Les Rois des Factions et Regards sur l'Histoire de l'Islam
ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام
Genres
في اليوم الثالث لهذه الكائنة المحزنة، والفجيعة الدامية، دخلت أنا وزملائي على المعتضد في مجلسه، وكان وجهه مربدا تعلوه كآبة الحزن، في منظر موحش فظيع، فعرتنا دهشة، وارتعنا هلعا وفزعا، وتقدمنا فحييناه، وهو يجمجم بكلام لم نتبينه، فنظر إلينا نظر استثبات وتفحص، وجعل يصعد فينا بنظره ويصوب، ثم قال في زمجرة كزمجرة الأسد: «ما بالكم لا تنطقون أيها الأشقياء؟ إنه ليسركم في الباطن ما أنا فيه الآن من محنة وبلاء، فاذهبوا بعيدا عني، واخرجوا من هذا المكان.»
وربما استحال ذلك النشاط الوحشي، وتحولت تلك الإرادة الحديدية الآن إلى ذلة وضعف وفتور وانكسار لأول وهلة، وأصبح ذلك القلب المقدود من الصخر، والذي كان يلوح أنه بمنجاة أن يطعن في الصميم لصلابته وقسوته، قد أصيب بجرح دام يندمل على الزمن شيئا فشيئا، ولكن بعد أن يترك أثرا عميقا، وفي هذه الفترة ترك جمهورية قرطبة في راحة وطمأنينة، وقد سرتها هذه الطمأنينة المفاجئة على قدر دهشتها بها، وكذلك لم يعد الآن يفكر في خططه الحربية ومشاريعه الواسعة، ثم عادت تلك الأطماع تتحرك في نفسه بصفة غير محسوسة، ثم تنبهت عوامل الجشع والطمع في نفسه، فأخذ يعد الأهبة للاستيلاء على مالقة.
1 •••
وكان نير باديس قد أثقل كواهل العرب في مالقة منذ سنين، وأخذوا يلعنون أيامه، ويئنون من جبريته وظلمه، وصاروا يعقدون الآمال في الخلاص من هذا الحكم الغاشم على أمير إشبيلية، وهم وإن كانوا على يقين من أنه مثله في الظلم، إلا أنهم كانوا يؤثرونه على باديس لأنه من جنسهم، ولهذا اتفقوا مع المعتضد، ودبروا مؤامرة كان باديس بتهاونه أول مساعد على تحقيقها، لإدمانه على الشراب، وإغفاله شئون دولته إلا في أوقات قليلة نادرة.
وفي اليوم المضروب موعدا لتنفيذ المؤامرة شبت في العاصمة ثورة، اشترك في إضرامها خمسة وعشرون حصنا، وتلاحقت في نفس الوقت جيوش إشبيلية بقيادة المعتمد بن المعتضد، فاجتازت الحدود لمساعدة الثائرين، فأخذت البربر على غرة، ولعب السيف في رقابهم ولم ينج منهم إلا من تعجل الفرار، وفي أقل من أسبوع من الزمن تم فتح جميع الولاية، إلا حصن مالقة الذي كان به حامية البربر فإنه بقي وحده بدون تسليم، وهو حصن منيع لوقوعه على قمة جبل، ولمناعته كان في استطاعته أن يقاوم مدة طويلة، وحينئذ كان يخشى أن ينتهز باديس الفرصة فيجيء لشد أزر الحامية، وهذا ما حسب له زعماء الثورة ألف حساب، فأشاروا على المعتمد أن يشدد الحصار على من في الحصن، وألا يثق كثيرا بجماعات البربر الذين في جيشه، ولم يقدر المعتمد قيمة هذه النصائح الثمينة، ولم تلق منه أذنا صاغية، بل تهاون في الأمر، وآثر الراحة، وأطلق سراح الجند الذين أعجبوا بهذا المسلك الحسن، فعكفوا على الشراب، وأخذوا يبحثون عن النساء، لاعتقادهم أنه لا خطر هناك يتهددهم، وقد غرهم ما قاله رؤساء البربر للمعتمد من أن الحصن عما قليل ستسلم حاميته، وكانت هذه الخديعة من البربر بدافع ميل خفي إلى باديس، وقد جر ذلك كثيرا من الشؤم على جيوش إشبيلية، فإن أولئك السودان الذين هم في الحصن، وجدوا عندهم متسعا من الوقت يخبرون فيه باديس بأن الفرصة سانحة لمباغتة عسكر المعتمد والقضاء عليه.
فجدت جنود غرناطة في المسير، وشقت طريقها إلى مالقة بين الجبال والأوعار في سرعة وحذر، ودخلت المدينة على حين غفلة من أهلها، دون أن يكون عند المعتمد قبل دخولهم بلحظة واحدة علم باقترابهم، فلم يستطع أن يجمع الجيش لملاقاة العدو، ولم تكن بين الجيشين معركة، وكل ما في الأمر أن جند غرناطة قاموا بمذبحة في عسكر إشبيلية الذين كانوا عزلا من السلاح، والذين كان أكثر من نصفهم سكارى، وقد أفلت المعتمد من أيديهم بانسحابه إلى رنده واضطرت ولاية مالقة جميعها أن تخضع من جديد لحكم باديس.
ولنتصور هنا مبلغ حنق المعتضد وغضبه حين نمى إليه خبر هذه الهزيمة، وأن ولده بتهاونه وتضييعه خطة الحزم قد فقد جيشه، وفقد ولاية عظيمة، وكان من نتيجة هذا الغضب أن أصدر أمره باعتقال المعتمد مع مسجوني حصن رنده وقد هم أن يقضي على ولده الثاني في حياته أيضا، ناسيا وخز الضمير الذي أصابه لقتله ولده الأول.
وكان المعتمد يجهل مبلغ ما وصل إليه والده من الغضب والحسرة والندم، ولما استقر في الحصن، وعرف مدى غضب والده بعث إليه بقصيدة تفيض بالمديح والثناء، وتشيد بكرم المعتضد، وتستجلب عطفه وصفحه، وتقتضي فؤاده الرحمة والشفقة، بذل في هذه القصيدة كل ما في استطاعته ليصرف عن والده ما ساوره من حزن، وألم به من ألم، وليعزيه عن هذا المصاب وذلك الإخفاق بما أحرزه فيما مضى من انتصارات باهرة، وفتوحات اتسعت بها رقعة المملكة، ومن أجمع الأبيات لهذه المعاني قوله في صدر قصيدته الرائية:
سكن فؤادك لا تذهب بك الفكر
ماذا يعيد عليك البث والحذر
Page inconnue