Les Rois des Factions et Regards sur l'Histoire de l'Islam
ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام
Genres
والظاهر أن بني قرة كانوا أصلب عودا وأكثر جرأة من بني نوح، فقد دبروا للمعتضد مؤامرة رهيبة يكون انفجارها بمجرد الإشارة، ومن الاتفاق الغريب أن تسلم حياته وهي معرضة للخطر في سبيل إنفاذ مشروعه الخطر الجريء، فقد حدث مرة أن تناول معهم الطعام، وأخذوا يحتسون النبيذ وأحس هو - خلال ذلك - بميله إلى الراحة والرقاد، فقال للأمير: «إني أشعر بتعب، وأحس بحاجة إلى النوم، فخذوا أنتم في حديثكم، وامضوا في شرابكم، ريثما أستريح برهة، وآخذ حظا قليلا من النوم، ثم أعود فآخذ مجلسي معكم حول المائدة.» فأجيب إلى طلبه وأعدت له وسائل الراحة، وبعد لحظة كان فيها متناوما مظهرا أنه في سبات عميق، طلب بعض رجال البربر من الجالسين أن يصغوا لحظة إلى حديث خطير يريد أن يفضي به إليهم، فصمت الجميع، وقال الرجل بصوت خافت: «يظهر أن عندنا كبشا سمينا قد مد صفحته للسكين المشحوذة، وقد واتانا حظ سعيد كنا بعيدين عن إدراكه، ولو أننا بذلنا في سبيل هذه الفرصة ما في الأندلس من ذهب لم يجد ذلك شيئا، بينما ذلك الطاغية قد حضر بنفسه وأمكنكم من مقاتله، أنتم تعلمون جميعا أن ذلك الرجل هو الشيطان بعينه، فإذا ما قضينا على حياته لم ينازعنا أحد السلطة في هذه البلاد.» •••
ولاذ الجميع بالصمت، وأخذوا يتبادلون الإشارة باللحظ، ولا خفاء أن فكرة قتل ذلك الشيطان الذي يمقتونه ويزدرونه، ويعرفون طرقه الملتوية المتعرجة، تقابل بسرور وابتسام من أولئك الرجال الذين مرنوا على القسوة، وشبوا - منذ نعومة أظفارهم - على القتل وسفك الدماء، لذلك لم تبد على وجوههم علامات الدهشة، ولم تلح عليها أمارات الاستنكار والاشمئزاز، وكان من بين هؤلاء جميعا رجل واحد معتدل المزاج والتفكير قد غلا في رأسه الدم لهذه الفكرة الخاطئة، والخيانة الدنيئة، ذلك الرجل هو معاذ بن أبي قرة أحد أقارب أمير رندة فقد تطاير من عينه الشرر، وأظهر امتعاضا واشمئزازا واحتقارا لفكرتهم هذه المنافية للمروءة وكرم الضيافة، ورد عليهم في تؤدة وثبات بصوت متهدج يغض منه ويخفضه قليلا قائلا: «إياكم أيها القوم أن ترتكبوا هذه الفعلة الشنعاء، إن هذا الأمير بزيارته لنا ومجيئه عندنا، قد وثق بنا وأمن جانبنا واعتمد على إخلاصنا ووفائنا له. ومسلكه هذا يدل على أنه يقطع بأنا غير أهل لأن نخونه، أو نخفر ذمته، ولدينا من الشرف وطيب العنصر ما يدعونا لأن نحقق ظنه فينا، وثقته بنا. وبماذا تتحدث عنا القبائل غدا إذا علموا أننا وطئنا بأقدامنا قداسة حقوق الضيافة، فقتلنا ضيفنا؟ ففكروا أيها القوم مليا، وثوبوا إلى رشدكم، ولعنة الله على من يهم بارتكاب هذه الجريمة.» •••
وقد ترك هذا الكلام في نفوس البربر أثرا عميقا، وحرك ما ردده عليهم من واجب الضيافة - في قلوبهم - وترا حساسا، يندر أن يتنبه عند أمثال أولئك الطغام من شعوب أفريقية.
وقد مثلوا هذا الفصل والمعتضد في يقظة تامة - وإن كان متناوما - وقد سمع كل ما دار بينهم من الحديث، ولما حمد الأثر الذي أحدثه كلام معاذ في نفوس الآخرين، واطمأن إلى النتيجة، تظاهر بأنه بدأ يستيقظ، ومضى سريعا إلى السماط. فوقف الجميع وعانقوه وقبلوه قبلا مقرونة بالاحترام وإظهار المودة والعطف. وكانت حركاتهم تدل على أن ضمائرهم لم تكن مرتاحة لما هموا به، وأنهم ينطوون على سر مهانتهم من تلك اللحظة التي فكروا فيها بالغدر بضيفهم. ثم تكلم المعتضد فقال: «يجب أيها الأصدقاء، أن أتعجل العودة إلى إشبيلية ولا يفوتني أن أشكر لكم حفاوتكم، وأذكر لكم مبلغ سروري بحسن مقابلتكم لي وترحيبكم بي، وكان يجمل بي أن أقدم لكم بعض هدايا نفيسة تكون عنوانا على اعترافي بفضلكم وتقديري لكرمكم، ولكني آسف جد الأسف لأن الهدايا - التي كان يحملها خادماي - قد نفدت أو كادت، ولا بأس من إحضار دواة وقرطاس، وليمل علي كل منكم اسمه، وما تميل إليه نفسه من كسى تشريف أو صرر نقود أو جوار أو عبيد أو غير ذلك - مما يدخل في باب التحف وسني الهدايا - وليرسل إلي عند استقراري بعاصمة مملكتي ليأخذ ما يخصه من نفيس تلك الهدايا.» ولما استقر بحضرة ملكه جاءته رسلهم تترى، وعادوا محملين بصنوف الهدايا الثمينة، والحلل الفاخرة، وبذلك توثقت الروابط المتينة، والعلائق الحسنة بين المعتضد والبربر، وتنوسيت الأحقاد والإحن القديمة، وحل محلها الوداد والوئام والصفاء والسلام. •••
مضت على ذلك ستة أشهر دعا المعتضد بعد انقضائها أمير رندة و«ابن مرين» إلى مأدبة فاخرة أدبها لهما، زعم أنها اعتراف منه بجميل إكرامهما وحسن استقبالهما له، وكذلك دعا من البربر ابن خزرون، وأميري «أركش» و«شريش»، فبادر الأمراء ثلاثتهم إلى إجابة الدعوة، ووصلوا إلى إشبيلية (1053) فاستقبلهم المعتضد بحفاوة بالغة، وأعد لهم أسباب النعيم والراحة. وبعد أن ألقوا عنهم وعثاء السفر دعاهم وأكابر أتباعهم إلى الاستحمام بحمامه، وانتحل سببا لإبقاء معاذ الشاب معه، وكانوا نحو ستين من البربر دخلوا الحمام الذي أعد لاستحمامهم، وبعد أن تجردوا من ملابسهم في الباب الأول، تطرقوا إلى باب الحمام نفسه وهو مماثل لما يوجد الآن من نظائره في البلاد الإسلامية، مغطاة أرضه وجدرانه بالرخام الملون، مكسوة قبابه بأنصاف كرات جوفاء من زجاج غير صقيل لإرسال الضوء إلى أسفل، في وسطه نافورة تمج الماء إلى أعلى، وفي جوانبه مغاطس مملوءة بالماء الساخن، وصنابير بارزة في الجدران، بعضها يصب منه ماء بارد، وبعضها متصل بمرجل الحمام يصب منه ماء ساخن قد وصل إلى درجة الغليان.
وبينما المستحمون يلتذون بهذا النعيم الذي هيأ لهم أسبابه المعتضد إذ شعروا بحركة خفيفة غير عادية ظنوها حركة بنائين أو وقادين منصرفين إلى عملهم، فلم يعيروها اهتمامهم - لأول وهلة - ثم صارت الحرارة بعد برهة قليلة تتزايد إلى أن شعروا بالدوار وأحسوا بالضيق، فتلمسوا الباب يفتحونه، فوجدوه محكم الإرتاج وكأنما بني عليهم من خلف، ولما يلبثوا إلا قليلا حتى ماتوا جميعا نتيجة الاختناق.
ومكث معاذ طويلا يترقب عودة الأمراء والصحب ثم انتهى به الأمر إلى القلق والضجر، ثم تجاسر فسأل المعتضد عن السبب الذي من أجله تأخروا هكذا مدة طويلة، فأفضى إليه المعتضد بالسبب وصرح له - وقد اربد وجهه، وشاع فيه الغضب - بقوله: «لا خوف عليك، أما أولئك الخونة من أهلك وعشيرتك فقد استأهلوا العقاب، واستحقوا ما حل بهم من هلاكهم خنقا في الحمام لتآمرهم على قتلي حين كنت بضيافتهم. وثق أنني كنت متناوما إبان تآمرهم على قتلي، وقد سمعت كل ما دار بينهم من الحديث في هذا الموضوع الخطير، كما استحسنت كلامك في هذا الصدد، ولست أنسى ما حييت ما أنا مدين لك به من هذا الجميل الذي طوقتني به، وأنت مخير الآن بين البقاء هنا حيث أقاسمك جميع ما أملك - إن شئت - وبين العودة إلى وطنك، وإذا اخترت العودة ورغبت في الإقامة برندة، فلك مني أن أغمرك بسني الجوائز ونفيس الهدايا.»
فقال معاذ بصوت يشف عن حزن عميق: «وكيف العودة يا مولاي إلى الوطن، وكل ما فيه يمثل لي ذكرى من فقدتهم؟» فقال المعتضد: «عليك إذن أن تقيم بإشبيلية آمنا لا تخاف شيئا.» وكلف بعض رجال حاشيته أن يعمل على إعداد قصر لإقامة معاذ وأمر له بألف قطعة من الذهب نقدا، وعشرة من صافنات الجياد، وثلاثين جارية، وما يقرب من هذا العدد من العبيد، ثم توجه إليه بقوله: «وسأمنحك فوق هذا عشرة آلاف دوكا مرتبا سنويا.» •••
وبقي معاذ بإشبيلية، وهو محل عناية المعتضد وعطفه، فكان يبعث إليه كل يوم بهدايا غالية نفيسة بالغة في الإبداع، يندر أن توجد إلا في خزائن الملوك، وكان في غالب الأحيان التي يجتمع فيها بوزرائه ومشيريه للاستشارة في أعمال الدولة يجعل لهذا الذي أنقذ حياته المكان الأول في الشورى والرأي. •••
وبعد أن انتهى المعتضد من تمثيل هذا الدور ووضع رءوس القتلى في صندوق بين رءوس ضحاياه التي كان يتمتع بإلقاء نظرات السرور عليها، أرسل جيشا للاستيلاء على بني مرين وأركش وشريش وجهات أخرى. وقد نجح الجيش في مهمته من غير أن يعاني صعوبة بفضل مساعدة أهل تلك الجهات من العرب، والخونة الذين اشتراهم المعتضد بالمال. إلا أن الاستيلاء على رندة حيث خلف أبو النصر أباه فيها لم يكن من السهل، فقد كلف جيش المعتضد جهدا وعناء أكثر من غيرها، ولأنها كانت قائمة على ربوة جبل شاهق تحيط بها وهاد وطرق وعرة تجعل الوصول إليها صعبا.
Page inconnue