وذكر الهمداني في بعض كتبه أن سبأ جمع أهل مملكته ووجوه أهل بيته وعشيرته، وأجلس ابنه حمير عن يمينه، وأجلس ابنه كهلان عن شماله؛ ثم قال: أيها الناس اعطوني عهودكم ومواثيقكم إن بغت يميني على شمالي أن تمنعوها، أو شمالي على يميني أن تمنعوها، فأعطوه العهود والمواثيق على ذلك ثم قال لهم: إني لم أرد يميني وشمالي إلا حمير وكهلان، وإني لم آمن أن يختلفا بعدي في الأمور، ولم آخذ العهود والمواثيق عليكم إلا لتحولوا بعدي بين من يروم من هذين لصاحبه سوءًا وخلافًا، ويطلب أحدهما بعد أكثر مما يقسم له، إن حميرًا كبر من كهلان وحقه أن يكون يميني، وكهلان أصغر من حمير وحقه أن يكون شمالي، وإن نصيب خمير من ملكي مثل نصيب يميني من بدني، وإن نصيب كهلان من ملكي مثل نصيب شمالي من بدني. فيا أيها الناس من يصلح لليمين من الملك فأدعوه لليمين، وانظروا ما يصلح للشمال من الملك فأدعوه للشمال، قال: فدفعوا لليمين السيف والقلم والسوط، وحكموا لليمين بذلك قالوا هذه ثلاثة أشياء تعمل بها اليمين، ولا تعمل بها الشمال دون اليمين في الرؤى، قال: ثم حكموا بأن صاحب السيف لا يصلح له إلا الثبات والوقوف في موضعه، وحكموا بأن صاحب القلم لا يكون إلا مدبرًا فائقًا رائقًا، وحكموا أن صاحب السوط لا يكون إلا سائسًا، ثم حكموا أن الوقوف والثبات والفتق والرتق والتدبير والرياضة والسياسة لا تكون إلا للملك الأعظم الراتب في دار المملكة ومكابدة الأعادي حيث كانوا، وحكموا أن الرأس يرد به البأس وتقهر به الحروب عند التلاقي، وتجشم به المدارك، وحكموا أن القوس ينال به المناوي والمناصي على البعد منها ثم حكموا بأن قيادة أعنة الخيل ومكابدة الأعادي حيث كانت، ورد البأس والقهر عند التلاقي، ومناوات الأعداء ومناصاتها لا تصلح إلا لصاحب الدولة الذّاب عنها، والرامي عن حوزتها، والساد لخللها، والقائم لحروبها، وإصلاح الثغور وسدها، وهو كهلان. فتقلد حمير الملك الراتب في دار المملكة وسلم إليه، وسمي يمينا لجلوسه عن يمين أبيه. وتقلد كهلان الأطراف والثغور وأعمالها وحروبها ومناوات الأعادي ومناصاتها حيث كانت. ولكهلان على حمير المعونة من المال والنجدة، ولحمير على كهلان الطاعة وكفاية ما تقلده. ثم إن حمير وكهلان لم يزالا على ذلك، وكذلك أولادهما من بعدهما وأولاد أولادهما. ثم إن حمير جمع بنيه. قال أبو محمد بن حزام كان له من الولد " الهميسع ومالك وزيد ووائل ومسروح ومعد يكرب وأوس ومرة ". وعاش فيما قال السهيلي ثلاثمائة سنة. وهو أول من توج بالذهب. وقال لبنيه في وصيته: يا بنيّ ما اجتمع اثنان متوازران متعاضدان على خمسة من أشتات الناس إلا غلباهما، وملكا أسرهم. وما أجتمع خمسة نفر متعاضدون متوازرون على عشرة من أشتات الناس إلا غلبوهم وملكوا أسرهم. وأيما عصابة غلبت أربعين رجلا يوشك أن يغلبوا المائتين، وغلاب المائتين حريون أن يغلبوا الألف. وما من رجل أطاعه واحد فقام له بالمجازاة إلا أطاعه عشرة، وما من رجل أطاعه عشرة فقام لهم بمجازاتهم إلا أطاعه مائة، وما من رجل أطاعه مائة فقام لهم بمجازاتهم إلا أطاعه ألف وما من رجل أطاعه ألف رجل إلا وقد ساد لا محالة، ومن ساد فقد ملك ومن ملك فقد أوتي المنتهى من أمله في دنياه.
يا بني: أطيعوا الأرشد منكم، ولا تعصوا الهميسع فإنه خليفتي عليكم وأميني فيما بينكم، وإنه لسيفكم، وما السنان لولا الرمح، بل وما الرمح لولا السنان. أنتم بالهميسع وله، والهميسع بكم ولكم. ثم إن الهميسع بن حمير ولي الملك بعد أبيه وحفظ وصيته وثبت عليها وعمل بها، وأجراهم على ما أجراهم عليه أبوه حمير، وسار فيهم سيرته، وكذلك الأيمن بن الهميسع ولي الملك بعد أبيه الهميسع وساد إخوته وعشيرته. ثم إن الأيمن لما ولى الملك بعد أبيه سار في الناس بسيرة أبيه وجده وحفظ جميع ما انتهى إليه من وصايا آبائهم وأسلافهم التي كانوا يعملون عليها، ويوصون بها. ويحفظونها لسياسة الملك، وصيانة الدولة. ثم ولى الملك بعد الأيمن ابنه زهير، ثم إن زهير لما ولى الملك بعد أبيه كان من أحسن الملوك سيرة. ثم إنه وصى ابنه عريب بن زهير، ولم يكن له غيره فقال له:
1 / 5