلا بد من سير الفكر إذ الفكر الواقف مائت؛ لذلك نرغب من متأدبينا وعلمائنا أن يعيرونا شيئا من التسامح، وأن يغضوا الطرف عما عساه أن يكون غير جار على طرقهم في الفهم والإدراك، أو مخالفا لحكمهم على الأشياء، وأن يعتقدوا أننا نفعل واجبا علينا لبلادنا ولغتنا وأمتنا، وأنه يجب أن نضحي بكل شيء في سبيل هذا الواجب، ونحن نعتقد من جهة أخرى أنهم مخلصون في تمسكهم بتربيتهم العقلية؛ لأن شكر الجميل يقضي عليهم بالانتصار إلى معلوماتهم التي بها رقوا وعليها شبوا. ولكنا لا نعذرهم ولا يعذرهم إنسان إذا حكموا علينا بدون أن يتدبروا أقوالنا، ومن غير أن يدرسوا ما نقول دراسة خالية من الميول والأهواء؛ فكلنا يقصد إلى إصلاح لغته التي لا يمكن أن ترقى معلوماتنا بدونها.
اللغة العربية لغتنا لأنها لغة الكتابة والتأليف؛ ولأنها تستوعب لغة التفاهم بيننا. والآداب العربية آدابنا من حيث إنها أصل معلوماتنا، ومنبع معارفنا ومواهبنا العقلية، بل هي كل ما نعرفه من الحركة الفكرية التي أحدثها الإنسان وأنتجتها العقول والقرائح. ولكنا نريد أن تكون لنا آداب مصرية تمثل حالتنا الاجتماعية وحركاتنا الفكرية والعصر الذي نعيش فيه؛ تمثل الزارع في حقله، والتاجر في حانوته، والأمير في قصره، والعالم بين تلاميذه وكتبه، والشيخ في أهله، والعابد في مسجده وصومعته، والشاب في مجونه وغرامه. أي نريد أن تكون لنا شخصية في آدابنا، ولا نريد بذلك أن نهجر اللغة العربية وآدابها؛ لأننا إن فعلنا ذلك أصبحنا بلا لغة وبلا أدب؛ إذ لا يمكن أن نصل إلى ذلك بدون أن نرجع إلى اللغة العربية وآدابها، بحيث تكون قاموسا لنا ونموذجا لبلاغتنا، وإماما نهتدي به في الصناعة الأدبية؛ وعلى الجملة تكون آدابنا عربية مصبوغة بصبغة مصرية، من هذه الوجهة يجب أن نتعصب للغة العربية وآدابها، كما يتعصب الأوروبيون الآن للغة اللاتينية واليونانية؛ لأنها أصل معارفهم ومستودع سر مدنيتهم. ولا ينكر إنسان علينا ذلك لأن إنسانا لا يمكنه إنكار أثر المدنية العربية في العالم الإسلامي. ونعود فنقول: إن كل ما نرجوه هو أن تكون لنا آداب مصرية عربية: مصرية في موضوعاتها ومعلوماتها، عربية في لغتها وبلاغتها وأساليبها.
Page inconnue
ولا يخفى على من ألقى نظرة إجمالية في الأدب العربي صعوبة تدريس هذه الآداب؛ لأنها ليست آداب أمة واحدة وليست لها صبغة واحدة، بل هي آداب أمم مختلفة المذاهب والأجناس والبيئات؛ ذلك إلى سعتها التي لا تكاد توجد في أدب أمة أخرى، ولذلك يكون من المتعسر على فرد واحد أن يقوم بجمع تاريخ الأدب العربي مهما علا كعبه وقويت عزيمته؛ إذ لا بد له من الاطلاع على كل ما كتب، ولديه أكثر من «مليونين» من المجلدات التي تجب دراستها. وذلك لا يتسنى لفرد واحد؛ لتشتت هذه المؤلفات في جمعها ومعرفة أماكنها، ثم في طريقة تأليفها وصعوبة الاستفادة منها بدون جد طويل وتعب كثير؛ وذلك أيضا إلى حاجة المدرس إلى التضلع من الفنون المختلفة ليمكنه نقد ما يعرض عليه؛ إذ لا يصح لمدرس الأدب العربي أن يمر بمقدمة ابن خلدون مثلا بدون أن يدرسها دراسة إجمالية، يبين فيها مذاهب المؤلف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا يمكن ذلك إلا إذا وقف أيضا وقوفا إجماليا على هذه المذاهب عند العرب وغيرهم قديما وحديثا؛ ليعرف الخطأ من الصواب في آراء صاحب الكتاب. ومثل ذلك يقال في الفلسفة والعلوم وغيرها. وهذا من الصعوبة بمكان؛ لأن تعلمنا الأولي لا يبيح لنا هذه الكفاية التي اكتسبها أهل أوروبا من دراستهم الأولى.
لهذا كان كل ما يعمل الآن في الأدب العربي من قبيل التمهيد؛ إذ لا تتسنى دراسته دراسة تامة إلا إذا جمعت خلاصته من شتيت الكتب الكثيرة والمكاتب المتعددة. وكتب الباحثون في ذلك كتابات نقدية تبين هذه الآداب، وما تحتوي عليه من الأفكار. وتناول البحث في ذلك العلماء والأدباء والمؤرخون والفلاسفة والاجتماعيون، وانتقلت الحركة الأدبية عندنا من البحث في اللفظ والديباجة، كالمجاز، والاستعارة، والتشبيه، والكناية إلى البحث في نفس الكاتب أو الشاعر، ومقدار معلوماته، وما أودعه من خطأ أو صواب في شعره أو نثره، وما اعتراه من التأثير النفسي والخارجي، وحمله على كتابة ما كتب؛ إلى غير ذلك من المؤثرات.
ولو أن همة أدباء العرب اتجهت إلى هذا النوع من النقد والبحث، بدل بذل الهمة في فهم اللفظ؛ لوصلت الآداب العربية إلى ما وصل إليه غيرها من المتانة والتأثير في المجتمع، ولكان فهمنا لآدابنا أفضل وأكمل مما نفهمه اليوم، ولتغيرت طرق الفكر والخيال عندنا، ولسارت آدابنا مع الأيام، ولتقدمت مع العلوم والأفكار؛ لأنه لا شيء أدعى إلى التقدم من البحث والنقد، ولا شيء أدعى إلى الوقوف والتقهقر من الإعجاب بالشيء والاكتفاء به عن سواه.
والطريقة التي نريد أن ندرس بها الأدب العربي هي طريقة نقدية؛ إذ بدون هذه الطريقة لا يمكن لأي دراسة من نوع ما إن تنتج أو تثمر، ولا لأي فكر أن يرقى أو يتقدم، ولا يمكن أن تتخطى العقول أطوارها اللازمة، ما دامت مقيدة بتأييد فكرة أو رأي تعمل على إثباته. نريد بطريقة النقد البحث في العوامل الحقيقية التي اعترت اللغة العربية وبلاغتها، بحثا مبنيا على الأسباب العلمية والاجتماعية، ثم الحكم على ذلك حكما صحيحا بقدر ما تهتدي إليه عقولنا، وترشدنا إليه مباحثنا، وبدون أن نرجع إلى أقوال القدماء إلا من حيث إنها مراجع، أو شيء من تاريخ اللغة، لا أنها عمدة الآراء أو قادة الباحثين. أما إذا أخذنا هذه الآراء كأصل نقلده، كان أجدر بنا أن نربأ بأنفسنا من عناء البحث والعمل؛ لنسرد أقوال القدماء كما هي، أو نجمعها جمعا مع بعض التصرف في العبارة؛ فيصبح تاريخ الأدب ملخص ما في كتب القدماء، ولا يكون للمؤلف إلا الجمع والاختصار. نريد أن ندرس الأدب دراسة علمية كما يقول الأوروبيون، ولا يعنى بالدراسة العلمية كما لا يعني الأوروبيون أنفسهم أيضا أن الأدب يصبح ذا قواعد لا يتعداها، كما في العلوم الرياضية أو الطبعية. ذلك لن يكون؛ لأن الأدب فن من الفنون الجميلة، الحكم فيه موكول إلى الذوق السليم والإدراك الصحيح، وإنما نتبع خطة ذات قواعد وقوانين، وهذه الخطة هي ما يمكن أن تسمى طريقة علمية، كما سنبين ذلك إن شاء الله.
نحن لا ندعي القدرة على القيام بهذا العمل الخطير؛ لأنا نعتقد أن أمامنا من الصعوبات في سبيل ذلك ما لا يذلله إلا طول البحث والمثابرة على الدرس، وذلك لا يكون إلا بعد زمن طويل، وهو ما نرجو أن نصل إليه إن شاء الله في المستقبل، وليس من غرضنا أن نأتي في دراستنا بسلسلة من الشعراء والكتاب، نتبعها بشيء من تراجمهم والمختار من كلامهم. ذلك لا يعنينا الآن؛ إذ من السهل أن يقف الإنسان على ترجمة الشاعر أو الكاتب، ويعرف شيئا عن حياته الأدبية. وإنما غرضنا البحث عن روح اللغة العربية كما يقولون، وحل ما بها من الشعر والنثر حلا نفسيا، والبحث عن صلة ذلك بالاجتماع، وعن المؤثرات التي أحدثت في نفس الشاعر أو الكاتب ميلا خاصا إلى هذا النوع من البلاغة، ثم صلة ذلك بمواهب الكاتب الفطرية، وقيمة ما عنده من فنون البلاغة وضروب التعبير المختلفة، وما له من الشخصية؛ أي الابتكار والإبداع في ذلك. وهذا يستلزم استيعاب ما كتبه الكاتب أو الشاعر بالقراءة والدرس قراءة دقيقة، خالية من الميول والأهواء الشخصية بقدر الإمكان.
ومن شروط النقد الصحيح أن يبتعد الإنسان عن أهوائه وميوله عندما يقرأ كاتبا أو شاعرا يريد أن يفهمه كما هو، ولا بد أن يتخلى أيضا عن أذواقه الخاصة؛ لأن الاستسلام إلى ذوق الشخص ينافي طريقة النقد الصحيح. هذه الطريقة - طريقة تخلي القارئ عن ذوقه الخاص وعن المؤثرات التي تحيط به - تجعله يفهم الكاتب بذوق الكاتب، ويفهم الشاعر بنفس الشاعر التي قال بها شعره. ولا بد من وضع القارئ نفسه في الظروف والأحوال التي أحاطت بالكاتب وقت كتابته. هذه الطريقة هي التي تمكن القارئ أو الناقد من فهم روح الكتابة، ولا بد من أن ينسى الإنسان نفسه بين صفحات الكتاب الذي يريد أن يقرأه. فإذا انتهى من تحليل الكتابة وفهمها على طريقة الكاتب نفسه، رجع إلى معلوماته الشخصية وإلى ذوقه الشخصي، وإلى ما اكتسبه من النقد بالتجربة والدرس في الحكم على المؤلف.
يظن أهل العلم - ونريد بأهل العلم المشتغلين بالرياضيات، والطبعيات، وعلم النبات والحيوان - يظن بعض هؤلاء أن الأدب من الكماليات، ويقولون كان أفضل وأنفع لوفاق الاهتمام بالعلوم الاهتمام بالآداب؛ لأن من قسم العلوم كان يكون لنا المهندس والكيميائي والنباتي، والطبيب والصيدلي، وغيرهم ممن يفيد الاجتماع والأفراد أكثر مما يفيده الكاتب والشاعر والخطيب أو المؤرخ والفيلسوف، وفاتهم أن الإنسان كان شاعرا قبل أن يكون عالما، وكاتبا وخطيبا قبل أن تصل نفسه إلى درك العلوم وفهمها؛ لأنه أول ما نطق أمكنه أن يعبر عما يجول بخاطره من حزن وفرح ولذة وألم، وأن الأدب للنفوس أشبه بالجهاز التنفسي للجسم. ولكن فهم الأدب بهذا النوع جاءنا من أن آدابنا أكثرها مبني على الخيال والاستعارة والتشبيه، وهو - على رأي أدبائنا - أفضل الأدب وأبلغه، ولا شك في أن هذا ضرب من الكماليات. أما الأدب من حيث إنه لسان النفوس، وترجمان العواطف، وصورة الاجتماع، وصحيفة من صحف التاريخ، فهو من الضروريات لتهذيب النفوس، ومعرفة ما في طبيعة الإنسان من الأمراض النفسية والاجتماعية؛ بهذا قد يصلح الأدب ما لا يصلحه الطبيب، ويفعل الكلام ما لا يفعل الحسام، و«إن من البيان لسحرا.»
والأدب معرض عام لأفكار الإنسان، ومسرح لأنواع العقول المختلفة، تجد فيه الفيلسوف ينظر إلى العالم نظر المفكر، يشفق عليه تارة، ويسخر منه أخرى، ويرشده مرة ويضله أحيانا، وتجد فيه الاجتماعي يبحث في الاجتماع وعلله، وينتحل لنفسه حق الزعامة وحق الحكم على نظام العالم، وتجد فيه العالم والطبيب، والمتدين والملحد، كل يعرض مذهبه وطرق بحثه، وتجد فيه الشاعر الخيالي، يصور الحق باطلا والباطل حقا، ويؤثر في النفس فيسعدها أو يشقيها، ويصور اليأس جحيما والأمل جنة ونعيما؛ والأدب يجد فيه كل إنسان طلبته، فهو صحيفة عامة من صحف الكون.
وقد ظهر لنا من المفيد أن نبدأ دراستنا هذا العام بمقدمة عامة نعرض فيها صورة إجمالية من الحركة الأدبية، نحدد فيها الأدب، ونبين أنواعه وخواصه، وأثره في الاجتماع وصلته به، وأثره في النفس وأثر النفس فيه، والمذاهب الأدبية المختلفة، وطرق البحث والتأليف، وشيئا من الموازنة بين الأدب العربي وغيره.
والله المسئول أن يرشدنا إلى الصواب، وأن يكلل أعمال الجامعة المصرية بالنجاح، إنه على ما يشاء قدير.
Page inconnue
الكلام البليغ ودراسته
أصبح من المقرر عند الأدباء الآن أن ليس الغرض من البلاغة
1
سرور النفس وارتياحها بقراءة الشعر البليغ والكلام الممتع والنثر البديع، ليكون ذلك ضربا من ضروب التسلي فحسب؛ لأن هذه المدنية الحديثة حملت الإنسان على الاهتمام بالمنافع والفوائد العقلية، كما جعلته ماديا بحتا محبا لنفسه قبل كل شيء؛ ولذلك أصبحت جميع الفنون مصبوغة بصبغة علمية أو اجتماعية، الغرض منها نشر الأفكار والآراء والمباحث الاجتماعية والعلمية، في قالب يسهل على النفس قبوله ويلذ للإنسان تذوقه، ويسحر الألباب فيؤثر فيها الأثر المطلوب؛ ولهذا أيضا قل الاهتمام بالبلاغة الوجدانية، التي لا تشتمل إلا على حركات النفوس والخيال وصور العواطف.
واعتبروا البلاغة صورة للأفكار والعقول وشيئا من الحياة العقلية والعلمية للأمم، وجزءا كبيرا من تاريخ الإنسان، ورأى بعض كبار الأدباء أن البلاغة كالتاريخ من حيث الاستدلال بها على حياة الشعوب. غير أن التاريخ يدل على الحركة السياسية، والبلاغة تدل على الحركة العقلية والاجتماعية، أو يدل التاريخ على حياة الإنسان العملية والبلاغة على حياته النفسية من فكر وأخلاق وذكاء، وفضيلة ورذيلة، وعلم وجهل وغير ذلك؛ فجعلوا البلاغة من شعر ونثر وسيلة لدرس طبائع الإنسان ومعرفة نفوس الكتاب، وقصر بعض النقاد همه على معرفة حقائق النفوس من أثر الكتابات، وبنى مذهبه في النقد على ذلك، واستخرج حالة الكاتب النفسية (بسكلوجية) من كتاباته.
2
وقالوا: إن دراسة البلاغة هي التي نقلت التاريخ من ذكر الحوادث وسرد الوقائع إلى البحث في كل ما يعتري الإنسان، وإلى وصف أحواله النفسية والاجتماعية، فانتقل التاريخ بواسطة البلاغة من تاريخ جاف للحوادث إلى تاريخ المدنية الإنسانية، وقالوا: إن البلاغة هي سبيل الوصول إلى معرفة أحوال الأمم في الأزمنة المختلفة، وكيف كانت تفكر وتشعر وتدرك . وذلك مما يساعد على إيضاح التاريخ، ويسير به في طريق أصح، ويبين روح القوانين ومذاهب الاجتماع ورقي الأمم وانحطاطها.
لذلك أصبحت دراسة البلاغة لدى الأمم الحديثة دراسة لكبار نفوسها وعقولها المفكرة، أو كما يقولون دراسة للتاريخ الطبعي للنفوس الإنسانية، أو الغرض منها على حسب الاصطلاح العلمي «تشريح» النفوس والأفكار لمعرفة الصحيح من السقيم منها، والحصول على صورة عامة من الحياة العقلية للإنسان. قال سنت بوف: لم يبق لدي من السرور إلا هذا النوع من «التحليل» النفسي، الذي يمكن أن أعرف به تاريخ العقول. وكل ما أريده من النقد الأدبي هو جعل البلاغة تاريخا طبعيا للنفوس ... إلى آخر ما قال. فلم تصبح دراسة البلاغة قاصرة على الشعر والنثر الصناعي لا غير، بدون نظر إلى صلة الكاتب أو الشاعر فيها، بل لا بد من اعتبار كل ذلك مع البحث عن الصلة بين الكاتب وبين الحالة الاجتماعية.
ويخيل إلى من يريد أن يدرس بلاغة العرب أن هذه الطريقة لا تجد لها مجالا فيها؛ لأننا إذا أحصيناها وجدنا أنها تكاد تكون منحصرة في نوع من الشعر الوجداني الشخصي. ونجد هذا الشعر الذي ظهر في الأمم الإسلامية المختلفة والبيئات المختلفة، حافظا لشكل واحد وأسلوب واحد، لا من جهة الصناعة لا غير، بل من جهة تصور المعاني وإدراكها أيضا. وربما كان ذلك صحيحا؛ ولكن لا يلزم مدرس البلاغة العربية أن يبالغ في ذلك؛ فقد نجد في بلاغة العرب ما نجده في غيرها من أنواع الشعر والنثر. ولكنه ليس ظاهرا فيها ظهوره في غيره لقلته ولاندماجه في الوجدانيات. فكأنه إذا جاء فإنما يجيء عفوا مع ندورته المعروفة؛ ولذلك لا يصح أن يعد من أصول البلاغة العربية، ولا من طبيعة هذا اللسان المبين.
على أنه من الممكن أن توجد هذه الطرق الحديثة في دراسة بلاغة العرب من جهة صلتها بالتاريخ والاجتماع صلة صحيحة، ودراسة نفوس الكتاب والشعراء من أقوالهم بقدر ما تسمح به طبيعة هذه البلاغة وأصولها الفنية. غير أن ذلك لا يتسنى الآن، ولا يمكن أن تثبت هذه الطريقة إلا بعد أن يكثر البحث على هذا النحو، ويوجد بين المدرسين والنقاد علماء في الفلسفة والاجتماع تكون لهم طرق واضحة ومذاهب مبنية على قاعدة فلسفية أو طريقة اجتماعية علمية.
Page inconnue
ولأجل أن تدرس البلاغة العربية بهذه الطرق المفيدة، لا بد من مزج التاريخ الإسلامي بها؛ إذ لو كان من الضروري الاستدلال على أطوار البلاغة بدراسة التاريخ، فذلك ألزم ما يكون في بلاغة العرب؛ لأنها أشد ما تكون صلة بالتاريخ؛ إذ التاريخ الإسلامي من أكثر تواريخ الأمم وأشدها حركة وانتقالا، وأظهرها أثرا في العقول والأفكار؛ لأنه ليس تاريخا سياسيا لا غير، بل هو أيضا تاريخ ديني؛ أي تاريخ مذاهب وأحزاب دينية، وآراء في السياسة والاجتماع مبنية على أثر الدين في العقول والعقائد ... ولو كان كل المسلمين الذين ملئوا الأرض شرقا وغربا، ودوخوا العالم حينا من الدهر من أصل عربي، لغتهم العربية الصحيحة؛ لكانت تصوراتهم وإدراكاتهم عربية، ولظهرت مدنية الإسلام ظهورا تاما في بلاغة العرب ظهور مدنيات الأمم الأخرى في بلاغاتهم. ولكن تغلب الأعاجم على الدولة محا منها كثيرا من الصبغة العربية، وجعلها مدنية إسلامية مختلطة؛ فلم تجد اللغة العربية من سعة المجال ما كان يكون لها لو أن الدولة كانت عربية صرفة، فمعنى مزج التاريخ بالبلاغة دراسة الاجتماع في زمن من الأزمان، ودراسة الحالة العقلية، أي معرفة الزمن بواسطة البحث عن كبار المفكرين والعلماء وآثار آرائهم في المجتمع، أو بعبارة أخصر دراسة التاريخ الاجتماعي والحركة العقلية دراسة علمية تاريخية، بقطع النظر عن كل شيء سوى البحث عن الحقيقة، مع الابتعاد عن جميع الميول والأهواء والمذاهب الشخصية بقدر الإمكان، ثم البحث عن ذلك من الوجهة الفنية في النظم والنثر.
فليس الغرض على رأينا من دراسة الشعر الجاهلي مثلا أن نبين أنه خال من التكلف سهل العبارة، ليس به من التشبيهات والاستعارات ما في شعر المولدين، وأن فلانا الشاعر بكى واستبكى وذكر الديار، وإنما الغرض الذي يجب أن يكون ضالة الباحث هو الحالة العقلية لهؤلاء الناس، وعاداتهم الاجتماعية وتربيتهم النفسية، وتصوراتهم وخيالاتهم ، ومجموع معلوماتهم وعواطفهم وإحساساتهم، وغير ذلك مما هو لب البلاغة وغرضها، وهذا هو غرض من قال: إن الأدب صورة الاجتماع.
لهذا لا بد من العناية بالتاريخ عناية تامة لمن يريد أن يدرس البلاغة، وبدون هذه الطريقة لا يمكن التمييز بين شعر وشعر، ولا بين كتاب وكتاب، إلا ما يظهر جليا من الاختلاف في الأسلوب والديباجة، مما لا يخفى على من له أدنى ملاحظة. هذه الصلة - صلة التاريخ الاجتماعي بالأدب والبلاغة - من أهم الطرق التي يجب أن تتبع في كشف مخبآت العقول، ومعرفة سير الحركة الفكرية لدى الأمم. مع هذا لا بد من دراسة التاريخ الخاص بالكتاب. ونقصد من هنا أيضا ما قصدناه هناك من التاريخ العقلي؛ أي تاريخ النفوس وحركات العقول، لمن يريد أن يتكلم على شاعر في شعره أو ناثر في نثره، وعلى صلة الكاتب بغيره من المؤثرات التي كونت عقله وفكره من أشخاص عرفهم، ومن بيئات تربى فيها، ومن زمن عاش فيه ومر به.
وبعد؛ فلا بد من دراسة الأدب دراسة تاريخية أخرى. نريد بالدراسة التاريخية عدم العمل على مذهب أو رأي ثابت، يجعله الإنسان قاعدة له قبل الدراسة ليقيس عليه ما يعرف؛ كاعتبار أن بلاغة العرب مثلا أرقى وأصح ما أنتجته العقول والأفكار، أو أنها ناقصة في جملتها، قبل الاطلاع والدرس. مثل هذه المباحث المبنية على الأهواء الشخصية والمذاهب الثابتة هي خطأ في مبدئها وفي نهايتها، ولا يمكن أن توصل إلى شيء من الحقيقة.
وليس الغرض من دراسة البلاغة دراسة تاريخية البحث عن الحوادث التاريخية الصرفة، كالعناية بالتواريخ والأزمنة التي ولد وعاش فيها الكتاب، وسيرهم الشخصية، أو سرد تاريخ البلاغة في العصور المختلفة، بقصد إثباتها كما تذكر الحوادث التاريخية سواء بسواء؛ هذه طريقة تاريخية تظهر في كتب الأدب مكملة له ومتممة لموضوعاته العامة، كما يتخلل الأدب حوادث تاريخية صرفة، بقصد كشف مخبآته وتوضيح موضوعاته. على أنها ليست من الأدب ولا من البلاغة. ولا بد لمدرس البلاغة من الملاحظة الصحيحة والموازنة والمقارنة؛ تقريبا للأفهام وإيضاحا للبلاغة نفسها؛ لأن هذا من دواعي ضبط آراء الباحث، وعدم اندفاعه في المدح أو الذم التابعين للأهواء والأغراض، وهذا أيضا من علامات الحرية في الفكر ودقة البحث؛ فلا بد أن يكون الغرض من تدريس البلاغة البحث العلمي المبني على المعلومات الصحيحة، للوصول إلى الفهم الصحيح الخالي من التعصب القومي والميول المذهبية؛ فإن مدرس الأدب إن لم يكن كذلك كان كمن لديه نموذج جميل، يريد أن يقيس عليه غيره ويجعله مثله.
وليس الغرض من البحث والفهم المباحث اللفظية؛ أي ما يعطيه اللفظ من الدلائل والمعاني اللغوية لا غير، ولا الشرح والتأويل لجملة المعاني، بل الغرض البحث عن كل ما تنطوي عليه العبارات؛ من: صور النفوس، والآراء، وأسرار اللغة، مما يصح أن يعطي للإنسان صورة صحيحة من صور الحياة العقلية للأمم، ثم عن صلة ذلك بالأسباب التي دعت هذه العقول للخوض في هذه الموضوعات، وولدت هذا النوع من الفكر والخيال، ثم الوقوف على خواص اللغة وأثر الشعوب التي تميز أفكارها من سواها، وأثر الزمن والبيئة في ذلك، والأنواع التي يكتب فيها الكتاب وقوانينها، وما في ذلك من شخصياتهم؛ لأن الكتابة تمت بألف سبب لما يحيط بها.
قال المسيو موريس كروازيه في مقدمة الجزء الأول من كتاب تاريخ الأدب اليوناني: «إن جملة لخطيب، أو بيت شعر لشاعر، أشبه بمرآة ينعكس فيها صورة منها، تدل على ماضي اللغة والتاريخ لشعب من الشعوب، وتدل على الفني الذي وهبها هذا الشكل؛ كل هذا يرى في الكتابات من شعر ونثر ... ولأجل التمكن من الوصول إلى ذلك لا بد للباحث في اللغة والأدب من أن يطلع على الفنون، ويعرف الأخلاق والنظام الاجتماعي؛ لترشده إلى قوة الذكاء للأمم وأثر الحوادث في ذلك، ولا بد من الاعتماد على المخطوطات؛ لأن الغرض الأولي من دراستها هو معرفة العقول التي تظهر آثارها في المؤلفات الفنية، بواسطة العبارات الأصلية وضروب البيان. ومؤرخ الأدب كالمؤرخ الطبعي؛ أي المشتغل بدرس العلوم الطبعية وجمعها، فهو قبل كل شيء ذو ملاحظة خالية من الأهواء والأغراض، وليس معنى هذا أن مؤرخ الأدب ليس له حق الحكم ولا أن يكون له رأي يبديه. ولكن الواجب عليه أن يكتفي بالمعرفة الصحيحة ... يقول سنت بوف: يلزم أن نكون كعلماء الطبيعة نجمع مجموعات مختلفة تامة من العقول. ولكنا لا نتجنب الحكم عليها تجنبا كليا حتى نبتعد عن تذوقها، بل يكفي أن نمنع أذواقنا من القلق والملل ونوقفها عند حدها، لا أن نميتها موتا. قال: والنقد الحقيقي هو دراسة الأشخاص، أي دراسة الكتاب وقوة الإدراك لديهم، كل على حسب طبيعته بقصد الحصول على صورة صحيحة من نفوسهم، لنضعها في المكان الذي تستحقه، والمنزلة الفنية التي تليق بها، ولا بد من العناية بالنصوص وموازنة بعضها ببعض، ومعرفة الصحيح من الخطأ فيها.»
وهذا هو أساس ما يسمونه الآن طريقة علمية؛ لأنها مبنية على نوع من التحقيق العلمي، الذي لا يتطرق إليه الشك. ولكن ذلك من الصعوبة بمكان في أدب العرب؛ لأن الوقوف على «النسخة الأصلية» كما يقولون، لا يكاد يتحقق في كل المؤلفات، ولا سيما مجموعات الشعر والنثر القديم، غير أن ذلك لا يمنع من العمل على ذلك بقدر الاستطاعة. على أن الظاهر لنا أن معرفة المؤلفات الأصلية ربما لا تتحقق في الأدب العربي.
الأدب أو البلاغة
الأدب
Page inconnue
1
عند العرب يشمل كل شيء، أو هو مجموع معلومات الإنسان التي اكتسبها بالقراءة والدرس من علوم عربية كالنحو والصرف، وعلوم البلاغة، والشعر والأمثال، والحكم والتاريخ، وغيرها من فلسفة، وسياسة، واجتماع؛ وحتى جعل ابن قتيبة في كتابه «أدب الكاتب» من شروط الأديب أن يعرف جملة من الرياضيات والصناعات. وقالوا: الأدب كل ما تأدب به الإنسان، يقصدون بذلك كل ما صح أن يعرف فهو من الألفاظ التي ليست لها معان محدودة؛ يطلق على دعوة الطعام، وعلى العادات والأخلاق الكريمة، وعلى التربية والتعليم. قال صاحب تاج العروس: «وإطلاقه على العلوم العربية مولد حدث في الإسلام.» وقد توسع المسلمون في هذا اللفظ بسبب اختلاطهم بالعجم، حتى أصبح معنى الأدب جامعا للعلم والأخلاق والفنون والصنائع وغيرها، فأطلقوه على ضرب العود ولعب الشطرنج، وعلى الطب والهندسة والفروسية، وعلى مجموع علوم العرب، وعلى مقتطفات الحديث والسمر، وما يتلقاه الناس في المجالس.
هذا التوسع العظيم في استعمال هذا اللفظ يدل على خفاء مدلوله، وخصوصا أن هذا الاستعمال لم يخصص في معنى من هذه المعاني.
2
وقد رأينا بعد مراجعة آراء الأدباء أن إطلاق هذا اللفظ على المعنى الذي نستعمله الآن، إطلاق ناقص لا يؤدي المعنى الذي نريده نحن؛ لأننا نطلقه على الشعر والنثر فحسب. وذلك لا يطابق تعريف الأدب عند العرب؛ لأننا نريد أن ندرس ضروب الكلام وأنواع البلاغة، والمؤثرات التي أثرت فيها. ومن رأينا أنه مهما صح من العموم والخصوص والتأويلات الكثيرة، فإنه من الغامض أو من النقص في التعبير أن نخص الأدب بهذا المعنى الذي نريد، ونسلخ عنه معانيه الأخرى، أو نستعمله استعمالا مشتركا. ولم يجلب علينا ذلك إلا خطأ مشهور لم نتداركه، وعندنا من الألفاظ ما هو أولى وأوفق.
وقد حد ابن خلدون الأدب، ورأى «ألا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها» قال: «وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته.» وفهم الأدب كما فهمه أهل زمانه، صناعة من الصناعات تتعلم ويتوصل إليها بالتمرين، لا أثرا من آثار الكتاب والشعراء. فقال: «هو الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم.» وجعل من تمام هذه الصناعة «أن يجمعوا لذلك من كلام العرب ما عساه أن تحصل به الملكة من شعر عالي الطبقة، وسجع متساو في الإجادة، ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة، يستقرى منها في الغالب معظم القوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب، يفهم به ما يقع في أشعارهم منها، وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة.» قال: «والمقصود بذلك كله ألا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم، ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه؛ لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه ...» واختصر التعريف فقال بعد ذلك: «ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف ...»
نحن لا نفهم الأدب بهذا المعنى العام، ولن يكون تدريسنا على هذه الطريقة العامة. ولكنا نريد أن يكون للأدب موضوع، وأن نحده حدا إيجابيا؛ لذلك رأينا أن نطلق على الشعر والنثر البليغ - وهو ما نقصده من الأدب، وما يراد من دراسته في مدارسنا - كلمة «بلاغة»، وتعرف البلاغة (الأدب) حينئذ: «بأنها الكلام الذي يدعو إلى الإعجاب من حيث الافتنان في الصناعة.» إذ لا يمكن أن نجري على التعريف القديم، وندخل في الأدب ما كان يقصده القدماء من جميع فروع اللغة العربية؛ لأننا ليس من غرضنا أن ندرس ذلك، وليس من غرض إنسان يريد أن يقرأ كلام العرب أن يصرف وقته في قراءة النحو والصرف، وعلم العروض وعلوم البيان، والجغرافيا والتاريخ وغيرها، وإنما يريد أن يقرأ النثر والشعر لا غير؛ ليقف على أسرار اللغة، وليهذب نفسه بما في ذلك من المعاني، وليعرف أغراض الكتاب والشعراء؛ وبالجملة ليعرف سر اللغة العربية وقيمتها؛ وذلك بقراءة الكلام البليغ نفسه من شعر ونثر، ويكفي أن يكون اللفظ متينا، والعبارة واضحة؛ لتصل من نفس المتكلم إلى نفس السامع. كما روى الجاحظ «أن الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان.» معنى ذلك أن الكاتب إذا كان مخلصا متأثرا بما يقول، نال من نفس القارئ وبلغ منه المراد. هذه هي البلاغة، وهكذا يجب أن تفهم. فليس ما ندرسه هو الأدب إذا دققنا النظر في التعريف المعروف؛ لأننا نريد أن ندرس أنواع كلام العرب الذي هو الغرض من دراسة الأدب.
قال صاحب كشف الظنون: «الأدب علم يحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظا وكتابة.» وواضح بعد ذلك أن الأدب ليس هو المنظوم والمنثور، بل هو مجموع العلوم العربية، كما قال المؤلف نفسه: «اعلم أن فائدة التخاطب والمحاورات في إفادة العلوم واستفادتها، لما لم تتبين للطالبين إلا بالألفاظ وأحوالها، كان ضبط أحوالها مما اعتنى به العلماء، فدعت معرفة أحوالها إلى علوم انقسم أنواعها إلى اثني عشر قسما، سموها العلوم الأدبية؛ لتوقف أدب الدرس عليها بالذات، وأدب النفس بالواسطة، وبالعلوم العربية أيضا لبحثهم عن الألفاظ العربية» (طبعة أوروبا، صفحة 217).
وما دام الأدب هو ما يحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظا وكتابة كما رأينا، أو هو كما قال الجرجاني في تعريفاته: «عبارة عن معرفة ما يحترز به عن جميع أنواع الخطأ.» فلا يصح بعد هذا أن نريد منه النظم والنثر؛ لأن الأدب - كما قالوا - وسيلة لفهم الشعر والنثر اللذين هما أنواع كلام العرب، والوسيلة غير الغاية فلا بد أن نخص ما نفهمه الآن أدبا بالشعر والنثر البليغ، ونطلق عليه «بلاغة» لتكون تسمية حقيقية لا تمس الاصطلاح القديم، بل تنطبق على تعريف البلاغة، فنقول: «بلاغة العرب» ونريد ما يريده الناس الآن من «أدب العرب».
وعلى هذا تكون البلاغة كل قول الغرض منه - قبل كل شيء - الاستيلاء على نفس السامع أو القارئ بفصاحة العبارة وحسن التركيب، وبراعة الكاتب أو الشاعر، أو بعبارة أخصر «هي الكلام الفني الممتع»، والكلام الفني يملأ نفس السامع وعواطفه في أي موضوع كان، وعلى أي معنى دل، وذلك يطابق معنى البلاغة عند العرب كما قال الجاحظ: «وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه ... فإذا كان المعنى شريفا واللفظ بليغا، وكان صحيح الطبع، بعيدا عن الاستكراه، ومنزها عن الاختلال، ومصونا عن التكلف، صنع في القلب صنيع الغيث في التربة الكريمة. ومتى فصلت الكلمة على هذه الشريطة، ونفذت من قائلها على هذه الصفة، أصحبها الله من التوفيق، ومنحها من التأييد، ما لا يمتنع عن تعظيمه صدور الجبابرة، ولا يذهل عن فهمه عقول الجهلاء.»
Page inconnue
3
ويمكن رفع اللبس بين البلاغة وعلوم البلاغة المصطلح عليها الآن، بالرجوع إلى قول عبد القاهر الجرجاني وأشياعه، الذين كانوا يطلقون علوم البيان على علوم البلاغة. على أن الفرق واضح بين البلاغة وعلوم البلاغة.
ويؤيد قولنا: إنه يصح إطلاق البلاغة على ما نسميه «أدب اللغة» أن البلاغة هي تحبير اللفظ وإتقانه؛ ليبلغ المعنى قلب السامع أو القارئ بلا حجاز، ولينال الكاتب أو الشاعر من الأفئدة ما يريد ، وهي المقصودة بقوله - عليه السلام: «إن من البيان لسحرا.» وأنها إبلاغ المتكلم حاجته بحسن إفهام السامع؛ ولذلك سميت بلاغة، وأنها حسن العبارة مع صحة الدلالة،
4
وأنها إهداء المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ.
وأوضح من هذا قول ابن المقفع - كما رواه ابن رشيق وأبو هلال العسكري والجاحظ. قالوا: «لم يفسر أحد البلاغة تفسير ابن المقفع؛ إذ قال: البلاغة اسم لمعان تجري في صور كثيرة؛ فمنها ما يكون في السكون، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون سجعا، ومنها ما يكون خطبا»، إلى آخر ما ذكر.
5
وقد أطلقوا على الكلام البليغ بلاغة، وقالوا: «بلاغات النساء»، وإذا قالوا: فلان بليغ، أرادوا به شاعرا أو كاتبا فصيح العبارة، واضح المعنى، بقلمه وبلسانه ضرب من سحر الكلام، وشيء من معرفة امتلاك الأفهام، بخلاف الأديب فإنه ليس من الضروري أن يكون شاعرا أو ناثرا. وفي الكلام الآتي عن البلاغة ما يدل أيضا على صحة ذلك، مما رواه الجاحظ في البيان والتبيين عن بعض الأدباء: «أنذركم حسن الألفاظ، وحلاوة مخارج الكلام؛ فإن المعنى إذا اكتسى لفظا حسنا، وأعاره البليغ مخرجا سهلا، ومنحه المتكلم قولا متعشقا، صار في قلبك أحلى، ولصدرك أملأ. والمعاني إذا اكتسبت الألفاظ الكريمة، وألبست الأوصاف الرفيعة، تحولت في العيون عن مقادير صورها، وأربت على حقائق أقدارها بقدر ما بينت، وعلى حسب ما زخرفت ...»
وليست كل كتابة تعد من البلاغة؛ فلن يكون الطبيب بليغا في كتبه، ولا الرياضي أو العالم أو النباتي بليغا في نظرياته العلمية. ولكنهم قد يكونون بلغاء في قطع مخصوصة، إذا تكلموا وكتبوا كتابات بليغة، يقصدون منها أن ينالوا من نفس القارئ أو السامع، بخلاف ما إذا قصدوا أن يفيدوا إفادة علمية، أو أن يشرحوا نظرية من نظرياتهم، أو قاعدة من قواعدهم؛ لأن هذا ليس من البلاغة في شيء؛ إذ غرض البلاغة غير غرض التعليم كما قلنا.
والأوروبيون إذا ذكروا من بين الكتاب عالما، مثل ديكارت
Page inconnue
Descartes ، أو مشرعا أو اجتماعيا مثل روسو
Rousseau
ومنتسكيو
Montesquieu ، أو فيلسوفا مثل رنان
Renan
وتين
Taine
وفولتير
Voltaire ، فإنما يذكرونهم من حيث أثرهم في البلاغة، أو لاقتفاء الحركة الكتابية أثر الحركة الفلسفية والاجتماعية، لا من حيث إنهم علماء أو فلاسفة.
ولا بد من الفرق بين البلاغة وتاريخها،
Page inconnue
6
فتاريخ البلاغة هو البحث في مجموع ما تنتجه قرائح الأمة من علوم وفنون، أو هو مجموع الحركة الفكرية في الأمة؛ ولذلك يكتب مؤرخ البلاغة عن الشاعر والناثر، كما يكتب عن الفيلسوف والعالم، ليجمع صورة كاملة من الحياة العقلية للأمة، فهو لذلك مضطر لأن يكتب عن كل من له أثر في هذه الحركة، وكان الأولى أن يسمى ذلك تاريخ العلوم والفنون. ولكنهم أدخلوه في تاريخ البلاغة من باب التوسع؛ لأنهم لم يكتبوا عن كل علم على حدة، ولم يتوسعوا في ذلك، ولأنهم كتبوا عن ذلك عرضا لإثبات أثر ذلك في تاريخ حركة اللغة. أما من يريد التمكن من شيء فعليه بكتبه الخاصة به، وعلى كل حال فتاريخ البلاغة بالطريقة المعروفة الآن لا يوجد في كتب العرب بهذا التسلسل كما هو عند الأوروبيين. وكتب الأدب الخاصة بأمة من الأمم مثل: نفح الطيب مثلا، عبارة عن دائرة معارف؛ لأن بها من كل شيء طرفا؛ ففيها: نبذ من التاريخ العام، وشذرات من التاريخ الخاص، وشيء من تراجم الأشخاص، من شعراء وملوك ونوكى وسوقة، وفيها شيء من الفكاهات والملح، وشيء عن وصف البلدان، وغير ذلك من الأمور التي لا تدخل في فن واحد. أما البلاغة فهي أخص من ذلك بكثير.
وقد ظن جماعة من العلماء والأدباء أن الغرض من البلاغة نشر المعلومات الصحيحة بأسلوب يلذ للنفس، وقالوا: إنه لا يصح أن يقول الشاعر ما لا معنى له، أو يكتب الناثر صحيفة أو صحيفتين بدون أن تحتوي على معلومات مفيدة؛ وحتى قال تين
Taine
في مقدمة كتابه تاريخ البلاغة الإنجليزية:
7 «إن البلاغة صورة كاملة صحيحة من الزمن والأشخاص الذين يعيشون فيه.» وقال: إن الغرض من البلاغة التوصل إلى معرفة نفس الإنسان؛ لأنها ظرف لأفكاره، كما أن الصدف وعاء لما فيه، والرأي الصحيح السائد هو أن الغرض من البلاغة إعجاب القارئ أو السامع ببراعة الكاتب أو المتكلم، وأنه لا يطلب من البليغ أن يملأ كلامه بشيء من المعلومات الصحيحة، وليس الشاعر مضطرا لأن يأتي بالفلسفة والحكمة في شعره، كما أن الغرض من التصوير هو إعجاب الناظر، والاستيلاء على حواسه الظاهرة بما في الصورة من الإبداع والإتقان. ولكن ليس معنى ذلك أن الكاتب أو الشاعر يتصيد الألفاظ والجمل الجميلة، ويرصفها رصفا بدون أن تحتوي على معان، كما أنه لا يقصد من المصور أن يأتي بالألوان المختلفة بعضها بجوار بعض، بدون أن يكون هناك رسم خاص أو صورة معينة؛ وإلا كان الإعجاب إعجابا ظاهرا لا يلمس القلب ولا يحرك العواطف، كذلك البلاغة سواء بسواء، وإذا كان الغرض الإعجاب ببلاغة الكاتب أو الشاعر، فذلك لن يكون ذا أثر فعال في النفس إلا إذا كانت ذات معان دقيقة حقيقية أو تدل على الحقيقة، والأدباء العصريون الآن يرون أن البلاغة فن من الفنون الجميلة مثل: التصوير، والموسيقى، الغرض منها تهذيب النفس وترقيق العواطف، وتقوية الملاحظة، فهو مسلاة النفوس وأنيس الجليس؛ فعلى هذا هي ضرب من الكمال. أما من جهة أنها معرض عام للحياة، وجعبة لأفكار الإنسان، ومسرح الآراء والفلسفة، فهي شيء من الضروريات لتربية الأفكار وتهذيبها، وإن جاء ذلك عرضا لا قصدا.
وظن جماعة من الأدباء أيضا أنه يكفي الاطلاع على تاريخ البلاغة وتصفحه؛ ليقف الإنسان وقفة إجمالية على سير الحركة الفكرية، وليكتفي بذلك من عناء قراءة كل كاتب أو شاعر أو مؤلف، ومن بين هؤلاء رنان
Renan
فقد قال: «إن دراسة تاريخ البلاغة يمكنها أن تغني عن دراسة الكتب نفسها.» ورد عليه في ذلك الأستاذ لنسون
Lanson
Page inconnue
في مقدمة كتابه تاريخ البلاغة الفرنسية،
8
وقال: إن ذلك معنى سلبي للبلاغة؛ لأنه يجعلها أشبه بتاريخ للأفكار أو الأخلاق ... قال: «ولا مناص من الرجوع إلى المؤلفات نفسها، لا إلى الملخصات والمختصرات؛ إذ لا يكفي معرفة فن التصوير بقراءة تاريخية، بدون أن ينظر الإنسان إلى الصور نفسها، والبلاغة كالفنون لا يمكن التفرقة بينها وبين شخصية الكاتب.» إذ إنها تحتوي على معان ودقائق تتجدد كلما أنعم الإنسان النظر فيها، كما أن القصيدة الواحدة كلما قرأها القارئ تأثرت نفسه بأثر جديد، وفهم منها شيئا جديدا، بل هي عبارة عن تمرين فكري، ونوع من ترقية الذوق، وضرب من السرور. وقال الأستاذ لنسون
M. Lanson : «والبلاغة لا تتعلم ولا تحفظ. ولكن يتعهدها الإنسان بالتنمية، ويميل إليها ويحبها.» فمن خواصها أنها توجد للنفس لذة عقلية وسرورا نفسيا، وذلك يساعد على تربية الذوق واستعداد الفكر لقبول الجمال، كما أنها وسيلة من وسائل تربية النفوس تربية فنية.
وإذا كان من غرض المشرع الأمر والنهي، ليعمل الناس الخير ويتجنبوا الشر، فليس من غرض البليغ - أي الكاتب أو الشاعر - عرض حقيقة من الحقائق، ولا أمر ولا نهي. ولكن غرضه الأول أن ينال من قلب السامعين والقارئين، ويؤثر فيهم ويحرك من نفوسهم، سواء قرب من الحقيقة أم بعد عنها. ومن هذه الوجهة ربما يصح أن نلتمس عذرا لأدباء العرب الذين قالوا في الشعر: «إن أكذبه أعذبه.» ولكن تهذيب الإنسان وتعلمه العلوم والفنون المختلفة في هذه الأيام، حمله على ألا يقبل شيئا خاليا من معنى، أو محتويا على فكر غير صحيح؛ ولذلك ظهرت الحركة العلمية الأدبية الآن، وغرض العلماء منها أن يمزجوا أنواع البلاغة بأنواع العلوم، وألا تكون البلاغة عبارة عن خيالات محضة، أو تصورات بعيدة عن الحقائق، وزجوا بها من مكانها إلى موضع آخر أقرب إلى العلوم، وظهرت القصص العديدة المملوءة بالمعلومات المفيدة والفنون المتعددة. ولكن لا يزال هناك حد فاصل بين البلاغة والعلم؛ لأن البلاغة دراسة العقول وحالة الاجتماع، فهي عبارة عن معلومات عامة، وملاحظات للكاتب، وتأثرات اكتسبها من الخارج، دخلت في نفسه وخرجت للناس لابسة شخصيته. ولم تغير حركة الإيجابيين
Les Positivistes
العلمية من البلاغة إلا طريقة التصور والخيال. أما البلاغة من حيث إنها فن سره في تركيب اللفظ، ووحي النفس، فلم تتغير بحال ما، وكل ما تغير هو موضوعاتها التي أصبحت مبنية على التعقل والتدبر، وعلى عرض الحياة عرضا مملوءا بالحكمة والعبرة. وهذا أثر العلوم الحديثة وأثر تعلم الإنسان وتربيته تربية علمية.
أنواع البلاغة
البلاغة أو الكلام البليغ فن من الفنون الجميلة الفطرية للإنسان؛ لأنه مدفوع بطبيعة الحاجة إلى التفاهم، وسائر بفطرته إلى التعبير عما يجول بخاطره من سرور وحزن وآلام ولذة وارتياح. وكل متكلم يرغب في أن يكون له سلطان على نفوس السامعين، وأن يحملهم على تصديق ما يقول، والإنسان حساس يتأثر بصناعة الكلام، وتفعل فيه براعة المتكلم، وحسن العبارة ما لا ينال منه البرهان والتعقل. والكلام من وسائل الاستيلاء على العقول، وتقابل النفوس بعضها ببعض، ونشر الحقائق والأدلة والبراهين. وبقدر ما تكون براعة المتكلم أو الكاتب في الوصول إلى إفهام السامع ما يريد، وبلوغه المعنى الذي قصد، يكون كلامه أمتن، وتكون عبارته أبلغ إلى النفس؛ ومن هنا سمي الكلام بليغا.
ولكن بلوغ هذا المراد صعب، واختيار الألفاظ الدالة على المعاني المقصودة دلالة تامة عسير، وكل إنسان له استعداد خاص، وميل لنوع من التعبير يوافق طبعه، وينطبق على مزاجه. والمعاني كثيرة مختلفة، والألفاظ الدالة عليها تختلف في وضوح الدلالة ودرك المعنى؛ ولذلك اختلفت التعابير، وتباينت الدلالات. وتتفاوت ضروب البلاغة بتفاوت الاستعداد الفطري، وقوة العقول، وقالوا: «اختيار المرء قطعة من عقله.»
Page inconnue
ولكن ليس كل إنسان أهلا لأن يكون بليغا؛ لأن البلاغة هبة فطرية واستعداد نفسي، فليس أصعب من أن يصل الإنسان إلى التعبير عما يرى أو يشعر، تعبيرا دالا على الحقيقة دلالة تامة؛ لأن الإنسان يتفاوت قوة وضعفا في ذلك، كما يتفاوت في إدراك المبصرات على حسب قوة نظره وضعفه. فقد يتألم آلاما شديدة تكاد تذهب بقواه، وتستولي على جميع حواسه، ومع ذلك لا يمكنه أن يفسر ما يشعر به إلا بكلمات معدودات محفوظات، يقولها أيضا من كدر صفوه إنسان لا يحب مجلسه، أو غاب عنه صديق وهو في انتظاره منذ ساعة أو ساعتين، وقد يظفر الإنسان بأمنيته، ويحصل على ضالته المنشودة، ولا يستطيع أن يعبر عما في أعصابه من الهياج، وعما في نفسه من السرور، إلا بإظهار الارتياح، وبسط الجبين، مما يحصل عند من لاقى صديقا له في الطريق فهش وبش في وجهه.
والبلاغة إما أن تكون عبارة عن إظهار ما يجول في نفس الإنسان، من عواطف وإحساسات وخيالات وغيرها، مما يدل على شخصية الكاتب أو المتكلم فحسب، وإما أن تكون صورة غير صورة نفس الكاتب أو الشاعر؛ أي صورة من الحياة العامة للإنسان - أو جزءا من تاريخ الإنسانية، كما يقولون - فالأولى هي البلاغة الوجدانية
1
والثانية هي البلاغة الاجتماعية.
هذا هو التقسيم الفني في البلاغة، وهذه هي أنواع البلاغة، وعلى حسب ما تكون البلاغة جزءا من الحياة العامة لكل إنسان وفي كل زمن، يكون الكلام أثبت، وتكون العبارة أمتع، وتكون الكتابة أبقى وأخلد؛ لأن البلاغة التي تنال من كل نفس هي التي تبقى، والأفكار التي تجد لها عند كل إنسان أذنا واعية لا تبلى، وذلك لا يكون إلا إذا صادفت شيئا عاما ينزل من كل نفس، ويصح أن يقبله كل فكر، ولا يثقل على الطبائع. وهذا هو سبب ارتياح النفوس للحكم والمواعظ؛ لأنها تنال من كل نفس وتتسرب إلى كل فؤاد، وهو السر في رأي من فضل أشعار الحكمة في مثل قول النابغة الذبياني:
ولست بمستبق أخا لا تلمه
على شعث أي الرجال المهذب
وقدم أبا الطيب المتنبي وأبا العلاء المعري؛ لأنهم جاءوا بالحكمة في أشعارهم، وتكلموا عن بعض طبائع الإنسان وعقائده الكامنة في كثير من الأشخاص. مثل هذه البلاغة في القول تبقى ما بقي الإنسان.
2
والناظر لأول وهلة في اللغة العربية يجدها خالية من هذا النوع، الذي له أثر في نفس كل إنسان؛ لأن بلاغة اللغة العربية في جملتها تعبر عن نفس قائلها لا غير، ولا تكاد تخرج عن شعور الشاعر وتصورات الكاتب؛ لأن العواطف هي أصل الشعر العربي والباعث عليه.
Page inconnue
3
ومن هنا كانت له هذه المتانة والقوة في التعبير؛ إذ الإنسان أخلص ما يكون إذا دفعه شعوره إلى القول، ومتى أخلص الكاتب أو الشاعر فيما يقول، كان أثره أقوى في النفس وأدعى إلى الإعجاب، وكان جمال القول أظهر، وكانت البلاغة أصح وأبين ، وهذه ميزة الشعر الجاهلي؛ لأنه يكاد يكون خاليا من المبالغة والكذب، صادرا عما في نفس الشاعر وعقائده.
ولكن العواطف محدودة، وشعور الإنسان بالفرح والسرور والغضب والرضا لا يكاد يتغير. ومهما وجد الإنسان من ضروب التعبير في ذلك، فإنها توشك أن تنفد، ليس للخيال فيها مجال واسع؛ ولذلك يكثر فيها تكرار المعنى الواحد؛ إذ الغرام وشكواه، أو البكاء والنحيب، أو المدح والذم، أو الوصف والتشبيه، ذلك كله ذو معان سرعان ما تنفد من قائلها؛ ولذلك تجد المعنى الواحد مكررا عند نفس الشاعر في قصائد متعددة، يسترها خلاف الألفاظ الظاهري.
ومن هنا أيضا جاءت السرقة في الشعر؛ ذلك لأن المعاني والخيالات محدودة، وفكر الشاعر محدود، فلا بد للشاعر من تكرار المعنى والسطو على معاني غيره يلبسها لباسا آخر من الألفاظ؛ فتجد العاشق يخاف الرقباء ويشكو الجفاء والهجر، ويتألم من طول الليل، ويبكي ألم الفراق. على أن هذه المعاني تختلف باختلاف شعور كل إنسان، وقد يجد فيها الشاعر مجالا واسعا.
4
ولكن شعراء العرب لم يبيحوا لأنفسهم هذه الحرية في القول ولا في الخيال، بل وقفوا أنفسهم على اتباع طريقة الشعر القديم، وأخذ يقلد بعضهم بعضا في المعنى الواحد، ولا أنبئكم بما في باب «سرقة الشعر»؛ فقد يجد الإنسان المعنى الواحد عند عشرات من الشعراء مكررا.
ومع هذا فقد ظن العرب أن شعراءهم طرقوا كل معنى من قديم، ووصلوا إلى كل خيال
5
فوضعوا من أول الأمر القواعد والقوانين في ذلك، ورسموا المعاني وحددوها، وحصروا أنواع الشعر والخيال، وجعلوا لها خطة وقانونا. كما فعل قدامة في كتابه «نقد الشعر»، وتبعه في ذلك من جاء بعده. وروى ابن رشيق «في العمدة»: أن قواعد الشعر أربعة: الرغبة، والرهبة، والطرب، والغضب. فمع الرغبة يكون المدح والشكر، ومع الرهبة يكون الاعتذار والاستعطاف، ومع الطرب يكون الشوق ورقة النسيب، ومع الغضب يكون الهجاء والتوعد والعتاب الموجع ... وقيل لأحد الشعراء: أتقول الشعر اليوم؟ فقال: والله ما أطرب ولا أغضب ولا أشرب ولا أرغب، وإنما يجيء الشعر عند إحداهن. ورد بعضهم الشعر كله إلى نوعين : مدح وهجاء، قال: «فإلى المدح يرجع الرثاء والافتخار والتشبيب، وما تعلق بذلك من محمود الوصف، كصفات الطلول والآثار والتشبيهات الحسان، وكذلك تحسين الأخلاق، كالأمثال والحكم والمواعظ، والزهد في الدنيا والقناعة، والهجاء ضد ذلك.»
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: قلت لأعرابي: من أشعر الناس؟ قال: من إذا مدح رفع، وإذا هجا وضع. فكان الشعر عند العرب وجدانيا على حسب تقسيمهم وفهمهم له، وهذا من مميزاته؛ لأنه كله على هذا النحو، حتى في الشعر الحماسي؛ فإنك إذا قرأت أخبار الحروب وجدت شخصية الشاعر ظاهرة فيها؛ لأنه يفتخر بشجاعته وبحسبه، وذلك يجعل الشعر أقل أثرا في نفس القارئ مما إذا تجرد الشاعر عن نفسه، ودخل فيما يصح أن يكون صورة من صور النفوس الأخرى، وحالة من الأحوال العامة، بخلاف الشعر الاجتماعي.
Page inconnue
6
لسنا الآن في موقف يسمح لنا أن نشرح هذه البلاغة العامة أو الاجتماعية شرحا وافيا، ولكنا أردنا أن ندل عليها دلالة إجمالية؛ ليتبين الفرق بين البلاغتين. وليس لنا ولا لإنسان أن ينكر أن هذا النوع من البلاغة لا يوجد عند العرب وجوده في بلاغات الأمم الأخرى. أجل، إن الحكم والمواعظ تملأ أشعار العرب. ولكن هذا النوع من البلاغة النفسية
7 (بسكلوجية) لا تكاد توجد عند العرب، وإن وجدت فهي قليلة نادرة ندور وجود الشعر القصصي؛ لأن «تحليل» نفس من النفوس الإنسانية لا يكون، ولا يمكن أن يكون، إلا في القصص الطويلة التامة. والشعر العربي لا يعرف القصص الطوال، وإن وجدت قصيدة أو قصيدتان في ذلك فلا يصح أن يحكم به على الشعر العربي؛ لندورته. ويكفي في ذلك أن أصبح الغزل افتتاح كل قصيدة، كذكر الغرام ووصف الدمن، وبكاء الأطلال؛ حتى صار ذلك طابعا من طوابع الشعر العربي، وإن كان الشاعر لم يعشق عمره، ولم يتذوق للغرام معنى، ولو كان المقام لا يصح فيه ذكر العشق.
8
غير أن هذه هي طريقة الشعر العربي وذلك أسلوبه، فلا يعاب عليه ذلك، كما أن شعراء اليونان كانوا يبدءون شعرهم بمناجاة ربة الشعر؛ لأن هذا أثر يدل عليهم ويميزهم من غيرهم؛ كذلك الشعر العربي سواء بسواء.
ومهما يكن من شيء، فإنا إذا بحثنا في الشعر العربي عن قصص طويلة مستوفاة لا نجد لها أثرا، كما نجد ذلك عند جميع الأمم الأخرى، وقد قال بعض المستشرقين: إن العرب كجميع الأمم السامية لا يعرفون الشعر القصصي الطويل، وإنه من طبيعة السامي أن يختصر القول اختصارا، ويقصد إلى الحكمة فيضعها في كلمة أو كلمتين، ويعمد إلى الفكر الكبير فيسطره في بيت أو بيتين، وإنه من شروط الشعر عنده أن يشتمل كل بيت على معنى تام، ويكون قائما بذاته. قالوا: ولذلك كثرت الأمثال والحكم عندهم.
ولعل العرب في جاهليتهم لم تنضج عندهم صناعة الشعر نضجا كافيا. ومهما قيل من أن المعلقات لا يصح أن تكون من أوائل الشعر العربي؛ لما بها من الصناعة والإتقان - وذلك يستلزم أن يكون الشعر قد تخطى زمنا طويلا، وأدرك أطوارا مختلفة - فإنا لا نزال نرى فيها سذاجة ظاهرة، وصناعة أولية. وإذا جارينا بعض المستشرقين القائلين بأن كثيرا من الشعر الجاهلي دخيل، كانت السذاجة ممتدة في الصناعة الشعرية إلى ما بعد الإسلام. والحق أن طبيعة السامي غير طبيعة الأمم الأخرى من حيث الخيال والتصور، فقد سلك مسلكا آخر في طرق التعبير غير ما سلكه غيره، ولم يلتفت لمجاراة الأمم الأخرى في بلاغتهم، ولم يسمح له حب لغته والإعجاب بها، أن يقلدهم، أو أن يزيد شيئا لم يكن من مخترعاته، ولا من مميزات لغته؛ فاكتفى بما عنده وقنع بما في يده.
وتقسيم العرب للشعر لم يكن من حيث الأغراض العامة كما قسمناه، وإنما قسموه من جهة النوع، أو من جهة أغراض الشاعر نفسه: كالمدح والذم، والوصف والنسيب، إلى آخر ما هناك. وجاء النقاد فآثروا هذا التقسيم، ولم يفكروا في تقسيم آخر، كما فعل أهل أوروبا في تقسيم الشعر إلى: «أبيك» وإلى «ليريك» ... إلخ. بل كان تقسيمهم جزئيا لا كليا. وذهب بهم ذلك إلى البحث في البيت الواحد أو البيتين، وأكثروا من البحث في اللفظ والديباجة؛ فقسم ابن قتيبة في مقدمة كتابه «الشعر والشعراء» أنواع الشعر «إلى ما جاد لفظه ومعناه، وإلى ما جاد معناه وساء لفظه.» إلى آخر ما قال هناك. وذكر قدامة بن جعفر في كتابه «نقد الشعر» شيئا مثل هذا: كنعت اللفظ «بأن يكون سمحا، سهل مخرج الحروف من مواضعها، عليه رونق الفصاحة مع الخلو من البشاعة.» ونعت الوزن ثم نعت القوافي ... إلخ. وذكر «أن أغراض الشعراء وما هم عليه أكثر حوما، وعليه أشد روما، هو المديح والهجاء، والنسيب والمراثي، والوصف والتشبيه ...» وأخذ يذكر نعوت وشروط هذه المعاني، وكذلك قلده من جاء بعده. فسار الأدباء على هذا النحو، ولم يفتح النقاد بابا جديدا في الشعر، بل ألزموا الشعراء أن يقفوا أثر المتقدمين في موضوعاتهم وأساليبهم، وهذا من الأسباب في وقوف حركة البلاغة عند العرب. فإذا لم تحصل هناك أنواع جديدة، خصوصا في الشعر
9
فلأن المتأخرين اقتفوا أثر المتقدمين فلم يبتدعوا ولم يبحثوا للبلاغة نفسها، وإنما جعلوها وسيلة لا غاية.
Page inconnue
ومن أسباب عدم وجود الشعر القصصي عند العرب عدم نظر العربي في الاجتماع نظرة عامة؛ لأن العربي كان يهتم بنفسه وبفوائده الشخصية، ومن هنا جاءت مسألة العصبية، والغرض منها حماية الشخص ضمن قبيلته، وحالته المعيشية تجبره على ذلك، وعيشته البدوية وما فيها من القتال والنزاع سيرت أفكاره في طريق خاص.
والشعر القصصي النفسي يحتاج إلى شيء من التعمل والكلفة، ودقة النظر والفكر، وشيء من المعاني الفلسفية الاجتماعية؛ لأنه يستلزم إظهار البلاغة في معنى فلسفي، بمثل ذلك يمكن أن يفيد الشعر؛ لأنه يصور النفوس تصويرا تاما، ويصور الحياة صورة حقيقية أو قريبة من الحقيقة، وهذا ما قصده العرب من وضع الحكم والأمثال في البيت والبيتين من الشعر. ولكن ذلك لا يفيد الفائدة التي في القصص، وقد أصبح من اللازم الآن أن يضم الكاتب أو الشاعر على كلامه وأفكاره صفة الأشخاص الجسمية أبطال قصصه؛ ليجسم المعنى في نفس القارئ أو السامع، ولتكون أقرب إلى الحقيقة وأدعى إلى العظة.
كل هذا يحتاج إلى الروية والفكر، والعربي لا يعرف الروية في القول ، ولم يتعود كد القريحة، كما قال أبو عثمان الجاحظ: وكل شيء للعرب إنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف همه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام، أو حين أن يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة والمناضلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد؛ فتأتيه المعاني أرسالا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالا، ثم لا يعيده على نفسه، ولا يدرسه أحدا من ولده.
وكانوا أميين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر وأقهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ، ويحتاجوا إلى تدارس، وليس هم كمن حفظ علم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله؛ فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم والتحم بصدورهم واتصل بعقولهم، من غير تكلف ولا قصد ولا تحفظ ولا طلب.
10
هذه هي حقيقة البلاغة عند العرب وجماع القول فيها،
11
وهذا يخالف طريقة الشعر القصصي المعروفة الآن، التي اتخذها الأدباء والكتاب والشعراء قاعدة لهم، بل إن الشعر القصصي المصطلح عليه الآن المسمى عندهم «أبيك» - وهو ما نسميه نحن بالشعر الحماسي - خاص بالحروب وسير الشجعان، وما يلاقونه في حياتهم من الأسفار والحوادث، كما في قصة «الأودسى» لهومروس، وكما في «أنشودة رولند» الفرنسية، التي فيها وصف حرب من حروب شالمان.
والشعر القصصي من لوازمه تسلسل المعنى لاتصال الأبيات بعضها ببعض، وذلك يخالف أصول الشعر العربي وصناعته، قال ابن خلدون في باب صناعة الشعر: «وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه؛ حتى كأنه كلام مستقل عما قبله وما بعده، وإذا أفرد كان تاما في بابه في مدح أو تشبيب أو رثاء، فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته، ثم يستأنف في البيت الآخر كلاما آخر كذلك، ويستطرد للخروج من فن إلى فن، ومن مقصود إلى مقصود.»
وجملة القول أن الشعر العربي ميزته الأولى أنه شعر وجداني، يمثل العواطف والإحساسات الشخصية، وأنه احتوى في جملته على أنواع كثيرة، وأن هذه الروح الشعرية الفطرية هي سبب ما فيه من المتانة وخفة الروح، وموافقته لكثير من الطبائع؛ فإن أكبر مظاهر البلاغة العربية الأولى هو الشعر، وأكبر منابع الشعر الفطرة والوجدان والخيال والحياة العامة. فالشعر القديم وجداني فطري في أصله ومأخذه، اجتماعي في صورته وشكله؛ لأن به كثيرا من أثر الاجتماع العربي. ولكن الشعر القصصي والشعر التمثيلي بالمعنى المعروف الآن عند الأدباء في بلاغات الأمم الأخرى لا وجود له عند العرب.
Page inconnue
12
على أن هذا ليس بمعيب للشعر العربي؛ لأن لكل أمة منزعا، ولكل شعب خيالا خاصا، وطريقة خاصة في التصور والإدراك والصناعة، وشعر العرب في نوعه لا يضارع ولا يجارى في أمة أخرى.
الشعر الجاهلي
الأمة العربية من أذكى الأمم وأصفاها قريحة، وأكثرها استعدادا للرقي. ولكنها انزوت بطبيعة بلادها في جوف الصحراء فرضيت بحالتها، ورغبت في البقاء عليها، واكتسبت من حريتها المطلقة نوعا من الإعجاب، ففخرت على غيرها، وحسب البدوي نفسه أفضل ما يكون إدراكا، وأكمل ما يكون أخلاقا. تعود الحرية في أعماله، فكان كل رئيس قبيلة مقيدا برأي أهله وعشيرته. وكان العربي كريما يجود بكل شيء، وكان سيفه ورمحه ورحله كل ما يملك، يناديه أصغر إنسان باسمه فلان بن فلان، ومع أنه كان ميالا إلى المساواة، وإلى هذا النوع الذي يسمونه الآن «ديمقراطية» كان يرى نفسه قد خص بمزايا ليست لغيره من الأمم الأخرى؛ مزايا في جنسه وأخلاقه، وعاداته ولغته، وكل شيء لديه، فترفع عن الصناعات والأعمال، ووكل ذلك إلى الخدم والموالي والعبيد، وامتاز هو بالشجاعة والكرم والذكاء، وقوة الخيال الشعري، وبلاغة الكلام.
أما العصبية فكانت أشد ما تكون عند العرب، وهي التي حفظت كيانهم، كما أنها كانت من الأسباب التي هاجت الحرب بينهم، فقد كان العربي يجود بكل شيء في سبيل نصرة قومه وعز قبيلته، وهو مخلص كل الإخلاص؛ لأن ذلك أصبح لديه من أغراض الحياة لحفظ نفسه وأهله.
نشأ العربي على هذه الحرية والسذاجة في العيش، ووهبه صفاء سمائه وصفاء قريحته سهولة الكلام، واكتسب من سهولة عيشه الرضا بما لديه، فلم يكن له هذا النوع من القلق في الفكر، الذي يدعو إلى البحث وحب الاستطلاع، وكان يتهاون بضروب الآلام شأن كل شجاع، ولم يكن يهتم بما سيكون في غده، ولا بالبحث والتنقيب في أسرار الحياة، وكل ما يعرف عن حكمائهم وكهانهم جمل تشتمل على نصائح، وعبارات مملوءة بالحكم والعبرة.
هذه الحياة الفطرية بما فيها من البساطة والسذاجة والأخلاق من كرم وشجاعة ووفاء، هي كل الشعر العربي الجاهلي، أو الشعر العربي الجاهلي هو كل ذلك. كان العربي يصف في شعره ما يراه، ويتكلم عما يشعر به في نفسه من عواطف وفضائل، وقد تكلم وعبر عما يجول بخاطره بنفس الشجاعة والإقدام اللذين كانا له في الحياة.
والعرب أكثر الأمم اهتماما بالشعر واشتغالا به؛ فلا تكاد تجد عربيا إلا نطق بالشعر وقال الأبيات والقصائد، سواء في ذلك رجالهم ونساؤهم وبناتهم وصبيانهم؛ لأن الشعر طبيعة من طبائعهم، وسجية من سجاياهم، فما هو إلا أن يحرك نفس العربي داع صغير أو كبير لينفتق لسانه بالكلام البليغ، وليسترسل في القول استرسالا، فيبدع ويغرب، ويستولي على النفوس استيلاء، ويقود الجماعات ويذكي الحروب، ويصلح ذات البين، ويفعل في النفس فعل الكأس.
ذلك لصفاء قريحته ولصفاء جوه، ولسذاجة فكره وبساطة عيشه، ولحاجته إلى الغناء والتفاخر بحسبه، والدفاع عن نفسه وأهله؛ ولأن طبيعة بلاده الجافة ذات الشكل الواحد لم تلهمه ولم توح إليه من أنواع الجمال غير جمال القول بالتعبير عما يجول بخاطره، وإظهار عواطفه إظهارا ساذجا؛ غاب عنه جمال الطبيعة من حقول وخمائل، ومن جبال وتلال مكللة بالأشجار والأزهار، وندر لديه جريان الماء وهدوء الجو، فلم ير إلا الصحراء المحرقة ذات الفضاء اللانهائي - على قول المنطقيين - والنخل المصعد في السماء على شكل واحد؛ فأثر ذلك في خياله، وجعله أيضا لا يعرف التغيير. ولكنه إنسان له نفس ككل النفوس ، تتطلع إلى الكلام والتعبير عما هو كامن فيها، وعما تراه وتفهمه من هذه الحياة، وهي من النفوس الصافية تحب الجمال وتميل إلى فهمه، وليس لها من وسائل الفنون إلا البلاغة، فاندفع بطبيعته إلى الشعر، ووصف طبيعة بلاده، وتفنن في ذكر ما يحيط به، من حيوان وغيره، ووصف كل دقيقة وعظيمة في ذلك، ثم أحب جمال المرأة؛ لأنه كل ما عنده من الجمال، فشبهها بالكواكب والماء الزلال، وتصبب ونسب بها؛ لأنه رأى في الحب تسلية للنفس، وشفاء للغليل، ووسيلة من وسائل الارتياح والسرور، وداعيا من دواعي البلاغة؛ فأكثر من ذكرها في أشعاره، وبدأ قصائده بذلك، وهام بها هيام اليونان بذكر آلهتهم في أشعارهم، فأصبح الغزل طابعا من طوابع الشعر العربي، وأبدع في ذلك أيما إبداع.
1
Page inconnue
هذا ولم يقف الباحثون إلى الآن على أثر يدل على أصل الشعر العربي ولا كيف بدأ، وما وصل إلينا من الشعر القديم، لا يدل إلا على متانة في الصناعة، مما لا يصح أن يكون من أوائل الشعر.
والمظنون أن الشعر القديم لم يصل إلينا لعدم تدوينه، ولانتشار الأمية في ذلك الزمن؛ إذ لا يمكن أن يصل الشاعر إلى هذا الضرب من البيان، ولا إلى هذا الإتقان إلا بتعمل كبير وجهد عظيم، خصوصا هذه الأوزان المختلفة والقوافي المتعددة. وإذا ذهبنا إلى أبعد ما قيل من الشعر الجاهلي، قبل الإسلام بنحو قرنين - على بعض الأقوال - نرى أن هذا لا يكفي لما وصل إليه من الإتقان والإمتاع في الصناعة، ولا لوصول الأفكار لهذا الحد من الحكمة في القول كما في معلقة زهير، وشعر عدي بن زيد وغيرهما؛ لأن الأفراد لا يمكن أن يصلوا إلى ذلك إلا بعد تربية طويلة للمجموع، يتخرج فيها أصحاب المذاهب الخاصة، فلعل الشعر الجاهلي أقدم مما نظن بكثير.
قالوا: وأول ما انفتق لسان العربي بالشعر كان في سيره مع الأبل أثناء أسفاره، التي كان يقطع فيها الصحراء المحرقة الواسعة الفضاء، وهو على جمله يهتز هذه الهزات المتوالية، التي تطوي وتنشر جسمه طيا ونشرا؛ فدعاه ذلك إلى الحداء ليقطع الوقت، وليخفف على هذا الحيوان ألم السير؛ إذ بحنوه إلى سماع الغناء ينسى هذا الحيوان الصبور كل ألم، وقد ظهر في حركات سيره شيء يشبه أن يكون سببه الطرب من سماع الغناء، في ارتفاع عنقه وانخفاضه. قالوا وأخذ العربي أوزان الشعر من حركات الإبل في سيرها.
ومن المحتمل أن يكون هذا صحيحا، وأن يكون ما دعا العربي لقول الشعر كثرة أسفاره وأتعابه من اختراق الصحراء. ولكن العربي ككل الناس من جهة العواطف والإحساسات والاستعداد إلى قول الشعر. بل ظهر أن العربي أكثر الناس استعدادا لقرض الشعر، وأكثر من قال شعرا؛ لا تكاد تجد أمة أخرى أنتج خيالها من الكلام الموزون المقفى مثل ما أنتج العرب، ولا يوجد عدد من الشعراء في أمة من الأمم أكثر من عدد شعراء العرب؛ لأن الشعر كان سجية من سجاياهم، فكان لديهم أشبه بالحديث والمسامرات عند غيرهم. فلماذا لا تكون هذه الطبيعة النقية، وهذا الاستعداد السليم هما اللذان دعوا العرب لقول الشعر من أول الأمر؟ وأن الحياة البدوية والحاجة إلى الدفاع عن النفس والأهل هي التي فتقت لسانه بهذا الكلام البليغ؟ وأن مفاخره جعلته يملك أعنة الكلام، ويتصرف هذا التصرف في القول؟ وأن هذه الصبغة التي في شعره فطرية ناشئة عن أسباب كثيرة، بعضها خاص باللغة وغنائها والبيئة وما فيها.
وقد قال بعض المستشرقين مثل رينان ومن جرى على مذهبه: إن العرب ككل الأمم السامية ليس لها أساطير في شعرها ولا في عقائدها، وإن هذا يدل على ضيق الخيال لديهم؛ لأن الأساطير والخرافات إنما هي نتيجة سعة الخيال، ونتيجة الحيرة وحب البحث والاطلاع، وإن الفكر كلما كان قلقا متطلعا إلى غاية أسمى وكان بعيد الغرض؛ دعاه ذلك إلى حب البحث وإلى أن يكون في حركة مستمرة للوصول إلى ما يريد، كأنه يبحث عن حقيقة خفية، وكلما أكثر من البحث ظهرت له أشياء ووقف على معان جديدة، وتبينت له أسرار دقيقة في الحياة، وعرف ما لم يكن يعرف قبلا. قالوا : كل ذلك يظهر أثره في بلاغات الأمم من نظم ونثر، كما هي الحال عند الأمم الآرية كاليونان وغيرهم من الأمم الأوروبية. وقالوا: سعة الخيال، ولا يقصدون بالخيال ما نقصده نحن من المجاز والتشبيه، وإنما يقصدون سعة الخيال في تصور الحقائق وفي إدراك الموضوعات المختلفة؛ لأن أساطير اليونان كان منشؤها البحث عن الخالق وتصوره، فلم ترشدهم عقولهم إلا إلى ضرب من الخرافات، كتبوا عنها وألفوا فيها الأسفار، ونصبوا لها التماثيل، وتوسعوا في الفنون؛ فاستدل الباحثون بذلك على قوة الذكاء وسعة الخيال وحب الجمال والافتنان فيه. وربما كان هذا من الأسباب التي حملتهم على طول الكلام، والميل إلى القصص في النثر والشعر؛ لأن هذا النوع من البلاغة ليس إلا ضربا من سعة الخيال في التصور والفكر والتعبير؛ ومن هنا يكون تعدد الأنواع في ضروب البلاغة نظما ونثرا.
أنكر المستشرقون هذا النوع من سعة الخيال عند الأمم السامية، وفي جملتها العرب. ولكنهم يبالغون في ذلك؛ لأن العرب تصوروا آلهة متعددة، ونصبوا لها الأصنام قبل الإسلام، وكانت لهم أساطير،
2
وتخيلوا لشعرائهم نفوسا أخرى من الجن كانت توحي إليهم عبقريتهم، وعدوهم أصحابا لكبار الشعراء، ورووا عنهم الشعر. قالوا: فكان صاحب امرئ القيس لافظ بن لاخط، وصاحب عبيد بن الأبرص هبير، وغير ذلك من الشعراء الكبار،
3
أما أن الأمم السامية ذات أفكار هادئة غير قلقة، راضية بصدق وصحة ما ترى، فهذا صحيح في جملته؛ لأنهم أقنع الأمم في حب الاستطلاع، وأرضاهم بما لديهم؛ ولذلك أيضا كانوا أقلهم فلسفة، وأكثرهم سذاجة في حالتهم الاجتماعية وفي نظام حكوماتهم، كما يظهر ذلك في بلاغتهم من شعر ونثر، وكلها أشبه بالحقائق العريانة كما يقولون.
Page inconnue
وقد قال جماعة من المستشرقين خصوصا الألمانيين منهم إن نسبة الشعر الجاهلي إلى قائليه لا يصح الاعتماد عليها ولا التصديق بها؛ لأنه مهما صحت قوة الذاكرة عند العرب ومهما قويت حافظتهم، فإنها لا تحتمل رواية كل هذا الشعر كما كان، وكما نطق به الشعراء الجاهليون؛ لأن الذاكرة كثيرا ما تخون، والأمانة في النقل نقلا صحيحا لا تكون إلا بالكتابة والتقييد، وأن حمادا الراوية جامع المعلقات وراويها متهم في روايته وفي صحة قوله، ومطعون في ذمته بإقراره عن نفسه، وبرواية معاصريه عنه، واستدلوا على ذلك بما في روايات الأغاني وغيرها، مثل ما ذكر في ترجمته:
4 «سمعت المفضل الضبي يقول: قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أنشده فلا يصلح أبدا، فقيل له: وكيف ذلك، أيخطئ في روايته أم يلحن؟ قال: ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، لا. ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها، ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه مذهب رجل ويدخله في شعره، ويحمل ذلك عنه في الآفاق؛ فتختلط أشعار القدماء، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد وأين ذلك؟»
5
وأن خلفا الأحمر وأمثاله خلقوا من الشعر ما لم يكن موجودا في الجاهلية، وكذبوا على الشعراء، وكان يكفي نسبة الشعر إلى أي إنسان، حتى لقد كانوا كثيرا ما يحفظون الكلام بدون معرفة قائله؛ ولذلك تجدهم يعدونه من قصيدة لشاعر ومرة لشاعر آخر من قصيدة أخرى؛ كل هذا يدل على خلط في الروايات، ويحمل على عدم الثقة بها. قالوا: ومما يضعف الاعتماد على الرواة تعدد الأشخاص المسمين باسم واحد، فقد ظهر أن هناك سبعة عشر رجلا، كل منهم يسمى بامرئ القيس، وأربعة يسمون بعلقمة، وثلاثة بعنترة، وخمسة بطرفة. وهذا أيضا من الأسباب التي تدعو إلى الخلط في معرفة صاحب القصيدة، وزادوا على ذلك أن الرواة كانوا يستبدلون بالعبارة البدوية المحضة التي لا يفهمونها من الكلام القديم، عبارات وألفاظا من عندهم على الوزن والقافية نفسها؛ لتكون أوضح لهم ولغيرهم. قالوا: وإذا صدقنا ما قيل عن حماد الراوية، من أنه كان يعي ضمن محفوظاته ستين قصيدة تبتدئ كلها «ببانت سعاد»، ولا نعرف منها الآن إلا قصيدة كعب بن زهير، ظهر لنا قيمة ما يقوله الرواة وصحة ما يروى عنهم، وقالوا أكثر من ذلك.
6
وقد لخص هذه الآراء المسيو «رينيه بسيه» رئيس القسم الأدبي بجامعة الجزائر في رسالة له سماها «الشعر العربي قبل الإسلام ».
الرواية في ذاتها متهمة، ولا يصح الأخذ بها علميا إن كانت رواية ككل الروايات. ولكن المسلمين عنوا عناية خاصة بالرواية، حتى أصبحت من الطرق العلمية؛ لأن كثيرا من أحكام الدين مبنية عليها، ولا يمكن أن تكون قاعدة علمية أثبت وأصح مما وضعوه في رواية الحديث، وما قرروه من الشروط في ذلك، مما يصح الآن أن يكون من أحدث الطرق العلمية. ولكن هل هذه العناية بنفسها وجدت في رواية الشعر؟ هذا ما لا يمكن الجزم به؛ بدليل ما نسب إلى الرواة، وبدليل ما نراه من الاختلاف في ذلك؛ فإن بعض الأشعار لا يزال قائله مجهولا. أما إذا اتبعنا الطرق العلمية المحضة، التي تقول: إنه لا يصح الجزم بالشيء إلا إذا ثبت بدليل قطعي، فلا يصح التصديق بذلك تصديقا تاما؛ لأنه يحتمل عدم الصحة. وأما إذا نظرنا نظرة المتساهل الذي يحسن الظن، ولا يقيد نفسه بالقواعد والقوانين العلمية، فإننا لا نجاري هؤلاء في شكهم، خصوصا أنه في المستحيل أن تكون كل هذه الأشعار أو أكثرها مخترعة، أو منسوبة إلى غير قائلها بدون سبب ولا داع إلى ذلك، وإذا كذب الرواة أو دسوا على بعض الشعراء شيئا، فإن ذلك لا يمكن أن يصل إلى مقدار ما نعرفه من الشعر الجاهلي، وكيف يمكن اختراع هذا الشعر الكثير، وبه من العبارات والأساليب ما يدل على أنه بدوي صرف؟ وأي إنسان يمكنه أن يحصل على هذه القدرة؛ ليشغل وقته بذلك وينسبه إلى غيره، وكان أولى به أن يذكره لنفسه ليفخر به؟ وأي فائدة لأي معتوه أن يتعب في التأليف ويقول: هو لفلان؟ أنرمي كل الرواة وعلماء اللغة والأدب بالكذب أو نتهمهم بعدم الثقة؛ لأن حمادا وغيره كذب مرة أو مرتين؟ وهل يصح أن نحكم على البلد أجمع بالمرض لأن بها إنسانا مريضا؟
إن المستشرقين يبالغون في ذلك، كما يبالغ بعض المؤرخين في نسبة التاريخ اليوناني القديم أجمعه إلى الأساطير والخرافات، والحق أن المسألة لا تزال موضع البحث، ولا يمكن الجزم بشيء في ذلك الآن. غير أننا نرجح أن كثيرا من الشعر القديم منسوب كذبا إلى الشعراء المعروفين. ولكن هذا لا يطعن في صبغته العربية من حيث الأسلوب.
البلاغة والاجتماع
هل البلاغة صورة الاجتماع؟ وهل يصح أن تتخذ حركة الكتابة من شعر ونثر دلالة على حياة الأمم الاجتماعية، وعلى مجموع صورة الاجتماع من أفكار وعقائد، وتصورات وخيال، وذكاء ودقة في الفهم، وخمول في القريحة، أو على ما في الأمم من ميل إلى الجد وإلى اللهو، وما في النفوس من قوة وضعف وإرادة، وعلى اختلاف الأذواق وفهم الجمال، ثم على العادات وغير ذلك، مما يدل على شيء من التاريخ والأخلاق القومية؟
Page inconnue