[مقدمة الناشر مختصر زاد المعاد]
مقدمة الناشر إن الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هادي له والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد. فإن كتاب زاد المعاد في خير هدى العباد من خير ما ألَّفه الإمام العلامة المحدث ابن قيم الجوزية ومن المعارف الرائعة التي تشهد له بالإمامة ووفرة العلم والتحرر من التقليد. وقد عرض فيه المؤلف- ﵀ صورة واضحة لسيرة الرسول ﷺ وهديه، وتصرفاته العامة والخاصة بأسلوب بسيط وسهل ليقتدي به المسلم ويسير على منهاج النبي الكريم. ثم جاء منقذ الأمة من الضلالة شيخ الإسلام إمام الدعوة في جزيرة العرب، فانتقى من كتاب زاد المعاد هذا المختصر الطيب لينتفع به المسلمون في شئونهم الدينية والدنيوية فعلى كل مسلم أن يتخذ زادا لمعاده وقدوة لسلوكه ليحقق قوله ﷿ ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: ٢١] الأحزاب. .
1 / 3
[ترجمة المؤلف]
ترجمة المؤلف هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي. ولد في بلدة (العيينة) شمال الرياض سنة ١١١٥هـ و١٧٠٣م.
حفظ القرآن قبل بلوغه العاشرة. درس الفقه الحنبلي والتفسير والحديث على والده، واعتنى بدراسة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، رحمهما الله حج مكة وزار المدينة وأخذ العلم بها عن الشيخ عبد الله بن إبراهيم، وزار البصرة والشام وأخذ العلم عن كبار علمائها وقد رأى الشيخ ما بالبلاد التي وصل إليها من العقائد والعادات الفاسدة والبدع الضالة فعزم على القيام بدعوته ونادى بالرجوع إلى كتاب الله وتعاليم الرسول وحارب البدع ونادى بهدم الأضرحة والمزارات وإزالة معالمها اقتداء بما كانت عليه أيام رسول الله ولاقى الكثير من الأذى حتى جاء نصر الله وسمي بحق المجدد والمصلح.
وانتقل الشيخ المصلح محمد بن عبد الوهاب إلى جوار ربه شهر ذي القعدة سنة ١٢٠٦هجرية مخلفا وراءه العمل الصالح ﵀ رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
1 / 4
[ترجمة الإمام ابن القيم]
ترجمة الإمام ابن القيم هو محمد ابن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي ثم الدمشقي أبو عبد الله، شمس الدين المعروف بابن قيم الجوزية.
ولد سنة ٦٩١هـ وتربى في بيت علم وفضل وتلقى مبادئ العلوم عن أبيه وأخذ العلم عن كثير من علماء عصره ولا سيما شيخ الإسلام ابن تيمية وقد لازمه وتتلمذ عليه. وقد شهد له العلماء بالتفوق في فقه الكتاب والسنة ودقائق الاستنباط منهما. وأصول الدين، وعني بالحديث وفنونه ورجاله قال ابن حجر عنه: كان جريء اللسان، واسع العلم، عارفا بالخلاف ومذهب السلف.
وقال نعمان الألوسي البغدادي. لم أشاهد مثله في عبادته وعلمه بالقرآن والحديث وحقائق الإيمان وليس هو بالمعصوم ولكن لم أر في معناه مثله وقد امتحن وأوذي مرات وحبس مع شيخه ابن تيمية في المرة الأخيرة بالقلعة منفردا ولم يفرج عنه إلا بعد موت الشيخ.
وقال ابن كثير: (وكان حسن القراءة والخلق كثير التودد لا يحسد أحدا ولا يؤذيه ولا يستعيبه ولا يحقد على أحد وكنت من أحب الناس له وأحب الناس إليه) .
وقال برهان الدين الزرعي (ما تحت أديم السماء أوسع علما منه) وقد صنف تصانيف كثيرة جدا منها تهذيب سنن أبي داود. الكلم الطيب وأعلام الموقعين وبدائع الفوائد وحادي الأرواح والداء والدواء والطرق الحكمية وإغاثة اللهفان والروح وطريق الهجرتين وغير ذلك كثير. توفي ﵀ ليلة الخميس ١٣ رجب سنة ٧٥١ هجرية ودفن بدمشق بجوار والده في مقبرة (باب الصغير) .
1 / 5
[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه الثقة والعصمة الحمد لله رب العالمين، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسوله.
أما بعد: فإن الله ﷾ هو المتفرد بالخلق والاختيار. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص: ٦٨] (١) والمراد بالاختيار: هو الاجتباء والاصطفاء، وقوله: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ [القصص: ٦٨] أي: ليس هذا الاختيار إليهم، فكما أنه المتفرد بالخلق، فهو المتفرد بالاختيار منه، فإنه أعلم بمواقع اختياره، كما قال تَعَالَى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤] (٢) وكما قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ - أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾ [الزخرف: ٣١ - ٣٢] (٣) فأنكر سبحانه عليهم تخيرهم، وأخبر أن ذلك إلى الذي قسم بينهم معيشتهم، ورفع بعضهم فوق بعض درجات.
وقوله: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص: ٦٨] نزه نفسه عما اقتضاه شركهم من اقتراحهم واختيارهم، ولم يكن شركهم متضمنا لإثبات خالق سواه حتى ينزه نفسه عنه. والآية مذكورة بعد قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ﴾ [القصص: ٦٧] (٤) .
وكما أنه خلقهم اختار منهم هؤلاء، وهذا الاختيار راجع إلى حكمته سبحانه، وعلمه بمن هُوَ أَهْلٌ لَهُ، لَا إِلَى اخْتِيَارِ هَؤُلَاءِ واقتراحهم.
وهذا الاختيار فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ وَأَكْبَرِ شَوَاهِدِ وَحْدَانِيَّتِهِ، وَصِفَاتِ كَمَالِهِ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ.
وَمِنْ هَذَا اخْتِيَارُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُصْطَفَيْنَ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:
_________
(١) (٦٨: القصص) .
(٢) ١٢٤: الأنعام.
(٣) ٣١: الزخرف.
(٤) ٦٧: القصص.
1 / 6
«اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي من تشاء إلى صراط مستقيم» (١) .
وكذلك اختياره سبحانه الأنبياء من ولد آدم، واختياره الرسل منهم، واختياره أولي العزم منهم، وهم الخمسة المذكورون في سورتي الأحزاب والشورى (٢) واختياره مِنْهُمُ الْخَلِيلَيْنِ: إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وسلم وعليهم أجمعين.
وَمِنْ هَذَا اخْتِيَارُهُ سُبْحَانَهُ وَلَدَ إِسْمَاعِيلَ مِنْ أَجْنَاسِ بَنِي آدَمَ، ثُمَّ اخْتَارَ مِنْهُمْ بَنِي كِنَانَةَ مِنْ خُزَيْمَةَ، ثُمَّ اخْتَارَ مِنْ وَلَدِ كِنَانَةَ قُرَيْشًا ثُمَّ اخْتَارَ مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ ثُمَّ اخْتَارَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ مُحَمَّدًا ﷺ، واختار أمته على سائر الأمم. كما في المسند عن معاوية بن حيدة مرفوعا: أَنْتُمْ تُوفُونَ (٣) سَبْعِينَ أُمَّةً، أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ.
وفي " مسند البزار " من حديث أبي الدرداء مرفوعا: «إن الله سبحانه قال لعيسى بن مريم: إني باعث بَعْدِكَ أُمَّةً إِنْ أَصَابَهُمْ مَا يُحِبُّونَ حَمِدُوا وَشَكَرُوا، وَإِنْ أَصَابَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ احْتَسَبُوا وَصَبَرُوا، وَلَا حِلْمَ وَلَا عِلْمَ قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ هَذَا وَلَا حِلْمَ وَلَا عِلْمَ؟ قَالَ: أعطيهم من حلمي وعلمي»
[فصل اختص الله نفسه بالطيب]
فصل
اختص الله نفسه بالطيب والمقصود أن الله سبحانه اختار من كل جنس أطيبه، فاختصهم لنفسه، فإنه ﷾ طَيِّبٌ لَا يُحِبُّ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَلَا يَقْبَلُ من القول والعمل والصدقة إلا الطيب.
وَبِهَذَا يُعْلَمُ عُنْوَانُ سَعَادَةِ الْعَبْدِ وَشَقَاوَتِهِ، فَإِنَّ الطَّيِّبَ لَا يُنَاسِبُهُ إِلَّا الطَّيِّبُ وَلَا يَرْضَى إِلَّا بِهِ، وَلَا يَسْكُنُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا يَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ إِلَّا بِهِ.
فَلَهُ مِنَ الْكَلَامِ الكلام الطيب الذي لا يصعد إلى الله إلا هو
_________
(١) أخرجه مسلم في صحيحه (٧٧٠) في صلاة المسافرين من حديث عائشة ﵂ وأبو عوانة.
(٢) إشارة لقوله تعالى: وإذ أخذنا ٩٣ / ٧ وشرع لكم ٤٢ / ١٣.
(٣) مسند أحمد جـ ٥ ص١٥.
1 / 7
، وهو أشد نفرة عن الفحش في المقال وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْبُهْتِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَكُلِّ كَلَامٍ خَبِيثٍ.
وَكَذَلِكَ لَا يَأْلَفُ مِنَ الْأَعْمَالِ إلا أطيبها، وهي التي أجمعت عَلَى حُسْنِهَا الْفِطَرُ السَّلِيمَةُ مَعَ الشَّرَائِعِ النَّبَوِيَّةِ، وزكتها العقول الصحيحة، مثل أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويؤثر مرضاته على هواه، ويتحبب إليه بجهده، وَيُحْسِنَ إِلَى خَلْقِهِ مَا اسْتَطَاعَ، فَيَفْعَلَ بِهِمْ ما يحب أن يفعلوه به.
وله من الأخلاق أطيبها، كالحلم والوقار، والصبر والرحمة، والوفاء والصدق، وسلامة الصدر، والتواضع، وصيانة الوجه عن بذل وتذلله لغير الله.
وَكَذَلِكَ لَا يَخْتَارُ مِنَ الْمَطَاعِمِ إِلَّا أَطْيَبَهَا، وهو الحلال الهنيء الَّذِي يُغَذِّي الْبَدَنَ وَالرُّوحَ أَحْسَنَ تَغْذِيَةٍ مَعَ سَلَامَةِ الْعَبْدِ مِنْ تَبِعَتِهِ.
وَكَذَلِكَ لَا يَخْتَارُ من المناكح إلا أطيبها، ومن الأصحاب إلا الطيبين. فهذا ممن قال الله فيهم: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٣٢] (١) ومن الذين تقول لَهُمْ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [الزُّمَرِ: ٧٣] (٢) وَهَذِهِ الْفَاءُ تَقْتَضِي السَّبَبِيَّةَ، أَيْ: بِسَبَبِ طيبكم فادخلوها. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [النور: ٢٦] (٣) .
ففسرت بالكلمات الخبيثات للرجال الخبيثين، والكلمات الطيبات للرجال الطيبين.
وفسرت بالنساء الطيبات للرجال الطيبين وبالعكس، وهي تعم ذلك وغيره.
والله سبحانه جَعَلَ الطَّيِّبَ بِحَذَافِيرِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَجَعَلَ الْخَبِيثَ بحذافيره في النار، فدار أخلصت للطيب، ودار أخلصت للخبيث، ودار مزج فيها الخبيث بالطيب، وهي هذه الدار، فإذا كان يوم المعاد، ميز الله الخبيث من الطيب، فعاد الأمر إلى دارين فقط.
والمقصود أن الله جعل للشقاوة والسعادة عنوانا يعرفان به، وقد يكون في الرجل مادتان، فأيهما غلبت عَلَيْهِ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا، فَإِنْ أَرَادَ اللَّهُ بعبده خيرا طهره قبل الموافاة فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار. وحكمته تعالى تأبى أن يجاوره العبد في داره
_________
(١) ٣٢ النحل.
(٢) ٧٣ الزمر.
(٣) ٢٦ النور.
1 / 8
بخبائثه، فيدخله النار طهرة له، وإقامة هذا النوع فيها على حسب سرعة زوال الخبائث وبطئها.
ولما كان المشرك خبيث الذات، لم تطهره النار، كالكلب إذا دخل البحر.
ولما كان المؤمن الطيب بريئا مِنَ الْخَبَائِثِ، كَانَتِ النَّارُ حَرَامًا عَلَيْهِ، إِذْ ليس فيه ما يقتضي تطهيره، فسبحان من بهرت حكمته العقول.
[فصل في وجوب معرفة هدي الرسول]
فصل
في وجوب معرفة هدي الرسول ومن ههنا يعلم اضْطِّرَارَ الْعِبَادِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ إِلَى مَعْرِفَةِ الرسول وما جاء به، فإنه لا سبيل إلى الفلاح إلا على يديه، ولا إلى معرفة الطيب من الخبيث على التفصيل إلا من جهته، فأي حاجة فرضت وضرورة عرضت، فضرورة العبد إلى الرسول فوقها بكثير.
وما ظنك بمن إن غَابَ عَنْكَ هَدْيُهُ، وَمَا جَاءَ بِهِ طَرْفَةَ عين فسد قلبك، وَلَكِنْ لَا يُحِسُّ بِهَذَا إِلَّا قَلْبٌ حَيٌّ،
وما لجرح بميت إيلام (١)
وإذا كانت السعادة معلقة بهديه ﷺ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ من أحب نجاة نفسه أَنْ يَعْرِفَ مِنْ هَدْيِهِ وَسِيرَتِهِ وَشَأْنِهِ مَا يخرج به عن خطة الجاهلين.
وَالنَّاسُ فِي هَذَا بَيْنَ مُسْتَقِلٍّ وَمُسْتَكْثِرٍ وَمَحْرُومٍ، وَالْفَضْلُ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذو الفضل العظيم.
[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ ﷺ فِي الْوُضُوءِ]
فَصْلٌ
فِي هَدْيِهِ ﷺ فِي الْوُضُوءِ كَانَ ﷺ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ فِي غَالِبِ أَحْيَانِهِ، وَرُبَّمَا صَلَّى الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ.
وَكَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ تَارَةً وَبِثُلُثَيْهِ تَارَةً، وَبِأَزْيَدَ مِنْهُ تارة (٢) . وَكَانَ مِنْ أَيْسَرِ النَّاسِ صَبًّا لِمَاءِ الْوُضُوءِ، ويحذر أمته من الإسراف فيه، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا.
وَفِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ مَرَّتَيْنِ، وَبَعْضِهَا ثَلَاثًا. وَكَانَ يَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ تَارَةً بِغَرْفَةٍ، وَتَارَةً بِغَرْفَتَيْنِ، وَتَارَةً بِثَلَاثٍ، وَكَانَ يَصِلُ بَيْنَ المضمضة والاستنشاق. وكان يستنشق باليمين
_________
(١) عجز بيت للمتنبي وصدره: من يهن يسهل الهوان عليه.
(٢) المد: إناء يتسع لملء الكفين من الحبوب.
1 / 9
وينتثر باليسرى، وكان يمسح رأسه كله تارة، وتارة يقبل بيديه ويدبر بهما. ولم يصح أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ بَعْضِ رَأْسِهِ الْبَتَّةَ، ولكن كان إذا مسح على ناصيته كمل على العمامة، ولم يتوضأ إِلَّا تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ أَنَّهُ أخل بهما مرة واحدة. وقد صرح الإمام ابن القيم في أكثر من موضع من كتبه: بوجوب المضمضة والاستنشاق. وكذلك الوضوء مرتبا متواليا، ولم يخل به مرة واحدة، وَكَانَ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُونَا فِي جوربين أو خفين، ويمسح أذنيه مع رأسه ظاهرهما وباطنهما.
وكل حديث في أذكار الوضوء التي تقال عليه كذب، غير التسمية في أوله، وقول: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ المتطهرين» في آخره.
وحديث آخر في سنن النسائي «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ» وَلَمْ يَكُنْ يقول في أوله: نويت. ولا أحد من الصحابة ألبتة. وَلَمْ يَتَجَاوَزِ الثَّلَاثَ قَطُّ.
وَكَذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ عنه أنه تجاوز المرفقين والكعبين. ولم يكن يعتاد تنشيف أعضائه.
وكان يخلل لحيته أحيانا ولم يواظب على ذلك، وكذلك تخليل الأصابع ولم يكن يحافظ عليه، وأما تحريك الخاتم فروي فيه حديث ضعيف.
وصح عنه أنه مسح في الحضر والسفر، وَوَقَّتَ لِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ولياليهن، وكان يمسح ظاهر الخفين ومسح على الجوربين (١) وَمَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهَا وَمَعَ النَّاصِيَةِ ولكن يحتمل أن يكون خاصا بحال الحاجة، ويحتمل العموم وهو أظهر. وَلَمْ يَكُنْ يَتَكَلَّفُ ضِدَّ حَالِهِ الَّتِي عَلَيْهَا قدماه، بل إن كانتا في الخفين مسح، وإن كانتا مكشوفتين غسل.
وكان يتيمم بضربة واحدة للوجه والكفين، ويتيمم بِالْأَرْضِ الَّتِي يُصَلِّي عَلَيْهَا تُرَابًا كَانَتْ أَوْ سَبْخَةً أَوْ رَمْلًا.
وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «حَيْثُمَا أَدْرَكَتْ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وطهوره»
_________
(١) ويظهر لمن تتبع الأدلة أن الكثير من الشروط التي يذكرها البعض في صفة الجوربين لا مستند لها، وإنما المسح يصح على كل جورب. وللعلامة الشيخ جمال الدين القاسمي ﵀ رسالة قيمة في الموضوع. طبعها المكتب الإسلامي مع ملحق قيم للمحدث الشيخ ناصر الدين الألباني.
1 / 10
وَلَمَّا سَافَرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قطعوا تلك الرمال وَمَاؤُهُمْ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ أَنَّهُ حَمَلَ مَعَهُ التُّرَابَ، وَلَا أَمَرَ بِهِ، ولا فعله أحد من أصحابه. وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا قَطَعَ بِأَنَّهُ كَانَ يَتَيَمَّمُ بالرمل.
وجعله قائما مقام الْوُضُوءِ (١) . ..
[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ ﷺ فِي الصَّلَاةِ]
فَصْلٌ
فِي هَدْيِهِ ﷺ فِي الصَّلَاةِ كَانَ ﷺ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا قَبْلَهَا، ولا تلفظ بالنية، ولا استحبه أحد من التابعين ولا الأئمة الأربعة.
وَكَانَ دَأْبُهُ فِي إِحْرَامِهِ لَفْظَةَ: اللَّهُ أَكْبَرُ. لا غيرها، وكان يرفع يديه معها ممدودتي الأصابع مستقبلا بهما الْقِبْلَةَ إِلَى فُرُوعِ أُذُنَيْهِ، وَرُوِيَ إِلَى مَنْكِبَيْهِ، ثم يضع اليمنى على ظهر اليسرى فوق الرسغ والساعد، ولم يصح عنه موضع وضعهما، لكن ذكر أبو داود عن علي: من السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة (٢) .
وَكَانَ يَسْتَفْتِحُ تَارَةً بِ: «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ» وَتَارَةً يَقُولُ: «وَجَّهْتُ وجهي للذي فطر السموات وَالْأَرْضَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ»
«اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، واصرف عني سيئها لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس
_________
(١) وأما الحديث المروي عن ابن عباس " من السنة أن لا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة واحدة " فلا تقوم به حجة، حيث ضعف العلماء رواية: الحسن ابن عمارة، وقال عن هذا الحديث الحافظ ابن حجر في " بلوغ المرام " ضعيف جدا.
(٢) إن هذا السطر ليس من " زاد المعاد " وهذا الحديث ضعيف، وإنما صح عنه ﷺ على الصدر لحديث أبو داود وابن خريمة (١ / ٥٤ / ١) وأحمد وأبو الشيخ في تاريخ (أصبهان) ص ١٢٥ ومن أحد أسانيده الترمذي.
1 / 11
إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وأتوب إليك» ولكن المحفوظ أنه فِي قِيَامِ اللَّيْلِ.
وَتَارَةً يَقُولُ: «اللَّهُمَّ رَبَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل. .» إلى آخره. وقد تقدم (١) .
وَتَارَةً يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السموات والأرض ومن فيهن» إلى آخره (٢) . ثم ذكر (٣) نوعين آخرين، ثم قال: فكل هذه الأنواع قد صحت عنه.
وروي عنه أنه كان يستفتح ب «سبحانك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إله غيرك» ذكره أهل " السنن " والذي قَبْلَهُ أَثْبَتُ مِنْهُ. وَلَكِنْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ أنه يَسْتَفْتِحُ بِهِ فِي مَقَامِ النَّبِيِّ ﷺ ويجهر به، يعلمه الناس. قال أحمد أذهب إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ عمر، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اسْتَفْتَحَ بِبَعْضِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ كان حسنا.
وَكَانَ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ.
وَكَانَ يَجْهَرُ بـ " بسم الله الرحمن الرحيم " تارة ويخفيها أكثر.
وَكَانَتْ قِرَاءَتَهُ مَدًّا، يَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَيَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ قَالَ: " آمِينَ " فَإِنْ كَانَ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ، وَقَالَهَا مَنْ خَلْفَهُ.
وَكَانَ له سكتتان: سكتة بين التكبيرة والقراءة، واختلف في الثانية، فروي بعد الفاتحة، وروي أنها قبل الركوع.
وقيل: بل سكتتان غير الأولى، والظاهر أنهما اثنتان فقط، وأما الثالثة فلطيفة، لأجل تراد النفس، فمن لم يذكرها، فلقصرها.
فإذا فرغ من قراءة الْفَاتِحَةِ أَخَذَ فِي سُورَةٍ غَيْرِهَا، وَكَانَ يُطِيلُهَا تَارَةً وَيُخَفِّفُهَا لِعَارِضٍ مِنْ سَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِ، ويتوسط فيها غالبا.
_________
(١) في الصفحة رقم ٢.
(٢) هو في " الصحيحين " ونصه كما في " صَحِيحِ مسلم " (٧٦٩): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ إذا قام إلى الصلاة في جوف الليل: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ولك الحمد، أنت قيام السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حق، والجنة حق، والنار حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وأخرت، وأسررت وأعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت ".
(٣) المقصود هنا الإمام ابن القيم صاحب الأصل.
1 / 12
[فصل في قراءة صلاة الفجر]
فصل
في قراءة صلاة الفجر وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِنَحْوِ سِتِّينَ آيَةً إلى مائة، وصلاها بـ (سورة ق) (١) وصلاها بـ (سورة الرُّومِ)، وَصَلَّاهَا بِ ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ [التكوير: ١] (٢) وصلاها بسورة ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ﴾ [الزلزلة: ١] (٣) في الركعتين كلتيهما، وصلاها (بالمعوذتين)، وكان في السفر، وصلاها: فاستفتح سُورَةِ (الْمُؤْمِنُونَ) حَتَّى إِذَا بَلَغَ ذِكْرَ مُوسَى وَهَارُونَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ.
وكان يصليها يوم الجمعة بـ (الم السجدة) وَ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ﴾ [الإنسان: ١] لِمَا اشتملتا عليه من الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَخَلْقِ آدَمَ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وذكر ما كان وما يكون في يوم الجمعة، كَمَا كَانَ يَقْرَأُ فِي الْمَجَامِعِ الْعِظَامِ، كَالْأَعْيَادِ والجمعة بـ (سورة ق)، وَ(اقْتَرَبَتْ) وَ(سَبِّحْ) وَ(الْغَاشِيَةِ) .
[فصل في هديه في القراءة في باقي الصلوات]
فصل
في هديه في القراءة في باقي الصلوات وَأَمَّا الظُّهْرُ، فَكَانَ يُطِيلُ قِرَاءَتَهَا أَحْيَانًا، حَتَّى قَالَ أبو سعيد: كَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ تُقَامُ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقْضِي حَاجَتَهُ، ثُمَّ يَأْتِي أَهْلَهُ فَيَتَوَضَّأُ، وَيُدْرِكُ النَّبِيَّ ﷺ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِمَّا يُطِيلُهَا. رَوَاهُ مسلم، وَكَانَ يَقْرَأُ فِيهَا تَارَةً بِقَدْرِ ﴿الم - تنزيل﴾ [السجدة: ١ - ٢] السجدة (٤) وَتَارَةً بِـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى: ١] ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾ [الليل: ١] (٥) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (٦) .
وأما العصر، فعلى النصف من قراءة الظُّهْرِ إِذَا طَالَتْ، وَبِقَدْرِهَا إِذَا قَصُرَتْ.
وَأَمَّا الْمَغْرِبُ، فَكَانَ هَدْيُهُ فِيهَا خِلَافَ عَمَلِ النَّاسِ اليوم، فإنه صلاها مرة
_________
(١) مسلم والترمذي.
(٢) مسلم وأبو داود.
(٣) أبو داود والبيهقي بسند صحيح.
(٤) أحمد ومسلم.
(٥) أبو داود والترمذي وصححه وكذا ابن خزيمة (١ / ٦٧ / ٢) .
(٦) أبو داود والترمذي وصححه وكذا ابن خزيمة (١ / ٦٧ / ٢ / ٢) .
1 / 13
بـ (الأعراف) في الركعتين، ومرة بـ (الطور) (١) ومرة بـ (المرسلات) (٢) .
وأما المداومة على قراءة قصار المفصل فيها، فهو من فعل مروان (٣) . ولهذا أنكر عليه زيد بن ثابت قال ابن عبد البر روي عنه أنه قرأ في المغرب بـ (المص) (٤) وبـ (الصافات)، وبـ (الدخان) و﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى: ١] وبـ (التين) (٥) وبـ (المعوذتين) وبـ (الْمُرْسَلَاتِ) وَأَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِيهَا بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ ; وكلها آثار صحاح مشهورة.
وأما عشاء الآخرة، فقرأ ﷺ فيها بـ (التين) (٦) وَوَقَّتَ لمعاذ فِيهَا: بِـ ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾ [الشمس: ١] وبـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى: ١] ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾ [الليل: ١] وَنَحْوِهَا.
وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ قِرَاءَتَهُ فِيهَا بـ (البقرة) وقال لَهُ: «أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا معاذ؟» فَتَعَلَّقَ النَّقَّارُونَ (٧) بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى مَا قَبْلَهَا وما بَعْدَهَا.
وَأَمَّا الْجُمُعَةُ، فَكَانَ يَقْرَأُ فِيهَا بِسُورَتَيِ (الجمعة) و(المنافقين) (٨) وسورتي: (سبح) و(الغاشية) (٩) .
وأما الأعياد، فتارة يقرأ بـ (ق) و(اقتربت) (١٠) كاملتين، وتارة بـ (سبح) و(الغاشية) (١١) وهذا الهدي الذي استمر عَلَيْهِ إِلَى أَنْ لَقِيَ اللَّهَ ﷿.
ولهذا أخذ به الخلفاء، فقرأ أبو بكر في الفجر سورة (البقرة) حتى سلم قريبا من طلوع الشمس (١٢) . وكان بعده عمر يقرأ فيها بـ (يوسف) و(النحل) و(هود) و(بني إسرائيل) ونحوها.
وأما قوله: «أيكم أمّ الناس فليخفف» فالتخفيف أمر نسبي يرجع فيه إِلَى مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ، لا إلى شهوات المأمومين.
وهديه الذي كان يواظب عليه، هو الحاكم في كل ما تنازع فيه المتنازعون.
وكان لا يعين سورة بعينها لا يقرأ
_________
(١) البخاري ومسلم.
(٢) البخاري ومسلم.
(٣) هو مروان بن الحكم. والذي أنكر عليه المداومة. وثبت عنه ﷺ بالقصار في " مسند أحمد " و" البخاري " و" مسلم ".
(٤) البخاري وأبو داود.
(٥) الطبراني والمقدسي بسند صحيح.
(٦) البخاري ومسلم والنسائي.
(٧) الذين يجعلون صلاتهم كنقر الديكة.
(٨) مسلم وأبو داود.
(٩) مسلم وأبو داود.
(١٠) مسلم وأبو داود.
(١١) مسلم وأبو داود.
(١٢) فقالوا له: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، كادت الشمس أن تطلع! فقال: لو طلعت لم نجدها غافلين.
1 / 14
إلا بها، إلا في الجمعة والعيدين.
وكان من هديه قراءة السورة، وربما قرأها في الركعتين. وَأَمَّا قِرَاءَةُ أَوَاخِرِ السُّوَرِ وَأَوْسَاطِهَا، فَلَمْ يُحْفَظْ عنه.
وأما قراءة السورتين في الركعة، فكان يفعله في النافلة. وَأَمَّا قِرَاءَةُ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ فِي رَكْعَتَيْنِ مَعًا، فقلما كان يفعله.
وكان يطل الركعة الأولى على الثانية من كُلِّ صَلَاةٍ، وَرُبَّمَا كَانَ يُطِيلُهَا، حَتَّى لَا يسمع وقع قدم.
[فصل في ركوعه ﵌]
فصل
في ركوعه ﵌ فإذا فرغ من القراءة، رفع يديه وَكَبَّرَ رَاكِعًا، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كَالْقَابِضِ عَلَيْهِمَا، وَوَتَّرَ يَدَيْهِ، فَنَحَّاهُمَا عَنْ جَنْبَيْهِ، وَبَسَطَ ظهره ومده، واعتدل فلم ينصب رأسه ولم يخفضه، بل حيال ظهره.
فلم ينصب رأسه ولم يخفضه، بل حيال ظهره. وَكَانَ يَقُولُ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ» (١) وَتَارَةً يَقُولُ مَعَ ذَلِكَ، أَوْ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» وَكَانَ رُكُوعُهُ المعتاد مقدار عشر تسبيحات، وسجوده كذلك، وَتَارَةً يَجْعَلُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ بِقَدْرِ الْقِيَامِ، وَلَكِنْ كان يفعله أحيانا في صلاة الليل وحده. فهديه الغالب تَعْدِيلُ الصَّلَاةِ وَتَنَاسُبُهَا.
وَكَانَ يَقُولُ أَيْضًا فِي رُكُوعِهِ: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ» (٢) وَتَارَةً يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي، وَبَصَرِي وَمُخِّي، وَعَظْمِي، وَعَصَبِي» (٣) وَهَذَا إِنَّمَا حُفِظَ عَنْهُ فِي قِيَامِ الليل.
ثم يرفع رأسه قَائِلًا: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَكَانَ دَائِمًا يُقِيمُ صُلْبَهُ، إِذَا رَفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ، وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَيَقُولُ: «لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود» وكان إذا استوى قال: «ربنا ولك الحمد» وربما
_________
(١) أحمد وأبو داود وابن ماجه.
(٢) مسلم وأبو عوانة.
(٣) مسلم.
1 / 15
قال: «اللهم ربنا لك الحمد» وأما الجمع بين اللهم والواو، فَلَمْ يَصِحَّ (١) .
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ إِطَالَةُ هَذَا الركن بقدر الركوع، فصح عنه أنه كان يقول فيه: «اللهم ربنا لك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا بينهما، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» (٢) وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِيهِ: «اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ»
وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ كَرَّرَ فِيهِ قَوْلَهُ: «لِرَبِّيَ الْحَمْدُ، لربي الحمد» (٣) .
حتى كان بقدر ركوعه.
وذكر مسلم عَنْ أنس: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا قَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» قَامَ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَوْهَمَ. ثُمَّ يَسْجُدُ ويقعد بين السجدتين حتى نقول: قد أوهم فهذا هديه المعلوم، وَتَقْصِيرُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ مِمَّا تَصَرَّفَ فِيهِ أُمَرَاءُ بني أمية حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ.
[فَصْلٌ في كيفية سجوده]
فَصْلٌ ثُمَّ كَانَ يُكَبِّرُ وَيَخِرُّ سَاجِدًا، وَلَا يرفع يديه. وكان يضع ركبتيه ثُمَّ يَدَيْهِ بَعْدَهُمَا، ثُمَّ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ. هذَا هو الصحيح (٤) فكان أَوَّلُ مَا يَقَعُ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ الْأَقْرَبَ إليها فالأقرب، وأول ما يرتفع الأعلى فالأعلى، فإذا رفع رأسه أول، ثم يديه، ثم ركبتيه، وهكذا عكس فعل البعير. وهو نهي عن التشبه بالحيوانات في الصلاة، فَنَهَى عَنْ بُرُوكٍ كَبُرُوكِ الْبَعِيرِ، وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ، وَافْتِرَاشٍ كَافْتِرَاشِ السَّبُعِ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ، وَنَقْرٍ كَنَقْرِ الْغُرَابِ، وَرَفْعِ الْأَيْدِي وَقْتَ السَّلَامِ كأذناب الخيل الشمس.
وكان يَسْجُدُ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ دُونَ كَوْرِ الْعِمَامَةِ، ولم يثبت عنه
_________
(١) البخاري في (٢ / ٢٣٤) صح عنه ﷺ الجمع.
(٢) مسلم وأبو عوانة.
(٣) أبو داود والنسائي بسند صحيح.
(٤) اختار الإمام مالك وضع اليدين قبل الركبتين، وهو رواية عن الإمام أحمد وبعض أهل الحديث. وقال بعضهم: إن ركبتي البعير في يديه، ومخالفة التشبه تقتضي تأخر الركبتين وتقديم الكفين. وانظر تفصيل ذلك في " صفة صلاة النبي " للألباني ص ١٤٧.
1 / 16
السجود عليه، وكان يَسْجُدُ عَلَى الْأَرْضِ كَثِيرًا، وَعَلَى الْمَاءِ وَالطِّينِ، وَعَلَى الْخُمْرَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ خُوصِ النَّخْلِ، وَعَلَى الْحَصِيرِ الْمُتَّخَذِ مِنْهُ، وَعَلَى الْفَرْوَةِ الْمَدْبُوغَةِ.
وَكَانَ إِذَا سَجَدَ مَكَّنَ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ مِنَ الْأَرْضِ، ونحى يديه عن جنبيه، وجافاهما حتى يرى بياض إبطيه، وكان يضع يديه حذو منكبيه وأذنيه، ويعتدل فِي سُجُودِهِ، وَيَسْتَقْبِلُ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ، ويبسط كفيه وأصابعه، ولا يفرج بينهما، ولا يقبضهما. وَكَانَ يَقُولُ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى» (١) وَأَمَرَ بِهِ، ويقول: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي» (٢) ويقول: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ» (٣) .
وَكَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ، وَبِكَ آمَنْتَ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ» (٤) وَكَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ» (٥) وَكَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغفر لي خطاياي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي، وخطاياي وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أَعْلَنْتُ أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» وَأَمَرَ بِالِاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ، وَقَالَ: «إنه قمن أن يستجاب لكم»
[فصل في كيفية جلوسه وإشارته في التشهد]
فصل ثم يرفع رأسه مكبرا غير رافع يديه، ثم يجلس مفترشا يفرش اليسرى، ويجلس عليها، وينصب اليمنى، ويضع يديه على فخذيه، ويجعل مرفقيه على فخذيه، وطرف يده على ركبتيه، ويقبض اثنتين من أصابعه، وحلق حلقة، ثم يرفع إصبعه يدعو بها، ولا يحركها، ثم يقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، وَاجْبُرْنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي» هكذا ذكره ابن عباس عنه.
وذكر حذيفة عنه أنه كان يقول: «رب اغفر لي» ثم ينهض على صدور
_________
(١) أحمد وأبو داود وابن ماجه.
(٢) البخاري ومسلم.
(٣) مسلم وأبو عوانة.
(٤) مسلم.
(٥) مسلم.
1 / 17
قدميه وركبتيه، معتمدا على فخذيه، فإذا نهض افتتح القراءة ولم يسكت، كما يسكت عند الاستفتاح. ثم يصلي الثانية كالأولى إِلَّا فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: السُّكُوتِ وَالِاسْتِفْتَاحِ، وَتَكْبِيرَةِ الإحرام، وتطويلها.
فَإِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ، وَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فخذه الأيسر، ويده اليمنى على فخذه الأيمن، وأشار بالسبابة، وكان لا ينصبها نصبا، ولا يقيمها، بل يحنيها شيئا يسيرا، ولا يحركها، ويرفعها يدعو بها، ويرمي بصره إليها، ويبسط اليسرى على، وَيَتَحَامَلُ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا صِفَةُ جُلُوسِهِ، فَكَمَا تَقَدَّمَ بين السجدتين سواء.
وأما حديث ابن الزبير الذي رواه مسلم كَانَ إِذَا قَعَدَ فِي الصَّلَاةِ جَعَلَ قَدَمَهُ الأيسر بين فخذه وساقه، وفرش قدمه الأيمن. فهذا في التشهد الأخير. ذكر ابن الزبير أنه يفرش اليمين، وذكر أبو حميد أنه ينصبها، وهذا والله أعلم ليس باختلاف، فإنه كان لا يجلس عليها، بَلْ يُخْرِجُهَا عَنْ يَمِينِهِ، فَتَكُونُ بَيْنَ الْمَنْصُوبَةِ والمفروشة، أو يقال: كان يفعل هذا وهذا، فكان ينصبها، وربما فرشها أحيانا، وهو أروح.
ثم كان يتشهد دائما بهذه الْجِلْسَةِ، وَيُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ أَنْ يَقُولُوا: «التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أن محمدا عبده ورسوله» وكان يخففه جدا كأنه يصلي على الرضف (١) وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ فِي حَدِيثٍ قَطُّ أَنَّهُ كان يصلي عليه وعلى آله فيه، ولا يستعيذ فيه من عذاب القبر، وعذاب جهنم، وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَفِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَمَنِ استحبه فإنما فهمه من عمومات قد تبين موقعها وَتَقْيِيدُهَا بِالتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ.
ثُمَّ كَانَ يَنْهَضُ مُكَبِّرًا عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ، وَعَلَى رُكْبَتَيْهِ، مُعْتَمِدًا عَلَى فخذيه. وفي " صحيح مسلم " وبعض طرق البخاري أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، ثُمَّ كَانَ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَحْدَهَا، وَلَمْ يَثْبُتْ عنه أنه قرأ في الأخيرتين بعد الفاتحة شيئا.
ولم يكن من هديه الالتفات في الصلاة. وفي " صحيح البخاري " أنه سئل عنه، فَقَالَ: «هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ العبد» وكان يفعله في الصلاة أحيانا لعارض، لم يكن
_________
(١) الرضف: الحجرات المحماة بالنار.
1 / 18
من فعله الراتب، كالتفاته إلى الشعب الذي بعث إليه الطليعة (١) والله أعلم. وكان يدعو بَعْدَ التَّشَهُّدِ، وَقَبْلَ السَّلَامِ، وَبِذَلِكَ أَمَرَ فِي حديث أبي هريرة وحديث فضالة.
وأما الدعاء بعد السلام مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ أَوِ الْمَأْمُومِينَ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ من هديه أصلا وَعَامَّةُ الْأَدْعِيَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالصَّلَاةِ إِنَّمَا فَعَلَهَا فِيهَا وَأَمَرَ بِهَا فِيهَا. وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِحَالِ المصلي، فإنه مقبل على ربه، فإذا سلم زال ذلك. ثُمَّ كَانَ ﷺ «يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَعَنْ يساره كذلك»، هذا كان فعله الراتب، وروي عنه أنه كان يسلم تسليمة واحدة من تلقاء وجهه، لكن لم يثبت، وأجود ما فيه حديث عائشة وهو في " السنن "، لكنه في قيام الليل، وهو حديث معلول، على أنه لَيْسَ صَرِيحًا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى التَّسْلِيمَةِ الْوَاحِدَةِ.
وكان يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ فَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ» وَكَانَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ أَيْضًا: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَوَسِّعْ لِي فِي داري، وبارك لي في ما رَزَقْتَنِي» وَكَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما، وأسألك لسانا صَادِقًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تعلم»
والمحفوظ في أدعيته كلها في الصلاة بلفظ الإفراد.
«وكان إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ طَأْطَأَ رَأْسَهُ»، ذَكَرَهُ أحمد، «وَكَانَ فِي التَّشَهُّدِ لَا يُجَاوِزُ بَصَرُهُ إِشَارَتَهُ»، وقد جعل الله قرة عينه ونعيمه في الصلاة، فكان يقول: «يا بلال أرحنا بالصلاة» ولم يشغله ذلك عن مراعاة المأمومين مع كمال حضور قلبه.
«وَكَانَ يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ يُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَيُخَفِّفُهَا مَخَافَةَ أَنْ يَشُقَّ على أمه»، وَكَذَلِكَ «كَانَ يُصَلِّي الْفَرْضَ وَهُوَ حَامِلٌ أمامة بنت ابنته عَلَى عَاتِقِهِ، إِذَا قَامَ حَمَلَهَا، وَإِذَا رَكَعَ وسجد وضعها»، «وكان يصلي فيجيء الحسن والحسين فيركبان على ظَهْرَهُ، فَيُطِيلُ السَّجْدَةَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُلْقِيَهُ عَنْ ظهره»، «وكان يصلي فتجيء عائشة فيمشي، فيفتح لها الباب، ثم يرجع
_________
(١) وكان ذلك في صلاة الصبح، وقد أَرْسَلَ فَارِسًا إِلَى الشِّعْبِ مِنَ اللَّيْلِ يَحْرُسُ.
1 / 19
إلى مصلاه» .
«وكان يرد السلام بالإشارة» (١) . وأما حديث «من أشار في صلاته فليعدها» فحديث باطل. وكان ينفخ في صلاته، ذكره أحمد وكان يبكي فيها، ويتنحنح لحاجة.
«وكان يصلي حافيا تارة، ومنتعلا أخرى» (٢) وأمر بالصلاة في النعل مخالفة اليهود وَكَانَ يُصَلِّي فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ تَارَةً، وَفِي الثَّوْبَيْنِ تَارَةً وَهُوَ أَكْثَرُ.
وَقَنَتَ فِي الْفَجْرِ بعد الركوع شهرا ثم ترك، وكان قنوته لعارض، فلما زال تركه، فكان هديه الْقُنُوتَ فِي النَّوَازِلِ خَاصَّةً، وَتَرْكَهُ عِنْدَ عَدِمِهَا، وَلَمْ يَكُنْ يَخُصُّهُ بِالْفَجْرِ، بَلْ كَانَ أَكْثَرُ قنوته فيه لأجل ما يشرع فيه من الطول، ولقربها من السحر وساعة الإجابة، والتنزل الإلهي.
[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ ﷺ في سجود السهو]
فَصْلٌ وَثَبَتَ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «إنما أنا بشر أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي» وَكَانَ لسهوه من تمام النعمة على أمته، وإكمال دينهم، ليقتدوا به، فقام من اثنتين في الرباعية.
فلما قضى صلاته، سجد قبل السلام، فأخذ منه أَنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ التي ليست بأركان سَجَدَ لَهُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَأُخِذَ مِنْ بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ ذَلِكَ، وَشَرَعَ فِي ركن لم يرجع.
«وسلم من ركعتين في إحدى صلاتي العشاء، ثُمَّ تَكَلَّمَ، ثُمَّ أَتَمَّهَا، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ سجد ثم سلم. وصلى وسلم، وانصرف وقد بقي من الصلاة ركعة، فقال له طلحة: نسيت ركعة. فرجع فدخل المسجد، فأمر بلالا فأقام، فصلى للناس ركعة»، ذكره أحمد.
صلى الظهر خمسا، فقالوا: صليت خمسا. فسجد بعد ما سلم.
وَصَلَّى الْعَصْرَ ثَلَاثًا ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَذَكَّرَهُ النَّاسُ، فَخَرَجَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً، ثُمَّ سَلَّمَ، ثم سجد، ثم سلم.
هذا مجموع ما حفظ عنه، وهي خمسة مواضع.
ولم يكن من هديه تغميض عينيه في الصلاة، وكرهه أحمد وغيره، وقالوا: هو من فعل اليهود وأباحه جماعة، والصواب أن الفتح إن كان لا يخل بالخشوع، فهو أفضل، وإن حال بينه وبين الخشوع
_________
(١) أحاديث رد السلام بالإشارة، كثيرة وصريحة وقد تلقتها الأمة بالقبول، وهي في " السنن " و" المسند " ومع ذلك يقوم بالإنكار على من يحي هذه السنة.
(٢) لحديث أبو داود والبزار وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
1 / 20
لما في قبلته من الزخرف وغيره، فهناك لا يكره.
«وكان إذا سلم استغفر ثلاثا»، ثم قال: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ يَا ذا الجلال والإكرام» (١) ولا يمكث مستقبل القبلة إلا بقدر ذلك، ويسرع الانفتال إلى المأمومين. وكان ينقل عن يمينه وعن يساره، ثُمَّ كَانَ يُقْبِلُ عَلَى الْمَأْمُومِينَ بِوَجْهِهِ، وَلَا يَخُصُّ نَاحِيَةً مِنْهُمْ دُونَ نَاحِيَةٍ.
وَكَانَ إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشمس حسناء. وَكَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلَّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذا الجد منك الجد، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ، وَلَهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، ولو كره الكافرون» وَنَدَبَ أُمَّتَهُ إِلَى أَنْ يَقُولُوا فِي دُبُرِ كل صلاة مكتوبة: «سُبْحَانَ اللَّهِ. ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. ثَلَاثًا وثلاثين، والله أكبر ثلاثا وثلاثين ; وَتَمَامُ الْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وهو على كل شيء قدير» (٢) .
وَذَكَرَ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " عَنِ الحارث بن مسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذا صليت الصبح، فَقُلْ قَبْلَ أَنْ تَتَكَلَّمَ: اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنَ النَّارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ مِنْ يومك كتب الله لك جوازا مِنَ النَّارِ، وَإِذَا صَلَّيْتَ الْمَغْرِبَ، فَقُلْ قَبْلَ أَنْ تَتَكَلَّمَ: اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنَ النَّارِ، سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ، كَتَبَ الله لك جوازا من النار»
وكان إذا صلى إلى جدار ; جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَدْرَ مَمَرِّ الشَّاةِ، وَلَمْ يَكُنْ يَتَبَاعَدُ مِنْهُ، بَلْ «أَمَرَ بِالْقُرْبِ مِنَ السُّتْرَةِ»، «وَكَانَ إِذَا صَلَّى إِلَى عُودٍ، أَوْ عَمُودٍ، أَوْ شَجَرَةٍ، جَعَلَهُ عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ، أَوِ الْأَيْسَرِ، وَلَمْ يَصْمُدْ لَهُ صَمْدًا،» «وَكَانَ يَرْكُزُ الْحَرْبَةَ فِي السَّفَرِ، وَالْبَرِّيَّةِ، فَيُصَلِّي إِلَيْهَا، فَتَكُونُ سُتْرَتَهُ»، «وَكَانَ يُعَرِّضُ رَاحِلَتَهُ، فَيُصَلِّي إِلَيْهَا»، «وكان يأخذ الرحل، فيعدله، ويصلي
_________
(١) رواه الجماعة إلا البخاري.
(٢) البخاري ومسلم وأحمد.
1 / 21
إِلَى آخِرَتِهِ»، «وَأَمَرَ الْمُصَلِّيَ أَنْ يَسْتَتِرَ ; وَلَوْ بِسَهْمٍ، أَوْ عَصًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَلْيَخُطَّ خطا بالأرض»، فإن لم تكن سترة، فقد صح عنه أنه: «يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود» ومعارضه صحيح ليس بصريح، أو صريح ليس بصحيح.
وكان يصلي وعائشة نائمة في قبلته، وليس كالمار، فإن الرجل يحرم عليه المرور، وَلَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَكُونَ لَابِثًا بَيْنَ يدي المصلي.
[فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ ﷺ في السنن الرواتب والتطوعات]
فصل وكان ﷺ يُحَافِظُ عَلَى عَشْرِ رَكَعَاتٍ فِي الْحَضَرِ دَائِمًا، وَهِيَ الَّتِي قَالَ فيها ابن عمر: «حفظت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وركعتين بعد المغرب، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صلاة الفجر» «ولما فاتته الركعتان بعد الظهر، قضاهما في وقت النهي بعد العصر»، «وكان يصلي أحيانا قبل الظهر أربعا»، وأما الركعتان قبل المغرب، فصح عنه أنه قال: «صلوا قبل المغرب ركعتين وقال فِي الثَّالِثَةِ: لِمَنْ شَاءَ كَرَاهَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا الناس سنة»، وهذا هو الصواب ; أنها مستحبة، وليست سنة راتبة. وَكَانَ يُصَلِّي عَامَّةَ السُّنَنِ وَالتَّطَوُّعَ الَّذِي لَا سَبَبَ لَهُ فِي بَيْتِهِ لَا سِيَّمَا سُنَّةُ الْمَغْرِبِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَهَا في المسجد ألبتة، وله فعلها في المسجد، وكان محافظته عَلَى سُنَّةِ الْفَجْرِ أَشَدَّ مِنْ جَمِيعِ النَّوَافِلِ، وكذلك لم يكن يدعها هي والوتر، لا حضرا ولا سفرا، ولم ينقل عنه أنه صلى في السفر سنة راتبة غيرهما.
وقد اختلف الفقهاء أيهما آكد؟ وسنة الْفَجْرِ تَجْرِي مَجْرَى بِدَايَةِ الْعَمَلِ، وَالْوِتْرُ خَاتَمَتُهُ، ولذلك كان يصليهما بسورتي (الإخلاص) و(الكافرون) وَهُمَا الْجَامِعَتَانِ لِتَوْحِيدِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَتَوْحِيدِ الْمَعْرِفَةِ والإرادة، وتوحيد الاعتقاد والقصد، فـ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١] متضمنة لما يجب إثباته له تعالى من الأحدية المنافية لمطلق الشركة بوجه من الوجوه، ونفي الولد والوالد المقرر لكمال صمديته وغناه ووحدانيته، ونفي الكفء المتضمن لنفي الشبيه والمثيل والنظر، فتضمنت إثبات كل كمال، ونفي كل نقص، ونفي إثبات شبيه له أو مثيل في كماله، ونفي مطلق الشركة، وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي الَّذِي يُبَايِنُ صَاحِبُهُ جَمِيعَ فِرَقِ الضَّلَالِ وَالشِّرْكِ، ولهذا كانت تعدل ثلث القرآن، فإن مَدَارُهُ عَلَى الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ، وَالْإِنْشَاءُ
1 / 22