Les Rois des Factions et Regards sur l'Histoire de l'Islam
ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام
Genres
واستأنف السير في الصباح إلى أن وصل إلى حصن بلج أطلقوا على هذا الحصن اسم زعيم من عرب الشام الذين نزلوا في هذا المكان في القرن الثامن للميلاد، وكان على الحصن رجل عربي من قبيلة بلج يدعى ابن رشيق فبادر إلى استقباله، ودعاه للنزول بقصره، فقبل الدعوة، ورأى من الحفاوة والفخامة وأسباب المرح والسرور، ما جعله يواليه ثقة بالغة لم يسئ الرجل وضعها، بل سار مع صديقه الجديد إلى أن وصل الجيش إلى مرسية وضرب الحصار على «مولا»، ولم يدم الحصار طويلا حتى سلمت وكانت طريق وصول المؤن إلى أهل مرسية، فكان سقوطها خسارة فادحة لهم مما جعل ابن عمار لا يشك في أنها على وشك التسليم، وقد ترك «مولا» في حراسة كتيبة من الفرسان بقيادة ابن رشيق وعاد بسائر الجيش إلى إشبيلية.
ولم يكد يلقي بها عصا التسيار حتى وردت عليه كتب عضده ومساعده ابن رشيق يخبره فيها أن المجاعة قد أضرت بأهل مرسية ضررا بليغا، وأن طائفة من أهلها من ذوي النفوذ والجاه قبلوا أن يساعدوا المحاصرين لقاء الحصول على مراكز مهمة في الدولة، وعلى هدايا نادرة نافعة، فقال ابن عمار حينئذ: «سترد إلينا الأخبار غدا أو بعد غد مبشرة بأن حامية مرسية قد سلمت.» وقد صدقت نبوءته، وتحققت أمنيته، فإن فريقا من الخونة من أهل المدينة قد فتحوا أبوابها، فدخل ابن رشيق وتسلمها واعتقل ابن طاهر وأخذ بيعة جميع الأهالي للمعتمد. •••
وبلغ ابن عمار ما تم على يد ابن رشيق فامتلأ قلبه سرورا، وطلب إلى المعتمد أن يأذن له في اللحاق بمرسية، فلم يتردد في الإذن له بذلك، واعتزم أن يغمر جماعة من المرسيين بالهدايا، فصحب معه عددا من الخيل بسروجها ولجمها أخذها من الإصطبلات الملكية، وأضاف إليها عددا من البغال حملها صناديق ملئت بالحلل النفسية والثياب، وقد بلغ عدد الأفراس والبغال زهاء مئتين، وسار في طريقه إلى مرسية في موكب حافل بين دق الطبول، وخفق الإعلام، وكان يعرج على كل مدينة يمر بها ، ويدع فيها من الصناديق الملكية ما هو برسم أهلها.
ودخل مرسية في يوم وصوله إليها بمظهر عادي، وفي الغد أجري له استقبال فخم برز فيه لأهل المدينة بروز الملوك الفاتحين، وقد وضع على رأسه تاجا مشرفا مثل الذي يلبسه عادة مولاه في الحفلات الكبرى، وقد بدأ يستبد بأمر المملكة، فكان يوقع على رقاع الشكوى بتوقيع خاص به، ويغفل اسم المعتمد.
إن هذا المسلك الشاذ الدال على الزهو والإعجاب والاعتداد بالنفس والاستبداد بشئون المملكة الجديدة جعل ابن عمار كثائر على مولاه، وهذا رأي المعتمد واعتقاده فيه، ولكنه لم يظهر بمظهر الغاضب الحانق عليه، بل استسلم ليأس وحزن كامن في النفس، وبدأ يشعر أن حلم الصداقة اللذيذ الذي يرجع ابتداء عهده إلى خمس وعشرين سنة قد تلاشى الآن، وأنه كان مخدوعا في ذلك الميل القلبي الكاذب؛ فصداقة ابن عمار القديمة، وظهوره دائما بمظهر الخل الوفي، والصديق الحميم الذي لا يفصم عرا صداقته تطاول الأيام، والصاحب المخلص النزيه المجرد من العلل والغايات، كل أولئك إذن لم يكن سوى كذب ورياء وخبث ونفاق. •••
ولعل المعتمد كان واهما في تأثيم ابن عمار وتجريحه وإساءة الظن به إلى هذا الحد، ومما لا ريب فيه أن الفكرة الخاطئة الأثيمة فكرة الثورة على مولاه وولي نعمته لم تكن لتمر بخاطره البتة، والذي جعل الريب والشكوك تحوم حوله من جانب المعتمد هو زهوه المفرط الذي بلغ به إلى حد الجنون، ولم يكن من ضعف الخلق، وفتور المودة، وعدم الشعور بأثر النعمة، بحيث يدفع صداقة المعتمد وينسى ما له عنده من يد، وما طوقه به من جميل، بل الواقع الذي لا يرتاب فيه أحد أنه كان يحب مليكه حبا صادقا يدل عليه ما نظمه فيه بعد تغيره عليه من أشعار تفيض بالحب والإخلاص والولاء.
وقد نطقت أشعاره الكثيرة، وقصائده التي كان يدفع بها هذه التهم والظنون عن نفسه، بأن ولاءه لم يتغير، وأن طبعه لم يتحول، وأن حبه لأعز الأشياء عليه، ومنها نفسه التي بين جنبيه، أقل بكثير في قوة التأثير، وصدق الشعور، من حبه الصادق القوي للمعتمد.
وما يدرينا لعل ظروفا غير هذه الظروف لو كانت هيأت لهما الاجتماع ساعة يتحدث كل منهما فيها إلى صاحبه، ويفضي إليه بدخيلة نفسه، ويتناجى فيها قلبان طالما ائتلفا، ما يدرينا لعل هذه الساعة لو أتيحت لكانت كافية، للتوفيق بين هذين الروحين المتمازجين، والقضاء على تلك الوساوس والمخاوف التي أوغرت صدر الملك على وزيره؟ إن من بواعث الأسف أن تتسع مسافة الخلف بينهما وأن يحمل الحقد والحسد جماعة من الإشبيليين للإيقاع بابن عمار والسعاية والدس له، وتأويل كل عمل وكل كلام وكل حركة تصدر عنه تأويلا ينطوي على الخبث والوقيعة، وإظهاره دائما بالمظهر البشع الشنيع. •••
هؤلاء الحسدة الجبناء استولوا على لب المعتمد وعقله، وهم الذين يذكرهم في شعره كثيرا، وينسب إليهم تغيير قلب مليكه عليه، ومن بينهم وزيره ابن الشاعر الكبير أبي الوليد بن زيدون الذي كان له أكبر نفوذ في القصر، والذي يرجع إليه السبب الأكبر في إيغار صدر المعتمد عليه، وإحاطته بكل أنواع الشكوك والريب من حين دخل مرسية بإذنه، وتمكن هذا من خلق أسباب القطيعة بينهما، وهناك خصم آخر ليس أقل من هذا خطرا، وهو ابن عبد العزيز ملك بلنسية وصديق ابن طاهر وقد كان ابن عمار على أثر دخوله مرسية يحاول أن يصطنع ابن طاهر صاحب مرسية المخلوع ويستميله إليه بكل أنواع الحفاوة والتكريم، وقد أرسل رسولا عرض عليه كثيرا من الحلل الفاخرة ليختار منها ما يروقه ويعجبه، وكان ابن طاهر - لحدة طبعه، ومزاجه الناري - قد هزل جسمه من جراء فقد ولايته، فلما جاءه الرسول قال: «ارجع إلى سيدك ومولاك ابن عمار وقل له: إنني لا أقبل من هداياه سوى جبة الصوف الطويلة، والقلنسوة الصغيرة الحقيرة.» وقد بلغته هذه الرسالة وهو بين خواصه وحاشيته، فسقط في يده، وأخذ يعض بنان الندم أسفا وغما، وأدرك ابن عمار مغزى ما يقوله ابن طاهر وأنه يرمي بكلامه هذا إلى زيه المضحك المزري الذي كان يلبسه أيام بؤسه وخموله، وأيام أن كان ينشده أشعاره يبغي بها التكسب، وقد أسرها ابن عمار في نفسه ولم يغتفرها له، وأصر على أن ينتقم لنفسه من هذه الضربة الأليمة التي ثلمت شرفه، وخفضت من غلوائه، وغضت من زهوه، وقد أحفظته هذه الجرأة من ابن طاهر وتحولت نواياه من جهته، وأمر به فسجن في قلعة «منتاجو». •••
وأخذ ابن عبد العزيز يراسل المعتمد في شأن ابن طاهر وإخراجه من السجن، فقبل رجاءه، وبعث إلى وزيره الأكبر في إطلاق سراحه، فأهمل ابن عمار أمر المعتمد وأبى أن يفك اعتقاله، وساعد ابن عبد العزيز على إخراجه من السجن، وتمكن من الفرار، ومضى إلى بلنسية ليقيم بها في حماية ابن عبد العزيز، فغاظ ذلك ابن عمار وغمه ونظم في هذه المناسبة شعرا يحرض فيه أهل بلنسية على الثورة والخلاف على ملكهم ابن عبد العزيز ويحثهم فيه على خلع نيره، والاستعاضة عنه بملك آخر، أي ملك كان يرفع عنهم ما نزل بهم من حيف، وحل بهم من ظلم، وظل يهجوه فيه هجوا مقذعا، ويرمي حرمه بأشنع السباب، وأفظع القذف، ويغريهم في آخر القصيدة بهدم قصور بني عبد العزيز وسلب أموالهم وكنوزهم، وترك خرائبها آثارا ناطقة بخزي الدهر، وعار الأبد.
Page inconnue