اذهبوا وبشروا
امتحانات تربوية!
بعنا واشترى
إلى عميد الكتلة الوطنية
أهل القلم والقلم المستقل
الأدباء البرجعاجيون
شعراء المناسبات والشدياق
إلى دولة اليافي
إشعاع بلا زيت
شهادات زور
أمين وأبو أمين
هؤلاء رهبانك يا مار مارون
مادحو أنفسهم
جيشنا
قصر السعديات
ثلاث أزمات تنتظرنا
وزارة أوقاف
زواج مدني
ضريح «أبو أمين»
التربية الوطنية
المعضلة المارونية الرومانية
ذكريات جميزية كوبليانية
سؤال وجواب (1)
إلى الأستاذ قلعجي مع تحياتي الحارة
إلى السيد منير مراد، بيروت - الصنائع
إدارة البريد - الأدب والسياسة
حقوق المرأة
سؤال وجواب (2)
بريدي
مارون عبود
اذهبوا وبشروا
امتحانات تربوية!
بعنا واشترى
إلى عميد الكتلة الوطنية
أهل القلم والقلم المستقل
الأدباء البرجعاجيون
شعراء المناسبات والشدياق
إلى دولة اليافي
إشعاع بلا زيت
شهادات زور
أمين وأبو أمين
هؤلاء رهبانك يا مار مارون
مادحو أنفسهم
جيشنا
قصر السعديات
ثلاث أزمات تنتظرنا
وزارة أوقاف
زواج مدني
ضريح «أبو أمين»
التربية الوطنية
المعضلة المارونية الرومانية
ذكريات جميزية كوبليانية
سؤال وجواب (1)
إلى الأستاذ قلعجي مع تحياتي الحارة
إلى السيد منير مراد، بيروت - الصنائع
إدارة البريد - الأدب والسياسة
حقوق المرأة
سؤال وجواب (2)
بريدي
مارون عبود
مناوشات
مناوشات
تأليف
مارون عبود
المؤلف (1886-1962).
اذهبوا وبشروا
إلى الصديق الوزير محيي الدين النصولي
يا سيد، قد تعبنا الليل كله ولم نصطد شيئا، ولكن لأجل كلمتك نلقي الشبكة.
هذا ما قاله الحواري الأول بطرس لمعلمه، بعدما ألقى شبكته في بحيرة طبريا، وقعد ينتظر طول الليل، وعالج الصيد بالصنارة أيضا، فأكل السمك الطعم و...
أشهد أنني عندما ساهمت في تحرير جريدة «كل شيء» جعلت العنوان: «مناوشات»، فناوشت ما استطعت، وفزت بإبقاء مياه «نبع قطرة» لبلادي.
ثم اتخذت عنوانا آخر: «أوراق خريف»، فذهبت تلك هباء منثورا، وكانت كاسمها حقا. ثم كتبت طويلا في جريدة «الأحد» تحت عنوان: «من الجراب»، فكنت أمد يدي إلى ذاك الجراب في كل مناسبة، فيأتي الكلام تارة مناسبا، وطورا غير مناسب، أي حينا يسخط، وآونة يغضب، ولكني مضيت في طريقي ساعيا إلى غايتي ولا يعنيني ما يقول الناس.
وفي «المجالس المصورة» كان العنوان: «حبر على ورق»، وأنا أحارب فيه على كل الجبهات. ومن يخشى المعارك وشعارها: حبر على ورق؟!
عندما كان الانتداب في أول عهده جاء أحد المفتشين لزيارة مستودعات أوراق سراي «بعبدا» القديمة، فدخلها وفي صحبته رئيس القلم العتيق في خدمة الحكومة. كان هذا يطمع بالترقية الكبرى؛ لأنه شقيق مطران، فقال للمفتش حين أراه المستودع وما فيه من ذخائر فعلت فيها الجرذان والفيران فعلها: أتعرف يا مسيو ... كم قضيت من العمر في هذا المركز؟
فقال الفرنجي: لا، قل إذا شئت.
فأجاب رئيس القلم: ثلاثين سنة وأكثر. - هوه، هوه، الحمد لله على السلامة، اشكر ربك على أن الجرذان لم تأكلك.
وأنا أشكر ربي على العافية، ولا أرجو سواها، وسأظل أكتب إلى أن يطل القدر المكتوب، فلا أقل من أن أخدم بلادي بهذا الحبر والورق، ولا سلاح لي سواه. ولن أقول لمن يعنيهم الأمر ما قاله الحطيئة للزبرقان:
أدركت يأسا مريحا من نوالكم
ولا ترى طاردا للحر كالياس
العوام وغيرهم يطردون الشيطان باسم الصليب، أما شيطاني فلا يطرده شيء؛ رأسه يابس، وعينه جامدة؛ فهو لا يتوارى أبدا.
قال الأستاذ محيي الدين النصولي في جريدته «بيروت» في حديثه عن «مال الاحتياط»:
المال المتكدس يجوز أن يكدسه الأفراد لا الحكومات، فالفرد نتسامح معه إذا درج على سياسة الادخار، أما الحكومة فلا نتسامح معها قط، ومن واجبها، بل من واجبها الأول أن تنفق دائما؛ ليطمئن الشعب إلى أن أمواله لا تنام في صناديق الخزينة، بل تدور بين المواطنين؛ لترفع مستوى معيشتهم، وتشيع الرفاء بين صفوفهم، ويجدوا فيها منافع لهم.
ذكرتني كلمته هذه بما فعله نابليون، جبار الأقزام والعمالقة، بعدما توج إمبراطورا.
دخل كاتدرائية «نوتردام» في باريس فرأى فيها ثلاثة عشر تمثالا مسبوكة من الذهب الخالص، وكانت الدولة في حاجة إلى المال، فحضرته النكتة - والنكتة في اعتقادي وحي ما - فقال نابليون: «أبقوا السيد المسيح وحده هنا، أما تلاميذه فلا محل لهم معه؛ لأنه هو أمرهم بقوله: «اذهبوا وبشروا باسمي جميع الأمم».»
وفي الحال أنزلت تماثيل الرسل الاثني عشر، وأرسلت إلى دار الضرب، فصارت دنانير نابليونية تداولها الشعب الفرنسي الذي أحب نابليون، فنفست عنه بعض الشيء.
إني أتمنى، يا أخي محيي الدين، أن يقال لمال الاحتياط ما قيل لتماثيل الرسل: «اذهب وحوط لبنان باليسر.» فيزول كابوس الضائقة عن النفوس. «الشبعان يفت للجوعان فتا بطيئا.» هكذا قال المثل العربي القديم، ونحن يا سيدي بطوننا خاوية، وإذا كان لا بد من موتة فقبل رمضان ...
إنني أكتب رغم اعتقادي أن كلامي حبر على ورق، أو صرخة في واد، لا تزعزع جبلا، ولا تخيف أسدا.
إن صياح الديك لا يطلع الفجر، ولكن لا بد للديك من أن يصيح.
قرب الله الصبح الذي نسمع بتباشيره.
فمتى تحقق الأعمال الأقوال، ولا نظل نسقي الكمون بالوعد؟
عالية، 5 / 5 / 1954م
امتحانات تربوية!
نحن في قرن يصح أن يسمى عصر الشهادات، فقد كثر عشاقها الذين يجمعونها كما تجمع طوابع البريد.
كان يعني الناس فيما مضى أن يتعلموا، أما اليوم - ويا للأسف - فصار يهمهم أن ينالوا الشهادات ... فهن مفتاح باب المعقل الأشب.
1
ولى الزمان الذي كان يقال فيه: جربوني، عند الامتحان يكرم المرء أو يهان.
أما اليوم فكأن موقف العرض قد أصبح على الأرض، فعليك أن تحمل شهادتك بيمينك ... وأما ما تعلمت وما اغترفت من غدران العلم؛ فله بحث آخر.
إذن، فلا بد من الشهادة كيفما دارت بها وبنا الحال، وإذا كان الأمر كذلك فلتؤخذ بحقها.
يقول علماء التربية الحديثة: «العلم وسيلة للتربية.» وبناء على هذا القول سموا وزارة المعارف: وزارة التربية الوطنية. فعلينا إذن إما أن نربي تربية وطنية، وإما أن نقول وزارة التربية «حاف».
أقول هذا بعد مطالعتي ما طرح أمس من مواضيع على طلاب الشهادة المتوسطة في سوريا. وهذا هو:
الموضوع الأول: «قال الشاعر العربي:
وغلى الدم العربي في فواجبي
تضميخ مجدي بالدم المهراق
هب أن رحمة آسري ستفكني
أولست أحمل منة الإطلاق
وأشد من أسري علي بأن أرى
يد آسري يوما تفك وثاقي
حلل هذا اللون من العاطفة الوطنية، وبين أثره في حياة الشعوب الحرة .»
والموضوع الثاني: «لو خيرت بين الانتساب إلى الكلية العسكرية لتصبح جنديا يذود عن الوطن شر الأعداء، وبين الانتساب إلى دار المعلمين لتغدو معلما يكافح الجهل والمرض؛ فأي الأمرين تختار؟
بين أسباب اختيارك.»
والثالث: «اكتب كتابا إلى صديق لك تعزيه بأخ له استشهد في ميدان الشرف دفاعا عن الوطن، وتبين فيه واجب المواطن الحربي وفضيلة الجهاد.»
أما عندنا فطرح على طلاب الشهادة عينها - البريفة - هذان الموضوعان:
الأول: «نحن في هذه الحياة أشبه بالزورق الصغير السابح فوق أمواج البحر، إذا لم تكن هناك شواخص وأعلام تهديه طريقه؛ ضل السبيل وابتلعه البحر.»
ما هي هذه الشواخص والأعلام؟ وما المراد بهذا القول؟
والثاني:
قال جبران: «الأم هي كل شيء في هذه الحياة؛ هي التعزية في الحزن، والرجاء في اليأس، والقوة في الضعف، فالذي يفقد أمه يفقد صدرا يسند إليه رأسه، ويدا تباركه، وعينا تحرسه.» اشرح هذا القول.
إن الخيال والعواطف والنظريات لا تنشئ وحدها وطنا، ولا توطد استقلالا.
كانوا - يوم كنا طلابا - يعطون الأول والثاني الجوائز في كل موضوع، ثم يقولون: واستحق الذكر فلان وفلان حتى الرابع. ترى ألا يستحق لبنان الذكر في هذه الامتحانات التربوية؟
فلنعمل - على الأقل - بقول ابن الرومي لصاحب تلك اللحية التي شبهها بالمخلاة:
أو فقصر منها، فحسبك منها
نصف شبر علامة التذكير
إننا لا نطلب نصف شبر؛ فهذا كثير على لحيتنا ... نطلب نتفة وبر حتى لا يقال: أحلت
2 ...!
عالية، 16 / 6 / 1951م
بعنا واشترى
قال المؤرخ: «لما قصد صليبيو الحملة الثانية مدينة دمشق كان فيها فقيهان من أكبر فقهاء الشام؛ وهما: الإمام يوسف الفندلاوي المالكي، والشيخ الزاهد عبد الرحمن الحلحول، فما كادا يعلمان بقدوم الصليبيين في جموعهم حتى تقدما إلى صاحب الأمر فيها - وهو رجل من مماليك طغتكين، واسمه معين الدين أنر - فسلما عليه واستأذناه في الجهاد، فقال لهما: أنتما معذوران ونحن نكفيكما، وليس بكما على القتال قوة.»
فقالا له: بعنا واشترى، إشارة إلى قوله تعالى:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة .
ثم قاتلا حتى قتلا في مكان واحد ، فكان استشهادهما باب النصر.
ما انتهيت من قراءة هذه النادرة حتى رحت أسائل نفسي: «أعندنا اليوم من يقول هذا القول في الأزم؟ أم عندنا من يريد أن يشتري دائما ولا يبيع أبدا؟ أتظل قوتنا في حناجرنا كضفادع الليل؟ أم ترانا نبيع كما باع هذان الشيخان فربحت تجارتهما؟
أجل! إننا لنفعل ما فعلا لو كان في صدورنا ما كتب الله في قلوبهم من إيمان، ولكن أنى لنا ذلك.
الإيمان وحده يقول للجبل: انتقل فينتقل، كما قال ابن البشر، ولكن أين حبة الخردل؟ هل عندنا مقدار ربعها؟
إن أوطان هذا الزمان أمست تباع هي، فكيف لها أن تشترى؟»
لست أشك في أننا ضعفاء، عزل، ولكنا متى «بعنا واشترى» تم البيع، والعقد لا يحل، وإذا نقضه عدوان الغد أبرمه الدهر العتيد.
فإلى البيع أيها الإخوان، بيعوا ولا تندموا، ففي كل حركة بركة.
عالية، 13 / 11 / 1951م
إلى عميد الكتلة الوطنية
الأستاذ ريمون أده
قرأت تصريحك في المؤتمر الصحفي الذي عقدته، ووقفت عند آخر عبارة منه. وهذه هي كما وردت في جريدة بيروت الغراء:
أكد الأستاذ أده بأن فشل المعارضة في كسروان على الأخص - حيث لمس هو وكل من رأى المهرجانات العظيمة التي أقيمت له ولكتلته - دليل صريح على التزوير.
لا يا حضرة الأستاذ.
لا، لا تجزم.
إذا رمت أن تحكم على جودة الأرض؛ فسل الفلاح عنها «قاتل الأرض خابرها.» كما يقول المثل اللبناني.
فتلك المهرجات ليست دائما دليلا صادقا على الشعبية؛ ما أكثر الذين يمسكون الحبل من الطرفين!
لا يكاد المرشح يدير ظهره حتى يركض هؤلاء إلى منافسه معتذرين له بقولهم: «ألا نستقبل ضيفا زارنا؟»
إن مثل هذا الجبن والنفاق هو الذي يضيع الطاسة ...
فنصيحتي لك يا أستاذ، ألا تركن إلى وعود هؤلاء، ولا تقم أقل وزن لمن يودع غيرك بالتطبيل والتزمير، ثم يهتف لك: أوصانا ... مبارك الآتي باسم الرب.
اسمح لي أن أخاطبك بهذا الأسلوب الديني بعدما رسمك الأستاذ محسن سليم بطركا في مهرجان ما.
وبعد، أفنسيت ليلتنا في عين كفاع عام 1943م؟
ليتها تعود؛ ففي الإعادة إفادة.
لا أظن أنك نسيت ما جرى فيها بالتفصيل، ولا شك أنك تتذكر موقف «داعي الدعاة» الذي كان عن شمالك ... تذكر جيدا، وإن نسيت أنت فكثيرون من الناس لا يزالون يذكرون، كما صارحتك في ذلك الزمان، ها أنا ذا أصارحك الآن في هذه الساعة العصيبة، والتاريخ يعيد نفسه كما يقولون.
لا تستعجل الشيء قبل أوانه. استوثق من الناخبين أولا، وإذا استعصى عليك شيء من أسرارهم، فتذكر قول الشاعر:
إذا اختفى ما في الزمان الآتي
فقس على الماضي من الأوقات
فالناخبون ما زالوا هم هم، وعلى يد هؤلاء تأتي الشكوك، فالويل لهم كما قال السيد.
لقد قرفت يا سيدي حديث الانتخابات، ولولا أنها من مقومات المواطن لما أقبلت عليها، فما أكثر المدعوين وأقل المنتخبين!
نحن أدرى من المرشحين بنيات زملائنا الناخبين، فاسمع مني وصدقني: المهرجانات فقاقيع صابون ...
ستذكر صراحتي هذه وتحمدها عندما تنجلي غمرة المعركة، أما الآن، فثق يا حضرة الأستاذ أني أتمنى لك النجاح، إنما على غير يدي؛ لأنني ما زلت كما كنت.
عين كفاع، 14 / 4 / 1951م
أهل القلم والقلم المستقل
يا أعز أصدقائي.
هكذا وقعت مسألتك اللطيفة التي كلفت نفسك عناء إرسالها إلى عين كفاع. قد تعجبت مثلك من ظهور اسمي بين أسماء إخوان القلم المستقل وأنا في عين كفاع، حتى ظننت أنني صرت قديسا من حيث لا أدري، أفعل العجائب عفوا؛ فأكون في عين كفاع وبيروت في وقت معا، كما ظهر القديس أنطونيوس البادواني في بادو وباريس في وقت واحد.
لقد صح في مع أهل القلم والقلم المستقل قول أبي تمام:
يقضون بالأمر عنها وهي غافلة
فأنا يا «أعز أصدقائي» ما أنتسب - ولا أنتسب أبدا - إلى جمعية أدبية. قد أكون من المجندين، ولكني ما كنت قط من المنتسبين، ولا أكون.
ولكي أريك ضعف إيماني بالأدباء واتحادهم؛ أنشر لك كلمة كتبتها جوابا عن نداء أذاعه الأستاذ ميشال أسمر، صاحب الندوة اللبنانية. ويعود تاريخ هذه الكلمة إلى ثلاث سنوات 7 / 2 / 1952م؛ أي قبل تأسيس جمعية أهل القلم ، وهاك أكثرها:
سمعتك تنادي رجال القلم ، فتذكرت رسالة عبد الحميد بن يحيي إلى الكتاب، ولعل تلك الرسالة قد كانت أول دعوة إلى ما نسميه اليوم «نقابة».
لم تقصر يا أخي عن عبد الحميد في تقويم الكاتب وتقديره، فعبد الحميد قال لهم في ذلك الزمان: «فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارهم التي بها يبصرون، وأيديهم التي بها يبطشون.»
وأنت يا أخي استعرت كلمة الإنجيل، وما أحلاها! فقلت لهم مرة واحدة: أنتم ملح الأرض.
كبرت كلمة خرجت من فمك.
أجل، إنهم ملح الأرض، ولكن خبزهم - ويا للأسف - بلا ملح يأكله الناس، ثم ينسون مطعمه بعد القيام عن السفرة.
سمعتك تدعوهم إلى التضامن والاتحاد، ولكن أخلاق الأدباء - وبنفسي أبدأ - تضيق بذلك، قد عرفوا بذلك منذ كانوا؛ ولهذا يقول لهم عبد الحميد في موضع آخر من تلك الرسالة: وتحابوا في صناعتكم. فلولا تباغضهم ما أوصاهم بذلك.
ما أفلحت يا أسمر في ندوتك إلا لأنك وحدك، ولو كان لك فيها شريك لفسدت. لا أنسى أبدا قول طانيوس عبدو حين فصم عرى شركته مع أحدهم:
الحمد لله لا شريك له
وأحمد الله ليس لي شركا
وأتمنى من كل قلبي أن يقع نداؤك في آذان ليس فيها وقر؛ حتى لا يقال فينا: لقد أسمعت ... فنحن معشر يصح فينا قول المتنبي مع بعض التحريف: «يهدم» بعضنا بعضا ويمشي
أواخرنا على هام الأوالي
وقبل وبعد، فليتك تجمعهم، فلعل أحدا يحس بوجودهم، وإذا لم يتجمعوا فلا تيأس: إن لبنان بلد النسور، والنسور لا تكون قط أسرابا ... وكما في السماء كذلك على الأرض.
عالية، 7 / 5 / 1951م
الأدباء البرجعاجيون
كتب إلي ناشئ من إحدى مدارس بيروت يسألني:
من هم البرجعاجيون؟
إلى هذا الطالب أقول: الأديب البرجعاجي غير واقعي ولا عملي، إنما هو كلاعب الشطرنج يحرك الجيش على الرقعة لا في الساحة.
أما في هذه الفترة، فقد بردت الهمم، فالجيل الطالع قليل الجلد لا يعمل، والأدباء الذين يشار إليهم مستخفون بقرائهم وسامعيهم، فلو كنت يا بني في مؤتمر بيت مري، لأدباء العرب، ورأيت الشعراء فيما يسمونه أمسية شعرية ، ورأيت كتبا تنشر ودفاتر تقلب، لقلت: إنه لم يبق لنا لا أدباء برجعاجيون ولا أدباء برجخشبيون.
وإذا لم ينهض الشباب؛ فإلى الله المآب ...
عالية، 12 / 5 / 1951م
شعراء المناسبات والشدياق
وبعد، فلي صديق في بيروت لا يثمن، لا أتنزل عن حقي به ولو أعطوني ثقله ذهبا، فقد تكون أنت لا تقتنيه ولو جاءك هدية، أما أنا فيكفيني منه إخلاصه للفن والأدب، فهو تارة يضحي بماله - أربعة غروش - ليرسل إلي غذاء، أو محصول شهر، كما فعل منذ أيام؛ فقد أرسل إلي ملحق العدد السادس من مجلة الرياض - وهو مجموعة «تواريخ» لرجال الجمهورية السورية غب استقلالها - وكتب إلي عليه بالقلم العريض والحبر الأحمر: «محصول الشهر»،
1
فأدركت ما يريد صاحبي.
ثم وصلني منه أمس رقيم خاص على كف ورق من القطع الكبير. أما صنف الورق فمن نوع أكياس الصر.
نحن لا نغتر بالظهارة؛ فالكتاب قيم، كله إرشادات نفيسة وعظات مرصعة بألقاب شريفة ... لا يحسن إهداءها إلا صاحبي ومن كان مثله.
إني أعجب لهذا الرجل البطال كيف يضحي بماله ووقته ليتشفى من غيظه!
أفلا يعلم - هداه الله - أن ما كان يغضبني منه أصبح يضحكني وإخواني، ويسلينا في شتاء عالية؟ فها أنا أسأله أن يزيدني من هذه الوريقات،
2
فلي فيها منافع أخرى ... لم يحلم بها الجاحظ في وصف بخيله أكال الرءوس.
ولقد أكثرنا الكلام في شعر المناسبات، وتناولناه مرارا، فقبل النظر في محصول هذه الأيام - وهو قليل كالحنطة في البلاد، وإن لم يغل سعره مثلها - فإنني أترك الكلام لنابغة الجيل الغابر؛ أحمد فارس، الذي نظر إليه منذ قرن كما ننظر نحن إليه اليوم، ولكن الآذان كانت - ولا تزال - مسدودة.
رحم الله الشدياق؛ فقد سبق عصره سبق جواد النابغة، المستولي على الأمد، فحمل على شعراء المناسبات، وإن يكن قاله مثلهم، فبينه وبينهم فرق بعيد.
كان الشدياق شاعر السلاطين والملوك والأباطرة والأمراء، وبالشعر تبوأ عرشا من الشهرة والنفوذ، حسده عليه أعاظم رجال عصره، وهاك نكتة من نكاته التي لا تحصى:
حدثني الأستاذ واصف البارودي، مفتش التربية الوطنية في الجمهورية اللبنانية - وهو جدير بهذا الاسم؛ لأنه أول من كتب في التربية عندنا - حدثني عن عمه المحدث الشيخ الجليل محمد الحسيني، قال: كنا نجتمع في حلقة من شباب العرب حول أحمد فارس أفندي في قصره بالآستانة نسمع حديثه، فدخل علينا يوما ولده سليم يحمل حقة مذهبة، وقال: يا أبي، مولانا السلطان عبد الحميد منحك الوسام العثماني الأول.
فنهضنا - نحن الشباب - نرى الوسام، وهو قطع لا قطعة، فأدهشنا بريقه ولمعانه، فانتظرنا الشيخ حتى عدنا إلى مجالسنا ومضى في حديثه.
ولما انتهى من كلامه قال: طول الله عمر مولانا السلطان؛ يظننا أولاد مدارس فيبرطلنا بالنياشين.
أجل، لقد توكأ أحمد فارس على شعر المناسبات، فقاله في سلاطين بني عثمان، ونابليون، ومحمد علي، وباي تونس، وتهادى بين قصائد المديح حتى بلغ أسمى المنازل، كما قال فيه أحد شعراء زمانه:
روضة أصبح عند الوزرا
ونديما لأمير المؤمنين
ومع ذلك ما اطمأن أديبنا الخالد إلى هذا الأدب المقيت، ورأى فيه حطة للأديب الصحيح، فقال لنا عن نفسه:
رأوا دخان قميني
3
صاعدا فجرى
بالماء قوم ليطفوا سورة اللهب
فقال بعض: أقين أنت؟ قلت: نعم
أقين شعرا، وعندي معمل الكذب
فهل يتعظ أصحابنا في هذا الزمان، الذي ضاع فيه النصح، بما قرءوا ويقرءون لزعيم أدباء العرب؟
إنهم لن يفوزوا بشيء مما فاز به، وما جائزتهم غير ابتسامة تنضح استهزاء وسخرا، وإن لم يصبهم في الحضرة ما أصاب البحتري حين أنشد الميمية، ففي غيبتهم يحرمون ذلك، فليستحوا من الناس.
كان لي أستاذ كنت أعد نفسي سعيدا يوم أقبل يده.
لم يكن في أستاذي من عيب إلا أنه يريد أن يقول شعرا، فسيم المطران بصبوص أسقفا، وعرج على مدرسة الحكمة في طريقه إلى بتدين كرسي أبرشيته، فأنشده أستاذي الكبير سعيد الشرتوني قصيدة من روائعه، فلاطفه صاحب السيادة وأعطاه ليمونة، فقال في ذلك قرنه الأدبي المعلم عبد الله البستاني:
عهدي بشعرك للألباب تفكهة
به اللذاذة لا تنفك مقرونة
فكيف قد بعته غبنا بفاكهة
هل باع غيرك أشعارا بليمونة؟
إن أصحابنا اليوم يبيعونه «بصفقات »، ولكنها خاسرة، وقليلا ما يذوقون الليمون في هذا الغلاء.
كأني أسمع بأذني - بعد هذا الاستطراد - شيخنا الشدياق يقول لي: اسكت يا ولد؛ أما جاءت نوبتي؟
قلت: عفوا يا شيخ، إن الحديث شجون؛ فلنتعاون عليه.
اسمعوا ما يقول الشدياق في شعر المناسبات «كشف المخبأ، صفحة 166»:
ومن كان قد قرأ بعض أشعار وسمع من أهل العلم - مثلا - أن الشعر منقبة سنية؛ تصدى إلى أي نظم كان؛ فإذا رأى طائرا في الجو نظم فيه قصيدة، وإذا تزوج أحد في بلده نظم فيه «تواريخ»، وإذا توفي أحد قال: قد غاض بحر الكرم، ودكت أركان المعالي، وذوت رياض الفضائل، وأفل نجم الهدى، وخسف بدر المجد، وكسفت شمس الفضل، ثم لا يزال يطلع في عاجلة النبي إلياس حتى يصل إلى الفلك الأثير، ويعدد جميع ما هنالك من النجوم، وينتزع منها كفنا لمرثيه.
أما الغريب المضحك فتقرؤه في «الفارياق» حين يصف لك كيف يمدح شاعر «السري» كل حركة من حركاته، وكيف كان ينظم الشعر عند قدوم كل بشير، وما أكثر مبشريه!
لا أستطيع أن أنقل لك كل ما كتبه الشيخ في هذا الموضوع؛ فعد إلى كتابه واقرأ. لا شك أنك تقول معي: الله أكبر يا أحمد.
أما الآن فاسمع ما قاله في مدح السري - إني أترك لك التعليق على كل بيتين لتقرأه في الفارياق - قال:
قام السري مبكرا لصبوحه
فارتجت الأرضون من تبكيره
أوما ترى ذي الشمس من شباكه
مدت إليه شعاعها لسروره
ثم قال في خروج السري إلى الحمام مع السرية:
خرج السري مع السرية ماشيا
غلسا إلى الحمام كي يتنعما
من كان يدعك مرة جسميهما
خلقت يداه على المدى أن تلثما
ثم قال في خلعة خلعها السري على شاعره المكرم:
خلع السري اليوم نعليه على
متن عليه مبالغ في مدحه
فاستبشروا يا عصبة الشعراء من
هذا السخاء بيمنه وبسنحه
وبلغه أن السري حك جسمه؛ فقال في ذلك:
حك السري اليوم أسفل جسمه
بأظافر ظفرت بكل مؤمل
فالناس بين مصفر ومرتل
ومدفق ومزمر ومطبل
وحلق السري يوما، فقال:
طوبى لمن في الناس أصبح حالقا
رأس السري الأحلس الملحوسا
لا زال محفوفا بلطف الله ما
حلقت له شعرا شريفا موسى
وتنحنح السري وسعل، فقال فيه شعرا، ثم عطس عطسة أشبه بعطسة المرحوم عمنا الذي في الضيعة. ولا أظنك - أيها القارئ - نسيت حكاية عطسته المشئومة التي كان يعقبها: «يقطع ضهرك»، فقال الشاعر في السري:
عطس السري فكلنا يبكي دما
وارتاعت الأرضون والأفلاك
حرس الإله دماغه من عطسة
أخرى تموت برعبها الأملاك
وأخيرا مشى بطن السري، فقال شاعره فيه:
قد أسهل اليوم السري فكلنا
فرح ففي إسهاله التسهيل
فاستبضعوا خزا إليه مطرزا
وتسابقوا إن البطيء قتيل
وقبل أن أسهل السري حدثت طبعا عواصف وزوابع فيها رعود وصواعق، وصفها الفارياق؛ فاطلبها في مكانها.
قد تركت كثيرا مما قاله، فارجع إلى الفارياق تقرأ شعرا ونقدا طريفا يضحكك ويفيدك، وإن كنت شاعر مناسبات؛ فوالله تتوب.
قد يفعل الشدياق في هؤلاء ما لا يفعله مارون عبود الذي بح صوته - وهو أبح خلقة - من كثرة ما نادى شعراء الظل ليخرجوا إلى النور، ويروا وجه الشمس التي تلوح وجوههم، وتقوي دماءهم التي أمست مصلا وقيحا.
لقد تبحبحنا كثيرا في شعر المناسبات؛ فأعفونا منه وكفوا عنا.
إنني أسألك أيها القارئ، بل أسترحم - كما كنا نقول في العهد العثماني - أن تمسك كل شاعر مناسبات بأذنه، ولا تتركه حتى ينتهي من قراءة هذا الفصل في الفارياق، فهو في «الصفحة 225»، طبعة باريس، وفي «الصفحة 216 من طبعة مصر»، قل له: اقرأ يا أعمى ما كتبه نقادة عصره منذ قرن، ولا تخرج من معملك هذه البضاعة، فالناس يسدون أنوفهم - ولو كانت أطول من أنف ابن حرب - عندما تهف ريحها في الأسواق.
وإذا قلتم شعر مناسبات، فبثوا فيه روحا فيحيا، وانبذوا التملق والتدليس؛ فالناس لا يحترمون الإمعة.
21 / 1 / 1937م
إلى دولة اليافي
كثيرا ما كان الخلفاء والولاة يقولون لمن يفد عليهم من رجال الفضل والتقى: عظنا، فيعظهم على مقدار صفاء نفسه وضميره، وجرأته عليهم.
فبمناسبة توليكم الحكم رأيت أن أرفع إلى دولتكم «باقة» اقتطفتها من جنات أولئك الصالحين المصلحين؛ لأن فيها منافع لذوي الإرادة الحسنة - وأنتم منهم - قالوا:
من عدل في سلطانه استغنى عن أعوانه، ومن أكثر التعدي لم يأمن أبدا، ومن حسنت سيرته لم يخف أحدا.
من خادع ضميره خدع، ومن صارع الحق صرع.
أقبح الأشياء في الدنيا سخف الولاة، وجور القضاة، وأخسر الناس من أخذ بغير حق، وأنفق على غير مستحق، وشر الأقوال ما أوجب الملام، وشر الأفعال ما حلل الحرام.
اعتبر بمن مضى من قبلك، ولا تكن عبرة لمن يأتي بعدك.
من لبس ثياب الكبر تمنى الناس ذلته، ومن ركب الظلم تمنى الناس زلته؛ فاذكر من مضى، واعتبر بمن خلا.
آفة السلاطين سوء السيرة، وآفة الوزراء خبث السريرة، وآفة الرعايا ضعف السياسة، وآفة العلم حب الرئاسة، وآفة القضاة شدة الطمع، وآفة الفقهاء قلة الورع، وآفة الملك اختلاف الآراء فيه.
من ضعفت آراؤه قويت أعداؤه، ومن أساء تدبيره وقل ملاكه كان في ذلك هلاكه.
علة المعاداة قلة المبالاة.
من استناب غير كاف خاطر بملكه، ومن استشار غير أمين أعانه على هلكه.
لا تأنف من الاسترشاد، ولا تستنكف من الاستعداد، ولا تستح من الازدياد، فإنك إن تسأل وتسلم خير من أن تأنف وتندم.
تاج السلطان عفافه، وحسنه إنصافه، وسلاحه كفاته، وماله رعيته، فاستعمل في الضعفاء حسن الحراسة، وفي الأقوياء حكم السياسة.
إذا عقدت فاحكم، وإذا دبرت فأبرم.
من أسلم لغير الكفاة أعماله؛ ضيع ولايته وأمواله.
أربعة أشياء لا يبقى معها ملك: غش الوزير، وسوء التدبير، وخبث النية، وظلم الرعية، وأربعة لا تستغني عن أربعة: الرعية عن السياسة، والجيش عن القيادة، والرأي عن الاستشارة، والعزم عن الاستخارة.
وختاما، تفضلوا سيدي بقبول تهنئتي، ولو على غير معرفة عيانية، وإني أتمنى لكم أن تنالوا ثقة الأمة كاملة بالعمل، كما نلتم بالقول ثقة معظم نوابها، والسلام عليكم.
عالية، 23 / 6 / 1951م
إشعاع بلا زيت
ليس بدعة في «الاقتصاد الوطني» ما زعمته في تلك الحفلة.
تذكرت بؤس عمر فاخوري قبل أن يلفه ليل الأبد، فلمت سادات «وطن الإشعاع» لتركهم سراجا نيرا ينطفئ في قرنة بيته، وهو لم يعف وظيفته إلا لتأييد حق بلاده.
فما الداعي لغضبة مضرية هتكت حجاب الشمس؟
لماذا احرنجم الصديق الشاعر يوسف غصوب؟
ألأننا سألنا من يعنيهم الأمر أن يرحموا الأديب حيا، لا أن يترحموا عليه ميتا، فرحمتهم تلك لا تفك الريق؟ ...
لماذا أغضب الأستاذ؟
ألأننا رأينا شمع الدولة يوقد للعميان، وقلنا لهم أنيروا أولي الألباب والبصائر؟
نرى في الميزانية عشرات الألوف ترصد لتنشيط كذا وكذا ... أفلا يصح أن يكون للأدب الرفيع «مثل أدب غصوب مثلا» حصة من ذلك الجزور الذي يضرب فيه كف مغامر بسهامه، فيأخذ أعشاره كفاطمة امرئ القيس.
عندما كانت ميزانية لبنان تحسب بالأكياس - أي على عهد المتصرفية - لم يخطر ببال أحد منا - نحن المخضرمين - أن يغنم غرشا واحدا من ميزانية لكل قرش فيها فراغ يسده ... أما اليوم، يا سيدي الأستاذ، فالمال مثل الكشك، والراكضون وراءه أكثر من النمل، فلماذا لا يكون للأديب نصيب؟ ألأنه أديب؟
عفوا يا عزيزي، نسيت أن أقول: لم يكن لبنان ... صار بلد إشعاع. لنطالب بزيت للقناديل.
سر بنا إلى أوروبا، وأنت سيد العارفين بالأدب الفرنسي، لماذا يحق لبوالو ما لا يحق لمارون عبود؟
ألم يلفت بوالو نظر كولبير إلى أعطية كورني الفقير المتروك؟
هل كان الملك الشمس
1
أميل إلى الأدب من فخامة الشيخ؟
لا وربي.
أليست ميزانية لبنان اليوم - نسبيا - كميزانية فرنسا في ذلك الزمان؟
نعم يا أستاذ.
أما طالب الدكتور طه حسين، قبل أن استوزر، بحق أولاد المازني على الدولة؛ فانفتحت بوجههم المدارس؟
أجل يا صديقي.
وبعد، فبماذا طالبت أنا وماذا شكوت حتى لعب البرغوث في عبك؟
كان من الحق أن أشكو شيئا واحدا؛ ألا وهو تنابز الأدباء وتحاسدهم وطول ألسنتهم ...
أنا ماذا قلت: قلت يموت رجل غني أو ذو نفوذ أو موظف، فتهتز الأرض بالطول والعرض (كذا)، وغدا، وبعد العمر الطويل، يا يوسف، أموت أنا؛ فلا يشعر بموتي أحد، ثم تموت أنت يا طويل العمر، فلا يشعر بموتك إلا أم «العيون الخضر»، إن لم يكن وجهها ازرورق واخضوضر . اسمحوا لي باستعارة هذا العيار منكم ولو لمرة.
عجيب أمرك يا صاحبي، كيف لم تفهم من كلامي إلا المال، مع أنك من طغمة الأدباء لا من طغمة «مرحبا يا خال»؟
ثم رحت توصل وتفصل حتى قلت: على الأديب أن يكون كالكاهن. أحقا ما تقول؟
أمجانا أخذ الكهنة ومجانا أعطوا؟
ما لنا ولهؤلاء، فلنبق معك.
رأيتك تقسم الأدباء فئات، فخلت أن لديك مليونا تريد أن توزعه عليهم بحسب استحقاقهم، ثم رأيتك بعد أن أبقيت منهم ربعا عدت فأخرجت ذلك الربع من باب شرقي، فكان أليكون: لا شيء!
رويدك يا صاحبي، فإذا أردت أن تجعل فنك وأدبك الرفيعين مقياسا، فلن تجد في الشرق أديبا من عيارك الثقيل وعلى عقلك ...
إني أودعك الآن على رجاء أن أسمعك «في قابل» حكاية تسرك.
لا ترع، فالحكاية لا تمسك بسوء.
لا عاش من يرشقك بوردة، يا مكحول العينين.
عالية، 21 / 6 / 1950م
شهادات زور
إن لبنان معود على هذه النكسة الثقافية، ولكنه كان يتعافى فيما بعد.
فبعد الكهنة والأساقفة الذين كانوا منارة ثقافة وعلم - كالأسقفين: فرحات والسمعاني، والكاهنين: التولاوي والحاقلاني - أخذت الثقافة القديمة تنهار شيئا فشيئا.
وبعد أن كان لا يبلغ درجة الكهنوت إلا صاحب العقل والعلم والمعرفة، أمسى الكهنوت كهنوت خبز، وطمع فيه كل جاهل.
وإليك هذه الحكاية التي وقعت في أواخر القرن التاسع عشر:
أرسل أحد الكهنة ولده إلى رئيس أساقفة بعد قطاف الزيتون، وزوده برسالة يسأل فيها سيادة المطران أن يعلم ولده اللاهوت والسريانية والعربية، ويعيده إليه كاهنا قبل موسم القز؛ لأنه يحتاج إليه في ذلك الوقت.
وكان سكرتير الأسقف - الخوري مخايل غبريل - من أصحاب النكتة، فأراد أن يمتحن ذلك الشاب الذي يريد أن يتعلم اللاهوت، ويصير كاهنا في أربعة أشهر ... ففتح أحد الكتب وقال له: اقرأ يا حبيبي.
وراح الشاب يعلك، فكان تارة يكرج، وطورا يتهجى، حتى بلغ هذه العبارة: «هذا من جهة، وأما من جهة أخرى.» وأخذ يتمخض بها ويقول: وأما من جهة أخ... من جهة أخ... ناظرا إلى الأسقف وكاتب سره نظر مستح ، ففقع السكرتير من الضحك وقال له: انطق يا ابني انطق، لا تستح من سيدنا؛ هذي غير هاتيك ...
نعم، لقد وصلت البكالوريا التي حملها بعضهم إلى مثل هذه الحالة.
أذكر أنني كنت أمتحن تلميذا «موصى به»، وهو يعرف أن ظهره قوي، فسألته مسألة، فقال لي كالساخر: أنت احزر يا أستاذ.
فقلت له: أنا حازر أنك لو كنت تعرف العربية ما فررت من الشام وشرفتنا ... وسوف تفوز بالبكالوريا اللبنانية غصبا عن رقبتي.
وهكذا كان!
جميل جدا جدا رفع مستوى البكالوريا اللبنانية، شرط ألا تقفل الأبواب بوجه الظامئين إلى العلم، فبين مواليد ابن البشر من لا تفتح مواهبه إلا ببطء وفي سن معلومة.
إن رفع المستوى الثقافي لا يكون بأن نضع على الممتحنين شروط المسكوب على السلطان ... بل في التدقيق والعدل، وليرسب من شاء.
وعلى المعاهد والطلاب أن يضطلعوا بمسئولياتهم.
إن إحراز علامة كذا في المادة الفلانية شيء كنا نقرره عند هبوط المستوى يوم كنا نمتحن طلاب البكالوريا ولم يعترض عليه أحد.
ليس للطلاب حق في معارضة من لا يحرز 20 / 5 في لغة أجنبية، و20 / 7 في اللغة الأم؛ فالبكالوريا إذ ذاك لا تنفع حاملها. إنها كحوالة بدون مئونة أو بندقية فاضية.
أما علامة الرياضيات فيجب ألا نضع لها حدا أدنى في الفرع الأدبي؛ لئلا يكون عملنا تعجيزا، ومثل هذا، بل أشر، منع الطالب من التقدم إلى الامتحان بعد الرسوب رابع مرة.
كان يقول لي جدي: «الحبل مع الأيام يقطع خرزة البير.» ويخبرني حكاية مار إفرام الذي كان في مطلع عمره طلطميسا، وما حمله على الدرس بعناء إلا رؤيته خرزة البير.
إن تقنين العلم لا يجوز؛ فلندع الناس وشأنهم.
قرأت مؤخرا أن امرأة أميركية في الثمانين أنهت دراستها الثانوية ودخلت الجامعة. ترى ماذا يقال لها لو طلبت الالتحاق بجامعتنا؟
وبعد، فأنا لا أثق أن بيد من يقومون مسابقات التلاميذ ميزان الدينونة ... إن الامتحان محنة، ويكون محنة على محنة إذا كان المميز غير خبير؛ فليس الصحفي ولا الشاعر ولا الأديب صالحا لهذه المهمة، ناهيك أن الامتحانات لا يصح أن تكون مقياسا للقدرة والكفاءة، كما أن المميز الحاكم بأمره لو قدم امتحانا في المادة التي يحققها ربما لا يحرز علامة أعلى من علامة الطالب الذي امتحنه، وخصوصا إذا كان الامتحان كامتحان البكالوريا يعتمد على الذاكرة.
وأخيرا لقد بدأت وزارتنا في رفع مستوى الثقافة من فوق، مع أن المخل يوضع من تحت، والأساس يبنى قبل السقف، فهل فكرت الوزارة في هدم هذا المنهاج الذي ما زلنا ندور في حلقته المفرغة منذ وضعت البكالوريا؟
هل أدركت الوزارة أنه معمول طبقا لكتاب معلوم لتظل دفاتره رائجة؟
وإلا فما هذه النتف المطلوبة في المنهاج العتيد؟
إن العنكبوت المعششة في زوايا وزارة التربية يجب أن تكنس، ثم ينظر في المنهاج بعد هذا التنظيف، وإلا فتعديل المنهاج لا يخرج عن النطاق الذي ضرب حوله.
والامتحانات يجب أن تجري بمعزل عن كل العوامل الخارجية، أقول هذا لأنني مارست ذلك، وعرفت ماذا كان يطلب.
قال أحد الكهنة يعظ أبناء رعيته: يا أولادي المباركين، لا تخلوا الصبيان والبنات يسرحوا سوا، نحن كنا وليدات مثلهم «ومنعرف» ...
نعم، أنا كنت من الممتحنين، وأعرف جميع المداخلات، عليا وسفلى؛ فلتحارب الوزارة الجليلة على هذه الجبهة إذا شاءت أن تربح المعركة.
وقبل وبعد، فجميع هذه الشهادات حتى الليسانس والدكتوراه، لا تقوم دليلا قاطعا على الثقافة المثلى.
ورب شهادة ما شهدت لصاحبها في ميادين الأعمال ...
24 / 2 / 1954م
أمين وأبو أمين
حضرت دفن السيدة سعدى فارس الريحاني، فكدت أؤمن بشفاعة القديسين ...
ضحك القبر من تزاحم الإخوان، فقام أمين الريحاني من القبر ليوسع لأخته.
إن من عاش في حل ومرتحل يحلم بدنيا العرب متحدة، ويدعو الشرق ليقايض على فلسفاته وصوفياته بدبابات وطيارات، لم يجد مكانا يسند إليه رأسه ...
كان هذا الرجل يرى حلم يقظته كأنه أمر واقع، فما ضاع «أمله المنشود» إلا حين مات ...
أزعجت أمس عظامه وتكدست أمام عيني في «سحارة»، وأحيلت على الاستيداع ... بلا معاش طبعا.
لا ألوم الأخ ألبرت، شقيق أمين ، فهو عاجز عن تشييد ضريح يخشع أمامه أكابر الناس من عشاق أدب أخيه وآرائه الإنسانية.
فأخونا أمين ما ترك غير الصيت الحسن.
لطالما كان يقول لأخته التي زاحمته اليوم في ضريح البيت: الكفن ما له جيوب يا سعدى؛ فلنعط ما قدرنا.
وها هو يجود لها بمكانه، وترصف عظامه في صندوق كتب عليه اسمه.
سيفتح هذا الصندوق يوم تذكر الأمة نوابغها، وتكون للمفكرين في لبنان نقابة، ولو كأصحاب الأفران ...
وجمت أمام هذا المشهد.
وتذكرت قرار مجلس النواب بصرف مبلغ خمسة وعشرين ألف ليرة؛ لتشييد ضريح للمرحوم رشيد نخلة.
قد كنت من مشيعي الفقيد الغالي المرحوم رشيد.
رافقته إلى ضريحه الفخم، فذكرني مثال قلعة بعلبك المصغر الذي صنعه نجيب الدبس، فقبر أبي أمين في الباروك، أولمب مصغر.
أما أمين الريحاني الذي كان يردد حين تشتد أزمة النضال:
أنا إن عشت لست أحرم قوتا
وإذا مت لست أعدم قبرا
فقد أعدم قبرا وما دفنت الموتى موتاها ...
ولهذا قلت: إنني أصبحت أؤمن بشفاعة القديسين ...
فلو لم يكن صديقنا أمين نخلة عضوا في مجلس النواب، ما فكر نائب بتشييد قبر لوالده من مال الأمة، وما خطر على بال أحد أنه يستحق شيئا، وما تألفت لجنة «برلمانية» ... لتكريمه.
إنه يستحق وكيف لا؟
أما نظم: «كلنا للوطن»؟
أما هو مؤلف «محسن الهزان» والأزجال الأخرى؟
فليت المهتمين بتكريم أبي أمين وتمجيده يفكرون بأمين صاحب ملوك العرب، وقلب لبنان، وخالد، ورباعيات أبي العلاء، و... و... و...
ليست القضية قضية استحقاق، ولكنها شفاعة ابنه أمين. رزق الله الريحاني، ورزقنا شفاعة آخر قديس من هؤلاء الخمسة وخمسين ...
كان على نواب لبنان منارة الفكر التي تشع حقا وجمالا، كما يقال في كل مناسبة، أن يفكروا بمأوى لفسفور عظام أمين؛ ليظل يشع أمام زواره من رجال العرب والعجم.
ولكنها سياسة: حك لي أحك لك.
وبعد، فليس لبنان وحده مسئولا عن أمين، فالريحاني للعرب أجمعين، فلنتكاتف جميعا مستمدين شفاعة قديسي المجلس النيابي ... فنشيد ضريحا للمجاهد العظيم، فنكبر في عيون زواره الأجانب.
بنى مغتربونا قصرا للمكرزل في الفريكة، أفلا يبني المقيمون من ملوك ورؤساء وزعماء وشعب بيتا يستريح فيه أبو الجامعة العربية؟
7 / 7 / 1948م
هؤلاء رهبانك يا مار مارون
لا تخف، أيها القطيع الصغير، فالراعي الأعظم رءوف بخرافه، ومتى سمع صوتها فلا يقسي قلبه.
إن النبأ الذي أذعتموه لمراسلكم الباريسي تحت عنوان: «انتداب فوق الانتداب»، وفيه نعي استقلال الطائفة المارونية الذي قضت عليه رهبانها وعرائضهم، قد جرح كل ماروني في شغاف قلبه.
ليست هذه أول مرة في التاريخ يفعل الرهبان ما فعلوا - إننا نظلم الرهبان فلنقل رؤساءهم - ليس الذنب ذنبهم، بل ذنبنا نحن الذين نتركهم يرعون ويبطرون، ولو راعوا حرمة أمتهم قلنا: «فليأكلوا هنيئا مريئا.» ولكنهم أناخوا بكلكلهم على أوقافنا، لا لشيء إلا عبادة الله ونذر الطاعة والعفة والفقر.
أما العفة فليس لي فيها ما أقول، فكلهم - والحمد لله - عفيف القلب.
أما الجيوب فكثيرا ما رأيناها وارمة حتى الانفزار.
وأما الطاعة فقد برهنوا عنها في كل زمان كانوا يتمردون فيه على أبي الطائفة وسيدها، وقلما خلا زمن من تمرد.
فمن عهد مرتينوس الأمس إلى مرتينوس اليوم، والمؤامرات على سلامة دستور الطائفة - المجمع اللبناني - يدبرها هذا اللفيف المنقطع لعبادة الله، ولكن الملة اليوم غير أمس، فستحاسبهم حسابا صارما إذا داموا على هذا الكيد لها ولأبيها الأعظم الذي لا تعترف بسلطان لغيره عليها.
فإن صح النبأ؛ فسيكون دويه عظيما حتى تسمعه رومة بأذنيها.
ولكنني لا أصدق، فرومة جربت مرارا أن تدغم هذه الكنيسة الشرقية، ولكنها لم تنزل يوما عن شرقيتها، ولم ترض بها بديلا، فللموارنة ولع وفخر بهذا الاستقلال الطقسي، وهم لا يرتاحون إلى غيره، إنهم يشاركون رومة في الجوهر، وأما العرض فستتركه لهم إن شاء الله.
إن الطائفة اعتمدت منذ نشأتها معمودية الدم، ومعمودية الدم تفتح باب الملكوت بلا إذن ولا حساب.
ومعاذ الله أن تسلب رومة - وهي أم المؤمنين - ما وهبناه إياه التقليد والتاريخ، وأقرنا عليه جهادنا.
وإن زين لها أحد - وخصومنا كثر، وهم ممن أحسنا إليهم وأجرناهم - أن دفن مجمعنا سهل، فإننا نقول للناس أجمعين : «هذا فقيد عظيم، لا بد من القيام ليالي يعلم الله ما تلد.» فليس في يد أحد، حتى ولا صاحب الغبطة أيضا، أن يقول لنا: «تنازلوا عن استقلالكم واخضعوا.» لأننا لا نتنازل ولا نخضع إلا كارهين، ولا إكراه في الدين.
أكتب بهذا الوضوح، بل بالقلم العريض؛ ليعلم من يعنيهم الأمر ما عندنا، ويتأكدوا أن بلع هذه الحسكة غير هين، وإن هونه بعضهم فسيرى أنه ليس كما ظن، والآتي قريب.
فإذا كان هؤلاء الرؤساء يريدون أن يخرجوا من حظيرة الطائفة؛ فلهم ذلك، أما الأوقاف فهي لنا.
إننا لم نقفها لتكون سلاحا في أيديهم يحاربون به استقلال ملتهم بعد أربعة عشر قرنا ... ولا زعيم طائفتهم؛ لأنه رجل يخاف الله ويسهر عليهم كأناس يؤدون حسابهم، ولا ليمحو دماء ثلاثمائة وخمسين شهيدا لبسوا قبلهم الإسكيم، وماتوا على رجاء القيامة.
وما أظن جمهور الرهبان - وما أكثر الصالحين فيهم! - يرضون عن أعمال الذين يقومون بهذا الشغب الذي يسخط ويشكك القريب.
إن الطائفة غير الأشخاص، الأشخاص يزولون، أما العقيدة المارونية فخالدة خلود الكنيسة الجامعة، وستماشيها أبد الدهر.
ليست التقاليد المارونية بنت يومين ليدفنوها وينفضوا أيديهم من ترابها غير آسفين، إنها كنيسة مجاهدة حاربت الملوك في سبيل عقيدتها الرومانية، فلا تكافئها رومة بهذا الاعتداء.
إن طائفة تحفظ بالفخر مدائح الباباوات القديسين لها، لا تترك بين ليلة وضحاها ميراثا اشترته بدماء شهدائها.
لا ننكر أن دود الجبن منه وفيه؛ فليستيقظ الغافلون ويجابهوا الخطر المداهم، فهو يأتيهم كاللص ليلا؛ فليسهروا حتى صياح الديك.
فلتنصب الطائفة المصالي للجرذان التي ترقص في أقبيتها؛ فقد حان أن نشاركهم في كل شيء، ونشرف على ما يعملون إن كان هذا ما يدبرونه لنا.
وإنني لأتمثل رومة تطل علينا من العاصفة ويصرخ بنا سيدها: «أنا هو لا تخافوا.»
لقد خفنا يا سيد فقل كلمتك. فليترك لنا المجمع ندبره كما نشاء، ودعونا نهتف في تلك الساعة الرهيبة كما هتف آباؤنا وأجدادنا: «إيمان بطرس إيماني.»
7 / 1 / 1938م
مادحو أنفسهم
يهوى الثناء مبرز ومقصر
حب الثناء طبيعة الإنسان
من الناس من يفاجئك بمدحه وتقريظه لك؛ طمعا في أن ترد له الكيل كيلين، ويستوفي ما له منك بالفائدة الموجعة، فكأنه ذلك الزارع يطرح في الأرض حبة لتعيدها إليه مائة، وإذا لم تقع في الفخ الذي نصبه في طريقك، راح يذم كل ما تذكره له، تارة بالقلم العريض، وحينا بالإيماء والرمز، وطورا بالتغاضي والاستهزاء، وكأن لسان حاله يقول لك: «أين جميع هؤلاء مني؟» إن الدهر ظالم، كافر، وناسه أكفر منه وأظلم، ولو عدل الدهر وأنصفت الناس لكان هو سيد القلم وإمام الساسة، وأغدق عليه الزمان من خيراته ما تستحقه خصاله العبقرية، وشخصيته الفذة.
وإذا قلت له: «يا هذا، إن أردت أن تكون لك قيمة ووزن فلا تبخس الناس أشياءهم.» اقعنسس واحرنجم، وقطب وجهه كأنك طلبت إليه ما طلب المتنبي من كافور.
وكيف يقول في واحد من البشر كلمة وهو يعتقد أنه متى اعترف بفضل سواه ضاع من فضله شيء لا يعوض؟
وقد صور لنا صاحب الجوائب مثل هذا الرجل في جمله الأدبية، فقال: «من الناس من يبالغ في مدح وطنه، فيصف مروجه ورياضه، ووهاده وجباله، وربوعه ودياره، وهواءه وماءه، فيزعم أن شهرا فيه خير من ألف عام في غيره، ثم يزفر زفير الهائم الولهان: ألا إن حب الوطن من الإيمان.
بلادي هي البلاد التي تغزلت بها الشعراء قديما وحديثا، فاسمع ما قيل في جداولها ونواعيرها، وبلابلها وعصافيرها، وفي أريج آفاقها ونضرة حدائقها، ويأخذ في رواية ما حفظ حتى إذا قلت له: كيف جارك الأدنى؟
قال: ويلي! إنه شر جار، وهو على البلاد عار.
وإذا سألته: فكيف جاره الذي يليه، عسى أن يكون ممن توالفه وتصافيه؟
صاح: ويلي! إنه شر من أخيه.
وإذا قلت: فكيف أهل الحي طرا؟ صرخ: إنهم كانوا كلهم علي شرا. - وكيف أهل البلد أجمعين؟ أجاب: ويلي! ما منهم أمين ولا معين، فما كأنهم خلقوا من ماء وطين. - وكيف حال التجار؟ أجابك: إنهم عبيد الدرهم والدينار. - وكيف أهل المدن والأمصار؟ هتف: ويلي! إنهم ذوو غبن وغش، ما تعامل أحدا منهم إلا ويمنيك بالكرب والخسار. - وكيف أهل الجبال، عسى أن يكونوا خيرا من أولئك؟
صرخ: ومن أين لهم الخير والصفاء، وقد فطروا على الشراسة والجفاء، فابتعدوا عن الآداب حتى كادوا أن يحصوا مع الذئاب، يقتل أحدهم أخاه برغيف ليسد بها جوعه. هذه حالة سكان البلاد؛ فلا تكثرن السؤال.»
فقلت في نفسي: إن امرأ يحسب جميع أهل بلاده دونه لجدير بأن يذيعوا فنونه وجنونه. ويا للعجب ممن يمدح وطنه ليرجع المدح إلى نفسه! وممن لا يعجبه شيء مما يقال إلا إذا كانت ذاته وصفاته هي ذلك الموضوع الذي يدور حوله الحديث!
ألا ترى يا صاح أنك تكون ثقيلا على المحضر إذا كان لا يعنيك إلا أن تروي لنا طرائف ما فعلت في زمانك، وأن قولك كنت وكنت لا يرفع من مقامك، بل يضحك الناس منك، ولا تدل إلا على خفة عقل لو كانت في رجلك لسبقت الغزال والأرنب.
كثيرون من إذا التقيتهم يسدون عليك الطريق بالصدر والباع، ويحاولون جرك إلى الحديث عن أعمالهم وآثارهم، وخصوصا إذا كان صدر عنهم ما يعدونه حسنة، فإنهم يستدرجونك إلى الكلام عنها.
وإذا رأوك تجهلها أو تتجاهلها تولوا هم بالنيابة عنك الثناء على أنفسهم، فيمثلون معك دور بطل بديع الزمان في المقامة المضيرية، حتى إذا حاولت أن تهرب كما هرب أبو الفتح من تلك الدار، تشبثوا بأذيالك كأن لهم عليك دينا، ثم لا يخلون سبيلك إلا بعد أن يشبعوا أنفسهم مدحا.
أنا لا أرجو استئصال دابر هؤلاء؛ فهم أكثر من الجراد، ولكنني أصفهم لقارئي حتى إذا كان من طرازهم ارتدع وأراح الناس من غفلته ...
12 / 5 / 1954م
جيشنا
كان عيد الجلاء الأخير جلاء لجيشنا الفتي، فأدهش تنظيمه النظارة - وأكثرهم من كبار الدبلوماسيين والملحقين العسكريين - فنوهت الصحف به وبأمير لوائه الشهابي، فقلت في نفسي يومذاك: هذا سياج الحمى قد شب عن الطوق، ألا بارك الله بالعهد وبسيده البناء.
ثم طالعت ما قاله الكولونيل ديلالند - مخترع قنبلة الدفاع ضد الدبابات، بعدما شهد عرض عيد الجلاء: «إن قوة النيران في القطع التي مرت أمامي تلفت النظر وتستأثر به. إنها لقوة عظيمة لم يجهز جيش جنوده بمثلها، وهي تضاعف عدده إن لم تثلثه وتربعه.»
وقرأت ما أذاعه المستر والتر كولنز - مدير وكالة برقيات يونايتد بريس: الجيش اللبناني صغير، ولكن معنوياته كبيرة.
فتذكرت ما قاله نابليون: «أعطني جيشا قوي المعنويات؛ أكتسح به الدنيا.»
وإذا شك الأستاذ شمعون النائب بقول الصحفي الأمريكي، والقائد العظيم الفرنسي، فما إخاله يشك بقول أكبر كاتب عسكري بريطاني معاصر؛ الكابتن ليدل هارت.
لا شك في أن الأستاذ قد عرفه حين مكث بلندن ثلاث سنوات ممثلا لبنان.
قال هذا الكاتب - بعدما استعرض جيوش الشرق الأوسط بمناسبة ما تتمخض به الأيام من الأحداث الخطيرة: «إن على الجيش اللبناني المؤلف من خمسة آلاف جندي أن يحمي حدودا طولها مئتا كيلو متر ونيف، إلا أنه ربما لا يمكن الاعتماد عليه في مقاومة طويلة النفس.»
أفلا يكفي خمسة آلاف نفر فخرا أن يقاوموا قوات كالجراد الزحاف مقاومة قصيرة النفس؟
إننا لم ننس بعد قول الجنود الأستراليين عام 1941م: كنا نظن أن المقاومين جنود ألمان، ولم نحسب قط أنهم جنود لبنانيون.
أما كان الأجدر بالنائب الأستاذ شمعون أن يشجع ولا يفزع؟
ولماذا لا يستحق الجيش ثناءه بعد الانتخابات كما استحقه قبلها؟
أينسى وننسى من شوه منه وعوه، ومن طرش وعمي، ومن أقعد وقتل دفاعا عن الحدود حتى شهد له العدو بمضاء العزيمة، وعناد الدفاع؟ والفضل ما شهدت به الأعداء.
أليس عجيبا غريبا أن يتكلم ابن الشوف، ذاك العرين اللبناني الذي نما فخر الدين فيه، وعرف بسالة البشير وجنوده، فيضعف معنويات جيش مترعرع لأجل معارضة ذاهبة؟
إذا جاز أن تتناول الحملات بعض الشئون الأخرى؛ فلا يصح أبدا أن تتناول معنويات الجيش المقدسة، وهي أقوى العتاد.
أنظل ماسكين ب «الناضور» بالمقلوب؟
قوموه على الأقل حين تنظرون إلى جيش يحميكم؟
أكلما دق الكوز بالجرة نصرخ: فلسطين، ثم نتأوه وننوح؟
إن عملا واحدا مثمرا لخير من ألف مأتم.
وإذا كان هذا تشجيعنا لجيشنا، أفتحمي حدودنا أنانيتنا الضيقة العين؟
إن الناضور المقلوب يرينا كل شيء ضئيلا، حتى الجيش الذي قال فيه الكولونيل زنبل أحد أركان حرب إسرائيل: إن جيش لبنان صغير بعدده، ولكن ضباطه أذكياء جدا، وثقافتهم العسكرية واسعة جدا.
ألا بارك الله بالعهد، وبسيد هذا العهد، وبقائد جيش العهد، وبكل سيف من سيوف العهد.
وبورك بالأستاذ شمعون مجاهدا، وسدد خطاه نائبا، وجمله بالإنصاف معارضا، كيلا يرى كل شيء لا شيء ... حتى الجيش.
عالية، 2 / 7 / 1951م
قصر السعديات
كتبت جريدة الحياة البيروتية في عددها 3188 ما يلي:
تشاهد الرئيسة زلفاء شمعون هذه الأيام، بكثرة في محلة السعديات بعد خلده، حيث تتفقد دارتها الخاصة التي أنجزت منها الطبقة الأولى.
وهذا الركن الهادئ الذي يدغدغه موج البحر انتقته زلفاء شمعون بنفسها، فهو خير مكان للابتعاد عن متاعب السياسة. وتجمع هذه الدارة بين الطرازين: الإنكليزي والدمشقي بالحدائق التي ستتوسطها في الداخل، وهي تبنى بالحجر والخشب.
مساحة البناء عشرون ألف متر، وسيزرع حول الدارة بستان ليمون وغابة صنوبر، ولكن أجمل ما سيكون في الدارة الحدائق الداخلية والغرفة الخاصة بأسلحة الصيد.
أما مهندس الدارة، فيعرف من دخان «المشحرة» الذي يملأ آفاق السعديات اليوم. والمقصود بالمشحرة غليون المهندس المبدع، عاصم سلام، الذي يلازم الورشة لتكون الدارة جاهزة في الربيع المقبل.
على هذا يتوازن شاطئ بيروت بدارتين: دارة السعديات في الجنوب، ودارة الكسليك في الشمال.
مثل هذه العجائب والغرائب المعمارية قرأنا أخبارها الطريفة في تاريخ الدولة العباسية حين اكتهلت، وما قصر «بتدين» إلا نمط من تلك الأنماط.
كتبت جريدة الحياة عن دارة الرئيسة زلفاء كميل شمعون في السعديات، ولعل اختيار هذا الموقع كان للتيمن بالتجديد العتيد؛ فالسعديات من السعد، ومن أسعد من رئيس جمهورية بلد أمين كلبنان.
أما مساحة بناء هذا القصر فقد حددتها الجريدة الرصينة بعشرين ألف متر مربع، يحيط بها بستان ليمون، وغابة صنوبر ستجدد ذكر صنوبر بيروت.
وقد خصت الجريدة بالذكر الغرفة الخاصة بأسلحة الصيد في هذا القصر العامر.
يسألنا الشحاذ: هل عندكم شيء لله؟
ونحن بدورنا نسأل الرئيس اللبناني: هل في قصرك الميمون مكان للكتاب يسند إليه رأسه؟
هل فكرت يا فخامة رئيس جمهورية بلد الحرف والإشعاع بمكتبة خاصة؟
فمن يدريك أن القصر السعدي لا يصبح في الدهر العتيد من الآثار اللبنانية، كما أصبح غيره من بيوت دير القمر؟
فاعمل على الأقل مكتبة تاريخية؛ لأن اسمك الكريم سيكتب بأحرف من نور.
وإذا كنت لم تفتتح مؤتمر أدباء العرب كما فعل القوتلي، فلا أقل من أن تذكر المكتبة كما تذكرت غرفة سلاح الصيد، والحدائق الداخلية والخارجية، فالكتاب أعظم وأخلد حديقة، وإذا لم نتعرف عليه في قصورنا حسبتنا أميين.
أنا مؤمن بنظافة يد كميل شمعون، ولكن هذا القصر العظيم لا يشجع الناس على تجديد الرئاسة، وكان أحرى بالسيدة شمعون أن تتريث إلى ما بعده.
وقد بدأت النكرزة منذ الآن، فالجريدة التي روت هذه البشرى ختمت كلمتها بقولها:
على هذا يتوازن شاطئ بيروت بدارتين: دارة السعديات في الجنوب، ودارة الكسليك في الشمال (كذا).
14 / 9 / 1956م
ثلاث أزمات تنتظرنا
أزمة المعلمين، وأزمة المنهاج، وأزمة أصحاب المدارس؛ ولذلك نحن قادمون على عام دراسي أهوج، وسنة سوداء، والكتاب يقرأ من عنوانه.
أما بدأ أصحاب المدارس يرغون ويزبدون، والمعلمون يزمجرون ويتوعدون، والتلاميذ ينتظرون إضرابات واسعة النطاق تبشرهم بالراحة، ثم لا يفيقون من غمرتهم إلا في نوار، ولا ينصرم حزيران حتى نسمع البكاء وصريف الأسنان؟
التلاميذ متبرمون بمناهجهم، وخصوصا منهاج البكالوريا، وسنعالج هذا الموضوع عجالى، ألا تسمع كل يوم من يبشرك بانقضاء زيارته لك بقوله: حديثك لا يمل.
حقا إن حديث المدرسة لا يمل؛ لأنه حديث الذرية، والذرية هي الخلود الملموس، وإن يكن بلزاك قال بلسان بطل روايته «الأب غوريو»: «أنا لست أريد الخلود بالمزلوم ...» والمزلوم في لغة الزراعة هو قطعة من قضيب تلقح به الأشجار، أو يغرس لتخرج منه غرسة جديدة من نوعه.
لست أعالج الآن غير أزمة المنهاج، أما أزمة المدارس المستحكمة المستعصية التي لا مثيل لها في القاهرة ودمشق وبغداد، فالجواب الصريح على تساؤل الأستاذ أسعد عقل هو أن في تلك العواصم لا تعادل بين الفرقاء، هناك أكثرية ساحقة وأقلية، طبعا، مسحوقة، والكلمة للحكام وليست لرؤساء الأديان.
فالميزانية في تلك الدول التي ذكرها الأستاذ ليست للاقتسام، وليست لتنازع البقاء؛ فهل سمعنا أن أحدا هناك يقول: حصتنا في الميزانية أقل مما يحق لنا؟
إن هذا لا يوجد إلا في لبنان؛ ولكي ينجح لبنان دوليا عليه أن يجعل الدولة علمانية، ويكف أيدي رجال الدين من كل ملة، ويراقب أعمالهم حتى إذا أبدوا نشاطا غير مشروع أوقفهم عند حدهم؛ ليعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فلا يتوسلوا بمنابرهم ومناسكهم التي أعدت لكلام الله ليتطرقوا إلى السياسة.
كانت الكلمة لهم يوم كان الشعب قاصرا، أما اليوم فصار بالغا رشيدا.
إن هذه الطائفية من الطرفين هي عقبة في كل سبيل، وما أشبه دولتنا اللبنانية بأب له أبناء عيونهم عشرة عشرة على الحصص التي يوزعها عليهم أبوهم، وكل واحد يرى أن أباه أجنف عليه، وأن أخاه أو إخوته نالوا أكثر منه.
أما مسألة سقوط ألوف الشبان عندنا؛ فذات شقين:
الشق الأول:
وهو المنهاج الذي نعدله نحن من سيئ إلى أسوأ، فنعسر حين نزعم أننا نيسر ... وحكايتنا في تعديله مثل حكاية ذلك الذي حملوه عنزة وهبط ... فقالوا: حملوه ثنتين.
وأما الشق الثاني:
فسببه عدم تدقيق المدارس في تعيين الصفوف، ومزاحمة بعضها بعضا لكي تعبئ ما في بناياتها من فراغ، بل فلنقل: إن التعبئة عندنا حتى البشم والكظة، فهم لا يأكلون بثلث بطنهم، بل يتمنون أن يكون لهم ثلاثة بطون ليأكلوا بها كلها، ويقشوا كل ما على المائدة.
نحن قوم عقلنا متحجر، وهو لا يتشكل ولا يتبلور مهما تصهره العناصر.
أرأيت إلى البزاقة في كوخها الذي تحمله وتسير؟ إنها لا تخرج منه قط، وأكبر همها أن تمط وجهها قليلا، وإذا اشرأبت فوق ذاك البوق فربع قيراط؛ لكي تعلن تلك المسكينة أن لها قرونا، ولكنها قرون هلامية لا تصلح للمساورة والنطاح ... اسمها قرون، أما مادتها فمخاطية.
من شروط العقل الفعال أن يكون قويا، يهدم ليبني. ونحن لا نجسر على فتح طاقة تدخل منها الشمس إلى بيتنا العتيق؛ ولهذا مصل دمنا وأصبح دما قنفذيا كأنه الصديد.
إن المنهاج في نظر القوامين عليه والذين طبخوه في الخفاء شيء تافه لا يؤبه له ، فكل غايتنا من تعديله أن تنفق كتبنا، وكلما ازداد عدد البيع زعمنا أن ثقافتنا توطدت، ورحنا نتحدث عن الإشعاع، ويا له إشعاعا بلا زيت!
وفوق ذلك نريد أن نكون أمة، ومن سمع ببيت بلا أساس وشجرة بلا جذور؟!
لا أدري كيف يشع سراج، بل كيف يشعل وهو مخنوق في غرفة لا يدخلها الأوكسجين من خلف ولا من قدام، ولا من فوق ولا من تحت؟ تلك حال طلابنا ومنهاجنا.
في سنة 1933م، دعينا لتعديل منهاج عام 1929م، وكان ذلك المنهاج يحتوي على دراسة العصور وتاريخ العرب وثقافتهم، وأطوار الأدب، وأكثر من مائة كاتب وشاعر، فجعلنا عدد الكتاب والشعراء تسعة وعشرين، ومع ذلك رأت الهيئات التعليمية والتلاميذ أن الحمل ثقيل، ويزيد في ثقله أنه مضجر ممل، فكنا إذا فرغنا من دراسة امرئ القيس تحيرنا ماذا نقول في شعراء الجاهلية الآخرين؛ فنقص على تلاميذنا أخبار هؤلاء المفارد، نوهمهم بذلك أننا ندرسهم الأدب، وما نكون وإياهم إلا كمن يتعلل بالعلك عن الطعام.
وإذا عثرنا عند أحد هؤلاء على صورة أو تعبير أو فكرة لم يقلها ذو القروح، هاجمناها بأساطيلنا وغواصاتنا ودباباتنا وطائراتنا، وشننا عليها غارات حرب صاعقة، زاعمين أننا استولينا على المبادرة باكتشافنا كلمة جديدة عند شاعر.
إذا كان التعليم بناء تربويا اجتماعيا، فماذا نحن نبني من هؤلاء الأطفال في القرن العشرين؟ وأي صرح ممرد نرفع في عصر ناطحات السحاب؟
فلولا طرفة، وهو ليس أبعد رأيا من معاز معاصر، لاحمر وجهنا حين ندخل الصف.
وإذا بلغنا العصر الأموي رأينا ثلاثة شعراء سبابين شتامين نبشوا قبور جدودهم، وفضحوا النساء، وسبوا المشايخ، وأقلقت الجزيرة بذاءتهم، وما زادوا في نقائضهم على ما ينظمه اليوم قوالو العامة. بلاغتهم: سبني وأسبك، والشاعر الفحل من سب أحسن.
ولكي نخفف قلنا: فلنحذف اثنين من هؤلاء الثلاثة، فانتصر النصارى للأخطل، والمسلمون للفرزدق وجرير، وكان برهان أحدهم: الفرزدق شاعر الفخر، وجرير له حلو الهجاء ومره.
فأجبت: على رأسي وعيني، ولكن ماذا يفيد أولادنا فخر الفرزدق بجده مجاشع ذي البول الكثير، وإن كنت أتمنى أن يكون في كل مزرعة واحد مثله، فيغنينا عن السماد ... وإذا قلنا فلنلحق ابن النصرانية بصاحبيه، انتفضت لحى البعض كما كانت لحيته تنفض خمرا حين يدخل على عبد الملك بن مروان! ذكرني جدلهم بسهرات الزناتي خليفة ودياب بن غانم.
هاشوا علينا فخضعنا للأكثرية، وهكذا بقي هؤلاء ثلاثتهم عملا بالمادة 6 و6 المكررة.
ويطل علينا أبو جوان، دنجوان العرب، ابن أبي ربيعة؛ فتنبسط أسرة طلابنا، ولكن المعلم مكعوم لا يدري ما يقول، وإذا كان في صفه بنات يمشي تلغراف العيون اللاسلكي ... واصبر يا أيوب ...
ولا تفرغ جعبة آرائنا حتى يطل بشار ابن قريش العجم، فيقول ما يشاء ولا يستحي، والحياء في النظر يستلهم محيطا خصبا وحضارة لا بأس بها، تمده نفس ذات فن أصيل على قذارتها، ثم يقبل الشاعر الماجن أبو نواس، فنصطدم بشذوذه الصريح، وإن كان يحل العقد المحكمة الربط بلباقة المشعوذ وخفة البهلوان.
إن الشوارع تغني أولادنا عن تعلم آمالي أبي نواس.
ويعاودنا الضجر حين نبلغ أبا تمام والبحتري.
سألني تلميذ - ولعله خبيث: لماذا كان البحتري يبيع غلامه ثم يحاول استرداده؟
فقلت له تهربا: لم أكن قاعدا في فكره.
فضحك التلاميذ ونجوت أنا.
ولا نتنفس قليلا إلا في واحة ابن الرومي؛ حيث نرى نفسا معقدة؛ فنشغل بحلها وننسى فصاحتنا المعهودة.
ويتزحزح عن صدرنا الكابوس حين يقبل أبو الطيب، فنقرأ شعرا يتصل بالحياة وتتصل به، شعرا يحدثنا عن القومية ومقوماتها، والإنسانية ومعضلاتها، ويمد يده بحذر إلى ما وراء الطبيعة، فيحدث ثقوبا ينبعث منها نور وإن ضئيلا، ثم تنتهي المعركة الحاسمة عند دير العاقول، فنتركه ونمضي مسوقين، والمنهاج يهش علينا بعصا ليس فيها مآرب أخرى، فنسمع عويل أبي فراس في خرشنة، ونواح العجوز بمنبج، ثم يعلو هزج الشعر الأندلسي فنصغي إلى رناته هنيهة، حتى نبلغ أحمد شوقي فنرى شاعرا نفهم عنه، ويعنيه ما يعنينا، يحدثنا عما يتصل بحياتنا أو اتصل بها، بعد أن سئمنا شعراء بيننا وبينهم فدافد ومهامه لا تبلغها القلاع الطائرة إلا مهيضة الأجنحة.
وفي النثر نلهو حينا بوعيد الحجاج وتهديده، وترصن عبد الحميد وتبليده. وما كنا لنقف عند هذا لولا تلك الكلمة الفخارية: بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد، كما قيل في الشعر: بدئ الشعر بملك وختم بملك.
أما ابن المقفع والجاحظ فمؤلفان اختبرا الحياة، يجد الطالب عندهما لذة وفائدة، ولكننا لا نسلم عليهما حتى نودعهما لضيق الوقت.
ونبلغ مقامات البديع، فتحلو لنا الإقامة، فيتراءى لنا الحريري على جمر الانتظار ينتف عثنونه من الهوس، والأصبهاني يرقبنا ليمعن في إسناده وتمحيصه، ويروي لنا الخبر مرات. أما ابن الأثير الذي ينمي «مثله» الذوق الفني، فحظه أقل من سواه.
وإذا بلغنا القرن التاسع عشر، فإننا لا نرى أديبا لبنانيا له رأي اجتماعي في منهاج بكالوريا يسمونها لبنانية.
إذا كان التعليم، كما يقال، وسيلة للتربية؛ فبماذا نتوسل نحن لنربي أبناءنا التربية القومية المطلوبة؟ أببعر الآرام في عرصات دار عنيزة، أم بحب الخمخم وسط ديار عبلة؟
ما شبهت «منهاجنا» إلا بحمولة قش على ظهر جمل، فلو سمعت وزارة المعارف - عفوا وزارة التربية الوطنية - صيحاتنا العديدة وأعادت النظر في هذا المنهاج الثقيل لأراحت وأفادت.
هذا منهاج القسم الأول، أما منهاج القسم الثاني فغريب عجيب: يدرس الطالب الأدب في سنين، ويتعلم الفلسفة في سنة واحدة، وكيف يصبح فيلسوفا بسبعة أشهر؟ فهذا ما يحيرني، كيف يتعلم بسبعة أشهر علم النفس والمنطق والأخلاق، وما وراء الطبيعة، والفلسفة العربية وتاريخها، والتاريخ الطبيعي - وهنا البلية الكبرى - من حيوان ونبات، والكيمياء والفيزياء والفلك والتاريخ والجغرافيا، وكل ذلك عن ظهر قلب؟
هب هذا المنهاج جنينا، فهو لا يتصور في بطن أمه ويتم في أقل من تسعة أشهر ...
إن التلميذ اللبناني - عظم الله أجره وشكر سعيه بعد دفن الفلسفة في ذاكرته - أشقى طلاب المسكونة، وأعظمها جهادا واجتهادا؛ فهو وحده من ذوات المعدتين، يتعلم الآداب والفلسفة بلغتين، ونعنفه إن لم يخرج أديبا عالما، فيلسوفا، نحويا، صرفيا، لغويا، نباتيا، ميكانيكيا، تاريخيا، جغرافيا ...
كان رجال لبنان القدماء رجال جد وعمل، كانوا حتى في القرن الثامن عشر يحسنون اللغة العربية والسريانية والعبرانية واللاتينية والطليانية والفرنسية، ومع ذلك ترجموا اللاهوت الأدبي والنظري والحق القانوني، وما يحتاجون إليه، وعلموه أبناءهم، ترجموا الأنطوين والليكوري والغوري، فكتب القديس توما الأكويني، ولم يكلفوا كهنتهم تعلم اللاهوت باللغات الأجنبية كما نفعل نحن اليوم.
إننا نحمل أبناءنا خرجا فلسفيا، وخرجا أدبيا، وخرجا جغرافيا وتاريخيا، إحدى عينيه عربية، والأخرى فرنجية، ثم نقول لهم: أسرعوا عجلوا، أتقضون العمر في المدرسة؟ وبعدئذ نلومهم إذا قصروا وخرجوا من دروسهم خروج الشعرة من العجين ... وكيف لا يقصر في العقبة من حملوا مثل هذا الخرج؟ بل هذه الأخراج؟
وبعد تلك الاحتجاجات والصيحات قالوا لنا: إنهم يعدلون المنهاج، فانتظرنا وانتظرنا ... وأخيرا ظهر، ولكن كيف؟
أعيد المنهاج سيرته الأولى.
كنا نشكو من تدريس تسعة وعشرين كاتبا وشاعرا، فعدنا ندرس مائة وأكثر؛ لأن المسيطرين على وزارة التربية هم هم، وأكبر همهم أن يعيدوا المنهاج إلى كيانه الأول الذي وضع عام 1929م.
وكان الله في عون الطلاب، وكيف لا يسقطون ألوفا في ساحة الامتحان يا أخي؟
إذا شئت أن تطاع؛ فسل ما يستطاع.
لقد ذهب الأستاذ صدقة وفي قلبه شيء من حتى، فعسى أن يوفق الأستاذ صوايا إلى تعديل المنهاج كما يجب.
إن هذا المنهاج الذي حاول صدقة أن ييسره، ولم يفسح له في المجال؛ فعسى أن يقدر عليه صوايا.
إن ذلك ممكن إذا لم يصطدم بالانتفاعيين الانتهازيين الذين يحسبون وزارة التربية حقل تجربة واختبار، أو مزرعة يطبقون عليها قول المثل اللبناني: «كل يزرع حقله بعقله.» أما التربية وعقول أبنائنا فليست في حسابهم.
الحساب يتطلب من يفكر برأسه، أما هؤلاء فيفكرون بجيوبهم.
5 / 2 / 1954م
وزارة أوقاف
إذا كنا نعدل قوانيننا وشرائعنا حتى العتيقة جدا جدا، ثم لا نجعل تلك القوانين عامة شاملة، فجذور الطائفية تمتد طلوعا ونزولا.
وإذا عدلنا تقسيم المواريث لملة دون غيرها، صار عندنا ثلاث شرائع في مادة واحدة.
فالوصية عند إخواننا الدروز لا قيد لها ولا شرط فيها، فيهب الرجل جميع ما يملك لمن يشاء من الناس، وليس لبنيه وبناته ما يقولون.
أما النصراني فلا تنفذ وصيته إلا بجزء من تركته. هذا إذا نفذت ولم يجد الورثة مغرز إبرة يطل منه المحامي المجتهد لينقض ما أبرمه المورث، ناهيك أن الأب المسيحي لم يعد يستطيع أن يحرم أحدا من بنيه ولو كان عاقا كابيشالوم ...
وإذا تحقق ما يقولون عن تعديل حقوق الإناث ومساواتهن بالذكور، فستصبح شريعتنا مدنية غربية.
ولكن يعز علينا أن نفارق إخواننا المسلمين الذين اتبعناهم منذ أنزلت سورة البقرة حتى الآن.
إني لأعجب لهؤلاء النواب الذين لا يفكرون إلا بما يخصهم، فكيف هم غافلون حتى اليوم عن وزارة أوقاف؟
ألا يربحون حقيبة وزارية جديدة؟
ووزارة الأوقاف سمينة، دسمة، يتولى صاحب حقيبتها الإشراف على ثلث أملاك لبنان.
للروم الأرثوذكس مجالس ملية يطلع فيها الشعب على «من وإلى» في دفاتر أوقافهم، وللمسلمين مجلس أوقاف أعلى ينتخبون أعضاءه هم، ولا يفرض عليهم فرضا، عملا بالقول المأثور: «كلكم راع وكلكم مسئول.»
أما الطوائف الكاثوليكية فيقضون بالأمر عنها وهي غافلة ... ولو ظل قيدنا في يدنا لسكتنا ولم نطلب شيئا، ولكن راحت إسطمبول العتيقة، وحلت محلها إسطمبول جديدة، فصرنا لا ندري ماذا يصنعون؟ ولا ماذا ينفقون؟ ولا ما يقبضون؟ ولا كيف يتصرفون؟
إن هذا لا يعنينا، فعلينا أن نسلم ونطيع، وإلا عدونا هراطقة متمردين.
اتهم أحد رؤساء الرهبانيات المارونية، منذ سنوات، باختلاس ثمانين ألف ليرة؛ ولكي يبرئ نفسه ويرد لها اعتبارها، أذاع نشرة قدم فيها حسابا للرأي العام، فلم تطالبه رومية، المرجع الأعلى، بالحساب، ولكنها لامته لأنه أدى الحساب للشعب، ثم أسقط عن كرسي الرئاسة العامة لهذا السبب، وإن ظل يحتفظ بالتاج والصليب والخاتم.
فالشعب في الكثلكة لا يعنيه أن يعرف شيئا، ولا يؤدي له الحساب، فذاك سر يظل مكتوما مثل سرية المصارف.
قد يكون لسرية المصارف منفذ ينفس عنها، أما الأوقاف الإكليريكية عندنا فلا منفس لها، ولتمت بدائها إذا لم يمن الله عليها بالشفاء.
فنحن الآن نطلب أحد أمرين: إما أن يكون لنا مجالس محاسبة كغيرنا من الطوائف الشرقية، وإما أن نخلق وزارة أوقاف تسهر على البقية الباقية من تركة هذه الأرملة ... وكما أن تعديل المواريث يسري على المسيحيين وحدهم ، كذلك فلتشرف هذه الوزارة على أوقافهم كلها بدون استثناء، من بكركي إلى آخر أنطوش.
في عام 1908م، عملنا مجلسا مليا، ولم يضيق وجود العلمانيين على أحد من الإكليريكيين، وظل الإكليروس بألف خير يأتيه رزقه رغدا ... فلماذا لا نفعل اليوم كما فعلنا أمس؛ كيما تزول شكوك الناس والتهم، ويخف هذا البطر ولو قليلا؟
يقولون: هذه شريعة رومية، فهي لا تؤدي حسابا لأحد، ونحن تابعون لها.
ونحن نجيب: أيكون لنا ألف مرجع وليس لنا مرجع؟ إن ثلث عقارات لبنان أرض موات ليس من يستعمرها، يكتفي المشرفون عليها باستغلال ما تيسر استغلاله، وليس من يضرب فيها معولا! لقد ذهب زمن العباءة والمداس، وجاء عصر النيلون، فليت الشعب يسهر ولا يترك ما أوقف عليه يذهب ضياعا. إن الأوقاف عندنا مثل الذي يسمونه دوليا بالمال الاحتياطي، فلولا بقية من السلف الصالح لكان أكبر هذه المراجع أفلس.
كان الأمر علينا هينا لو ظل قيدنا في يدنا، ولكننا صرنا لا نقطع خيط قطن بدون إذن نستمده من وراء البحر، فهل لدولتنا أن تنبري لمحاسبة أولئك الذين يأكلون من كيسنا، ويتأمرون علينا، ويقضون بالأمر عنا ونحن غافلون؟
وإذا كانت امتيازاتنا الشرقية قد ابتلعت، وتبتلع واحدا خلف واحد، فلماذا لا تمد دولتنا يدها إلى الصحن قبل أن يمعطوه ويلكحوه؟
فإما وزارة أوقاف تبدأ من الأعلى فنازلا، وإما مجلس ملي يحافظ على ثروة الأرملة المسكينة.
وكيل وقف القرية يحاسب تحت سنديانة الكنيسة على مسمع الكبار والصغار نساء ورجالا، فلماذا لا يطبق «السادة الأجلاء» هذا التقليد عليهم؟
لماذا لا يحاسب الشعب أولياء الوقف الكبار على ما ينفقونه، وعلى كل عمل يقومون به؟
5 / 3 / 1951م
زواج مدني
إن تعديل الميراث يستدعي البحث بالزواج؛ فلولا الزواج لما كان الميراث.
وبالقلم العريض: إذا لم نتزوج فمن أين يأتي الوارث؟ ومن أي شباك تدخل المادة الجديدة التي يريدون تعديلها في شرعة مواريثنا ؟
وهذه المادة حق، وهي مأخوذة من عند غيرنا، فهل يصح أن نأخذ نصف الشريعة ونترك النصف الآخر؟!
أنعمل مثل ذاك الذي اقتسم التركة مع أخيه، فشقا الصك مناصفة؟
كنا لا نبالي بنصيب البنت؛ لأنه كان نصف مصيبة، أما الآن فصارت أو ستصير البنت كأخيها، فأصبح لا بد لنا من زواج مدني مصدق ومسجل في المحكمة.
أليس الزواج صكا فيه التسلم والتسليم؟ إذن فلا بد لهذا البيع من معاملة قانونية مضبوطة حتى لا تذهب التركات في سبيلها. والتي ستصبح مالكة كالرجل يجب أن نحررها من قولنا: «الرجل رأس المرأة.» أما صارا سواء بسواء؟
وإن صعب الأمر على بعضهم، وكان لا بد لهم من شمع وبخور، فليفعلوا كما يفعل الآخرون في أقطار العالم؛ أي فليذهبوا إلى الكنائس حيث يبارك زواجهم رجل دين، إنما بعد أن يسجل زواجهم عند الكاتب العدل أو في المحاكم، وهكذا لا تضيع عليهم بركة «ما أزوجه الله لا يفرقه الإنسان.»
لم أنس ولن أنسى كيف قامت القيامة بين المحامين ورجال الدين حول «الأحوال الشخصية»، ولكن المحامين غلبوا على أمرهم، وفازوا أولئك؛ لأن الله والأوقاف دائما معهم ...
وما دمنا ننادي بترك الطائفية، فهذا باب تنطلق منه العاصفة التي تقتلع تلك الشجرة النخرة من جذورها.
إني أرى العاصفة تولول راكضة من بعيد، فنصيحتي للناس أن يحيدوا من دربها ...
وإلى الذي قال لي: كيف يكون هذا؟ أنا عندي خمس بنات على صبي؛ فكيف يذهب ميراثي؟ وأي قرد يضرب تركتي؟
إلى هذا أقول: إن القانون لا يشغل نفسه بالتوافه. اسمع يا أخي، متى عملنا بهذا القانون نظل كما كنا ولا يجنف على أحد، بنت غيرك تجيء إلى بيتك، ومعها مثل الذي أخذته بنتك. أما إذا كنت تشكو كثرة بناتك، فلماذا لم توص على صبيان؟ ... الشرع لا ينظر إلى حال فلان وفلان. اسكت أفضل لك؛ لئلا تنعت بالتأخر عن ركب المدنية.
إني أنظر إلى عالم الغيب وأرى لبنان، هذا البلد الصغير، قد حطم قيوده العتيقة، وقد خلت أرضه من جميع الطفيليات التي تعيش على جذع الطائفية. أتخيل كيف يصير الأولون آخرين، والآخرون أولين، كما قال يسوع المسيح، وإذ ذاك يأكلون خبزهم بعرق جبينهم، ولا يعود يأتيهم الرغيف المقرص من ذقن ...
فإلى المشرف على إدارة هذه الدولة أقول: ليست الشرائع مثل قصب المص؛ لتؤكل عقدة عقدة، والمسيح قال: «ما جئت لأحل الناموس، بل لأكمل، فكمل يا سيدي ولك الأجر عند الله والمدنية.»
لا يجوز أن نعدل الميراث ونترك غيره، فكل هذه الشئون يتبع بعضها بعضا.
إن سجلات كنائسنا مثل دفاتر اللحامين، لا تعرف منها من مات ومن عاش، ومن ترهب ومن ومن ...
يا بحر الله، خذ عبد الله. وبما أن رجال الدين أصبحوا سياسيين، ولهم في كل عرس قرص؛ فلنجعل كل شيء مدنيا.
أتؤخذ ضريبة من جميع الناس إلا هم، بينما دخل المتقدم في الأخوة منهم يفوق دخل الكثيرين من المواطنين، أليسوا يرافقون البشر من المهد إلى اللحد وإلى ما بعد القبر؟
فإلى المسئولين في لبنان أقول: بدأتم فكملوا والله معكم.
وإلى ذلك القروي المسكين الخائف على ملكوت السماء أقول: يصيبك ما يصيب أيزنهاور، فهكذا تزوج وما خاف على شيء، وأيزنهاور رجل مؤمن أكثر منك ومن غيرك، فعندما طار إلى إنكلترا ليتولى قيادة جيوش الحلفاء في الحرب الأخيرة كان الشيء الوحيد الذي اصطحبه الكتاب المقدس، وسوف يموت متكلا على الرحمن الرحيم بعد عمر طويل؛ لأنه مدني مؤمن،
1
فهل تظن أن عقل الله مثل عقلي وعقلك ليسأله على أي ناموس تزوجت؟
وأنتم يا أحبائي، اصغوا إلي واسمعوا وعوا، إن ما أحدثكم عنه الآن صائر بعد حين، فلا تتبرموا وامشوا مع الركب؛ فلن يبقى أمامكم شيء خارج المحاكم غير الموت، فموتوا كما تشاءون، واجعلوا دليلكم إلى تلك الدنيا من تشاءون؛ لأن موتكم لا يتعلق به حق أحد، وعلاقتكم إذ ذاك تمسي مع ربكم رأسا، ويومئذ حسبكم الله.
5 / 5 / ؟195م
ضريح «أبو أمين»
كتب إلي واحد اسمه جميل نوفل، وعلى ظرف مكتوبه طابع بريد بيروت، ومما قاله في رسالته اللطيفة:
عرفناك محبا للأموات، تبعثهم من قبور الإهمال والنسيان ؛ فلماذا أغاظك تشييد ضريح للشاعر القومي أمير الزجل اللبناني؟
وأخيرا يسألني: هل كان بينك وبين المرحوم شيء؟ ...
يا مصيبتاه! في هذا الشرق الأدنى، ويا عجبا لناسنا، كبارهم وصغارهم! ... فهم لا يقيسون الأشياء إلا بالعداوة والبغض ... فالحقيقة لا حساب لها في دفاترهم.
وقد طوى السيد جميل نوفل كتابه على نص قرار أجيز فيه لرئيس مصلحة الخزينة أن يدفع بصورة سلفة مبلغ عشرة آلاف ليرة إلى المهندس هنري مشعلاني، رئيس منطقة لبنان الجنوبية، لنفقات أشغال إقامة ضريح لرشيد بك نخلة في مسقط رأسه.
قلت: وهذه أعاجيب بعض الخمسة والخمسين، فلو كانت طريق ضبعة، أو جر مياه لعطاش، أو فتح مدرسة؛ لاعتصموا بالأعذار وأرجئوا تلك المشاريع إلى أن يبعث المرحوم رشيد من قبره ...
أما مشروع كهذا يقف وراءه ابن الفقيد العزيز؛ فيجب تنفيذه حالا لئلا يقال: يا معزي بعد حين يا مجدد الأحزان ...
بقي ضريح الشدياق فراجا لكرب المكارين وعابري السبيل المزحومين نحو نصف قرن، ولولا الخط الهندسي الذي قضى بنقل ضريحه من مكانه لما استراح ذاك العظيم من زواره الثقلاء ...
أقول هذا لأدل على أن المرحوم رشيد نخلة صاحب «كلنا للوطن» ليس أعظم من هذاك، ومع هذا لم يسمع صوتنا أحد من حكومة ذلك الزمان، وبقي «صقر لبنان» في تلك الوحلة البشرية التي نكبه بها موقع قبره.
وأحلى ما سمعناه حول ضريح أبي أمين، شكر ابنه اللبق الأستاذ أمين نخلة لمجلس النواب، بعد أن أقر تشييد ضريح لأبيه.
لباقة جميلة من لباقات أمين المعهودة، فهي من نوع مشي القاتل في جنازة المقتول.
فيا ليت شعر أمين، أكان شيء مما كان لو لم يكن نائبا؟!
وإن زعم السيد نوفل غير ما أزعم، فليقل لي لماذا لم يشيدوا ضريحا للمعلم بطرس البستاني، مؤلف دائرة المعارف، ومحيط المحيط، ومجلة الجنان، ومنشئ أول مدرسة وطنية علمانية؟
لماذا لم يقرر المجلس تشييد ضريح لعظام ناصيف اليازجي؟ فهل أن محسن الهزان أعظم من مجمع البحرين وثالث القمرين؟
بل لماذا لم يبحثوا عن عظام أديب إسحاق؟
ما ذكرت الأسير ولا الأحدب - للتوازن الطائفي - لأن لهما قبرين.
ولا أذكر الريحاني؛ فقد قررت أن أستغيث بالإنكليز والأميركان بشأن ضريحه، ولا تستطيع حكومتي أن تقول ما قاله سيف الدولة لابن عمه: ومن يعرفك بخراسان؟
جميل تشييد ضريح لأمير الزجل، وهو جدير بهذا، ولكنني أقسم ألف يمين، أنه ما كان يفوز بثمن بلاطة توضع على قبره باسم لبنان لو لم يكن ابنه نائبا.
سنظل خاضعين للاستهتار حتى ينقرض حصر النيابة والوظائف في بيوت معلومة.
إن نفس سجعان عارج طلبت الرحمة حين تذكرنا كلمته الشهيرة، فقد قال - رحمه الله: طلبنا انتداب فرنسا على لبنان؛ فانتدبت فرنسا علينا بيت الخازن.
ونحن نقول: انتخبنا هؤلاء النواب لينوبوا عنا، فما ناب أكثرهم إلا عن أنفسهم ...
أستغفر عظامك يا صديقي أبا أمين، ويشهد علي ربي، وتشهد أنت - لو نطقت - أني أحبك.
ولو كنت حيا لوقفت بجانبي؛ فقد عرفتك حرا جسورا لا تحابي.
عين كفاع، 9 / 8 / 1948م
التربية الوطنية
إلى وزير التربية الوطنية
شغل الأستاذ فيليب بولس - معالي وزير العدلية الآن - منصب وزارة التربية الوطنية والشباب، فكان كما كان في أمسه - وسيكون في غده - مخلصا غيورا.
وهكذا يتحول وكيل الأمة عن دسته منوها به.
استحق الأستاذ بولس شكر الثقافة، وما شكر الثقافة بقليل. ليس لرجالها وسام فيمنحونه باسمها لمن يستحق شكرها، ولكن لهم كل الحق في أن يثنوا على رجل كان من ذوي الإرادة الحسنة، سعى جهده ليجعل مستوى التعليم رفيعا.
قلت التعليم، ولم أقل التربية؛ إذ لا تربية وطنية عندنا، فلقب وزارة التربية الوطنية - بله الشباب التي لم تعمر غير شهور - حمل ثقيل يستنيخ تحته هذا المنصب الجليل.
وجهت كلمة إلى هذه الوزارة حين استهل امتحان حزيران، فذهبت مع دوي المدافع وأزيز الطائرات، فلم تكن أسعد حظا من كلمات قبلها حول المنهاج، وجهناها إلى الأستاذ بو شهلا ومن ملكوا بعده سعيدا.
والآن كما بدأنا هذا الأمر نعيده مع الأستاذ رامز أفندي سركيس - معالي وزير التربية الوطنية.
كم كنت أتمنى أن ينتهي حديثي عن المدارس والتعليم عندنا فلا أضطر إلى استئنافه، ولكن يظهر أنه موال فرنجي: «ترلم ترلم» كأناشيد جدجد لافونتين، الذي غنى القصائد ففاته الحصائد، وراح يشحذ من النملة ما يسد به جوع بطنه.
لست أرجو حل هذه العقدة، فهي لم تحل بعد كما يرجو أحرار الفكر في الدول العوانس، فكيف يرجى تحقيقها في دولة لم تشب بعد عن الطوق؟
ولكن الدواء - إذا وجد - فمصدره غرفة هذه الوزارة، ولا يحقق فكرة الدولة - بعد سنين طبعا - غير هذا الكرسي، والدولة لا تعمل بمرسوم، بل تتكون في الرءوس والنفوس، ولا يقال لها: كوني فتكون.
أساس الدولة البيت والمدرسة، فهل لبيوتنا يد في هذا العمل الخطير الذي لا يكون إلا موحدا؟ وهل لمدارسنا - رسمية وخصوصية - هدف غير التعليم؟
فلنقل - وبعض هذا صحيح - إن للمدارس هدفا هو خلق الرجال، ولكن أي الرجال يخلقون؟ ولمن يخلقونها؟
الجواب مر مؤلم، كل يغني على ليلاه وليس للوزارة يد في ذلك، إنها لا تستطيع وقف الدف والطبل. العرس قائم، ولكننا في مناحة.
إذا كبر الرجل أفرط في الصراحة؛ فاسمحوا لي أن أسأل من يعنيهم الأمر: ما الذي دعاهم إلى انتحال التربية الوطنية؟ ألم يكن الاسم «وزارة المعارف» أكثر مطابقة؟
إن لبنان لا يعنى بغير التعليم، ويا ليته تعليم كامل فنتعزى!
إن تكويننا الاجتماعي - إن كان لنا تكوين - لا يد لمدارسنا فيه، فنحن (النزوعيين) قد كونا أنفسنا، ولم تستطع مدارسنا أن تخمد نزعاتنا؛ إذن فلنقل وزارة القراءة والكتابة، في اللغة القومية واللغات الأخرى، وإن تشبثوا بهذا اللقب المنسوخ، فإني أسألهم: إذن ما هو هدفنا التربوي؟
قد يجيبون عن سؤالي هذا: هدفنا خلق رجال ذوي أخلاق فاضلة، إنسانيين.
ولكنني أرد على هؤلاء: هذا هدف عام من عهد «كنت» و«بستالوزي» وغيرهما، لا يتفق بحال مع التربية الوطنية، فللتربية الوطنية هدف خاص - أي خلق رجال مختصين ببقعة من الأرض دون غيرها - فهل نعمل لهذا؟ أفي وسع وزارتنا التي سموها وزارة التربية الوطنية أن تقول لمدارس الجمهورية اللبنانية جمعاء: افعلي ولا تفعلي؟
يقول علماء التربية: إن التربية الصالحة لأمة أو فرد ، قد تضر بأفراد آخرين أو بأمة أخرى، فالتربية الحق توحد عواطف الأمة وأفكارها، فتصير شعورها واحدا، وبدون ذلك لا تكون دولة، فالإنسان الذي تتطلبه تربية اليوم ليس الإنسان الآدمي، ولا الذي أوجدته الطبيعة، بل الإنسان الذي تحتاج إليه الأمة، فهي تريده كما تقتضي ظروفها أن يكون، وبوسعنا أن نستعير هنا ذلك التحديد البياني للبلاغة العربية: مطابقة مقتضى الحال.
هذا رأي دركايم وغيره، فهل لعلماء التربية عندنا رأي يناهضه؟ وماذا تخلق مدارسنا يا ترى؟ ماذا تغرس من المشاعر والأفكار العامة التي هي سر قوة الشعب، ولا وطن ولا حول ولا قوة إلا بها؟
وتعلم الوزارة أن التربية تطورت في أمم العالم، ومثلنا على هذا دولة فرنسا.
أما حاولت هذه الدولة التي شدنا منهاج دراستنا على طراز منهاجها أن تخلق لكل عصر رجالا؟ فشتان بين فرنسي العصور الوسطى، وفرنسي عصر الانبعاث، وفرنسي عصر الثورة، وفرنسي القرن التاسع عشر، وفرنسي الحربين وما بعدهما، فماذا نفعل نحن الذين نسخنا منهاجهم واسم وزارتنا عنهم؟ وما هي التربية الوطنية التي نريدها؟
ألا تربي كل دولة رجالا ينتسبون إليها؟ فماذا نربي نحن؟
ألا ترى الوزارة أن من نربيهم يصلحون لكل مكان، ولا يصلحون لمكان بعينه؟
فإذا كان هدفنا تربية رجال «دوليين»، فلماذا لا نسميها وزارة التربية الدولية؟ ألا تراه اسما أعم وأفخم وأرخم؟
للطيور التي تعيش مجتمعة نظام اجتماعي موحد، أما نحن، فكما يعلم كل واحد، كل يغني على ليلاه، وما من يسأله: ما هذا النشاز؟ ولكن فلنبعد اليأس، فالأمة لا تتكون إلا بمئات من السنين، وبما أن عناصر تكويننا وثقافتنا وأدياننا متشابهة؛ فلا بد من أن يصير مزاجنا القومي واحدا، إذا صح رأي غوستاف لوبون.
يقول دركايم: إن جسدا يعلم بدون عقيدة هو جسم بلا روح. فما هي عقيدتنا يا ترى؟
ما هو هدفك أيتها المدرسة؟
الجواب عند الجنسية والطائفية.
إذن فلكل مدرسة هدف، ولا يرتقي إنسان إلا إذا استهدف غرضا ساميا.
وأنت يا أخي الأستاذ - وأنا زميلك في معامل الرجال - ما هو هدفك التربوي إذا كنت معلما في مدرسة أجنبية؟
الجواب: لاتيني إن كنت عند اللاتين، وأميركي عند الأميركان، وإنكليزي إذا كنت في مدرسة إنكليزية كمدرسة برمانا - مثلا - تصلي غير صلاتك غصبا عن رقبتك.
وأنت أيتها المدرسة الرسمية، هل عندك للوطن غير كلنا للوطن، للعلا، للعلم؟
الجواب: الاستيطان يمنح الحجل لون تربة البقعة وحجارتها، فإن كان المحيط مارونيا فهي مارونية، وإن كان أرثوذكسيا فأرثوذكسية، وإن كان إسلاميا فهي سنية أو شيعية، وإن كان درزيا فهي درزية، وهكذا قل عن الأرمنية والسريانية والعبرانية، ومع ذلك تطلب المدارس من الدولة أن تفتح خزائنها، وتقذف لها المساعدات بالرفش.
أقول ولا أهاب أحدا: قد يكون للمدارس هدف معين، أما الوزارة فترمي التل ولا تصيبه.
ومع ذلك تتشبث بلقب التربية الوطنية لا لشيء سوى أنها هكذا سميت في فرنسا، كما لم أسم إلا مارون لأنني ولدت في ذلك اليوم؛ يوم عيد مار مارون.
إن مهمة التوحيد عندنا شاقة جدا، ونحن لسنا نطلب التوحيد كاملا؛ لأن دولا كثيرة لم تحققه بعد، فكيف به في دولة لم تبلغ وزارتها التربوية ذروة الاختصاص؟ وإذا وجدنا اختصاصيا فمن يكفل لنا وضعه في محله إذا لم يصادف هوى الطائفيين، وميل المالكين سعيدا، وهل يجرؤ على الإصلاح من كان هذا موقفه، ومن يكفل له أن قوائم كرسيه لا تصطك وتنهار تحته، ويصبح على الأرض يا ... حكم، كما يقولون؟
فخير لنا أن نسمي هذه الوزارات جمعيات خيرية، والمدارس أخويات متحدة تصلي لله جميعا لأجل الوطن، بألسنة مختلفة كتلاميذ المسيح في علية صهيون.
لقد أصبحت الوظيفة كالسيامة، فمن مسحناه بالزيت المقدس أمسى مكرسا.
كانت غاية مدارسنا القديمة أن تخلق منا أناسا تقرأ وتكتب، واللغة - كما يقرر علماء النفس - أخطر عناصر التربية القومية، فخرجنا - والحمد لله - أناسا قارئين كاتبين، أما اليوم فقلما يخرج من يقرأ ويكتب صحيحا بلغتنا الأم؛ وذلك لأن حمل التعليم بل المنهاج ثقيل جدا، كما أوضحنا منذ أيام، فهذا المنهاج لا يحول ولا يزول، كأنما هو لوح الوصايا العشر.
كل شيء يتغير في هذه الدنيا إلا شيئين: منهاج البكالوريا اللبنانية، ووجه ربك ذو الجلال.
فكما تعلمت أنا امرأ القيس وعنترة والنابغة إلخ ... كذلك تعلم ابني وسيتعلم الآخر، والفرق بيننا أنني كنت أتعلم للعلم، وكلاهما تعلم ويتعلم لينالا البكالوريا.
شعر العرب أن لكل إقليم خاصة فقالوا: شعر حجازي، تحس فيه البرد في تموز.
أما لبنان فيدرس أبناءه أدب كل إقليم عربي وغربي إلا أدب بلاده! ومع ذلك نقول: وزارة التربية الوطنية!
أفي هذا البرنامج لبناني؟ نعم، هناك إبراهيم اليازجي، ولكننا لا نقرئهم له حرفا يوحي إليهم شيئا.
وهناك مقدمة الإلياذة، لسليمان البستاني، ومقدمة الإلياذة لا يستغني عنها من يتعلم تاريخ الآداب العربية.
عندما اجتمعنا لترميم منهاج البكالوريا سنة 1932م، رأيت مستشار المعارف يوم ذاك المسيو كوانته، يتجه دائما في اختياره إلى أدباء الفرنجة الذين كتبوا عنا شيئا، فيخص أبناءنا بهم، وبالضد رأيت رفاقنا في ذلك المجمع - مجلس المعارف الأعلى - يقصون كل كاتب لبناني عن منهاج البكالوريا اللبنانية؛ لأنه لا يمثل هواهم الطائفي.
لست أتوقع اجتراح العجائب إذا عدل هذا المنهاج، فمثل هذا النهج يقتل قوة الاستنباط، ويخمد جذوة الهمم والاستقلال العقلي، فأكبر هم بنينا اجتياز المحنة بسلام.
ومع كل ما تقدم، فليس كل الشر في المنهاج، فأساتذتنا وأولادنا وأكثر موظفي التربية الوطنية في «البداغوجي» سواء بسواء، حتى إننا لا ندري من هو المربي ومن هو المربى.
هذا مخجل. وإذا قلنا الصحيح ولم نحاب أحدا قلنا: إن المدارس الأجنبية هي التي تؤدي مهمتها؛ لأنها جاءت لتخدم دولها، وها هي تخدمها على أرض لبنانية، وتحت سماء لبنانية، وهي في مأمن وعصمة من التفتيش.
إن التفكير يصير التقليد والممارسة صالحين للزمان والمكان، فمن فكر منا في إبداع أمر يتفق وميول أبنائنا وطموحهم؟
الدنيا في مادتيها الأدبية والمادية تتغير وتتحول، أما نحن فثابتون كالشمس، صامتون كالأرض، مع أن هدف التربية خلق إنسان جديد لحياة جديدة.
من يتمسك بالقديم تمسكا أعمى يضرب على نفسه ذلة التأخر الأبدي.
أجل إن الطفرة محال، وليس المستقبل قصيدة فيرتجل ارتجالا، ولكنه الماضي يرمم ترميما، تصلح حجارته وتنقح لتلائم الطراز الحديث.
وقد قال هانيكين: ما من حادثة في الطبيعة كلها إلا تتولد من الماضي، فمتى نفتح مسودة ماضينا ليكون لنا حاضر؟
6 / 6 / 1953م
المعضلة المارونية الرومانية
بين بطركين : إلياس وأنطون
منذ مئات السنين وحرب هذه المعضلة قائمة على ساقها، بطاركة الموارنة لا يتقيدون بما تحدثه رومية إلا بعد أن يجيزه بطريركهم الأنطاكي.
يدعون في قداسهم لبابا رومية ولبطريركهم معا، ويمارسون طقوسهم التي رسمها بطاركتهم الأولون، فهم طائفة شرقية يتمسكون بقانون الإيمان الكاثوليكي، ويموتون مكررين هذه العبارة: «إيمان بطرس إيماني.»
لم يحد الموارنة في تاريخهم العريق في القدم عن هذا الإيمان قيد شعرة.
فكلمة ماروني غير محتاجة إلى تعريف، وهي تعني ما تعنيه - أي كاثوليكي - غير محتاجة إلى هذا النعت كغيرها من الطوائف الشرقية الأخرى، ولعل هذا هو الذي حمل الكاتب العظيم فرح أنطون أن يقول في جريدته «الجامعة» - التي أصدرها في نيويورك:
الطائفة المارونية دولة في قلب دولة؛ فهي لا تخضع لبابا رومية إلا بالإيمان الكاثوليكي، ولا للدولة العثمانية في إدارتها الداخلية.
وهو كذلك، ولكن الغرباء عن أورشليم يحسبون الموارنة الذين اشتهروا بالطاعة العمياء لرؤسائهم يقادون لرومية بخيط قطن، وما دروا أن صراع البطاركة من أجل استقلال طائفتهم الديني كان مستمرا منذ كان كرسيهم في يانوح وميفوق وغيرها من قرى بلاد جبيل. فهذا البطرك يوسف حليب العاقوري يعقد سنة 1644م مجمع حراش - نسبة إلى دير حراش في كسروان - ويرشق بالحرم الكنائسي الكهنة اللاتين، الذين يقدمون على سماع اعترافات الموارنة، ومناولتهم القربان المقدس من غير تفويض من البطريرك، وحرم أيضا الموارنة الذين يقتبلون هذين السرين المقدسين من أيدي أولئك الكهنة.
ورفعت رومية صوتها محتجة على عمل البطريرك الماروني، وأرسل مجمع نشر الإيمان المقدس رسالة إلى القاصد الرسولي أمره فيها أن ينذر بطرك الموارنة، أنه ما كان له ولا عليه أن يتعدى حق الكرسي الرسولي، ويرشق بالحرم الموارنة عند أخذهم الأسرار من مرسلي الكرسي الرسولي «المشرق سنة 29، ص838 و839».
أرأيت أنه منذ القديم ورومية تمد يدها إلى شئون الموارنة الداخلية ، وبطاركة الطائفة يقولون لها: «لميها. نحن في هذا مستقلون، ولا سلطان لك علينا فيه.»
ورأت رومية أن تقيد استقلال الموارنة، فأرسلت إليهم واحدا منهم هو السيد يوسف سمعان السمعاني الحصروني، العلامة الماروني الأشهر ، فجاء مستنابا عن البابا؛ ليضع دستورا دينيا للطائفة المارونية، فكان ذلك، وعرف هذا الدستور بالمجمع اللبناني، وهو يعترف باستقلال الموارنة في انتخاب بطريركهم، وسيامة أساقفتهم وكهنتهم، وإدارة كنائسهم وأوقافهم، وأبقوا لقداسة البابا حق منح البطريرك - بعد ثبوت صحة انتخابه - درع التثبيت «الباليون»، وللبطريرك السلطة المطلقة في إدارة طائفته لا يرجع إلى رومية إلا بما أعطاها المجمع من حقوق دينية كبرى.
وظلت رومية تمد يدها عند سنوح الفرص، وكان كل بطرك واقفا لها بالمرصاد.
وفي عهد البطرك إلياس الحويك، سام قداسة البابا، الخوري نعمة الله بو كرم مطرانا، وهذا من حقه؛ لأن المجمع اللبناني أجاز له سيامة مطران ماروني على بلدة طليانية، ومع ذلك سخط البطرك إلياس وقعدت جفونه، واستقبل المطران في جبيل بغضب، ولم يعطه يده ليقبلها، بل سحبها من يد المطران بعدما استلمها، وتركه جاثيا مع المطران دريان الذي جاء معه للحصول على رضا البطريرك.
كان ذلك في بيت الشيخ بان الخازن، مدير جبيل، حيث كنا مدعوين للغداء مع صاحب الغبطة.
غضب البطرك إلياس لأن رومية سامت أسقفا ولم تنبئه، فلم يشأ الاعتراف به، وظل ذاك المطران العلامة الفاضل كالغريب في طائفته؛ لأن الموارنة عدوا سيامته اعتداء على استقلالهم.
ولجأت رومية إلى وسيلة أخرى، فكانت في كل فترة تحاول أن تجعل البطرك الماروني كردينالا، وكان البطرك الماروني يأبى، فتلجأ نكاية به إلى بطرك أصغر طوائف لبنان الكاثوليكية وتسميه كردينالا، ويظل البطرك الماروني رافلا بأرجوانه وصولجانه.
وجاء الأسطول الفرنسي إلى الشرق قبل الحرب الأولى، ورست دارعاته وغواصاته في ميناء جونيه، وأدت التحية لسيد بكركي، ثم استقبل البطرك إلياس عندما رد الزيارة للأميرال استقبال الملوك، حتى سأل البابا بيوس العاشر المطران بطرس الفغالي عندما أوفده البطرك إلياس إلى رومية في أحد الاحتفالات الدينية: كيف حال البطرك الملك؟
في ذلك الزمان كتبت مقالا في الجريدة التي كنت أحررها في جبيل فحواها: «لماذا لا يكون بطركنا كردينالا؟ وهل البابوية إرث للطليان؟» فاستدعاني - رحمه الله - إلى بكركي وقال لي: بدك تعملني كردينال يا مارون ؟
فقلت: يا سيدنا هذا حق.
فأجاب: هذا حق يا ابني، ولكنه حق يضيع الحقوق، تريد أن يصير بطرك الموارنة ميرالاي مثل الشيخ بربر؟ اليوم عيناه وبكرة نقلناه من لبنان إلى البندقية مثلا، وأخيرا أحلناه على التقاعد؟ بطرك الموارنة يا مارون مثل البابا: يموت في كرسيه بطريرك طائفته. الكردينال في الفاتيكان مثل مطارين الكرسي، بل الخوري فلان - وسماه - له أبهة أكثر من كردينال.
وحاولت رومية - والبطرك في آخر العمر - أن تعين له معاونا معه، فأبى ذلك عليها محتجا بأن البابا لاون مات في الثالثة والتسعين ولم يعاونه أحد.
وأخيرا قال للقاصد جيانيني: «افحصوني إذا كنتم تظنون أني خرفت.»
وهكذا انتهى البطرك إلياس والمجمع اللبناني لم يمس.
وخلفه البطرك أنطون.
انتخبوه لأنه «درويش»، كما قال له المطران مبارك في الخطبة التي ألقاها بين يديه إثر سيامته.
ولكن هذا الدرويش أراد أن يكون بطركا كما يكون البطرك الماروني، فوضع الأمور في نصابها: أعطى كل ذي حق حقه، وضبط الكرسي أيما ضبط، وفى ديونا باهظة ركبت الكرسي، وظل يبني ويشيد ويفي ديون الأوقاف الأخرى حتى مات، واقفا ما بقي من ماله على عمل البر والإحسان.
قد يقول القارئ: ومن أين لهذا البطريرك هذه الملايين؟ وعن هذا القول نجيب: كان البطرك أنطون مواطنا عاملا، فأسس شركة شكا المشهورة. وعندما زار رومية أسقفا قال له البابا: إنك تتاجر.
فأجابه على الفور: عملا بقول الإنجيل: وأسأل الله أن أكون كصاحب الوزنات الخمس.
عاش البطرك أنطون مريضا طول عمره، ومع ذلك جاز التسعين.
يقولون: إن المعدة بيت الداء، ومرضه كان في معدته، ومع ذلك ظل قبل مرضه لا يجاريه شاب رياضي: إذا مشى يفر فرا، ويصعد الدرج ثلاثا ثلاثا.
كان إذا فرغ من عمله الإداري يحمل المنجل والمجز، ويعصب رأسه بفوطة كفلاح لبناني، ويمضي في تشحيل حرش بكركي حتى إذا عاد وقعد يسن الفأس والمنجل كأنه أجير لا بطرك.
رآه رجل على هذه الحال والزي فسأله - وهو يحسبه الراهب الذي يسميه الإكليروس «ريس الحقلة»: يا «خي»، البطرك في الكرسي؟
فضحك البطرك ضحكته البريئة: أنا البطرك.
فبهت الرجل ثم هوى على يده يقبلها، فقال له: ضروري أن يظل البطرك على الكرسي حتى يكون بطركا، ماذا تريد؟
فقال الرجل: أنا من الشيعة الفلانية، احترق بيتي، وما معي مال حتى أسقفه.
فقال البطرك: لا تطولها ولا تقصرها؛ هات لي شهادة من خوري الرعية بواقع حالك، وتعال خذ أسقف بيتك.
فأجاب الرجل: الشهادة معي، قالوا لي: إذا اعتقد البطرك أنطون أنك محتاج يمدك بما يقدر عليه.
فضحك البطرك أنطون وقال: ما أقدر عليه! أنا أقدر على الكثير، ولكن كل يوم يجيئني عشرة مثلك، كم يكلف سقف بيتك؟
فوجم الرجل، فقال البطرك: قل الصحيح، وإذا كذبت راحت عليك.
فقال الرجل: ثلاثمائة ليرة.
فقال البطرك: «بس!» اسبقني إلى الكرسي.
وهناك دفع له المبلغ.
كان - رحمه الله - لا يضيع فرصة يكسب فيها المال الحلال، ولكنه كان يعطي كل يوم.
وكان ألد أعداء المجد العالمي، فلما حان موعد يوبيله الذهبي، كتبت إليه لأقف على رأيه، فأجاب بالرفض، ومما قال في رسالته:
يحتفل بيوبيل والحرب قائمة؟ فإذا أرادوا أن يكرموني فليصلوا من أجلي لأقدر على عمل الخير والإحسان.
كان عالما حر الضمير والفكر، صارما جدا في أحكامه.
ولما كان كاهنا عهد إليه بامتحان المرشحين للكهنوت، فجاءه وجيه بابنه ليمتحنه؛ فكانت نتيجة الامتحان: رح ارع المعزى، أنت لا تصلح لرعاية البشر.
وكان من طبعه الإصرار على عمل ما يعتقده أنه حق، ولكنه كان يرجع حالا عن غلطه عندما تتضح له الحقيقة.
كان - رحمه الله - وطنيا مجاهدا قوي الذاكرة، أنعم الله عليه بما لم ينعم به على سلفه إلياس.
فإلياس لم يكن يعرف إلا من يحتكون به كثيرا، ويترك تصريف الشئون للأساقفة، أما أنطون فكان لا ينسى من رآه مرة، ويسميه باسمه؛ ولهذا كان - قبل أن أقعده المرض - يصرف الشئون، ويدير الأمور غير معتمد على أحد، حتى أصبحت مطارنة الكرسي بلا عمل تقريبا.
اجتمع الإيمان والعقل والعلم في شخصية البطرك أنطون، فكنت ترى في غرفته كتب العلم إلى جانب الكتب الدينية، فكتاب اللاهوت إلى جانب كتاب «لاروس ماديكال».
وإيمانه القوي لم يحل دون تحكيم عقله في القضايا الدينية، فعندما كان أسقفا احتج على عبارة في كتاب رتبة العماد: ينفخ الكاهن في وجه الطفل ويقول: «اخرج منها أيها الروح النجس.» فكبرت هذه الكلمة عنده وقال: «من أين جاء الروح النجس إلى هذا الملاك؟»
فاستغرب الناس أن يحتج أسقف على ما أقرته الكنيسة، ولكن أنطون الصريح لم يتنازل عن رأيه.
وفي عهد بطركيته رأى أن أخبار كتاب الشهر المريمي التي تقرأ في الكنائس المارونية أشبه بالأساطير، فألف كتابا أخذ أخباره من عجائب سيدة لورد الثابتة علميا وتاريخيا.
كان قصده أن يريح الآذان من أخبار أورياما الغريبة العجيبة التي صنفها الأب موزارللي اليسوعي.
أما الصراع بينه وبين رومة فابتدأ منذ صار بطريركا.
كانوا يطلعون عليه كل يوم بجديد، وهو يقول: لا، ويمضي بطريقه.
ودعته رومة لحضور حفل ذكرى مرور مائتي سنة على المجمع اللبناني، فأجاب: ادفنوه بغيابي؛ لا أريد أن أحضر احتفال هضم حقوق طائفتي.
صمد إلياس بوجه رومة فحال دون مس المجمع اللبناني؛ لأن مطارينه مصنوعات وطنية، والبطرك أنطون صمد، ولكنه لم يحل؛ لأن أكثر مطارينه شغل البلاد ...
ومع ذلك لم يعترف البطرك أنطون باللجنة الرسولية ولم يذعن لها، بل ظل يقضي ويمضي حتى أقعده المرض.
أما كيف بدأت رومة ترسم مطارنة موارنة، وتنقلهم من أبرشية إلى أبرشية؛ فكان هكذا:
المطران بولس عواد الذي صرخ بجيانيني، القاصد الرسولي، حين جاء بكركي يوم انتخاب البطرك أنطون: «ما لك شغل معنا.» ولم تفتح له بوابة بكركي، فعاد على أعقابه، هو الذي شق الطريق للفاتيكان حين رفع استقالته من أبرشية قبرص إلى قداسة البابا، بدلا من أن يرفعها إلى نسيبه البطرك أنطون، فصار من حق رومية أن تسيم هي أسقفا محله ، فكان المطران فرنسيس أيوب. واليد متى امتدت يصعب ردها، ومع ذلك مات البطرك أنطون مؤمنا بحق طائفته، مات ولم يلن.
فضل أن يموت والبابوية غير راضية على أن تقول الأجيال الآتية: البطرك أنطون هدم استقلال طائفته.
ومن يقرأ وصيته ير في البند الأول إعلان إيمانه وخضوعه لشرائع الكنيسة ولرئيسها البابا المعصوم.
وفي البند الثاني - وهو بيت القصيد - يغفر لكل من أساء إليه عملا في هذه الحياة.
لا شك في أنه يعني - رحمه الله - من انتزعوا سلطانه البطريركي - والله أعلم - ويوصي أن يدفن في مقبرة البطاركة بالديمان، وأن تؤخذ النفقة من ماله الخاص.
هذا أول بطريرك ذي مال.
أغنى البطركية المارونية في حياته، ومولها بعد مماته لتصنع خيرا.
كان - رحمه الله - عدو التقاليد البالية، ديمقراطيا إلى أبعد الحدود، لا يبالي بما رسمه له السلف، فكان يروح ويجيء غير مبال بالتقاليد البطريركية، لا يعنيه إلا أن يكون ربه راضيا عنه، ولو كان أنطون يعتقد أنه يرتكب إثما بعصيانه؛ دفاعا عن استقلال طائفته؛ لكان خضع وانتهى كل شيء.
ترى من يعد المطران طوبيا عون، سلف المطران يوسف الدبس، عاصيا؛ لأنه لم يرفع تمثال القديس يوسف في الكنيسة، وظل في أحد الأقبية حتى أيقظه المطران الدبس؟
وهل نعد جدي عاصيا لأنه احتج على عيد قلب يسوع وقال: «اليوم نعيد لقلبه، وبعد حين نعيد ليده ورأسه؟» ثم مات ولم يعيد إلا ليسوع كله.
لعل رومية تريد أن تحقق قول الإنجيل، فنكون رعية لراع واحد، ولكن الرعية لا تعرف غير صوت راعيها، نرعى أنفسنا في حقل قانون الإيمان.
الموارنة حجر من حجار الكنيسة البطرسية، وإذا كانوا يريدون أن ينحتوا هذا الحجر نحتا لاتينيا، فقد فات الأوان، والموارنة أبناء الجيل العشرين لا يرضون أن يكونوا أقل استقلالا من أبناء القرون الأولى.
واعجباه! يقول المسلمون: «كلكم راع وكلكم مسئول.» والدول الكبرى أعطت الشعوب الصغيرة حق تقرير مصيرها، فما بال رومية تحاول أن تنتزع استقلال الموارنة؟
لقد صارع الآباء البطاركة القدماء في كل حين حتى يصونوا دستورهم، ولا تنعدم شخصيتهم الشرقية في بحر الكنيسة اللاتينية.
إنهم يأبون أن تنصل صبغتهم الشرقية العتيقة، فالماروني الأصيل ينظر إلى الخوري الماروني المتبرنط وكأنه دخل في التجرية، ولكن الذين يربون ناشئتنا الإكليريكية، يحاولون أن يجعلوا منهم إكليروسا أوروبيا، ولا يبعد أن تأتي ساعة يستحيل فيها قاووق الخوري الماروني إلى «كاسكات» مثلثة القرون ...
فيا أيها البطرك العظيم، لقد أبيت أن تحضر دفن المجمع اللبناني، فعسى ألا يكون أجل دفنه إلى ما بعد دفنك.
نم مستريحا، فالغاب ما خلا من أسده، والمردة الموارنة صلاب العود، وقناتهم لا تلين، وما أحلى القول في هذا المقام:
لا تزأروا حولها فالله حاميها
ولا تقولوا خراف مات راعيها
وعسى ألا يرضى أي مطران كان أن يصعد إلى السدة على جثة المجمع اللبناني ...
23 / 5 / 1955م
قيامة الميت: «رومية والمجمع اللبناني»
لم أكن أعلم عندما تحدثت عن المعضلة المارونية أن المجمع اللبناني مات وتخت عظامه، ولو عرفت، كنت - على الأقل - قمت بواجب تعزية الطائفة التي أنا منها، وأين أهرب واسمي مارون؟!
أما موتة المجمع اللبناني فحكاية غريبة عجيبة، تدل على ما أعجز عن نعته، وأعيذ المجمع المقدس للكنيسة الشرقية وأمين سر نيافة الكردينال تيسران ألا تكون لهما الجرأة الكافية لإعلان موت مجمعنا اللبناني في حينه.
هذا ميت عزيز على أهله، ولهم الحق في أن يبكوه، والبكاء على رأس الميت حلو - كما يقولون - فكيف أضاعوا هذه الفرصة علينا؟
ليس فقيدنا كبعض المهاجرين الذين يموتون في ديار الغربة، ويكتم موتهم عن ذويهم برهة، إنه أكبر من ذلك، ونحن لا يروعنا الموت بقدر ما يهمنا القيام بالواجب.
مات المجمع اللبناني في العاشر من أيار سنة 1952م، وكتمت وفاته ثلاث سنوات وعشرة أيام، لم تعلن إلا بعد أربع ساعات مرت على وفاة الجبار المتمرد بالحق البطرك أنطون.
أما الدفن فكان في الثامن والعشرين من أيار، حين عين الكرسي الرسولي بطريركا للطائفة المارونية، وهكذا أتبعوا الحبل بالدلو.
أعاضنا الله بطول بقاء الموارنة.
استشهدوا بالمئات وصبغوا أرض لبنان بدمائهم من أجل العقيدة البطرسية. حافظوا على لونهم الجبلي المحلي خمسة عشر قرنا أو أكثر. وها هو ذاك الصباغ الأرجواني ينصل اليوم بجرة قلم؛ لأن المجمع الشرقي في رومية هكذا شاء.
نرجو أن يبلغ مسامع قداسة الحبر الأعظم ما نقول، وأن يترجم له ما نكتب :
ومن أخذ البلاد بغير حرب
يهون عليه تسليم البلاد
فإذا سلم غيرنا من الطوائف بأن يندمج اندماجا كليا بالإكليروس اللاتيني، فنحن يصعب علينا ذلك، أولئك لم يتركوا مثلنا مئات الشهداء في ساحة الدفاع عن إيمان بطرس وكنيسته الرومانية.
فيا أيها الموارنة، امحوا بعد اليوم الكلمة المكتوبة على شعار بطركيتكم، امحوا كلمة: «مجد لبنان أعطي له.» واكتبوا بدلا منها: «خجل لبنان وذوى!» أليس كلتا الآيتين من أشعيا؟
وعلى ذكر شعار الطائفة المارونية: «مجد لبنان أعطي له.» أذكر الآن - وما أكثر ما أذكر! - ما دار بيني وبين البطرك أنطون عندما زرته في مكتبه بالجانح الذي بناه في الديمان من مال أخيه المتبرع.
رأيته قد رسم الشعار البطريركي على الحائط، فقرأت بصوت عال العبارة السريانية المكتوبة فيه: «أيوقورو دلبنان نتياهاب ليه.»
فصاح بي وكأني قد كفرت إذ كسرت حركة وقال: «ناتيهب ليه. مارون، نسيت السرياني؟!»
فقلت له: لا يا سيدنا، أنا فتحت حرفا واحدا، ولكن أخاف أن يكسر ساداتنا الحروف كلها ويصلوا باللاتيني.
فرسم على وجهه إشارة الصليب وقال: «أوف. دائما نكرزة يا مارون! إذا مات البطرك أنطون وانقطع الموارنة يصير ذلك، وما دمنا نقول: لا نرضى فلا يصير شيء.»
فقلت له: من أيام قصاد هندية إلى زمن لوديفيكوس وجيانيني والحركة قائمة قاعدة بيننا وبين رومية، والنهاية متى تكون؟
فأجابني بآية الإنجيل المشهورة: «من يصبر إلى المنتهى يخلص.» ثم استطرد قائلا: الماروني يطيع ولكن بالحق.
وها نحن الآن نعمل بكلمة بطركنا المطوب أنطون عريضة؛ لأن رأس الكنيسة المنظور قد أثبت ببراءة رسولية جديدة حق الموارنة في إدارة شئونهم بقوله:
ولسنا في حاجة، أيها الإخوان الأجلاء، لنؤكد لكم أن ليس في نيتنا أن ندخل - بهذه الطريقة الاستثنائية في تولية الكرسي البطريركي - أي تعديل على حقكم في انتخاب البطريرك، وهو حق أقره الكرسي الرسولي.
ليست هذه البراءة البابوية بضاعة دبلوماسية ليخامرني الشك في بعض عباراتها، وأقول: المجمع اللبناني لا يكرس حق انتخاب البطريرك فقط، بل هناك أشياء كثيرة من الحقوق التي يجب أن يظل البطرك الماروني متمتعا بها كأسلافه العظام. وهذا ما تكله الطائفة إلى عميدها، وهو الأمين الأكبر عليه.
فالبطرك بولس المعوشي حبر أحبه وأقدره؛ لأنه شعبي غير أرستقراطي، وهو الذي تمنيت له البطركية. أعترف بها علنا على مسامع لداتي وأصحابي من الأساقفة.
فلم تك تصلح إلا له
ولم يك يصلح إلا لها
فالرجل عالم فاضل، وأديب كفء؛ لأنه يمثلنا، وإذا شاءت الظروف الاستثنائية وكان بطركا معينا لا منتخبا، فأمامه المجال الواسع ليعيد إلى طائفته حقوقها المنتزعة، إن لم تكن أعادتها كلها البراءة الرسولية الجديدة.
إن هذا الاستعمار لا ينقص من إيمان الموارنة مقدار ذرة، ولكنه يشعرهم بذلة المستعمر «بفتح الميم»، ويحملهم على مخاطبة رومية، وخصوصا نيافة الكردينال تيسران السامي الاحترام، بقول شاعرنا العربي:
إن كان منزلتي في الحب عندكم
ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي
فيا صاحب الغبطة، البطرك بولس المعوشي: ثق أن لا غبطة لكم ولطائفتكم إلا بإعادة الحقوق إلى أصحابها كاملة غير منقوصة.
إن الباب مفتوح أمامك، فقداسته قال منذ ثلاثة أعوام: إنه قد أوقف - لهذه المرة - مراسيم المجمع اللبناني، ثم في البراءة الرسولية التي نحن في صددها. قد قال ما مر ذكره؛ فهلم إذن إلى العمل المثمر.
الطاعة العمياء، أيها السيد المغبوط، تكون في العقائد لا في الحقوق التي أقر لنا بها الأحبار؛ فلا تحملنا على الصراخ مع زكريا: افتح أبوابك يا لبنان فتأكل النار أرزك، ولول يا سرو لأن الأرز قد سقط، ولا مع النبي أرميا: أيتها الساكنة في لبنان، المعششة في الأرز، كم يشفق عليك عند المخاض!
هكذا قال أرميا، فما عساكم تقولون أنتم؟
أما الخوري منصور عواد، المحامي الكنسي، فقد دافع عن طائفته غير مأجور، وإذا لم يربح الدعوى فما خسر الأجر، وكأني بلسان حاله يقول: «حاكمك ربك.» أو قول المتنبي:
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
إن كاهنا له هذه الجرأة والعلم ليستحق الاحترام؛ لقد فقأ الدمل وكفى الناس الانتظار، فلا تطيلوا أمد قصاصه؛ لئلا يقطع رباطه ويلقي نيره، كما قال داود.
إنه لم يكن إلا معبرا عن فكرة الطائفة.
حاشية:
أبت الخوري منصور، تذكر حكاية «بقرة مار إفرام» التي قصصتها علينا مرة، وتشبه به ...
البابا وبطريركية الموارنة الأنطاكية (شتان ما بين التعيينين: مطرانان يرسمان مطرانين - انتخاب بطركين)
بينما أنا في مكتبي بعالية مساء الخميس دخل علي رجل يلهث، ودفع إلي رسالة هذا نص ما يليق نشره منها:
أيها الملحد!
هل صدقت أنك صرت بطريركا، إذا أسميت نفسك بطرك عين كفاع؟
فبأية حق تناقش براءة رسولية كأنك تنتقد أحد الشعراء؟
وهل أنت ماروني حقا حتى تدافع عن حقوق الموارنة؟
ثم من كنت تريد بطريركا، يا أبا محمد، حتى حملت السلم بالعرض؟
أما قرأت أن البابا بناديكتوس الرابع عشر رسم البطرك سمعان؟
لم نرد عليك وقلنا غدا يسكت، لكنك تماديت.
ظننا أنك نسيت مارونيتك حتى سمعنا صوتك.
كثيرون قبلك هاجموا الصخرة البطرسية فتكسرت عليها قرونهم.
وأخيرا لست أسلم عليك؛ لأنك لست من أهل السلام.
الخوري ي. ن.
لعينيك يا هذا، فإذا كنا لم نمحص حياء ومهابة، فها نحن نلقي الشبكة ونضع النقاط على الحروف. لست أخاطبك بيا محترم؛ لأنك غير محترم - على ما يظهر - ولو كنت كاهنا حقا كما وقعت لي؛ لما قلت في ختام رسالتك الظربانية: «لست أسلم عليك.» أما أمرك سيدك أن تسلم على الجميع، وسلامك يرجع إليك إذا ألقيته على من ليس أهل السلام؟
يقطع السم يا خوري ي. ن.
عجيب! كيف يدفع خوري أجرة رسول إلى عالية، فور صدور «الصياد»؛ ليحمله رسالة لا يجرؤ أن يذنبها باسمه الصريح!
لا أعجب أن تكون خوريا وتلميذ «البروباغندا»؛ فكل وجعنا من القويسة، كل مصيبة الموارنة أن كهنتهم لا يتربون في مدارسهم.
وبعد، فماذا تعلمت في رومية؟
طبعا الفلسفة واللاهوت الأدبي والنظري والحق القانوني.
قد تعلمت كل شيء إلا تاريخ طائفتك، وأنك ماروني شرقي.
فيا ضياع الخبز الذي أكلته في المدينة الأزلية. إنه مال وقف طبعا، ومال الوقف لا يمري.
اسمع يا بني، وإن كنت أنت الأب وأنا الابن، بالعرف الماروني، أما قال المثل: «أكبر منك بيوم أخبر منك بسنة؟»
تقول لي: «أما قرأت البراءة؟ فبناديكتوس الرابع عشر رسم البطرك سمعان.» وأقول لك الآن: من قولك «رسم» عرفت أنك خوري وتلميذ رومية!
الأسقف، يا ملفان، لا يرسم مرتين، والبطرك أسقف مرسوم، وما رتبته هذه في السلك الديني إلا وظيفة. راجع براءة بناديكتوس التي كتبها بمناسبة اختياره المطران سمعان عواد.
إن براءتي بناديكتوس وبيوس متشابهتان نصا وموفدا، ولكنهما ما تشابهتا في الأساس، وأي حادث خطير دعا إلى مداخلة بيوس ليبرر به عمله؟
فلو تشابهت الأحداث التي دعت البابا بناديكتوس إلى اختيار المطران سمعان عواد بطريركا لقلنا: إن التاريخ يعيد نفسه، ولكن تعيين البطرك سمعان له مبرر - وهو قانوني - فليس لقداسة البابا بيوس الثاني عشر أن يبرر به موقفه اليوم منا؛ فالبطرك سمعان عواد انتخبه المطارين، فأبى هو قبول انتخابه زهدا وتعففا، فانتخبوا بقرعة ثانية المطران إلياس محاسب الغسطاوي.
وكان المطران طوبيا الخازن وقت الانتخاب غائبا، ولما عاد رفض انتخاب المطران إلياس محاسب ابن مقاطعته، واتفق مع المطران جبرائيل من طائفة السريان، ورسما مطرانين من الرهبان؛ هما: القس عبد الله حبقوق، والقس جرمانوس صقر الحلبي. وهذان المطرانان انتخبا المطران طوبيا الخازن الذي سامهما ليربح بهما الأكثرية.
ولأول مرة في تاريخ الموارنة ينتخب بطركان في آن واحد؛ أعني: إلياس محاسب وطوبيا الخازن، ثم عرض أمر انتخابهما على الكرسي الرسولي، فنظر فيه وألغى الانتخابين، وأقام البابا بناديكتوس الرابع عشر بأمره المطران سمعان عواد بطريركا؛ لأنه انتخب أولا ورفض، ولما أمره البابا أطاع، وطاعة الموارنة مشهورة.
وأرسل بناديكتوس قاصدا رسوليا من قبله هو البادري يعقوب دي لوكا الفرنسيسكاني، المحافظ على جبل صهيون في القدس، ومثله فعل أمس البابا بيوس الثاني عشر، فأرسل سفيره في القدس جريا على خطوات سلفه بناديكتوس.
والبابا بناديكتوس الرابع عشر قال في براءته: «أما في هذه البراءة فقد أوضحنا مصرحا أن انتخابنا هذا البطريرك لم يصدر منا لتبطيل حقوق الأساقفة الموارنة على انتخاب بطاركتهم فيما سيأتي من الأزمنة المستقبلة.»
كما قال في هذه الرسالة الحبرية:
لقد اعتمدنا على اقتفاء آثار سلفائنا في مثل هذا الأمر، فإنهم حددوا أولا أنه لا يتلف حق أحد، ولا يعدمون حق الانتخاب القانوني الحاصلين عليه.
13 تموز 1744م
أما البابا بيوس المالك سعيدا فيقول: «إن حق تولية البطريركية في الحالة الحاضرة نقل استنادا إلى التدبير الاستثنائي بكليته إلى الكرسي الرسولي.»
أما هذا التدبير الاستثنائي فقد أجراه البابا الحالي بكلمة منه لتيسران، وحجته أن كنيستنا «كانت تمتحن بصعوبات خاصة لأسباب متعددة.» ولذلك هدموا بيتها على رأسها وقالوا لها: نامي.
وبناء على ما أقول: إن تدخل قداسته وانتخابه لنا بطركا لا يشبه قط ظروف البطرك سمعان، وإذا قالوا - كما قرأت في صحف شتى: «إن للحبر الأعظم أن يسترد ما وهبه أسلافه.» فأنا أجيب هؤلاء القائلين: «لا تنسوا كلمة: القديم على قدمه، والحق المكتسب لا يؤخذ من صاحبه.» فالبابا بناديكتوس هو الذي أثبت المجمع اللبناني، ثم أمر بأن حقنا لا يؤخذ منا كما تقدم.
وأخيرا، فلنحسبه دينا مر عليه الزمن ومات، فالرسائل المتبادلة تحييه، ثم لا ننس أن البطركية زعامة، وما كان الموارنة إلا قبيلة يربطها برومية الدين، وزعيمها بطريركها. وهذا هو معنى بطريق.
ألا يعني البابا في قوله: «كنيستنا المهددة بالأخطار.» أن بطركنا أنطون لم يتنازل عن حقوقه، وأن المطارنة حزبيون.
ومتى كانوا في حياتهم ودهرهم غير حزبيين؟
ومع ذلك ما خرجوا يوما إلا منتخبين، وإذا شعر وجوه الطائفة أن الخلاف يهدد الانتخاب طوقوهم حيث هم مجتمعون، وأجبروهم على الاتفاق كيلا تلتجئ رومية إلى حقها في التعيين.
كان في إمكان صاحب القداسة أن يدعهم وشأنهم إلى الوقت الذي يحدده المجمع اللبناني، وإذا لم يتفقوا آل الحق إلى قداسته.
كان بإمكان قداسته أن ينتظر مدة اثني عشر يوما تسفر نهايتها إما عن بطرك منتخب، وإما عن بطرك مختار طبقا لنصوص المجمع اللبناني.
وأخيرا نعود إلى بطرك عين كفاع، فبصفتي المزيفة هذه إني أباركك كما بارك البطرك إلياس صحيفة كانت تهاجمه بلا هوادة. مر من أمام مركز إدارتها فرفع يده وبارك، فسأله نائبه البطريركي المرافق له في العربة: من باركت يا سيدنا؟
فأجابه: الجريدة التي مررنا من قدام بابها؛ عملا بقول السيد: باركوا لاعنيكم.
وتقول في رسالتك التي لم تنشر كلها: أليس لقداسة البابا أن يأخذ ما أعطى؟
وأنا أجيبك: لا، للبابا الحق في أن يحط البطرك الماروني عن رتبته، ويعيده أسقفا إذا أذنب، وقد جرى ذلك مرة في تاريخنا، ولكن ليس له أن يحرم الموارنة حق انتخاب رئيسهم، فملكات الجمال تنتخب اليوم ...
أما بطريركنا الجديد فقد أعربت عن رأيي فيه، ولا حاجة إلى التكرار، وليتني أعرفك لأبدي رأيي فيك، لقد تم الآن كل شيء، وما حملت السلم بالعرض إلا لأنوب عن الطائفة الساكتة؛ لئلا يقال غدا: لم يرتفع صوت في لبنان ممن يدعون أنهم أحفاد المردة.
المعضلة المارونية الرومانية: «حديث الرهبانية»
المعضلة المارونية الرومانية يظهر لها كل يوم ذنب جديد، ولعل الفاتيكان - وهو الباب العالي في هذا الزمان - يعمل بمثلنا القائل: «مص القصب عقدة وعقدة.» فما إن فرغ من دفن المجمع اللبناني بواسطة اللجنة الرسولية حتى عاد اليوم إلى الرهبانية - وهي علة علل استقلال الطائفة المارونية - فوضعوا في رجليها القيد. وهذا أقل ما تستحق جزاء عقوقها لأبي الطائفة وحبرها الأعظم.
في 17 / 1 / 1938م كتبت مقالا عنوانه: «هؤلاء رهبانك يا مار مارون»، حين أذاع مراسل البيرق الباريسي نبأ موت المجمع اللبناني؛ دستور الطائفة المارونية.
كان عنوان مقال البيرق: «انتداب فوق انتداب». أما اليوم فقد مضينا من الانتداب إلى الاحتلال فزوال الاستقلال، والعوض بالله.
لم يبق لهذه الملة المناضلة أقل سمة تعرف بها، ولا علامة فارقة في بطاقة هويتها، فقد امحت شرقيتها، وطمست معالم استقلالها.
تبرنط إكليروسها، وستأتي ساعة يلبسون فيها الشورت، ولا يبقى لهم علامة تميزهم غير «سكسوكة». لعلها علامة التذكير التي أشار بها ابن الرومي على البحتري.
إن الأولين من الرهبان
1
الذين اشتروا استقلال طائفتهم بدمائهم قد انقرضوا، وما بقي لنا إلا الذين باعوا تقاليد أمتهم بأكلة عدس ... مع أن الخير فائض، فثلث لبنان إن لم يكن نصفه في أيديهم. أما معرفة أملاك الديورة والأوقاف فلا تغيب على أحد، فمتى رأيت أرضا بورا غير مستعمرة فقل: إنها وقف ...
ليس الذنب ذنب هذا النفر، ولكنه ذنب الطائفة التي تركتهم يرعون ويبطرون، فلو رعوا وسكتوا لقلنا لهم: «كلوا صحتين وعوافي.» ولكنهم أناخوا على أوقافنا باسم عبادة الله وخلاص نفوسهم، ونذر العفة والطاعة والفقر. أما العفة فليس لي ما أقول فيها، أما الفقر فهو أبعد ما يكون عنهم، وكيف يكون فقر والدير الذي يملك الضياع الخصبة التي تسقيها الينابيع الغريزة ليس فيه إلا بضعة رهبان؟
وأما الطاعة فقد برهنوا في كل عصر من عهد لوديفيكوس إلى زمان جيانيني إلى هذا الزمان على أنهم كانوا سوسا ينخر جذع الطائفة المارونية: يكيدون لبطريركهم، ويتآمرون على أحبار الطائفة ورؤسائهم، وقد ظلوا ينخرون خشبة صليب الطائفة حتى سقطت أعمدة البيت عليهم وعلى أعدائهم يا رب.
أجل، لقد وصل الموس إلى لحاهم، فبينما كانوا يمشطونها للانتخاب إذا برومية تقول لهم: «صطوب!» وعلى الباغي تدور الدوائر.
لقد كانوا لرومية مثل «سكيكة» جحا.
قيل: إن جحا باع بيته، ولكنه أبقى له فيه وتدا لم يتنازل عن ملكيته، فكان كل يوم يدخل على المالك الجديد ليعلق في ذلك الوتد إما جرابا، وإما حذاء، وإما حبلا، ورومية أبقى لها المجمع اللبناني حق الإشراف على الرهبانيات كما هو العرف في جميع أقطار المسكونة، فاستعملته كما استعمل جحا وتده، وكان البطاركة ينازعونها في هذا الحق، فلا يتصرفون في عقارهم تصرفا هادئا مستمرا حسب تعبير المكتب العقاري. فمن البطرك مسعد إلى يوحنا الحاج، ومن البطرك الحويك الجسور إلى البطرك عريضة القديس العنيد، وهذه الحرب لم تضع أوزارها، فإذا كان البطريرك صلبا وله من أساقفته أنصار كثر تصرف تصرف المالك لعقاره، وإذا كان أعوانه دروعا لرومية عض على جرحه وصبر.
طلب البابا بيوس العاشر، والذي خلفه من البطرك إلياس الاندغام ، بل الانعدام الطائفي في بحر الكرسي الرسولي، فأجابه بلباقة: دعوا هذه البحيرة وشأنها، فهي صغيرة هادئة تذكركم ببحيرة طبريا ... وهب أني رضيت أنا، فالطائفة - يا صاحب القداسة - قد تشذ، ولا أريد أن أسود تاريخي بهذه الوصمة.
أما ما أصاب هذا البطرك في آخر عهده؛ فهذه النادرة تصور لك واقع أمره:
خرج من الجانح البطريركي، بعد القيلولة، فرأى مطارين الكرسي وكهنته ملتفين حول رجل، فأومأ إلى المطران عقل، ابنه الوفي، متسائلا؛ فأجابه: صائغ بياع صلبان، إذا كان يلزمك شيء.
فارتفع شاربا غبطته وبانت سنه، وقال مشيرا إلى الأساقفة: لا، صلباني «كتار» ...
أما البطرك أنطون فعندما انبرى مناضلا عن هذا الحق، حاولوا في رومية أن يكفروه ويحطوه عن وظيفته البطريركية، ويخلصوا من عناده وإصراره، ولكن نيافة الكردينال تبوني انتصر له، وقال للحبر الأعظم: هذا بطرك قديس، وإذا أصر كرادلة المجمع على إقرار ذلك كان ظلما وعدوانا.
فقال له البابا الحالي القديس: أنت منهم، فعارض ليعود الحكم لي.
وهكذا نجا البطرك أنطون من وصمة الهرطقة، ولكنهم قلموا أظافر الرجل وتركوه يموت على مهل، ويعلن في تلك الوصية إيمانه:
ولدت مارونيا، وعشت مارونيا، وأموت مارونيا، إيمان بطرس إيماني.
قد يقول القارئ البعيد عن هذا الموضوع: ماذا يعنينا من هذه القضية؟
وأنا أجيبه: الأخ ملزوم بأخيه، وهذا عدوان على كاثوليك الشرق.
وقد يقول أيضا: قد كتبت أكثر من مرة في هذه القضية، والآن ماذا جد؟
قلت: طابخ السم آكله، فبعد أن أعطى الكرسي الرسولي الرهبان الموارنة حق انتخاب رئيسهم العام ومدبرهم، وبينا كانوا يمشطون لحاهم للرئاسة؛ أخذ الكرسي الرسولي هذا الحق بدون سابق علم أو إنذار.
قال لهم القاصد: انتخبوا وهاتوا الأوراق مختومة لنرسلها إلى رومية حيث تفرز وتأتيكم النتيجة ...
تماما كما فعلوا في انتخاب المطارنة؛ انتخبوا أربعة فعادوا ثلاثة، منهم واحد رفض، واثنان لم ينتخبا، بل عينتهما رومية كما عينت البطريرك من قبل، وواحد فقط من الذين اختارهم المجمع.
ورب معترض قال: إذا فرزت الأوراق في رومية، ألا يكون هذا انتخابا؟
قلت: بلى، ولكن هذا امتهان لكرامتنا الشرقية، فإما أن هؤلاء رهبان صالحون كما يفترض في الراهب أن يكون، وإما أنهم لا يؤتمنون فيجب أن ينصرفوا إلى بيوتهم.
هذا أولا، أما ثانيا فالملدوغ يخاف من جرة الحبل؛ ففي سنة 1875م جمعوا الرهبان للانتخاب، وكان المجمع في حريصا - مركز القصادة صيفا - ولما أصابت القرعة الأب نعمة الله القدوم المعروف بالكفري، وقف القاصد لوديفيكوس وقال: الأب مرتينوس الغطساوي رئيسكم، وإننا نسأل الله ألا تتكرر المأساة في المدينة الأزلية.
وإن جرؤ كاهن أو مطران أو بطرك على دحض، أثبت له ذلك بالوثائق الزجلية التاريخية التي قالها الخوري يواكيم القدوم مفصلا فيها الوقائع التاريخية، وسوف تقرأ النصوص كاملة في كتابنا: «الاحتلال الروماني».
قد يقول بعضهم: تريد رومية أن تكون الرعية كلها لراع واحد.
وأنا أقول لهذا البعض: ليست هذه روح الآية، فلكل قطيع لون، كما أن الرعاة يكونون متفقين إيمانا، مختلفين وجوها.
عجيب! أيسلب استقلالنا في زمن تزعجني فيه الطائرات الصارخة فوق بيتي كل صباح، ونكون أحرارا يوم كان يأتينا صاحب الغبطة على بغلة طورا تتعس،
2
وحينا تشب وتارة تشرئب؟
أيكون للماروني في ذلك الزمان حق انتخاب خوري ضيعته، ويكون للأبرشية حق انتخاب مطرانها، ويكون للمطارين حق انتخاب بطركهم، ويكون للرهبانية حق انتخاب رؤسائها، واليوم ينتزع منا هذا الحق من يمثلون الذي قال لتلاميذه: تعرفون الحق والحق يحرركم؟
كان للموارنة القدامى حق «الفيتو» في انتخاب الكاهن يوم كان الدستور الماروني مرعيا. أما اليوم فتصبغ الكهنة الموارنة صبغا في مصبغة فرنجية، وما من يسأل عن سيرتهم في مساقط رءوسهم ... وكذلك الأساقفة، فقد ألحقوا ببطريركهم، وصاروا «شغل البلاد»،
3
كما قال لي أحد فلاحي الضيعة.
ما أصدق المثل الذي ضربه الإمام علي! وما أطبقه على هذه الحالة! كان ثوران أبيض وأسود يرعيان في حمى أسد، فجاع الغضنفر وشاور سرا الثور الأسود في أكل الثور الأبيض؛ لأن لونه فضاح، فوافق الثور الأسود على ذلك، وذهب الثور الأبيض إلى ملاقاة ربه، وبعد حين جاع الأسد وهم بالثور الأسود، فقال هذا للأسد: اسمح لي أن أرسل كلمتين من على هذه الرابية وكلني بعد ذلك، فرضي الأسد بذلك، وصاح الثور الأسود: يا سامعين الصوت، إني أكلت يوم أكل الثور الأبيض.
وهذا ما صح اليوم بالرؤساء الموارنة الذين تآمروا على استقلال صانه أربعة وستون بطركا من يوحنا مارون إلى أنطون.
كنا نطالب رؤساءنا بما تغاضوا عن تنفيذه من بنود المجمع اللبناني، مثل المجلس الطائفي ومجمع الأبرشية، وكانوا يعللوننا بالآمال محتجين بأن هذا المجلس قد يسبب تفككا في الطائفة، كما قال لي البطرك إلياس، وكنا عزمنا على طبع المجمع التريدنيتي في جبيل، فاستدعاني البطرك ليلا حين قرأ الإعلان في جريدة «الحكمة»، وقال لي: «قل لصاحبك سليم وهبة إنني أحرم المجمع التريدنيتي وإن أقرته الكنيسة؛ فنحن لنا مجمع هو دستورنا، ولا نتعرف على غير المجمع اللبناني.»
هاتيك أيام وهذي قبالها. كان الله في عون الموارنة.
وبعد، فليس في يد أحد - لا بطرك ولا مطران - أن يتنازل عن حقوقنا المسجلة والمعمول بها عرفا منذ أربعة عشر قرنا، فالشرع يقول: المعروف عرفا كالمشروع شرعا.
ليس لأحد أن يقول للموارنة: قد تنازلت عن هذا الحق فاخضعوا؛ لأننا لا نتنازل ولا نخضع، هب أن جميع الموارنة رضوا بالأمر، فأنا لا أرضى، والحق عادة لا يكون نصيره أولا إلا واحد.
فإذا كان هؤلاء الرؤساء الذين تختارهم رومية أرادوا أن يخرجوا من حظيرة تقاليد الطائفة؛ فلهم ذلك. أما الأوقاف فهي مارونية لبنانية، لا إيطالية رومانية.
إن جدودنا لم يقفوها لتكون سلاحا في أيدي هؤلاء ليقتلوا بها طائفتهم وكرامتها.
عندما شاخ البطرك - مع أنه ظل أصلب عودا من الشباب، وأوفر عقلا من الكهول - شاع أنه لا يقطع خيط قطن بدون استشارة جيانيني، والحقيقة غير ذلك؛ لأن القاصد بلغ مرة المطران يوحنا مراد أمرا رسوليا، فركض ذلك المطران إلى بكركي يخبر البطرك إلياس، فانتفض وقال لمطرانه: في رجعتك إلى كرسيك في عرامون دربك على حريصا، فحول وقل لجيانيني: ليس من حقك أن توجه إلي أمرا؛ فهذا يعني بطركي، فخاطبني بواسطته.
ومع ذلك، فكل هذه الجرأة لم تكن ترضينا حتى روينا عن الشيخ خليل الخازن، ميرالاي الجند اللبناني في زمن الانتداب، أنه كان جالسا في مقهى أبي عفيف، وكرجت من أمامه سيارة القاصد جيانيني، فسأله أحدهم: «منو» هذا المطران؟
فأجاب الشيخ وهو يشير إلى المستشار الفرنسي «بوافان» الذي كان يقضي ويمضي عن الشيخ خليل: هذا يا عمي «بوافان» البطرك.
إذا دلت هذه النكتة الخازنية على شيء، فهي تدل على أن زعماء الموارنة يرفضون حتى الاستشارة، ولكن أين الزعماء اليوم؟
وإني لأعجب كيف أذعنوا واستكانوا حتى لم نسمع صوت أحد، فمنذ قرون هذا الصراع قائم على قدم وساق، وما الذي حدث من تدخل إلا غيمة عابرة.
أما الآن، فليعلم أبناء مارون أن دود الجبن منه وفيه. فلتنصب الطائفة المصالي للجرذان التي ترقص في أقبيتها، فتتقاتل الفيران على كشك الجيران كما يقول المثل.
لقد حان، بل حق لنا أن نشارك هؤلاء الرؤساء في كل شيء، ونشرف على ما يعملون، ونحاسبهم على إسرافهم وبطرهم حسابا عسيرا.
ولنقل كلمة أصرح، فهذا وقتها: فلنضع أيدينا على أوقافنا؛ لنسيرها إلى غاياتها.
وأخيرا فلي كلمة أوجهها إلى صديقي وأخي سعيد
4
فريحة - المسالم في هذا الموضوع، المهاجم في غيره: هذي قضية لبنانية عربية شرقية، وقد قلنا أكثر من هذا منذ عشرين عاما، ونشر هنا وتناقلته صحف المهجر مؤيدة.
وبعد، فمن الخير للحقيقة وللقارئ ألا يظل فم مارون عبود مكموما.
أما الرهبان، فأسألهم أن يعتبروا بالمثل اللبناني الذي صح فيهم: مثلما تعمل العنزة بالعفصة، العفصة تعمل في جلدها.
ذكريات جميزية كوبليانية
أخي الأستاذ فريحة.
أتذكر ليلتنا في حلب؟ ففي تلك السهرة الطويلة العمر فهمت معنى قولنا: «عشرة حلبية.»
كنت وحدي ضيفك. أما شلتنا - وكانت مؤلفة من عشرين خرزة عين - فكل واحد منها كان ضيف كيسه ...
في تلك الليلة كنت تتمايل في برد الشباب غصن بان، وكنت أنا جميزة - حسب تعبيركم الجديد.
جميزة كتلك التي صعد عليها زكا، رئيس العشارين؛ لأنه اشتهى أن يرى يسوع.
كان زكا قصير القامة، كما عبر لوقا في إنجيله، وكان يمشي مع الأرض، كما أعبر أنا، فما وقعت عينه على يسوع لو لم يلتجئ إلى تلك الجميزة؛ لأن الجماهير حالت دون ذلك.
فأنا في ذلك الزمان كنت أصلح رئيسا بالتزكية لحزب الجميز، وقد أعود جميزة إذا شئت، ولكن ريجيم الدكتور حتى الصارم قد أذاب الشحم، وأخشى أن يقرض اللحم.
وفي رجعتي من حلب، طلبت في جبيل فرسا، فقدموا لي بغلا؛ لأنه أثبت من الخيل ظهرا، وكانت المساومة على الأجرة؛ فاشتط المكاري فيها فقلت له: لا تظلمني يا إسماعيل، السعر معروف.
فتضاحك إسماعيل ورسم دائرة واسعة بذراعيه، وقال: يا بارك الله! ادفع يا سيدي على الأقة، وهذا القبان حاضر.
فقلت له: نشكر الله على أنك جعلتني من مال القبان، لا من مال الغراز والكيس ...
وأخيرا اتفقنا ووصلنا إلى عين كفاع المحروسة.
وعادت بي الذكرى إلى حلب، فكرت بذاك الشاب اللبناني المتحفز للوثوب، وأيقنت أن ساحة جريدة «التقدم» لا تسع هذا المصارعجي الذي عنده لكل ساقطة لاقطة، ثم صرت أقرأ له في الصحف اللبنانية ما يبشر بأن يكون من عمالقة الصحافة؛ لأنه لهذا خلق.
ثم كانت «الصياد»، وأخيرا كتاب «الجعبة» الذي استقبلته بترحاب يستحقه أسلوبه الحي الجذاب، وذكرني حومانه حول المرأة وأسلوبه الشخصي الظريف بأحمد فارس الشدياق، وقد قلت في ذلك يوم كان «الصياد» في بناية العسيلي: «وقد أعجبتني جدا غمزاته ولمزاته في سياحة إنكلترا، وذكرني بكشف المخبأ للشدياق، فأخونا سعيد وشيخنا الشدياق تشغل رأسهما المرأة دائما.»
وأخيرا شاء «الموجه الأعظم» أن يتجاورا، فقامت «دار الصياد» في الحازمية تطل على قبر الشدياق، وصح قول الشاعر:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
فمن شاب هاجر إلى حلب الشهباء، فحلب أشطر الدهر بجهاده وطموحه وإيمانه برسالته إلى رجل مجاهد أمسى صاحب دار تنطح السماء بقرنها؛ فلا عجب إذن إن رأيناه ينتصر لجاره، ويأبى أن يمتهن قبره بمجاورته لواصا باشا، وابنة كوبليان أفندي، التي صح فيها قول النبي داود: «الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون!»
ذكرني ما جاء في مقال الأستاذ سعيد عن كوبليان:
أن الباشا واصا لم يكن من أهل اليسر، وكان مرتبه المورد الوحيد له.
فقلت: وهل كانوا يرسلون إلينا متصرفا من أصحاب الملايين؟ فأكثرهم كانوا كما قال الشيخ يوسف الخازن لبني عمه في مرسيليا - هذا غير الشيخ يوسف الخازن الكاتب والنائب - وخلاصة قصته أنه دخل دكان لحام في مرسيليا، وأطال القعود عنده يتحدث إليه ويتودد له، ونسي أن رفاقه ينتظرون في الشارع؛ «فندهوه» وقال له واحد منهم: الوقفة في أسواق مرسيليا غير الوقفة في ساحة جونية يا شيخ يوسف.
فهرول نحوهم والضحكة ملء فمه وقال: الحق علي، أنا تأخرت عنده من أجلك. أنت طالب وظيفة، ومن يدرينا أن هذا اللحام لا يصير عندنا قنصلا، فأغنيكم عن وساطة هذا وهذاك من رجال الدنيا والدين؟ ••• «وفي الماضي لمن بقي اعتبار.» هكذا قال المتنبي؛ ولهذا أراني عندما ألقي نظرة على المسافات التي قطعتها من صحراء الأزل، أرى الماضين يمرون أمامي كقافلة يتبع بعضها بعضا، وأشخاصها تكاد تكون مصبوبة في قالب واحد.
كانوا في لبنان، وخصوصا أبناء البيوت العتيقة الذين ذاقوا حلاوة الحكم، لا يتصارعون ولا يتنازعون إلا حول الوظيفة، تتحول إليها أبصارهم كيفما دارت، كما تتحول إبرة الحك نحو نجمة القطب، فلا عواصف ولا زوابع ولا تلبد الغيوم يضللها ...
وما زلنا حتى اليوم كما كنا سابقا، تقف سكة الدولة عندما تصل إلى توزيع الوظائف، كل يريد تعديل الملاكات على هواه، فكل موظف كبير يريد أن يدخل محاسبيه في ملكوت الوظيفة.
فإذا عدنا إلى الوراء، أخبرنا الثقات من جدودنا أن أنصار المير يوسف تنادوا مرة، وفتحوا صناديقهم وتضامنوا؛ ليشتروا الخلعة لأميرهم من الجزار ... وكذلك كان يفعل «المناصب» أعوان المير بشير، حتى إذا قام قاموا هم معه، وتحكموا في رقاب الشعب، واستحالوا دودا علقا يمتص دمه ميكروب قديم متأصل.
كانت تقطع سرة الإقطاعي على نية الحكم، ولو على ضيعة، كما اشتهى المتنبي أخيرا ... فلا يكاد يخرج ابن البيت من ذاك الوكر حتى تراود أمه الأحلام الوظيفية التي تتمناها له؛ لكي «يتمقطع» بالشعب. وهذا الفعل «تمقطع » اشتقه اللبناني من كلمة «الإقطاعي»، الذي لم يكن يهمه إلا اقتطاع ما يستطيع من أرزاق الشعب.
وزال الحكم الإقطاعي من لبنان ولم يزل معه الصراع حول الوظائف، وجاء المتصرفون الثمانية، ولم يرض عنهم إلا نفر قليل؛ لأن الوظائف محدودة، وميزانية جبل لبنان مثل بركة اليمونة، لا تزيد ولا تنقص ... وكم من متصرف تألبوا عليه؛ لأنه فكر بزيادة ربع أو نصف قرش على مال الأعناق، أو مال الأرزاق، أو إحداث طابع بريد بقرش.
وهكذا ظل اللبنانيون فريقين: فريقا مع المتصرف، وهم الموظفون ومن يجيء على صوتهم، وفريقا - وهو الأكثرية - يتألف من الطامحين إلى الوظيفة والمحرومين.
وكان لا ينتهي صراع حتى يبدأ صراع جديد عند تسمية كل متصرف؛ فتتجاوز الوسائط تخوم لبنان، وتحوم الطيور على أبواب القنصليات والمراجع الدينية، فتطير التوصيات إلى السفارات وفي إسطمبول؛ فيزود السفراء المتصرف الجديد بأسماء أعيان الطوائف التي تؤيد نفوذ دولتهم، وتمكن لها في أرض لبنان، ويدرك المتصرف أن لبنان مرعى يدر عليه اللبن فيتهيأ للتعبئة والضب ...
يجيئنا كعصفور العابور ضعيفا هزيلا، ويغادرنا كعصفور التين ...
علمه الاختبار أن اللبنانيين لا يرضيهم أحد، فلماذا لا يرضي هو عبه؟
الخمس السنوات مضمونة، فإذا أرضى الدولة والدول السبع الضامنة بروتوكول لبنان، يعطى خمس سنوات أخر، وهناك الرزق الحلال الزلال ...
الصراع دائم بين أعيان لبنان ووجوهه، وما عليه هو إذا استفاد من هذا البلد، الذي يعبد أهله الوظيفة، ويقدمون القرابين لمن يمكنهم منها؟ ... على هذه النية كان يأتي المتصرف لبنان، بلد التوصية والواسطة؛ ولذلك جاء في كلامنا المأثور: «الدنيا واسطة، والدعوى على قد الواسطة.»
إنهم لا يسألون عن نزاهة الحاكم وعدله، بل يسألون: «منو» مفتاحه؟ وعلى يد من ينام؟ ...
وهكذا فسد المتصرفون الأخيرون؛ فبلعوا الجمل وحمله ... وطغت الرشوة حتى صار لكل دعوى سعر، ولكل وظيفة ثمن، يوظفون اليوم ويعزلون غدا.
ويذكرون عن متصرف مظفر باشا، أن حرمه النظيفة الشريفة أقفلت عليه باب الحمام وما فتحته له حتى وقع «البيلوردي» وختمها، وهكذا عينت الزائد الأخير قائم مقام على جزين.
وروي أنه كان لأحد الكهنة دعوى في أيام واصا باشا، وخاف هذا الخوري أن يقف دولاب دعواه، أو يدور بالمقلوب إذا لم يزيت البراغي، فسأل كالعادة عن «المفتاح»، فقالوا له: كوبليان صهر الباشا، فسار إليه وفي جيبه أصبع من الذهبات الرنانة .
وكانت المقابلة، فتمسكن الخوري حين عرض ظلامته على كوبليان أفندي، ولما استأنس الخوري التمس انشراح الخاطر العاطر، فأجابه كوبليان: قضيتك تعني القاضي فلانا؟
فأجابه الخوري: الكل «بصاية» أفندينا، نرجو نظرك.
فهمهم كوبليان وهز رأسه، ثم أطرق كالأفعوان حين أدخل الخوري يده في جيبه.
وقام الخوري مودعا واضعا الأصبع الذهبي في يد كوبليان أفندي؛ فانتقض هذا وقال له بنزق: باباز أفندي - الخوري في التركية - ما كنت أنتظر هذا من كاهن مثلك.
فتزعزعت آساس الخوري، ثم اعتذر وخرج يطري نزاهة كوبليان، ويتغضب على الذين يتهمونه بالرشوة، فقال له أحدهم: كم أعطيته؟
فقال: خمسين عسملية.
فقهقه ذلك الرجل وقال له: خذ له مائة، حسبت أنك تقدم له حسنة قداس؟ خذ مائة تر ما يكون.
واستعد الخوري للمعركة الفاصلة وذهب.
ولما رأى كوبليان أن ذلك الأصبع محترم يملأ العين واليد أخذه وقال للأب الجليل: حتى لا يزعل باباز أفندي نقبل الهدية.
وخرج الباباز وغرضه مقضي.
وكانت لتاجر غنم حموي دعوى مالية ذات قيمة طال عليها الأمد؛ فقلق الرجل وخاف أن يخسرها، فالتجأ إلى تاجر من عملائه يسأله حلا لقضيته؛ فهداه إلى فلان النافذ عند واصا باشا وصهره كوبليان، فقصده التاجر وعرض عليه مشكلته، فقال الموظف للتاجر: لماذا أنت قلق مهموم؟ ماذا يهمك لو أهديت إلى كوبليان أفندي خمسين رأس غنم مثلا؟ أنت ميسور، ألا تشتري راحة بالك بمثل هذه القيمة؟
فقال التاجر: القصة بسيطة إذن، غدا إن شاء الله.
وفي الغد كان راع يسوق قطيعا من الغنم بين دير القمر وبتدين يسأل في طريقه عن بيت فلان ... وظل كذلك حتى بلغ المقر، وأطل عليه الوسيط ابن الحلال فقال الراعي: هذه الأغنام هدية إلى كوبليان أفندي من معلمي ... فانفجر السمسار كقنبلة وقعت على صخر، ولم يترك كلمة من قاموس السباب والشتائم حتى رمى بها ذاك الغنام المسكين، وأخيرا صرخ في وجهه: دينك على دين معلمك، من قال إن كوبليان أفندي يقبل هدية؟
ووقف الراعي متحيرا، وأقفل الباب، فرجع من حيث أتى، وأخبر التاجر بما وقع .
وأخيرا أشار عليه «الخبراء الفنيون» أن يبيع الغنم ويقدم ثمنها في خلوة لسمسار كوبليان، فهش له وبش وقال وهو يعد الليرات الذهبية: «هذي أغنام لا تمعق.»
إن قصص كوبليان أطول من قصص الحيات، وكلها من الطراز العالي ... وقد شاع مثل هذا الابتزاز بين كل الموظفين، فلم يكن يقضى أمر إلا بالفلوس، فللمختارية سعر، ولمشيخة الصلح سعر، ولعصا النطارة ثمن.
ذاب نفوذ المراجع الدينية عندما اتقدت نار الرشوة في الجبل، ومن هنا كان يهب الخصام بين الإكليروس وأكثر المتصرفين؛ أولئك يريدون أن يشغل أبناؤهم الروحيون مناصب المتصرفية، والمتصرفون يهمهم قبض أكبر مبلغ ممكن من المال للجخ ودعم المركز، فالمعتمدون على النفوذ لا يدفعون، ومن لا يدفع لا يصل ...
عفوا نسينا النعوة، فأنا عرفت مدير ناحية كان يقبض هو وضابطيته إذا حضر دفن وجيه، وكان يتفق مع الناعين على المبلغ قبل أن تتحرك ركابه.
واقتطعوا مرة شيئا من المبلغ المتفق عليه، فصار الدفع سلفا.
قد يقال: أي فائدة كانت لأولئك الناس حتى يدفعوا ثمنا موجعا لموظف يؤاسيهم ويعزيهم في فقيد؟ وأي شأن للمختار حتى يشتري مركزه هذا وذاك؟
قلنا: ثابت في علم النفس أن الإنسان - مهما كان شأنه - يريد أن يكون شيئا مذكورا، ومن هنا كان تهافت اللبنانيين على مثل هذه الشئون التافهة.
إن جشع كوبليان لا يدانيه إلا جشع كوبليان. كان إذا عدم الرزق لامتلاء المراكز - وقد كانت محدودة لا يستطاع خلقها مثل هذه الأيام - لجأ إلى خلق دعاوى خطيرة؛ مثل سب دين السلطان وغيرها؛ فيتدفق عليه المال من الأغنياء البسطاء الذين يخوفهم بهذه التهم.
الخلاصة: كان ذلك الرجل نباش ينابيع، فتنبثق من تحت يده فوارة غزيرة.
حلق للبلاد «على الناشف ونظف»، فنبتت اللحى قليلا في عهد نعوم باشا، فخلفه مظفر ونتفها نتفا .
إن لابتزاز المال طرقا جهنمية، كان يجيدها الموظفون الذين عملوا «الستاج» في العاصمة الشاهانية.
ولذلك قال إبراهيم اليازجي في قصيدته التي مطلعها «دع مجلس الغيد الأوانس»:
وعلى الرشى والزور قد
شادوا المحاكم والمجالس
ولكي تسير الرشوة في الطريق الأمين فلا سائل ولا مسئول، ولا جمل ولا جمال؛ وضعوا المادة الشرعية القائلة: الراشي والمرتشي، والرائش بينهما، عقابهم واحد، وهكذا كمموا الأفواه، فصالت الرشوة وجالت في طول البلاد وعرضها.
إن ما نراه اليوم من الاختلاسات الضخمة لهو بقية جذور متأصلة من أبعد العهود، ورءوسها تطل علينا كلما فاحت ريحة المنافع، فكأنها البزاق الذي لا يلوح بقرونه إلا عندما تروى الأرض، فكم عندنا من كوبليان ولكن من أسلوب آخر ...!
أظن أن مثل الزبيبة والعود يصور حالنا أصدق تصوير، وقل من لا يعرفه ...
سؤال وجواب (1)
كتب الأستاذ رياض حنين يسأل: أترى أن التيار الشعري الذي أطلقه أديب مظهر قد أدرك غايته؟ أم أنه مني بالاجترار؟ •
التقليد آفتنا، والمقلد دائما مقصر عن المقلد، ثم أنا ما قرأت لأديب مظهر غير قصيدة أذكر أنها نونية، وهي لا تستحق أن تسمى تيارا.
هل صحيح أن الأديب عندنا يكاد يكون اسما ضخما لغير مسمى، أم نحن على عتبة نهضة أدبية شاملة؟ •
ما شعرت أن هنالك اسما ضخما لأقايسه على مسماه، أما النهضة الأدبية الشاملة التي تسأل هل نحن على عتبتها، فموقوفة على ما يخلقه الجيل الطالع، وعلى ما ينفقه من طاقة.
أنت ناقد، فهل ترى أن ليس في أدبنا الحديث مادة كافية للنقد؟ أفنحن فعلا بحاجة إلى نقاد؟ •
مادة النقد موجودة ووافرة، ولكنها تتطلب قارئا يخلق مما يقرأ المادة اللازمة لعمله.
ما هي الأسس التي تعتمدها في نقد الشعر وفي نقد القصة؟ •
لا أسس راسخة عندي لنقد القصة ولا لنقد الشعر، فلكل قطعة أو كتاب مقياس على قده.
أين تلقيت دروسك؟ ومن تخص بالذكر من أساتذة ورفقاء؟ •
قضيت أربع سنوات كل سنة في مدرسة، ورأيت وجوها كثيرة من المعلمين، أذكر منها ابن عمتي الخوري يوسف الحداد في مدرسة مار يوحنا مارون، والشيخ سعيد الشرتوني، وشلبي الملاط، والخوري باخوس الفغالي - المطران بطرس - والخوري يوسف بو صعب، والمير يوسف شهاب في مدرسة الحكمة. أما رفاقي فيها فأتذكر منهم: الدكتوران حبيب إسطفان ومرشد خاطر، وأمين بو رزق، ومراد بو نادر، وأمين عباس الحلو، ونسيب البستاني ابن أخت سليمان، والدكتور سلامة، وجورج عاصي.
من الذي أثر فيك أكثر من سواه من أدباء العرب والفرنجة؟ •
الجاحظ، والشدياق، ودودية، وسرفنتس، وغوغول، وتورغنيف، وفولتير، وأناتول فرانس، وسنت بيف، وبرونتيير.
إلى أية مدرسة شعرية وقصصية تميل؟ •
لم يكن في زماننا هذا الذي تسمونه «مدارس شعرية»، كنا نعرف شعراء نحاول أن نقول الشعر على طريقتهم. أما المدرسة القصصية التي أميل إليها؛ فلك أنت أن تعرفها.
قيل: إن بعض أقاصيصك قد ترجمت إلى الروسية، فهل هذا صحيح؟ وكيف كان وقعها هناك؟ •
أعرف أن أقاصيصي قد ترجمت، أما وقعها فعلمه عند غيري ممن زاروا روسيا.
هل تطلع على ترجمات هذه الأيام؟ وما هو رأيك فيها؟ •
الترجمة عندنا تسير سيرا حثيثا، والحميد فيها هذه الأمانة التي تدنيها من الأصل.
ما هي قراءاتك في الوقت الحاضر؟ •
أقرأ في هذه الأيام كما قرأت في غيرها كل ما يقع في يدي من جيد ورديء، ومن كليهما أخرج ومعي شيء أقوله للناس، أما كتابا المخدة فهما الكتاب المقدس والقرآن الشريف.
ما هو اللون الذي يغلب في مكتبتك؟ •
مكتبتي جامعة، ولا أدري أي لون تقصد حتى أجيبك بالضبط، عندي كتب شعرية، أدبية، تاريخية قصصية، لاهوتية، فلسفية، جدلية، وعندي كتب دينية وكتب أساطير. أما اللغات فمنها: السريانية والعربية والفرنسية والإنكليزية والطليانية والفارسية والتركية والعبرية ...
ومنها كتب عربية وسريانية مطبوعة في رومية وقزحيا بالحرف الكرشوني والحرف العربي، منها ما بلغ من العمر عتيا 400 سنة وأكثر، وعندي مخطوطات مختلفة المواضيع واللغات.
ما هي الجرائد التي أصدرت أو أشرفت على إصدارها؟ ومتى كان ذلك؟ •
أصدرت جريدة خطية عندما كنت تلميذا وسميتها «الصاعقة»، ثم أصدرتها مطبوعة على الجلاتين، فما أبصرت النور حتى «فطسها» رئيسي المونسنيور بطرس أرسانيوس، الذي أحببته جدا ، وحجته أنني انتقدت انتقادا جارحا، ولما خرجت من مدرسة الحكمة عام 1906م توليت رئاسة تحرير جريدة «الروضة»، ثم جريدة «النصير»، ثم جريدة «الحكمة» في جبيل.
ما هو في نظرك أهم مقال سياسي كتبت؟ •
مقال: «ما بين حانا ومانا ضاعت لحانا»؛ فقد أزعجت لبنان القديم، وحاولوا اغتيالي، ولكن عمري طويل، طبعا ليس كما قال الشاعر.
ما هو أحب مؤلفاتك إليك؟ •
أحبها كلها؛ لأن في كل واحد منها شيئا مني.
أصدرت منذ سنين ديوان شعر، فإلي أية مدرسة ينتسب شعرك؟ •
نعم، أصدرت ديوانا، وقد وعدت مارون عبود ذاك أن أنتقده، إلا أني حتى الآن لم أفعل. سأفعل إن شاء الله. أما إلى أية مدرسة ينتسب شعري، فشعري ينتسب إلى مارون عبود العتيق، فأنا لا أقلد أحدا، والغريب أن بعض هذا الشعر قد استحق أن يترجم.
متى تصدر روايتك «فارس آغا»؟ •
سأنجز «فارس آغا» في هذا الصيف إذا لم أصيف في المستشفى كالعام الماضي، ومن «فارس آغا» سأنتقل إلى رواية أخرى «العجول المسمنة» أو «يا رب يا رب».
ماذا تكتب هذه الأيام؟ •
الذي تقرأ؛ فليس لدي وقت أحك فيه رأسي.
هل أصبح الأديب - الخليق بهذا الاسم طبعا - يستطيع أن يعيش من نتاجه القلمي في لبنان؟ •
لا أحتاج إلى الكسوة والرغيف بفضل التعليم والتأليف، أعطنا خبزنا كفاف يومنا. هكذا علمنا يسوع، ولكنه قال أيضا: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
قل لنا وجهة نظرك في خلافات «أهل القلم»؟ •
اعفني من الجواب يا رياض.
متى تكتب؟ وهل لك ساعات خاصة؟ •
أرأيت الدجاجة البياضة كيف تحوم طويلا على باب القن ولا تدخل؟ هكذا أظل أفعل حتى أرى نفسي ربخت على الطاولة وكتبت. إني أقاسي تعبا كثيرا قبل البدء بالكتابة، ومتى بدأت مضيت إلى النهاية.
هل تدخن وتشرب القهوة وأنت تكتب؟ •
دخنت الأركيلة والسيكارة والغليون والسيكار، ومنذ سنين أمسيت أتنشق العطوس وأشرب القهوة المرة بلا انقطاع.
ما هو طعامك الأطيب؟ •
الغمة (الله لا يغمك) والكبة النية، والكبة الأرنبية. ما على ضرسي مر، ولكن الدكتور حتي قاس علي في «الراجيم». وعلى كل «فالراجيم» أحلى من الموت.
بعد العمليات التي أجريت لك، أعطنا رأيك في الطب الحديث؟ •
أنا لم أجرب إلا المستشفى الألماني، وإذا كانت جميع المستشفيات مثله، فالطب الحديث لا يعصى عليه مرض، وهاك ما حدث في أثناء وجودي فيه: ما قولتك في مريضين وقف قلبهما أثناء العملية، فمسدهما الجراح الدكتور حسيب بولس بطريقته العلمية، حتى إذا ما تابع القلب سيره أغلق عليه الباب وأرجأ العملية إلى موعد آخر؟
هل تنظر نظرة تفاؤل إلى فتيان هذا الجيل وفتياته؟ •
أنا متفائل جدا بفتيان هذا الجيل وفتياته، وأرجو للأدب خيرا على أيديهم؛ شرط أن يثابروا على العمل ولا يطلبوا الشهرة على حساب غيرهم ...
هل تحب الطرب؟ ومن هو أحب مطرب إليك؟ •
أنا كالخليفة المنصور أحب الغناء القديم، وأكره المغني الذي يتشبث بكلمة ويروح يرددها ويعلكها حتى يقتل الناس.
سم لنا هواياتك المفضلة؟ •
أن أبني كل عام شيئا جديدا، وأن أدخل البيت صورة زيتية وكتابا له قيمة.
كيف حال بطريركيتك في عين كفاع؟ وهل وصلوها بلبنان؟ أم أنها على شهرتها ما تزال في «لا أدري أين» كماضي حال رشميا؟ •
لا تسلني عن حال بطركيتي في عين كفاع. أنا خائف وقلبي يدق، خائف أن «يعين» بطرك غيري، وهناك المصيبة. أما اتصالها بلبنان فسيأتي دورها بعد أن يتصل لبنان بالإسكيمو. أما إذا بقي عاصمة أوروبية أو أمريكية أو قطب جنوبي وشمالي لم نتصل بها، فلا أمل لنا ولا رجاء ... في أيام عزنا ما غنينا يا ليل ... فلولا همة الشباب الذين يسبقون الطير لما أدركني الطبيب في الصيف الفائت، وأفلت من يد عزرائيل.
23 / 3 / 1956م
إلى الأستاذ قلعجي مع تحياتي الحارة
ما هي النصيحة التي تقدمونها إلى أديب ناشئ؟ •
هي أن ينشئ أولا ويقرأ كثيرا. والمضحك المبكي اليوم هو أنه لا يشب طالب عن الطوق؛ أي يحمل شهادة عالية، دكتوراه في الآداب مثلا، حتى يتطاول إلى نقد المتنبي والجاحظ، فيخربش ما استطاع. إنه في حاجة إلى الإنشاء الرفيع أولا، ثم فليتوجه بالسلامة إلى أي إقليم شاء من أقاليم الأدب؛ كالقصة وغيرها. أما رأس المال ففي المطالعة.
ما هو الكتاب الخاص الذي كان له أثر خاص في اتجاهكم الأدبي؟ •
لطبيعتي أولا، ولمطالعاتي ثانيا، وبعد مكتبتي الخاصة التي فيها 6000 مجلد، فأنا مديون لكل من كتب حرفا، كما أنني غير مديون لأحد، وذلك عائد إلى جهلي ذلك، أنا لا أعف عن شيء مما تأكله الأوادم، فهل لي أن أعترف بفضل التغذية لأكل دون غيره؟ وكما نحب ألوانا من الطعام ونؤثرها؛ كذلك نؤثر مطالعة أدباء وشعراء بعينهم.
ما رأيكم في الشعر العربي الجديد المعروف بالشعر الحر؟ •
الشعر الحر تجربة قديمة، وما السجع إلا شعر حر وإن لم يسموه إلا سجعا، وقد ظل على عرش الأدب أكثر من سلطان بني عثمان، وأخيرا حمله إلينا فيلسوفنا الريحاني، فقبل أن تسألوني رأيي أمهلوا قليلا؛ فأنتم في ربيع العمر، ومتى لمستم بقاء هذا الشعر فابعثوا إلي برسالة إلى دنيا العالم العتيد. إن كل ما يتواضع على استحسانه الجمهور يكون حسنا، فعسى ألا يذهب جهد الشباب باطلا، ولا يصح فيهم المثل: ذهبت النعامة تطلب قرنين فعادت بلا أذنين.
هل تنصحون بإدخال أساليب جديدة على الطرق المتبعة في تدريس الأدب العربي؟ •
أنصح أولا بتخفيف الحمل، فالطالب لا يستطيع في عامين مدرسيين - والعام الدراسي نصف عام - أن يدرس مائة شاعر وكاتب.
وأنصح ثانيا باختيار أساتذة يدخلون الطالب إلى دهاليز حصون الكاتب والشاعر ومنعرجاتها، أي أن يكونوا فاهمين أسرار ما يقرءون.
إن الذين لا يقرءون ما بين السطور يكرهون الطلاب بأدبنا، وهم لو فهموه وأفهموه لما سمعنا هذه الضجة حول المناهج.
ما هي مهمة الأديب العربي في بعث القومية العربية؟ •
إنها مهمة شاقة، وهل هناك أشق من إيجاد الإيمان؟
إن مار بولس لم يستطع نشر الدين المسيحي إلا لأنه كان عظيم الإيمان به. اقرأ فصلا من رسائله فيطالعك لهيب إيمان بولس بما يقول، وهكذا يجب أن يكون الأديب العربي حار الإيمان بالقومية العربية حتى يبعثها.
وهل بعث إليعازار غير إيمان المسيح؟
إن الذين يستعربون ليرفهوا عن أنفسهم كثيرون ، أما المؤمنون الخلص فيؤثرون للشهادة. وقد بدأت أراهم.
كانوا يهزءون بنا يوم كنا نهيب بهم. أما اليوم فيحاولون أن ينسوا موقفنا.
الخلاصة: يطلب إلى الأديب العربي أن يكون مخلصا للعروبة، ولا يكون له فيما يكتب مآرب أخرى.
2 / 2 / 1957م
إلى السيد منير مراد، بيروت - الصنائع
سألتني: هل في لبنان والعالم العربي أزمة أدب أم أزمة أدباء؟ ولماذا؟ وما هو رأيك في الإنتاج الأدبي الحاضر بصورة عامة؟
جوابي: لا هذه ولا تلك، عندنا أدب، وعندنا أدباء، وعندنا إنتاج أدبي، ولكننا نحن نؤله القديم ونعبد الأوثان.
لا ينقصنا أدباء، ولكن ينقصنا العمل، فشبابنا بدلا من أن يعملوا هم، قعدوا يقولون: ماذا عمل زيد؟ وماذا فعل عمرو؟
فبدلا من أن يضيعوا الوقت في تحبير هذه المقالات، فليكتبوا قصة أو ينظموا قصيدة أو أية كلمة تبقى.
لا يحق لنا أن نعين للأديب موضوعه، فالأديب لا يسأل إلا عما كتب، الجاحظ - مثلا - كتب في الذبان فصولا خالدة، فهل يصح أن يقال له: لماذا لم تكتب في الحسون والكناري؟
لسنا في حاجة إلى كتاب وأدباء وشعراء، ولكننا في حاجة إلى من يعملون.
اسمح لي أن أسرد لك هذه النادرة القروية:
هاجم ثعلب دجاجات قروي فاصطاد واحدة، فقال الرجل لامرأته: لو كان عندنا رجل يلحقه ويهاهي به فيتركها!
فصاحت به زوجته: وأنت إيش، نسيت أنك «رجال»؟
فقال: صحيح.
وراح يركض ويعيط خلف الثعلب؛ فترك الدجاجة.
فهل نسي شبابنا أنهم مسئولون؟ فلماذا لا يعملون لتنفرج الأزمة؟!
12 / 3 / 1953م
إدارة البريد - الأدب والسياسة
مضاعفة معاش النواب
عزيزي الأديب السيد خالد سهيان في مدرسة الحلوة بالقامشلي:
لا تتعجب إن أتاك جوابي متأخرا، فإذا كانت إدارة البريد - وهي إدارة مسئولة عن السرعة - قد بقيت لي فيها - في مركز بيروت - مسودة مدة أسبوع، سجلت وأرسلت من مركز عالية يوم الأربعاء، فما وصلت إلى يد وكالة الآباء البولسيين إلا يوم الثلاثاء بعد الظهر.
انظر كيف يعرقل المأمورون الساهون مصالح الناس، فهل تلومني بعد إذا تأخر جوابي ولي عذري؟
رحم الله عهد «المرسال»؛ فقد كنا فيه أسرع عملا.
وبعد، فسألتني أولا إذا كنت أعتقد أن الأدب شيء والسياسة شيء آخر، وإذا جمعا بشخص هل تكون له بآن واحد عبقرية الأديب وحنكة السياسي؟
أما جوابي عن هذا، فهو أن الأدب يتناول كل شيء، ومهما حاول الأديب أن يتملص من السياسة في أدبه، فهو لا يقدر أن يطهره منها.
أما إذا هما اجتمعا لواحد، فلا بد من أن ترجح إحدى الكفتين.
وبكلمة أعم: إن الأدب الخالص لا يسلس قياده لرجال السياسة؛ لأن التفكير في أمرين متناقضين غير ممكن.
وتقول في السؤال الثاني: هل تتأسفون في المستقبل على أيام ستضيعونها في ميادين السياسة لو كان قدر لكم الفوز بالنيابة في الانتخابات الماضية؟
أظنك لم تنتبه إلى أن نبأ ترشيحي الذي قرأته كان تاريخه أول نيسان ... فأنا رشحت نفسي هازلا.
أما أكره ما أكرهه أنا فهو خوض غمار السياسة.
أرجو أن تثق بأنني لا أحبها.
وبما أنني انتقدت مضاعفة معاش النواب، رحت تطرح علي هذا السؤال الثالث: فلو كنتم من جملة النواب؛ فهل توافقون على هذه الزيادة أم لا؟
هاك الجواب يا صاحبي: قال النواب لنا عندما كان يدعون لأنفسهم أنهم رشحوا أنفسهم لخدمة الشعب، لا طمعا بالجراية ... حتى إذا ما ركبوا الكرسي جاءت تصرفاتهم مخالفة تصريحاتهم.
بشع جدا أن يقرر الرجل زيادة معاشه بنفسه.
فلو جاءت هذه الزيادة عن غير طريقهم ما قلت شيئا.
أما قولك لي أخيرا: «لو كنت منهم ألا أفعل ما فعلوا؟» فالجواب عنه: «إن النفس أمارة بالسوء.» وبلغتنا العامية: النفس رخوة ... ولهذا أكره السياسة؛ لأني أخاف أن تدخلني في التجارب ... والسلام عليك.
حقوق المرأة
إلى السيد س. م. بيروت
كتب إلي السيد س. م. ما يلي:
سلاما وتحية وبعد، فكنت قد أرسلت إليك فيما مضى من الأيام القريبة رسالة أشرح لك فيها عن رغبتي الصادقة وتشوقي إلى مناقشة الآراء والمسائل الأدبية والاجتماعية؛ إذ لا أحب أن أتقبل مسألة من المسائل أو فكرة من الأفكار إلا بعد الدرس والتمحيص، وبعد أن أتفهمها وأكون على استعداد تام لإقناع من يريد المناقشة. وقد طرحت عدة مسائل وأفكار على بساط البحث ولما أنته منها، ومن هذه المسائل الاجتماعية أخذ المرأة حقوقها العامة والسياسية كاملة. قد حاول الكثير من الأصدقاء أن يقنعوني بأن أخذ المرأة حقوقها واجب - وأنا على عكس هذا الرأي - ولكن حججهم واهية لا تستند إلى العقل، ولا على أساس من المنطق.
ولما كتبت لك راجيا أن تجيبني وتسعفني برأيك بناء على ما أعهده فيك من سعة الاطلاع في اللغة والأدب والاجتماع، كان أسفي شديدا عندما لم أتلق منك جوابا يطفي ظمأ روحي.
أرجو أن تعطف هذه المرة وتحقق الوطر المنشود؛ لأني في أشد الحاجة إلى رأيك ومعونتك وعطفك. والسلام.
من المخلص س. م.
تعذرني يا أخي سامي إذا تأخر جوابي كثيرا، قاتل الله السهو! توارت رسالتك عن وجهي بين أوراقي الكثيرة، وأمس وقعت في يدي بينا كنت أفرز أوراق هذا العام. وقبل وبعد فما أنا بالحكم الذي يفصل في هذه القضية.
كان من النساء ملكات ونبيات فيما مضى، وكم من امرأة بزت الرجال في ميادين الأعمال! إلا أنني أخشى على مملكتها أن تخرب بعد نوالها حقوقها كاملة غير منقوصة، ولكن خوفي يقل لأن ليس كل امرأة تنصرف إلى ميادين الأعمال، فشأنها في هذا شأن الرجال، فهل كل الرجال سياسيون؟
أما إذا كانت كل امرأة تطلق البيت بتاتا؛ لأنها نالت حقوقها السياسية، فلا يبعد أن تطالبنا المرأة يوما بالحضانة؛ فيصير الذكر من الرجال كالذكر من الأسماك والضفادع الذي يحضن البيض حتى يفقس، أو على الأقل مثل ذكر النعام «الذاب عن فراخه ينفي عنها المدر، ويباعد عنها الحجر، ويكنها من المطر، ويحميها من الضباب، ويحرسها من الذباب.»
إن السياسة تلهي عن كل شيء حتى الأمومة. وأرى أن تظل التي تتبع السياسة بلا رجل ولا أولاد؛ لئلا يحتاج البيت إلى قاضي صلح يعقد جلساته فيه ولا يرفعها أبدا.
لا أبحث قضية إعطائها حقوقها، فقد أخذتها اسما، أما فعلا فهذا ما ستحققه الأيام.
أما أنت فلا تيأس من رحمه الله، ولا تخف من المستقبل، فالمرأة مرأة ولو ملكة.
إن الطبيعة حريصة على بقاء النوع، وسنتها لا تتغير بتغير الأنظمة الاجتماعية.
سؤال وجواب (2)
من هو الأديب العربي الذي ترشحه لجائزة نوبل؟ •
كأني بجائزة نوبل تمشي على خطى المعلقات، لاحظ تر أن القبيلة العزيزة والأكثر عددا لها أكثر من معلقة، والقليلة العديد لا تمثل في ديوان العرب.
فالمعلقات مصنفة بحسب العصبية والغرض والميل، فالبصرة قدمت امرأ القيس؛ لأنها يمنية ربعية، والكوفة قدمت الأعشى، وأهل البادية قدموا النابغة وزهير ابن أبي سلمى؛ لأنه مواطن لهما. أما أنا وغيري فماذا ينفع ترشيحنا؟ فجائزة نوبل ليست مسألة أدبية فقط، بل سياسية أيضا. وإننا لفي انتظار القومية العربية حتى يفوز أحد الكاتبين بالضاد بجائزة نوبل، وإذ ذاك يقرره من يقرره.
هل الدولة اللبنانية مقصرة بحق الأدباء؟ وكيف تكون منصفة؟ •
هذا سؤال جوابه عندكم، فكيف ترى؟ جاوب نفسك.
من هو الأديب العربي الذي يعجبك؟ •
أدباء كثيرون يعجبونني، وفي طليعتهم الجاحظ وأحمد فارس الشدياق.
ومن هو العربي؟ •
العربي عندي هو كل من ولد من أبوين ناطقين بالضاد، وعند غيري هو الذي تمتد جذور أصله إلى ما قبل الهجرة. وهذا التأصيل المغالى فيه هو الذي فرقنا. تصير أمريكيا بعد إقامتك في ذلك القطر خمس سنوات، ولا تصير عربيا بعد خمسة قرون، وهكذا كتبنا الفرقة على شعبنا؛ فالناطق بالعربية من عهد جد جد جد جده يظل غير عربي عند بعضهم.
هل تقرأ للأدباء الشباب؟ وما رأيك فيهم؟ •
أقرأ كل ما يتفضلون به علي من كتبهم، وإني لأرجو كل الخير على أيديهم. إن بينهم ذوي مواهب، والغد للمجتهد منهم، فالعبقرية موهبة.
كيف كان يقضي الأدباء ساعات فراغهم أيام زمان؟ •
إذا قلت لي كيف كان يقضي آدم وحواء أوقات فراغهما في الجنة؟ قلت لك أنا كيف كنا نقضي ساعات فراغنا. إننا لم نترك الفرصة تفوتنا، والحياة تتطور، ولكنها لا تتبدل.
أول موضوع أدبي كتبته، ماذا كان ثمنه؟ •
كان ثمنه تحية حارة بعصا جدي السنديانية، وقد ذكرت ذلك في كتابي «أحاديث القرية».
لماذا لا تنظم قصائد في الوقت الحاضر؟ •
كما تأكل خلايا الجسم بعضها، كذلك أكل مارون عبود الناثر مارون عبود الشاعر. وقبل وبعد، فللشعر سن الشباب، ولغيره من ألوان الكلام بقية العمر، وأنا قد قمت بما أقدر عليه في الصناعتين.
بريدي
عزيزي أ. خوري. زحله .
لقد أحالك الصياد علي، وها أنا ذا أجيبك: أسفت جدا لنكبتك، ثم عزاني مثلنا اللبناني: بالرزق ولا بصحابه.
وبعد، أظننت - يا أخي - أنني متمسك بأذيال مار مارون طائفيا حتى كتبت ما كتبت حول دستور استقلال الموارنة الديني؟
أنا - يا عزيزي - لا أرى في مار مارون ومار يوحنا مارون غير زعيمين قوميين ناضلا كغيرهما تحت علم الله؛ لأن الناس كانوا على ذلك في أيامهما.
أما والدي فلم يسمني مارون - مارون ممنوع من الصرف - حتى لا يمكنني الهرب من مارونيتي كما قلت؛ فوالدي أولا: لم يكن نبيا ولا عرافا لكي يدري ما سيكون ابنه ويقوم عليه ويسد الطريق.
وثانيا: كانت التسمية في بيتنا من خصائص جدي، فعلى والدي أن يخلف، وعلى جدي أن يسمي. كانت طريقة جدي في التسمية طائفية بحتة؛ فكلما رزق والدي ابنا أو بنتا كان يطلق علينا حين يعمدنا اسم قديس ذلك اليوم، فسمى مارون وأيوب ودانيال وبرلام وصليبا. ولدت أنا يوم عيد مار مارون الذي يرتل الموارنة فيه: مار مارون فخر سوريا. سماني جدي مارون، فسميت أنا بدوري أحد أولادي محمدا في بلد زادت أسماء الأبناء تعصبا وتفريقا، ناهيك أنني أعتقد - من كل قلبي وفكري - برسالة محمد، وأقدس شخصيته المثلى ومبادئه وأخلاقه الفاضلة. كنت أظن أن سيشايعني الكثيرون، فكان الأمر بخلاف ما ظننت، وأنا غير آسف على شيء. يسرني أن أرى شبح الطائفية وتقاليدها البالية يتلاشى كما تلاشى شبح صموئيل أمام عيني شاول وعرافة عين دور.
مارون عبود
منذ سنوات وأنا أحمل على كتفي أثقال هذا الاسم، ومنذ سنوات وأنا ساكت.
اليوم، نعم في هذا اليوم، تناولت رسالة من ظريف لطيف يقول لي:
قرأت في جريدة الحياة، العدد 2597، تاريخ 22 / 10، الصفحة 8، ما يل:
إميل مارون عبود رسام له من العمر 25 عاما، درس أصول الفن في الأرجنتين مدة ثلاث سنوات، وكانت باكورة إنتاجه لوحة زيتية للرئيسة إيفا بيرون في إطار أبرز فيه بعض مناظر لبنان إلخ ... إنني أهنئك بهذا الشاب، كما تعجبت في الوقت نفسه من عدم معرفتي له، وقلت : كيف خبأ عنا صاحبنا مارون هذا الولد؟ أنا أعرف أولادك الصبيان ثلاثتهم، ولا علم لي أن لك ولدا بهذا الاسم، وفي الأرجنتين؛ فهل أنت متزوج أكثر من مرة؟
وفي المكتوب كثير من المداعبة الخفيفة، ولكنها لا تناسب لأذكرها كلها ...
أما الجواب عن السؤال الأخير الذي وجهه إلى صاحبي: فهو أنني تزوجت مرة واحدة غير كاملة، فلي ربع قرن وأنا مخالف المثل القائل: «أعزب دهر ولا أرمل شهر.» وإني أرجو صديقتي جريدة «الحياة» أن تصحح هذا الخطأ، أو تجلو هذا الصواب، فأنا أفتخر بأن يعزى إلي ولد نابغة في الرسم؛ لأني أحب التصوير، والشهود جدران بيتي.
هذا حساب إميل مارون عبود صفيناه الآن، كما صفينا منذ أسبوع واحد حساب السيد مارون نصر من كفر شيما.
كتب إلي بتاريخ 20 / 10 / 1954م ما يلي:
أستاذي
تحية واحتراما وبعد، فإنني أشكر القدر الذي جعلني أكتب إلى أديب كبير نظيركم، أنا مارون نصر شاعر أغنية، أنظم الشعر الغنائي للمطربين والمطربات. وقد سجل لي أحدهم في الإذاعة السورية أخيرا ثلاث مقطوعات من تأليفي، كان نصيبي منها مبلغ إحدى وأربعين ليرة و85 غرشا، ولما حضرت البارحة إلى الإذاعة السورية لاستلام المبلغ قيل لي: إنهم أرسلوه إلى الإذاعة اللبنانية ضمن رسالة كتب عليها خطأ السيد مارون عبود، وقد رأيت الرسالة اليوم في الإذاعة اللبنانية، فأوعزت إلى ساعي البريد أن يرسلها إليكم إلى عالية، بعد أن حصلت على عنوانكم، وسأحضر في هذين اليومين لاستلامها من حضرتكم ... إلخ.
وحضر السيد مارون نصر واستلم الرسالة من سميه مارون «الترانزيت» ...
وفي هذين اليومين حضر موزع البريد ومعه مكتوب مسجل ظنه لي، فأرشدته إلى طريق الصواب.
ومنذ سنوات، كتبت إحدى الصحف أنني كنت من المدعوين مع زوجتي إلى العشاء في القصر، فظن أحدهم أنني تزوجت حديثا، فكتب إلي يهنئني، فبعثت إليه ببطاقة كتبت عليها: إذا لم يكن «صحيح» ففأل مليح.
ومرات عديدة تلقيت رسائل معنونة باسمي، منها ما عرفت أصحابها فبعثت بها إليهم، ومنها ما لم أهتد إلى أصحابها فرميتها في السلة.
والخبر الأعظم الأخير هو هذا: منذ سنتين (تقريبا)، ألصق على جدران بيروت نعي مارون عبود، فقرأه الصديق الأستاذ يوسف يزبك، فأسف للخسارة الفادحة، وراح يعزي كل من رآه في طريقه من معارفي إلى أن التقى بعد قليل صديقي الشيخ فؤاد حبيش، وزف إليه الخبر الأسود؛ فتعجب الشيخ كيف أموت ولا يعرف، أو ولا أخبره - كما عبر هو حين وصف لي كيف تلقى نعيي.
وفي مساء يوم دفن مارون عبود، دخل ابن رفيقي في الصف الدكتور يوسف سلامة على أبيه وقال له: صاحبك مارون عبود مات، فوجم الدكتور، وطلب أن يطلع على الجريدة التي قرأ فيها ابنه النبأ المشئوم، ولما عاينها قال له: لا يا بني؛ هذا غيره.
ولكن الرفيق الصديق جاء خصيصا إلى عالية حتى رآني، فاجتمعنا بعد خمسين عاما إلا ... بفضل هذا الاسم الذي لا ينقطع عني سيل مشاكله.
وعلى أثر إذاعة نبأ موتي، كتب إلي أحدهم من العراق يسأل عن صحة الخبر، فأجبته: الخبر صحيح، ولكنه سابق لأوانه! أبعد الله تلك الساعة وأراحني من السهو.
Page inconnue