تقديم المترجم
العالم الأمريكي
خطاب
المقالات: المجموعة الأولى
التاريخ
الاعتماد على النفس
التعويض
الحب
الصداقة
البطولة
العقل
المقالات: المجموعة الثانية
الشاعر
الخبرة
الشخصية
الآداب
السياسة
تقديم المترجم
العالم الأمريكي
خطاب
المقالات: المجموعة الأولى
التاريخ
الاعتماد على النفس
التعويض
الحب
الصداقة
البطولة
العقل
المقالات: المجموعة الثانية
الشاعر
الخبرة
الشخصية
الآداب
السياسة
مختارات من مقالات أمرسن
مختارات من مقالات أمرسن
جمع وترجمة
محمود محمود
تقديم المترجم
رالف والدو أمرسن كاتب أمريكي، بل كاتب عالمي، عاش في القرن التاسع عشر، ونشر بين معاصريه كثيرا من الآراء الطريفة والأفكار النافذة. وقد ولد في اليوم الخامس والعشرين من شهر مايو من عام 1803م في مدينة بوستن بأمريكا لأب من رجال الدين. وبعدما تخرج في جامعة هارفرد اشتغل بالتعليم. ولكنه لم يلبث على هذه الحرفة طويلا، بل التحق بإحدى الكنائس قسيسا كأبيه. ولما كان يميل بطبعه إلى حرية الفكر، فقد أخذ يذيع على الناس خلال عظاته مبادئ ثورية لم تتفق وعقائدهم في ذلك الحين، فاشتد سخط العامة عليه، وتبرمهم به، حتى اضطر إلى التخلي عن عمله، ثم رحل إلى أوروبا، والتقى بكبار كتابها وشعرائها، وتعرف إلى كولردج ووردزورث وكارليل. وعاد بعدئذ إلى أمريكا واشتغل أستاذا بجامعة بوستن، وألقى كثيرا من المحاضرات العامة التي لفتت إليه الأنظار، وحينئذ أدرك الناس أن بينهم أديبا كبيرا وقائدا عظيما من قادة الفكر، وقوة تدفع الرأي الأمريكي إلى الأمام. ومات أمرسن في عام 1882م بعدما اعترف له الأمريكيون جميعا بالصدارة في الأدب، والزعامة في الفكر.
كان أمرسن عميق الفكر، ولكنه لم يكن فيلسوفا بما تحمل هذه الكلمة من معنى. لم يكن فيلسوفا له مذهب خاص وطريقة خاصة، بل إنه كثيرا ما يناقض نفسه فيما يكتب وما يقول. وأشهر ما خلف لنا هذا الكاتب العظيم «مقالاته» و«كتاب الطبيعة» و«خصائص الإنجليز» الذي نشره إثر عودته من زيارة إنجلترا، و«نماذج الرجال»، الذي صاغه على صورة كتاب كارليل «الأبطال وعبادة البطولة»، وله فوق هذا بعض المقطوعات الشعرية الرائعة.
وقد رأيت أن أقدم إلى قراء العربية في هذا الكتاب بضع صفحات من «مقالاته»، ليتدبروها ويتأملوا معانيها، كما يتزودوا مما اشتملت عليه من فلسفة وحكمة، وهي مجموعة من الآراء العميقة الثاقبة لا يدرك مراميها القارئ المتعجل العابر، وإنما يبلغ كنهها من يقف عند كل كلمة من كلماتها مترويا ومفكرا، وهي لا تتضمن علما مجردا لا نزاع فيه، أو معرفة دقيقة لا يرقى إليها الجدل، ولكنها إيحاء وإلهام، تبعث في قارئها الثقة بنفسه وبالله.
ولعل في هذه المنتخبات التي أوردناها هنا حافزا إلى الاستزادة لمن أراد مزيدا.
ومن النقاد من يعتقد أن «نماذج الرجال» من خير ما كتب أمرسن إطلاقا. وفي هذا الكتاب تخير أمرسن تلك الشخصيات التي كان يراها نماذج للبشرية. ولو ألقينا نظرة عاجلة على من كتب عنهم من الرجال عرفنا كثيرا من مبادئه في الحياة؛ فلم يشتمل كتابه على رجل من رجال الدين أو رجال الأخلاق والإصلاح الاجتماعي؛ إذ لم تكن له ثقة بأمثال هؤلاء من عظماء الرجال، إنما الأبطال عند أمرسن هم: أفلاطون الفيلسوف، وسودنبرج المتصوف، ومونتيني المتشكك، وشكسبير الشاعر، وجيته الكاتب، ونابليون رجل الدنيا، وهو عنده مثل أعلى للقدرة على العمل والتنفيذ، يقدره لأنه طهر الجو من أدران الإقطاع والامتيازات والملكية المستبدة، وربما لجأ إلى حشد الجيوش وإلى العنف والقوة، ولكن القوة عند أمرسن وسيلة ممقوتة تبررها الغاية النبيلة.
ويقول أمرسن عن أفلاطون: «ليس في العالم في وقت واحد أكثر من اثني عشر شخصا يقرءون أفلاطون ويفهمونه، وليس من بين هؤلاء من يستطيع أن يشتري نسخة واحدة من مؤلفاته، ومع ذلك فإن هذه المؤلفات تنحدر من جيل إلى جيل من أجل هذه القلة من القراء، كأن الله يحملها لهم بين يديه.» وهذه العبارة عن أفلاطون تنطبق على أمرسن نفسه إلى حد كبير.
عاش هذا الكاتب حياته للحكمة الخالصة والفكر المجرد، وكان يتوق دائما إلى زيارة مصر؛ ليستمد من وحي طبيعتها الجميلة وآثارها القديمة موضوعات للفكر والتأمل. فلما احترق مسكنه في عام 1872م وأوشك أن يعيش عيشة مشردة، أشفق عليه رفاقه ، وأرادوا أن يدخلوا على قلبه العزاء والسلوى، فلم يجدوا وسيلة خيرا من أن يقدموا له من معونة المال ما يكفي لبناء مسكن جديد، والقيام بالرحلة إلى مصر التي طالما كان يحلم بها. فاستطاع في أخريات حياته أن يحقق إحدى رغباته الدفينة، ورحل إلى مصر في شتاء عام 1872م، فجددت شمسها الدفيئة قواه، وأنعشت سماؤها الصافية ونيلها وصحراؤها وآثارها نفسه وقلبه، وكأنه التمس الحل للغز الحياة عند أبي الهول. وطاف بأنحاء الإسكندرية والقاهرة، ثم استقل «دهبية» نيلية سارت به جنوبا يشق بها صعيد مصر حتى بلغ الأقصر، فشهد آثارها، ثم واصل رحلته إلى أسوان؛ لأنه كان يتحرق شوقا إلى أن يطأ بقدميه جزيرة فيلة التي كان يعتقد أنها مستقر أوزيريس. وجاء في إحدى رسائله: «إن الرحلة إلى مصر كانت مليئة بما يسر الفؤاد، ولقد تنبهت إلى ما في هذه البلاد القديمة من عجائب. وسوف أذكر معابدها الضخمة التي تنتشر فوق مئات الأميال، والتي تتحدى زماننا الذي نعيش فيه، وترغمنا على التقدير والاحترام.» وفي موجز العبارة، كان لأمرسن في شتاء مصر الدافئ الدواء الناجع لجسمه الضعيف، وفي آثارها وصفاء سمائها تجديد لنشاطه الذهني واطمئنانه الروحي. •••
هذه كلمة أقدم بها هذا الكاتب الأمريكي الخالد إلى قراء العربية، وأختتمها بهذه العبارة التي وردت في إحدى مقالاته:
يؤثر الكاتب في عقول الجماهير بمقدار ما عنده من عمق التفكير ... فالكاتب الذي يستمد موضوعه من أذنه ولا يستمده من قلبه، ينبغي أن يعلم أنه يخسر بمقدار ما يربح ... ولا تقوم الشهرة الأدبية على الحظ؛ فإن أولئك الذين يصدرون الحكم النهائي على الكتاب ليسوا هؤلاء القراء المتحيزين الصاخبين الذين يضجون للكتاب عند ظهوره، إنما هي محكمة كأنها من الملائكة، هي جمهور لا يرتشي، ولا يتوسل إليه ولا يروع، ذلك الجمهور هو الذي يقرر شهرة الكاتب، ولا يبقى من الكتب إلا ما يستحق البقاء؛ فالغلاف المذهب، والورق الصقيل، والجلد المتين، ونسخ الهدايا الفاخرة التي تقدم للمكاتب، وكل أولئك لا يكفل للكاتب الذيوع إلا إلى أمد قصير.
وليس من شك في أن «مقالات» أمرسن التي نقلنا إلى العربية بعضها من بين تلك الكتب الخالدة، التي يشير إليها الكاتب، والتي لا تقوم شهرتها على ما يثور حولها من صخب وضجيج، ولكن على ما لها من قيمة ذاتية.
محمود محمود
مقدمة
بقلم بروكس أتكنسن
كان رالف والدو أمرسن أول فيلسوف أمريكي الروح؛ فمع أن أمريكا قد نالت استقلالها السياسي قبل مولده باثنين وعشرين عاما، إلا أنها كانت لا تزال تستمد ثقافتها من الخارج؛ فكان كوبر يكتب طبقا لتقاليد سكوت، وواشنطن إيرفنج يكتب بأسلوب أديسون. وقد عاش أمرسن سني حداثته في عصر من عصور التوسع حينما كان الأمريكان يتقدمون غربا بأعداد وافرة لم يسبق لها مثيل، ويطبقون مبدأ الديمقراطية في عزة وحماسة. وساد الجو في كل مكان استقلال تام في الروح وفي الواقع. وأعلن الرئيس منرو هذا الاستقلال للجمهور في مبادئه عام 1823م، كما صرح كلاي بشجاعة: «إننا (أي الأمريكان) نتطلع إلى الخارج أكثر مما ينبغي ... ولنكن أمريكيين حقيقيين صادقين.»
وما حققه رجال الدولة في ميدان السياسة طبقه أمرسن في مجال الثقافة، لا بطريق العمل، ولكن بالإرشاد والتوجيه. وقد ذكر في مقدمة كتابه الأول في عام 1836م: «إن عصرنا رجعي، يعيش على الماضي، فلماذا لا تكون لنا علاقة أصيلة بالعالم؟ لماذا لا يكون لنا شعر وفلسفة يتميزان بنفاذ البصيرة لا بالتقاليد، ودين من وحي أنفسنا؟ ... دعنا نطالب بأن تكون لنا أعمال خاصة وقوانين وعبادة خاصة.» وفي خطاب جريء له في العام التالي عن «العالم الأمريكي» يقول: «لقد أطلنا الاستماع إلى آلهة الفنون الأوروبية الظريفة.» ثم نصح أمرسن العلماء المجتمعين في كمبردج أن يعيشوا ويفكروا كما يعيش ويفكر أحرار الرجال. وفي العام التالي هاجم في أحاديثه الشعائر والتقاليد الدينية. وما ذكره في هذه الأحاديث كان منفرا لكثير من الناس في بوسطن وكمبردج، حتى لقد انقضى زهاء الثلاثين عاما قبل أن تشعر جامعة هارفارد أنه رجل ليس من ورائه خطر فترده إليها.
ولم يكن ذلك راجعا إلى أن له برنامجا أو أسلوبا خاصا في التفكير ، وإنما كان أمرسن فيلسوفا شاعرا يركن إلى الإلهام أكثر مما يركن إلى العقل، وكان يدرك دائما أن محاضراته ومقالاته ينقصها الاتصال، فيتألم من أجل ذلك. وكان يعجز عن الجدل، ويتحاشى - ما استطاع ذلك - الكلام في الموضوعات ذات الأهمية الشائعة؛ لأنه كان يعتقد أن مواهبه يجب أن تتجه نحو تنوير العقل عامة؛ فقد كان رجلا حرا في روحه وعقله، وكان من الناحية الشخصية رجلا ذا صفات ممتازة، تأثيره عظيم بالغ، فأشعل عقول الرجال والنساء في العالم أجمع. كان رجلا جازما في حزم. وما دام موضوعه الأساسي هو قدرة الفرد التي لا حد لها على الإسهام في كل ما يمتد إليه الكون، فإن كتاباته ما فتئت جديدة كما كانت حينما جمعها في مشقة من الآراء الشتيتة، ومن لمحات البصيرة الزائلة. •••
ولا مراء في أنه كان رجلا ثائرا، وإن شق علينا أن ننعته بهذا الوصف؛ لأنه كان لينا ضعيفا ودودا دمث الأخلاق. وقد عاش عيشة هادئة في كنكورد بمساشوستس كأكثر المواطنين وقارا. وهو ينحدر من سلالة عريقة من رجال الدين في «نيو إنجلند». وكان أحد أفراد أسرة تميل بطبعها إلى الكهنوت؛ فقد ولد في بوسطن في اليوم الخامس والعشرين من شهر مايو من عام 1803، وهو ابن راعي الكنيسة الثانية وواحد من أخوة خمسة، ثم مات أبوه بعد ثماني سنوات. ومع أن أمه قد أصبحت تعول أسرة في سبيل النمو وفي ظروف مالية يائسة، إلا أنها كانت سيدة ذات إرادة قوية جدا، فصممت على تربية أبنائها، وقد أفلحت؛ فأتم أربعة منهم تعليمهم الجامعي، وكان كل واحد منهم يعاون من يتلوه وهو على أهبة الدراسة. وكانت حياة شاقة عسيرة، تركت من غير شك أثرها في صحة الأطفال؛ فمات منهم اثنان وهما لا يزالان في سن الشباب. ولم تكن صحة رالف قوية في يوم من الأيام؛ فقد ساءت إلى حد الخطر مرتين، ولم يخل أخوه الأكبر البتة من الألم والاضطراب الجثماني، ويبدو أن سلالة أسرة أمرسن لم تكن قوية البنية في عهد رالف؛ فقد مات له أخ وأخت في سن الطفولة، وأخ آخر لم ينضج عقله قط. وكان للفاقة التي منيت بها أسرة أمرسن بعد وفاة الوالد أثر سيئ بنوع خاص على أجسام عليلة.
التحق أمرسن بكلية «هارفارد» في عام 1817م وهو في الرابعة عشرة من عمره. ومع أنه كان في النصف الأعلى من فصله، إلا أنه لم يظهر امتيازا، وتخرج في عام 1821م، وظل أربع سنوات يعاون أخاه باشتغاله بالتعليم في مدرسة تكميلية للبنات في بوسطن. وبعد التعليم في المدارس في مناطق أخرى التحق بمدرسة هارفارد الدينية، غير أن ضعف رئتيه وبصره وما أصابه من روماتزم كاد يحول دون تعليمه الديني من أول الأمر، واضطر إلى قضاء شتاء بأكمله للاستشفاء في الجنوب. وبعدما أتم تعليمه في عام 1829م عين راعيا مساعدا للكنيسة الثانية حيث كان أبوه يقوم بالوعظ، وسرعان ما خلف الراعي، وبات يحمل تبعة الدائرة الدينية بأكلها. وعندئذ تزوج من «إلن تكر الكنكوردية» من نيو هامبشير، ولكنها عاشت بعد الزواج عاما ونصف العام فقط.
ولما خاب أمله في حياته المهنية، وأزعجه موت زوجته وأحد إخوته، وكان هو نفسه معتل الصحة، فقد أقلع إلى إيطاليا في الشتاء. واسترد صحته في هذه الرحلة، التي كانت حافزا لعقله؛ فقد استمتع بكنوز الفن العظمى في إيطاليا. وزار لاندر الذي أعجب بكتابته. وفي إنجلترا التقى بكولردج ووردزورث وكارليل الذين كان يهتم بمؤلفاتهم بنوع خاص. وكانت زيارته لكارليل حدثا له أهميته في حياته؛ فقد ألفاه حافزا على التفكير خفيف الظل في شخصه كما هو في مؤلفاته. وعاد إلى أمريكا معافى بعد عام، واستقر به المقام نهائيا في كنكورد حيث كان والد زوج أمه الدكتور أزرا ربلي يعيش في مانس القديمة. وسارع أمرسن إلى شراء بيت وقطعة من الأرض عن طريق بوسطن بوست، وتزوج من لديان جاكسن من أهالي بليموث، واستقر في حياة سعيدة تطورت به إلى مستقبل عظيم. وكان وقتئذ في الثانية والثلاثين من عمره. وانتهى كل ما أصابه من حرمان في طفولته وما لاقى من صراع روحي في حياته المهنية. ولبث سبعة وأربعين عاما بعد ذلك يزداد عظمة وحكمة ويضفي على العالم من فضله.
كانت كنكورد خير البلدان لأمرسن؛ لأنها كانت مدينة جميلة، يغرم أهلها بحب الطبيعة، هذا الحب الذي يكمن وراء فلسفته. وكانت لها مكانة عالية في قصة قتال أمريكا في سبيل الاستقلال؛ فقد حدثت موقعة كنكورد قريبا من مانس القديمة، وأثلج هذا التاريخ المشرق للمدينة صدر أمرسن. وكانت الحياة الاجتماعية في كنكورد كذلك فاتنة؛ فقد ضمت في حياته برنسن إلكت المدرس الملهم، وناثانيل هورثون الروائي الخجول المعتزل، وهنري ثورو فارس الطبيعة، ووليم ألري تشاننج الشاعر المحدث، ورجالا أفاضل من أمثال صمويل هور والقاضي أ. ر. هور وأدمند هوزمر المزارع صاحب العقل الراجح، وصاحب القداسة أزرا ربلي، الراعي المسيحي القوي صاحب الضمير الحي.
ولعب أمرسن دورا فعالا في حياة المدينة؛ فقد انتخب في إحدى الوظائف العامة عند أول إقامته في كنكورد، وكان عضوا في جمعية إطفاء الحريق، وكانت الدلاء الجلدية والكيس الصوفي دائما مدلاة من السلم عند المدخل الجانبي، وبالاشتراك مع جيرانه كان يكافح حرائق الغابات بأغصان الصنوبر. وفي أول عهده بالمدينة ألقى خطبة من أكثر الخطب التاريخية أهمية في عيد انقضاء مائتي عام على استعمار كنكورد. وكان بين الحين والحين يعتلي منبر الخطابة في المدينة. كما كانت معلمات مدارس الأحد يلتقين بمسز أمرسن في البهو الأمامي. وباعتباره مديرا لنادي كنكورد الأدبي عاون على إيجاد غرفة عامة للمطالعة حيث كانت الصحف والمجلات تحفظ في أكداس مرتبة. وبالمحافظة على نشاط النادي الأدبي عمل هو وثورو على تنبيه الحياة العقلية في كنكورد.
وانتعشت حياة أمرسن كلها هناك، فزرع حديقة واشتغل بها مستهينا بالوقت الذي كان ينبغي له أن ينفقه في مكتبه. وزرع حديقة للفاكهة أفرط في اعتزازه بها. وأخيرا اشترى قطعة أخرى من الأرض واشتغل بمزرعة صغيرة استأجر فيها العمال. وأغرم بغابات والدن فاشترى بها رقعة من الأرض لمجرد المتعة. وقد أقام ثورو منسكه المشهور في غابات أمرسن. وكانت كنكورد كذلك قريبة من بوسطن التي كانت تسيطر على الحياة العقلية في أمريكا في تلك الأيام. وكانت عربة الانتقال تقف بجوار بيت أمرسن وتبلغ بوسطن في خلال ساعتين أو ثلاث. وبعد ذلك بقليل قرب خط فتشبرج الحديدي بوسطن من كنكورد؛ فكانت كنكورد من جميع نواحيها مجتمعا مثاليا لرجل في مثل مزاج أمرسن. أحبها في شبابه عندما زار الدكتور ربلي في بيته القديم، ولبث على حبه لها، وبمرور الزمن أحبته كنكورد باعتباره شيخ المدينة الوقور.
وفي أول إقامته في بيته الخاص مع زوجته الشابة اعتلى المنابر هنا وهناك وألقى الخطب بين الحين والحين. بيد أنه كان لفترة ما يتدبر كتابا فلسفيا شعريا عن تأثير الطبيعة الأساسي في حياة البشر، وأسماه في بساطة «الطبيعة»، وأتمه ونشره في عام 1836م. نشر منه خمسمائة نسخة غفلا من اسم المؤلف. ومع أن كارليل قد هلل لهذا الكتاب فإنه لم يقابل بحماسة ولم يعد طبعه حتى عام 1847م.
غير أن أمرسن كان قد بدأ عمله الذي شغل به حياته. وكان خطابه عن «العالم الأمريكي» أمام جمعية هارفارد في بيتاكبا في عام 1837م حدثا مثيرا في تاريخ الثقافة الأمريكية، وقد وصفه أولفر وندل هولمز بأنه «إعلان استقلالنا العقلي». وأثار هذا الخطاب الشباب خاصة، وأقبل الناس بحماسة على شراء النسخ المطبوعة منه بأعداد وافرة بمجرد ظهوره في المكتبات. وفي العام التالي ألقى أمرسن خطابا على الطلبة المتخرجين في مدرسة اللاهوت، وعارض فيه القيمة الحقيقية لتاريخ المسيحية الأولى، وقدح في الأسلوب الرسمي المتكلف للخطب المنبرية. وقابل رجال الدين هذا النقد للكهنوت والتفكير الديني بالاستنكار والسخط، ووصموه بالضلال، ووسموا أمرسن بالكفران، ولم يلق بعد ذلك ترحيبا فوق المنابر أو على منصات المحاضرات التي كانت من قبل تكرم وفادته. ومع أنه لم يشترك في الجدل الذي ثار حوله عدة أشهر، إلا أنه ظن لفترة ما أنه ربما اضطر إلى البحث عن طريقة جديدة للعيش لكي يعول نفسه وأسرته.
بيد أنه سرعان ما اكتشف أن الناس يستمعون بالترحاب يوم الأربعاء إلى الأمور التي تبدو لهم كفرا يوم الأحد؛ فقضى بقية حياته يحاضر بنوع خاص في موضوعات روحية وفلسفية في جميع أرجاء البلاد. وكان في فصل الصيف من كل عام يجمع شتات أفكاره في صيغة خطب. وعندما كان يستيقظ في الفجر وينسل من غرفة النوم تسأله زوجته: «هل أنت مريض؟» فيجيبها: «كلا، إنما أنا أتصيد فكرة.» وكان في فصل الشتاء من كل عام يقرأ محاضراته حيثما دعي، متنقلا بالعربات ومركبات الجليد، والزوارق والبواخر والقطارات، مخترقا نيو إنجلند وولايات الأطلنطي والغرب الأوسط، ويقيم في الفنادق البدائية بجميع أنواعها، ويعبر المسيسبي فوق الجليد، ويستمتع أشد الاستمتاع بتقدم الحياة في البلاد. ومع أنه كان رجلا ذا جسم نحيل وكتفين محدودبين، إلا أنه كان خطيبا شعبيا مصقعا، يجذب إليه الناس بشخصيته الرفيقة، وبصوته ذي الرنين الذي يذهل الأسماع، فاعترف له الجميع بأنه أستاذ في فن الخطابة.
وكانت حياة المحاضرة شاقة؛ إذ إن أمرسن كان رجلا فقيرا من رجال الأعمال، يخطب عادة بأي أجر يقدم إليه، فلم يكسب قط مالا كثيرا، إلا أنه كان ذا مزاج متفائل بطبعه، يعتقد بسهولة في أوجه الخير من كل شيء، وقد أدخل السرور على نفسه طوال حياته إيمانه العميق؛ إذ إن واجب العالم في اعتقاده هو: «أن يدخل البهجة في النفوس، وأن يسمو بالناس، ويرشدهم، ويبين لهم الرشد من الغي.» وفي غضون أسفاره في عرض البلاد «مفرغا ما بجعبته من حكمة شعبية» - على حد تعبيره عن محاضراته - كان يحس أنه يغني حياة الناس ويقوم بالعمل الذي يلائم نبوغه. وكان يلقي محاضراته كتجربة على أوساط مختلفة من المستمعين، ثم يعيد كتابتها كمقالات وينشرها في صورة كتاب. وتكاد كتاباته كلها - ما خلا الشعر - أن تكون حديثا في مبدأ الأمر ملقى من فوق منصة الخطابة.
ولم يفقه كل الناس ما كان يتحدث عنه، أو يوافقه عليه. ويبدو أن الشباب كان أسلس له قيادا من الشيوخ. وقد قال أحد وكلاء النيابة في بوسطن إن محاضرات أمرسن «لا معنى لها البتة لدي، ولكن ابنتي، وعمر إحداهما خمس عشرة سنة والأخرى سبع عشرة سنة، يفقهانها تماما.» وقد سألت مسز هور مرة خادمة كانت تواظب دائما على الاستماع إلى محاضرات أمرسن في كنكورد: «هل تفهمين مستر أمرسن؟» فأجابت الخادمة بقولها: «لا أفهم كلمة واحدة، ولكني أحب أن أذهب وأشاهده واقفا هناك وهو يبدو كأنه يحسب كل فرد إنسانا طيبا مثله.» ويفتخر أحد الفلاحين في بوسطن بأنه استمع إلى كل محاضرات أمرسن في النادي الأدبي «بل وقد فهمها». وقد أدركها بوضوح أحد المواطنين البارزين في كنكورد إلى حد أنه اعترض على ما تضمنته من آراء ثائرة، فاستوقف أمرسن في الطريق ذات يوم وقال له: «لست أعرف غير أشخاص ثلاثة تمقت آراءهم هذه الجماعة، وأولئك هم تيودور باركر ووندل فلبس وأنت يا سيدي، إن جاز لي أن أخلص القول.»
وبعد أكثر من عشر سنوات قضاها أمرسن في البحث المضني والمحاضرة، لبى بسرور بالغ في عام 1847م دعوة لإلقاء بعض محاضراته في إنجلترا، وقضى هناك عاما. وفي أسفاره في بطون إنجلترا أتيحت له فرصة الاتصال الوثيق بكثير من طبقات الشعب الإنجليزي. وباعتباره من رجال أمريكا المشهورين، دعته كثير من البيوت الإنجليزية دعوات خاصة واستقبلته استقبالا حارا. وجدد صداقاته القديمة وبخاصة مع كارليل الذي تغضن قليلا من فعل السنين. وزار أمرسن كذلك فرنسا في خلال فترة من القلاقل السياسية العظيمة. وأهم ما أسفر عنه عام من العمل قضاه أمرسن في الخارج كتاب «الصفات الإنجليزية»، وهو تاريخ وتحليل نفسي في آن واحد للخلق الإنجليزي.
ومع أنه كان رجلا محببا، إلا أنه كان خجولا متواضعا، تنقصه الروح الحية، وكان يحس أن به فتورا لا يمكنه من الاختلاط الاجتماعي. وفي خلال الأيام التي قضاها في التعليم بالمدارس كان اضطرابه أليما، وقد استغل الطلبة هذا الاضطراب للتفكه به. ولم يسيطر على الجماعات بقوة الشخصية، وكانت أقوى أفكاره تطرأ له في خلوته. غير أن الفترة التي عاش فيها كانت فترة اختمار اجتماعي غير عادي؛ فكان المصلحون يجذبون العالم من جذوره، ويصوغون من الأهواء الفردية نظما عامة، تلك كانت فترة الجمعيات الفلسفية، كجمعية بروك فارم وفروت لاندز. وباعتبار أمرسن الفيلسوف الأول لما فوق العقل في عهده، كان يستشيره ويتوسل إليه كل من يبتدع نظاما جديدا، من المتنبئين الصادقين إلى الشواذ وضعاف العقول. كانوا جميعا يقصدون بيته، ويجلسون إلى مائدته، فيستقبلهم ويكرم وفادتهم. غير أن أمرسن لم يكن يستسيغ فكرة الاجتماع، فانتزع نفسه من بينهم في ثبات وحزم، وكانوا يبدون له كأنهم أصحاب آراء متحيزة.
وكان من الناحية السياسية محجما. وقد اعتقد من أول الأمر أن العبيد يجب أن يتحرروا، غير أنه تحاشى ما استطاع الجمعيات الثورية التي كانت تعمل على إلغاء الرق، وحينما استحث لكي يسهم في العمل المباشر قال: «إن روحي حبيسة سجن سحيق، لا يزوره أحد إذا لم أفعل أنا ذلك.» ولكن لما علا الضجيج حول الرقيق بدأ أمرسن يأخذ فيه بنصيب. وحينما صدر قانون العبيد الهاربين، واعتقد أمرسن أن بطله دانيل وبستر قد خان عهد الجمهور، ظهر في المجتمعات العامة في كنكورد وبوسطن ونيويورك وتكلم بحرارة غريبة على رجل في مثل رزانته. وبالرغم من أن غرائزه كلها كانت تعارض في الإسهام في العمل السياسي، وبالرغم من انعدام ثقته في معرفته بالشئون السياسية، فقد ارتبط ارتباطا وثيقا بقضية إلغاء الرق بعد صدور قانون العبيد الهاربين. وذات مرة أبدى لأحد أطفاله ملاحظة، وكان على هذا الطفل أن يكتب موضوعا مدرسيا عن بناء المنزل، فقال له أمرسن: لا ينبغي أن يبنى منزل دون أن يكون فيه مكان لإخفاء عبد هارب. واستضاف جون براون في بيته، وأسهم في قضية الإلغاء بأكثر مما تستطيع مقدرته المالية، وتكلم مدافعا عن جون براون بعد هاربرز فري. وكان في السابعة والخمسين من عمره عندما اشتعلت الحرب الأهلية ولم يأخذ في القتال بنصيب.
وفي عام 1865م دعي أمرسن لإلقاء خطاب في بيتاكبا في هارفارد مرة أخرى. وكانت هارفارد في هذه المرة قد نسيت فضيحة خطبة البكالاريا في عام 1838م. وبعد ذلك بقليل انتخب عضوا في مجلس المراقبين. وفي عامي 1870م و1871م حاضر في الفلسفة في هارفارد، غير أن السن تقدمت به، وبدأت تظهر عليه علامات جهد عمر قضاه في نشاط عقلي متواصل، كما بدأت تخونه الذاكرة؛ فقد كان يقترب من نهاية مستقبل عظيم . وفي يوليو من عام 1872م أتلفت النيران جزءا من بيته، فهرع هو وزوجته للنجاة بحياتهما ولم يتسع لهما الوقت لارتداء ملابسهما، وأجهدا قوتيهما محاولين أن ينقذا بعض ما يملكان. وكانت صدمة هذه الكارثة أشد مما يستطيع أمرسن احتماله؛ فقد كادت أن تودي به، وانتقل مرة أخرى إلى مانس القديمة، حيث قضى طفولته السعيدة، وأعد له مكتب في القرية.
ولكن سرعان ما اتضح أنه لا يستطيع العمل، وأخيرا تدخل في الأمر بعض أصدقائه، وأرسلوه إلى مصر مع ابنته ألن، وفي أثناء غيبته أعادوا بناء بيته وجددوه. وعندما عاد في شهر مارس التالي دقت نواقيس المدينة وصحبه حشد كبير من الأطفال والجيران والأصدقاء من محطة السكة الحديدية وتحت قوس من أقواس النصر إلى بيته الجديد. واستقر شاكرا وأخذ يعد كتاب مقالات كان قد وعد به أحد الناشرين في لندن، ولكنه لم يعد قادرا على السير في عمل متصل. وفي نهاية الأمر اضطر صديقه جيمس إليت كابوت إلى أن يضمن الكتاب كثيرا من المحاضرات والمقالات وإلى تنسيق المذكرات تنسيقا حسنا.
وعاش أمرسن حياة هادئة قانعة مع أسرته وأصدقائه حتى أبريل من عام 1882م حينما أصيب بالتهاب رئوي بسبب سيره في المطر دون قبعة أو معطف. وقضى نحبه في مساء 27 أبريل. وبعد الساعة التاسعة من ذلك المساء دق ناقوس كنيسة يونتاريان تسعا وسبعين دقة معددة سني حياته، ومعلنة النبأ المفجع في كل أنحاء القرية. وعرفت كنكورد - التي عاش فيها أمرسن مواطنا معظم حياته - أن أعظم أبنائها قد انتهى. وكانت وفاته نبأ قوميا، فدبج كتاب المقالات الصحفية والنعاة أعمدة كثيرة في الصحف فيها معلومات وفيها تقدير نقدي. وحضر إلى الجنازة في قطار خاص من بوسطن كثير من الأصدقاء الممتازين. وحضر كذلك الرئيس أليوت من هارفارد وأولفر وندل هولمز وجورج وليم كيرتس وتشارلس أليوت نورتن. وقرأ من الإنجيل في صلاة الجنازة الدكتور و. ه. فرنس من رجال الدين في فيلادلفيا وصاحب القداسة جيمس فريمان كلارك من بوسطن.
غير أن كنكورد التي أحبت أمرسن باعتباره أعظم مواطنيها تأثرت تأثيرا بالغا وساد الجنازة جو محلي، وتكللت بالسواد المساكن والمخازن والمنشآت العامة في كل مكان. وبعد الظهر بعد الانتهاء من صلاة الجنازة الخاصة، سار القرويون وراء النعش من البيت الكبير في طريق بوسطن بوست إلى الكنيسة القديمة. وتكدست حول المذبح أغصان من شجر الصنوبر التي كان يقدسها أمرسن. وعزفت على القيثار الأوسط في ذكراه بأعواد النرجس الصفراء لويزام. الكت. أما القاضي أ. ر. هور الذي لم يكن من أهل القرية فحسب، بل كان كذلك جارا حميما وعضوا في نادي السبت المشهور، فقد تكلم بالنيابة عن أهل بلده وعبر عن محبتهم الخاصة له. وأما برنسن ألكت المعلم الذي ألهم أمرسن وأزعجه عدة سنوات، فقد قرأ بصوت جهوري أنشودة وضعت لهذه المناسبة.
وبعدما انتهت الصلوات انسل خلف النعش، الذي استقر فيه هادئا في النهاية ذلك الرجل النحيل صاحب الملامح المدببة، انسل أولئك الذين أفلحوا في اقتحام الكنيسة وأولئك الذين تجمعوا محزونين عند الأبواب في الخارج. وقرابة المساء في يوم من أيام الآحاد الدفيئة الصافية من شهر أبريل، تحرك موكب الجنازة إلى مقبرة سلسيبي هولو حيث دفن ثورو وهوثورن، ثم إلى أعلى الجبل بين صفوف مكشوفة من الأوساط الاجتماعية بكنكورد، ووري أمرسن التراب تحت شجرة من أشجار الصنوبر إلى جوار قبر أمه وقبر ابنه والدو. •••
كان أمرسن في فلسفته يتخطى العقل، ويعتقد في «روح عليا»، وهي تلك الروح المطلقة التي يكون كل شيء حي جزءا منها. وحتى في أيام أمرسن كان هذا التعبير «فوق العقل» يعتبر من دواعي الارتباك الذهني، وما زال المعنى الشائع للكلمة «غامضا، مبهما، خياليا». ولم يستطع العلماء الذين ألفوا المعرفة الدقيقة أن يفقهوا معنى لمدرسة أمرسن في الفكر. ولم يكن ذلك عجيبا، فإن «ما فوق العقل» مذهب لا نظام له، فهو إلى الشعر أقرب منه إلى الفكر. قال أمرسن مرة: «إن ما يسميه العامة بيننا فوق العقل إن هو إلا المذهب المثالي.» إن الرجل المادي يستمد منطقه من الحقائق الواقعة، ومن تاريخ الإنسان وحاجاته الحيوانية، وعلى خلاف ذلك الرجل المثالي الذي يعتقد في «قوة الفكر والإرادة، وفي الإلهام والمعجزة، وفي الثقافة الفردية.» فالمثالية تكشف عن الإيمان بالله بقوة تنفي كل ما يعارض هذا الإيمان.
وفي بلد ناهض، بدأ من عهد قريب فقط يستمتع باستقلاله ويتوسع منهوما في كل ناحية من النواحي، كان هذا الأسلوب من أساليب الفكر طبيعيا ومرضيا؛ فهو يعتقد أن أي شيء يمكن إنجازه، كما أن أساليب التفكير وطرائق التعليل تبدو خانقة لقوم ذوي مزاج مبتهج يتطلعون إلى كل ثمار الأرض فيجدونها طيبة. كان يسيرا عليهم أن يؤثروا البداهة على التجربة، فيبدو لهم أن الحق الأسمى لا ينحصر فيما تم عمله وإنما ينحصر فيما يمكن أداؤه؛ فالحياة تدب في الرجل الذي يؤمن بما فوق العقل من الزهور والسحب والطيور والشمس، ومن برودة الطقس ودفئه، وجمال المساء، ومن المزارع ومحلات التجارة والسكك الحديدية حيث تنبض الحياة وتقع الحوادث الطيبة.
وبالرغم من أن فلسفة أمرسن لم تكن نظاما شاملا، فقد سارت على شبه خطة في الطريقة التي عالجها بها. كان موقفه من الحياة يقوم على حبه الطبيعة، وقد ذكر ذلك في أول كتابه «الطبيعة»، وهو كتاب صغير نشره دون ذكر اسم مؤلفه. وقد عاب عليه نقاد الكتب أنه تعبير مرح عن وحدة الكون، أسلوبه فاتن غير أنه تافه الدلالة. ومع ذلك فإن هذا الكتاب يمثل سنوات عدة من التفكير المقصود حينما كان أمرسن يحاول أن يصوغ آراءه على نسق معين. وقد بدأ في المقدمة بتعريف المصطلحات، فهو يقول: «الطبيعة في المعنى العام تشير إلى الجوهر الذي لا يغيره الإنسان، هي الفضاء والهواء والنهر وأوراق الشجر. والفن يطلق على امتزاج إرادة الإنسان بهذه الأشياء، فمنه البيت والقناة والتمثال والصورة.» ومن دواعي السرور عند أمرسن أن يكون الإنسان جزءا من الطبيعة، وأن تكون الطبيعة موطنه.
وبعد ذلك بخمس سنوات نشر أمرسن كتابه الأول من «المقالات»، وهو يتألف من المحاضرات التي ألقاها في بوسطن خاصة. وقد حوى هذا الكتاب الجديد مقالا عن «الروح العليا» ويمكن اعتبار هذا المقال حجر الزاوية في عقيدة الرجل .
وكانت عقيدة منشئة؛ فقد بدت الحياة طيبة في أساسها، وأمكن الوثوق في الطبيعة والإنسان، وباتت الحياة شيئا لا نتعلمه ولكن نحياه. وأصبح ذلك الوقت هو الساعة الملائمة لبداية جديدة. كانت هذه العقيدة مذهبا يقبل الجديد، ويؤمن بأن النظرية الناقصة التي تحتوي على لمحات من الحق خير من النظم المهضومة التي أدركها الفناء.
كانت عقيدة أمرسن قوة محركة، ومن ثم بدا لشباب عصره كأنه المحرر الثقافي الأعظم. كان دائما يؤيد الكشف بالخيال؛ فهو يقول في مقاله «العالم الأمريكي» إن المنفعة الوحيدة للكتب هي الإلهام، «إنما ينبغي للمرء أن يكون منشئا لكي يحسن القراءة.» وبدا له أن اشتغال العالم بعلم الكتاب يودي به إلى الهلاك، واستحث العالم لكي يصبح من رجال العمل فيتعلم من الحياة رأسا: «الحياة قاموسنا، وإنك لتحسن إنفاق عمرك لو عملت في الريف، وفي المدينة، وفي تبصر الحرف والصناعات، وفي الاتصال الخالص بكثير من الرجال والنساء، وفي العلم، وفي الفن، وذلك لكي تحذق في كل الحقائق لغة توضح بها مدركاتك وتصوغها فيها.»
وإذا كان مقاله عن «الروح العليا» هو حجر الزاوية من فلسفته، فإن مقاله عن «الاعتماد على النفس» هو أقوى إعلان عن معناها. وكثير من مقالاته غير قاطع، وكثير منها يفتقر إلى التنسيق. ولم يستطع في كل موضوع أن يستجمع شتيت تأملاته. غير أنه في مقاله «الاعتماد على النفس» يحض قراءه في شجاعة على أن يعملوا وفقا لخير ما لديهم من دوافع وألا يتهاونوا في الواجب؛ فهو يقول: «من العبقرية أن تعتقد في رأيك الخاص، وأن تعتقد أن ما تراه حقا في نفسك حق للناس جميعا.» ثم يقول إنه من الطبيعي للإنسان أن يكون في سلوكه شيء من عدم الاكتراث وشيء من الأنفة. ويقول لا رياء في العادات، ولا ضعف في حب البشر، ولا عملا طيبا نفاقا لضمائر الناس، ولا انقيادا أعمى، ولا تشبث بثبات الرأي خوفا وفزعا. الجماعة تحض على الحذر، والعادات الاجتماعية تحد من حرية العمل. والاتباع مريح. ولكن أمرسن يرى «ألا شيء في النهاية مقدسا ، اللهم إلا نزاهة عقلك.» وبالرغم من أنه كان رجلا لين العريكة في شخصه، إلا أنه يدعو في هذه الرسالة بحرارة إلى الاستقلال، فيقول: «ليعلم الإنسان إذن قيمته، ويجعل الأشياء تحت قدميه، فلا يسترق النظر أو يسرق، أو يسير متخفيا كأنه يطلب الإحسان، أو كأنه ابن زنا، أو مدسوسا على الدنيا التي وجدت له.» لا تندم، ولا تقلد. وينتهي بقوله: «لا شيء يجلب لك الطمأنينة غير نفسك، ولا شيء يجلب لك الطمأنينة سوى انتصار المبادئ.» وبعد ذلك بعدة أعوام نفي طالب روسي إلى سيبريا لحيازته نسخة من رسالة أمرسن «الاعتماد على النفس».
وقد انتقد بعض الناس أمرسن لصراحته، فقالوا إنه قبض على زمام الناس «من خير مقابضهم»، واعتقد بسهولة زائدة في خيارهم. وعندما سلط خياله على السكة الحديدية أو التلغراف الكهربائي - وكانا مستحدثين في عهده - تنبأ لهما بمستقبل باهر، ولما فكر في إمكانيات البلاد كانت آماله كذلك فوق العقل. خاطب جمعية المكتبة التجارية في بوسطن قائلا: «هناك مصير سام ودي يسترشد به الجنس البشري.» فهل يا ترى كان يفكر كذلك في القرن العشرين، إنه سؤال نظري، غير أن الإجابة عنه يسيرة، فالجواب «نعم»؛ لأن عقائده الثابتة التي ارتآها، والتي كانت تلائم حالة أمريكا في عهده، إنما صدرت عن مزاجه؛ فإنه كان بطبعه يتطلع وراء التفصيلات إلى حقائق الطبيعة والبشرية الأساسية، ومن ثم كان يعتقد أن «الإبداع يمكن أن يكون الآن، وفي هذا المكان» على حد تعبير ثورو.
وكانت هناك أسباب تكفي لليأس في عهده؛ فشئون السياسة كانت فاسدة، واستولت المادية على عقول الناس وأرواحهم، وما عتمت البلاد تخون الهنود. والحرب المكسيكية نقضت رأي كل إنسان عادل في الاعتدال. وقد انقلب على إحدى الأفكار التي كان ينافح عنها أمرسن دانيل وبستر، وهو أحد الأوثان التي كان يقدسها الرجل. واعترضت مستقبل أمرسن المأساة الكبرى، مأساة الحرب الأهلية التي كان المواطنون في بلد واحد يقتل فيها أحدهم الآخر. كما أن نهب الجنود بصورة مفزعة بعد الحرب الذي قام به رجال السياسة الانتهازيون والمختلسون المتبجحون ، هذا النهب كان يمثل موضع الانحطاط في أخلاقنا القومية. وكذلك الجهل والشر أسدلا ستارا أسود على حياة أمريكا في عصر أمرسن، فعلت الكآبة نفوس الكثيرين من معاصريه.
عرف أمرسن هذه الأشياء وعانى من أجلها. وبعدما كان يفرغ من قراءة الصحف كثيرا ما كان يسير إلى غاباته في والدن كي يسترد عقله ويعيد توجيه نفسه في هذا الكون. ولكن شيئا لم يستطع أن يهز عقيدته في خير الكون؛ لأنه كان ملهما. وبينما كان يجوب البلاد في أسفاره ومعه حقيبة محاضراته البالية، ويتفرس وجوه الأمريكيين، لم يسعه إلا أن يعتقد في الخير. كان معلم أمريكا، دمث الأخلاق، رفيقا، مستقيما، وما برحت أقواله وكتاباته «الإنجيل» الذي نفهمه في سهولة كبرى.
العالم الأمريكي
(هذا هو خطاب في «بيتاكبا» الذي ألقاه أمرسن في هارفارد عام 1837م، وقد قوبل بحماسة شديدة.)
سيدي الرئيس، سادتي:
أحييكم في بداية عامنا الأدبي مرة أخرى. إن عيدنا السنوي عيد أمل، وربما لا يكون عيد عمل كاف. إننا لا نجتمع لاستعراض حذقنا لألعاب القوة وإثبات مهارتنا، أو لرواية التاريخ والمآسي والأناشيد كما كان قدماء الإغريق يفعلون، أو لمجالس الحب والشعر كما كان يفعل التروبادور، ولم نجتمع لدراسة تقدم العلوم مثل معاصرينا في العواصم البريطانية والأوروبية. لقد كانت عطلتنا حتى اليوم مجرد علامة ودية على بقاء حب الأدب في شعب أكثر انشغالا من أن يعطي الأدب أكثر من ذلك. ومن ثم فإن للعطلة قيمتها كعلامة على ميل لا يمكن القضاء عليه. وربما حان الوقت لوجوب تغيير هذا الميل، ولسوف يتغير. ربما حان الوقت لكي يتطلع العقل المتبلد في هذه القارة من تحت غطائه الحديدي ويحقق أمل العالم المنتظر بشيء أحسن من ممارسة المهارة الآلية. إن يوم اعتمادنا على غيرنا، وتتلمذنا الطويل على علم بلاد أخرى، يقترب من نهايته. إن الملايين من حولنا التي تندفع نحو الحياة، لا تستطيع دائما أن تعيش على البقايا الذابلة من المحصول الأجنبي؛ فهناك أحداث وأعمال تنشأ وينبغي أن نتغنى بها. ولربما أنشدت بنفسها. من ذا الذي يستطيع أن يشك في أن الشعر سوف ينتعش وتكون له الصدارة في عصر جديد، كالنجم في مجموعة «هارب» الذي يشتعل الآن فوق سمت الرأس، والذي يصرح الفلكيون بأنه سوف يصبح النجم القطبي ذات يوم ويبقى كذلك ألف عام؟
بهذا الأمل أقبل الموضوع الذي يبدو أن العادة، بل وطبيعة اجتماعنا هذا، قد كرست له هذا اليوم، وأعني بهذا الموضوع «العالم الأمريكي». إننا نؤم هذا المكان عاما بعد عام لكي نقرأ فصلا جديدا من تاريخ حياته، ولنبحث عن الضوء الذي ألقته الحوادث والأيام الجديدة على شخصيته وآماله.
من الأساطير القديمة التي تنقل إلينا من عهد قديم غير معروف حكمة غير منظورة أن الآلهة في بداية الأمر قد قسمت الإنسان إلى أناسي كي يكون أكثر عونا لنفسه، كما انقسمت اليد إلى أصابع لكي تحسن أداء الغرض منها.
وهذه الأسطورة القديمة تشتمل على مبدأ دائم الجدة والسمو، وهو أن هناك «إنسانا واحدا» يوجد في كل فرد على حدة، إما وجودا جزئيا أو في إحدى كفاياته العقلية، ولا بد لك أن تأخذ الجماعة كلها لكي تجد هذا الإنسان كاملا. ليس «الإنسان» مزارعا أو أستاذا أو مهندسا، إنما هو كل ذلك. الإنسان قسيس وعالم ورجل دولة ومنتج وجندي. وفي حالة الاجتماع - أو حالة الانقسام - تتوزع هذه الوظائف على الأفراد، ويهدف كل منهم إلى أداء نصيبه من العمل المشترك، ويؤدي كل من الآخرين نصيبه كذلك. وترمي الأسطورة إلى أن الفرد لكي يملك نفسه يجب أحيانا أن يعود من عمله الخاص لكي يحتضن كل الأعمال الأخرى. ولكن - لسوء الحظ - هذه الوحدة الأصيلة، هذا الينبوع من القوة، قد توزعت بين الجماهير، وانقسمت أجزاء صغيرة وانتثرت، حتى باتت تتساقط قطرات لا يمكن جمعها. إن التجمع حالة يكابد فيها الأفراد البتر من الجذع، ويخطرون في مشيتهم مخلوقات شائهة، أصبع جيدة، أو رقبة، أو معدة، أو مرفق، ولكنه ليس البتة إنسانا.
وهكذا يتحول الإنسان إلى شيء، أو إلى عدة أشياء؛ فالزارع - وهو الإنسان الذي يخرج إلى الحقول ليجمع الطعام - قلما يبتهج لأية فكرة عن كرامة مهنته. إنه يرى مكياله وعربته، ولا يرى غير ذلك، ثم يرتد فلاحا، بدلا من أن يرتد إنسانا فوق الحقل. والتاجر قلما يقدر عمله قدرا رفيعا، وإنما يخضع لسياق مهنته، كما تخضع روحه للمال. ويصبح القسيس صورة، ووكيل النيابة كتابا من كتب القانون، والميكانيكي آلة، والبحار حبلا من حبال السفينة.
وفي هذا التقسيم للوظائف يكون العالم هو العقل المبعوث، وهو في وضعه الصحيح «الإنسان المفكر»، أما في حالة التدهور حينما يكون فريسة للمجتمع، فإنه يميل إلى أن يتحول إلى مجرد مفكر، بل إلى أسوأ من ذلك، فقد يتحول إلى ببغاء يردد تفكير غيره من الناس.
وفي وصفه ب «الإنسان المفكر» تنحصر نظرية وظيفته. الطبيعة تحركه بكل صورها الهادئة والصاخبة، والماضي يعلمه، والمستقبل يدعوه. أفليس كل إنسان حقا طالب علم، وهلا توجد الأشياء لفائدة طالب العلم؟ وأخيرا، أليس العالم الحق هو وحده السيد الحق؟ غير أن كاهنا قديما قد قال: «لكل شيء يدان، وحذار من اليد الخاطئة.» وفي الحياة كثيرا ما يخطئ العالم مع البشر ويفقد ميزته. دعنا نشاهده في مدرسته، ونتدبر أمره بالإشارة إلى المؤثرات الرئيسية التي تؤثر فيه: (1)
إن أول هذه المؤثرات في العقل من حيث الزمن والأهمية هو الطبيعة، الشمس تشرق كل يوم، ثم بعد غروب الشمس يقبل الليل ونجومه. والريح لا ينقطع هبوبها، والعشب لا يتوقف نموه، وحديث الرجال والنساء يستمر كل يوم، يشهدون ويشاهدون. والعالم من بين الناس جميعا هو الذي يشغله هذا المنظر، ولا بد له من تقدير قيمته في عقله. ماذا تكون الطبيعة بالنسبة إليه؟ ليس لنسيج الله هذا المتصل المبهم أول ولا آخر، وإنما هو قوة دائرية تعود إلى نفسها دائما. وهو في هذا يشبه روح العالم نفسه، التي لا يجد لها أولا أو آخرا، فهي شاملة جدا، ليس لها حدود. تسارع الطبيعة إلى أن تعرض نفسها على العقل كلما أشرق سناؤها، على نظام في إثر نظام، ينطلق كالأشعة إلى أعلى وإلى أسفل، ليس له مركز أو محيط، كتلة واحدة أو جزءا جزءا . ويبدأ التقسيم، فيرى العقل الصغير كل شيء مفردا قائما بذاته. ثم يعرف بعد فترة كيف يصل بين شيئين ويرى فيهما طبيعة واحدة. ثم يصل بين ثلاثة أشياء، فثلاثة آلاف. وهكذا تتحكم فيه غريزة التوحيد، فيواصل ربط الأشياء بعضها ببعض، ويقلل مما بينها من فروق، ويكشف عن الجذور تمتد تحت الأرض فتربط بين الأشياء المتنافرة المتباعدة، وتزهر من ساق واحدة. وسرعان ما يعلم أنه كان هناك منذ فجر التاريخ استجماع وتصنيف دائم للحقائق. ولكن التصنيف ليس سوى الإدراك بأن هذه الأشياء ليست مشوشة وليس بعضها غريبا عن بعض، وإنما لها قانون، هو كذلك قانون العقل البشري. يكتشف الفلكي أن الهندسة، وهي تجريد مطلق للعقل البشري، هي قياس حركة الكواكب. ويكتشف الكيمائي النسب والقواعد المعقولة في المادة كلها، وليس العلم سوى كشف التشابه والتطابق في أكثر الأجزاء تباعدا. وتقف الروح الطموحة أمام كل حقيقة منفصلة، فتخضع كل المركبات الغريبة وجميع القوى الجديدة، واحدة بعد الأخرى، إلى أصنافها وإلى قانونها، وتستمر كذلك إلى الأبد تبعث بالبصيرة الحياة في آخر خيط من خيوط النظام العام، في أطراف الطبيعة.
وهكذا يلمح هذا الصبي الدارس، وهو تحت قبة النهار المستديرة، أنه هو والطبيعة قد نشآ من جذر واحد، أحدهما ورقة والآخر زهرة، الصلة والتعاطف بينهما تهتزان في كل عرق. وماذا عسى أن يكون الجذر؟ أليس هو روح روحه؟ يا لها من فكرة جريئة، وحلم شارد! ومع ذلك فإنه عندما يكشف هذا الضوء الروحاني قانون طبائع أرضية أخرى، أي بعدما يتعلم أن يعبد الروح وأن يرى أن الفلسفة الطبيعية الكائنة الآن ليست سوى تحسس الروح الأولى بيدها الضخمة، حينئذ يتطلع أمامه إلى معرفة دائمة التوسع كأنه يتطلع إلى خالق آت. سوف يرى أن الطبيعة تجابه الروح، وتجيبها جزءا بجزء، أحدهما الخاتم والآخر المختوم، جمالها جمال عقله. عندئذ تصبح الطبيعة لديه مقدار ما يحصله، وبمقدار ما يجهل من الطبيعة يكون القدر من عقله الذي لا يملكه، وفي عبارة موجزة يصبح المبدأ القديم «اعرف نفسك» والمبدأ الحديث «ادرس الطبيعة » في النهاية مبدأ واحدا. (2)
والمؤثر الكبير الثاني في روح العالم هو عقل الماضي، في أية صورة ينطبع هذا العقل، سواء في الأدب أو الفن أو النظم. والكتب خير مثال لأثر الماضي، وربما أدركنا الحقيقة، وعرفنا مقدار هذا الأثر في سهولة أكثر، إذا تدبرنا قيمة الكتب وحدها.
نظرية الكتب نظرية نبيلة. كان العالم في العصر الأول يتلقى في نفسه العالم الذي حوله، ويتدبره، ثم يضفي عليه ترتيبا جديدا من عقله، ويعبر عنه ثانية. كان العالم يدخل في نفسه حياة ويخرج منه صدقا، كان العالم يأتيه حركات قصيرة المدى ويخرج منه أفكارا خالدة، يأتيه عملا ويصدر عنه شعرا. كان حقيقة ميتة ثم أصبح فكرا خاطفا يستطيع أن يظهر ويستطيع أن يختفي. وهو مرة يثبت وأخرى يتبدد وثالثة يوحي. ويتناسب عمق العقل الذي تصدر عنه الأفكار تناسبا دقيقا والارتفاع الذي تحلق فيه هذه الأفكار وطول النغم الذي ترنمه.
ولعلني أستطيع أن أقول إن الفكرة تتوقف على مدى ما تصل إليه عملية تحويل الحياة إلى صدق. وعلى قدر كمال عملية التقطير يكون نقاء الإنتاج وصلابته. غير أنك لن تجد أحدا كاملا كل الكمال. وكما أن مضخة الهواء لا تستطيع البتة أن تخلق فراغا كاملا، فكذلك لا يستطيع الفنان حينما يكتب أن يستبعد البتة التقاليد المرعية أو اللون المحلي أو ما هو زائل، وهو أيضا لا يستطيع أن يكتب كتابا من الفكر الخالص، يكون له - من كل نواحيه - من الأثر على الأجيال البعيدة ما له على المعاصرين أو حتى على الجيل التالي. ولقد تبين أنه لا بد لكل عصر من أن يكتب كتبه، أو قل إن كل جيل يكتب للجيل التالي، فكتب العهد القديم لا تلائم هذا العهد.
ومن ثم ينشأ ضرر بليغ، فإن القداسة التي تتصل بعملية الإبداع وعملية التفكير تنتقل إلى ما يدون. كان الشاعر ينشد فيشعر الناس أنه رجل مقدس، ومن ثم كان إنشاده مقدسا كذلك. وكان الكاتب روحا عادلة حكيمة، ومن ثم يتقرر كمال الكتاب، ذلك لأن حب البطل يفسد فيصبح عبادة تمثاله. ثم سرعان ما يصبح الكتاب شرا وبيلا، والكاتب مستبدا. إن فكر الجماهير خامل معوج، لا يغزوه العقل في يسر. فإن غزاه مرة واستقبل كتابا من الكتب، تراه يتشبث به، ويصيح إذا أسيء إليه. وعلى هذا الكتاب تقوم الكليات الجامعة، وعليه يضع المفكرون الكتب، ولا أقول «الإنسان المفكر»، وإنما أقصد ذوي المواهب الذين يبدءون بداية خاطئة، وينطلقون من المذاهب الثابتة، لا من رأيهم الخاص في المبادئ العامة. وينشأ الشباب الذليل في المكتبات، وهم يعتقدون أن من واجبهم أن يقبلوا الآراء التي أدلى بها شيشرون ولوك وباكون، ناسين أن شيشرون ولوك وباكون إنما كانوا شبابا في المكتبات عندما ألفوا هذه الكتب.
ومن ثم فبدلا من «الإنسان المفكر» يكون لدينا قراء الكتب، فتنشأ طبقة المتعلمين من الكتب الذين يقيمون للكتب وزنا لأنها كتب، لا لأنها ترتبط بالطبيعة وتكوين الإنسان، ولكن لأنها تكون مع العالم والروح ثالوثا متباعد الأطراف. ومن ثم يظهر أولئك الذين يردون كل مقروء إلى أصله، ومصححو الكتب، والمولعون باقتنائها على اختلاف درجاتهم.
الكتب خير الأشياء إذا أحسن استعمالها، أما إذا أسيء فهي من شر الأمور. ما هو الاستعمال الصحيح؟ ما هو الغرض الوحيد الذي تهدف إليه كل الوسائل؟ ليس للكتب غرض سوى الإيحاء، وإنه لخير لي ألا أرى كتابا من أن تضللني جاذبيته عن مجالي ضلالا مبينا، أو أن أصبح تابعا بدلا من أن أكون صاحب رأي مستقل. إن الشيء الوحيد الذي له قيمة في العالم هو الروح الفعالة، وكل إنسان جدير بها، وكل إنسان يضمها في دخيلته، وإن قامت أمامها العقبات فلم تولد عند أكثر الناس. الروح الفعالة ترى الحق المطلق وتنطق الحق، أو تبتدع. وهي في هذا العمل موهبة، وليست ميزة يختص بها هذا الرجل المعزز أو ذاك، ولكنها ملك خالص لكل إنسان، وهي في صميمها تقدمية. والكتاب والكلية ومدرسة الفن وأي نوع من أنواع النظم ، كل هذا ينتمي إلى ما تفوه به قديما نابغة من النوابغ. يقولون: هذا حسن، دعنا نتمسك به، إنهم بذلك يحنقونني ، لأنهم يتطلعون إلى الوراء لا إلى الأمام. ولكن العبقرية تنظر إلى الأمام، فإن عيني الإنسان في مقدمة رأسه وليستا في مؤخرته. الإنسان يأمل، والعبقرية تخلق. ومهما تكن المواهب فإن الإنسان إذا لم يخلق لا يكون النور الإلهي الخالص ملكا له. وقد يكون لديه رماد ودخان، ولكن لن تكون لديه شعلة النار. وهناك آداب خالقة، وأعمال خالقة، وكلمات خالقة، أي هناك آداب وأعمال وكلمات لا تدل على عادة أو سلطان، ولكنها تنبع تلقائيا من إحساس العقل نفسه بالخير والعدل.
ومن ناحية أخرى، فبدلا من أن يرى العقل بنفسه، تراه يتقبل الصدق من عقل آخر، كأنه في فيض من النور، بغير فترات من العزلة أو البحث أو استجمام النفس، وحينئذ يتحقق ضرر قاتل؛ ففي عبقرية الفرد دائما عداء كاف لعبقرية فرد آخر، وذلك بتأثيرها الزائد. ويؤيدني في ذلك الأدب في جميع الأمم، فإن شعراء الدراما الإنجليز قد ترسموا أثر شكسبير حتى اليوم مائتي عام.
وليس من شك في أن هناك طريقة صحيحة للقراءة بحيث تصبح خاضعة للقارئ خضوعا شديدا. ولا ينبغي «للإنسان المفكر» أن يخضع لأدواته. إنما الكتب لتزجية فراغ العالم؛ فإنه إن استطاع أن يطالع الله رأسا عز وقته فلا ينبغي أن ينفق فيما دونه الآخرون من مطالعاتهم. ولكن إذا ما حان حين الظلام، ولا بد أن يحين - عندما تختفي الشمس وتسحب النجوم ضياءها - نعود إلى المصابيح التي أشعلت من أشعتها لكي نرشد خطانا صوب «الشرق» مرة أخرى حيث مطلع الفجر. ونتسمع لكي نستطيع أن ننطق. وفي ذلك يقول المثل العربي ما معناه: «إن شجرة التين إذا أطلت على شجرة للتين أخرى أثمرت.»
ما أعجب لون السرور الذي نستمده من خير الكتب. إنها تحملنا على أن نعتقد أن الكاتب والقارئ من طبيعة واحدة؛ فنحن نقرأ ما نظمه أحد كبار شعراء الإنجليز، مثل شوسر، أو مارفل، أو دريدن، بأحدث سرور، أقصد إننا نقرؤه باستمتاع ينشأ إلى حد كبير عن تجريد «الزمان» كله من نظمهم. ويمتزج سرور الدهشة بشيء من الرهبة حينما نجد أن هذا الشاعر الذي عاش في عالم قديم منذ مائتي أو ثلاثمائة عام يعبر عما يقع قريبا من روحي، أو عما فكرت فيه وعبرت عنه أنا كذلك منذ وقت قريب. ولولا ما قدمنا من دليل على المذهب الفلسفي الذي يقول بوحدة جميع العقول لافترضنا ثبوت نوع من أنواع الانسجام بين الأرواح قديم، أو لون من الألوان بعد النظر عند الأرواح من عهد بعيد، وضرب من ضروب إعداد المؤن لحاجات المستقبل، كالذي نشاهد بين الحشرات التي توفر الطعام قبل موتها للديدان الصغيرة التي لن تراها.
ولن يعجل بي حب أي نظام عام، أو المبالغة في الغرائز، إلى الحط من قيمة «الكتاب»؛ فكلنا يعلم أنه كما يتغذى جسم الإنسان بأي طعام حتى إن كان عشبا مغليا ومرق الأحذية، فكذلك عقل الإنسان يتغذى بأي لون من ألوان المعرفة. وقد ظهر رجال عظماء أبطال لم تكد تبلغهم معرفة إلا عن طريق الصحف المطبوعة. إنما أقول إن استساغة هذا الطعام تتطلب عقلا قويا؛ فلكي تحسن القراءة يجب أن تكون منشئا، أو كما يقول المثل: «من يريد أن يجلب لبيته ثروة جزر الهند لا بد أن يبذل جهدا للحصول على ثروة جزر الهند.» فهنالك إذن قراءة منشئة، كما أن هناك كتابة منشئة. حينما يقوى العقل بالعمل والاختراع تصبح صفحة أي كتاب نقرأ مضيئة بالإشارات العديدة. وتتضاعف دلالة العبارة الواحدة، ويتسع فهم المؤلف اتساع العالم. حينئذ نرى ما هو حق دائما، نرى أنه كما أن الساعة من رؤيا الرائي قصيرة نادرة في خضم الأيام والشهور، فكذلك تدوينها ربما كان أقل جزء من أجزاء مجلده. وبعيد النظر هو الذي يقرأ في أفلاطون أو شكسبير ذلك الجزء القليل فقط، أي تلك الكلمات الأصيلة التي ينطق بها الملهمون، أما ما عدا ذلك فإنه ينبذه، حتى إن كان لأمثال أفلاطون وشكسبير.
وهناك جانب من القراءة بطبيعة الحال لا غنى عنه البتة للرجل الحكيم. لا بد له من دراسة التاريخ والعلوم الدقيقة عن طريق القراءة الشاقة. وللكليات كذلك وظيفتها التي لا غنى عنها، وهي أن تعلم المبادئ، ولكنها لا تؤدي لنا خدمة رفيعة إلا إذا لم يكن هدفها التدريب وإنما الإنشاء، وذلك حينما تجمع من بعيد كل شعاع من أشعة العبقرية المتنوعة إلى موئلها الذي يحسن استقبالها، ثم تشعل قلوب الشباب من هذه النيران المتجمعة. فالفكر والمعرفة من الطبائع التي لا يجديها جهاز أو ادعاء. وثياب العلماء والأسس المالية، حتى إن كانت مدائن من ذهب، لا تعوض أقل عبارة أو كلمة ينم عنها الذكاء. فإذا ما نسينا ذلك تأخرت جامعاتنا الأمريكية في أهميتها العامة، مع ازدياد ثروتها عاما بعد عام. (3)
تسود الجميع فكرة تقول بأن العالم ينبغي أن يكون ناسكا، أو كأنه مريض في دور النقاهة، لا يصلح لأشغال يدوية أو أعمال عامة، كما لا تصلح المبراة أن تكون فأسا. إن من نسميهم «رجالا عمليين» يهزءون بالرجال المتأملين، كأنهم - لأنهم يتأملون أو ينظرون - لا يستطيعون أن يعملوا شيئا. ولقد نمى إلي أن رجال الدين، وهم دائما أكثر من أي طبقة أخرى في العالم، علماء يومهم، يحبون الخطاب الرقيق، ولا يستمعون إلى حديث الرجال الجاف التلقائي، وإنما يستمعون إلى الحديث الأنيق الخفيف، إنهم كثيرا ما يحرمون فعلا من حقهم في الانتخاب، وهناك في الواقع من يدافع عن عزوبتهم. وليس من العدل والحكمة أن يصدق ذلك على الطبقات المولعة بالدرس. وإن كان العمل للعالم ثانويا فهو ضروري، وبدونه لا يكون رجلا، وبدونه لا ينضج الفكر فيثمر الحق. وما دامت الدنيا تبدو للعين كأنها سحابة من الجمال، فإننا لا نستطيع أن نرى حتى جمال الدنيا. إن عدم العمل جبن، ولا يمكن أن يكون هناك عالم بغير العقل العامل الجريء. إن مقدمة التفكير، أو التحول الذي يمر به الفكر من اللاشعور إلى الشعور، هو العمل؛ فالمرء لا يعرف إلا بمقدار ما يعيش. وبذلك تعرف في الحال من الذي كلماته محملة بالحياة، ومن الذي كلماته فارغة.
إن الدنيا - أو هذا الظل للروح، أو نفسي الأخرى - واسعة حولي، ومفاتنها هي المفاتيح التي تفتح أفكاري وتعرفني بنفسي. وإنني لأعدو بشغف في هذا الضجيج الذي يرن صداه، وإني لأمسك بأيدي جيراني وأتخذ مكاني في حلقة الناس لكي أكابد ولكي أعمل، وقد علمتني غريزتي أن الهوة الصامتة يمكن أن يرن في أرجائها الكلام. إنني أخترق نظام العالم، وأبدد مخاوفه، وأتصرف فيه في حدود دائرة حياتي الممتدة. وعلى قدر ما أعرف عن الحياة بالخبرة فقط، يكون مدى القفر الذي أغزوه وأستنبته، أو يكون مدى وجودي أو مجال نفوذي. ولست أفهم كيف يستطيع أي إنسان، من أجل أعصابه وراحته، أن يتخلى عن أي عمل يستطيع أن يسهم فيه. العمل هو اللؤلؤ والعقيق في حديث المرء. وإن الكد والكوارث والسخط والحاجة لتعلم الإنسان شيئا من الفصاحة والحكمة. والعالم الحقيقي هو الذي يحقد على كل فرصة للعمل لا يستغلها كأنها نقص في نفوذه؛ فالعمل هو المادة الخام التي يصوغ العقل منها إنتاجه العظيم. وإنها لعملية غريبة أيضا، تلك التي تتحول بها الخبرة إلى فكرة، كما تتحول ورقة التوت إلى الحرير الأطلس. وإنها لصناعة تطرد في سيرها في كل حين.
إن الأعمال والحوادث في طفولتنا وشبابنا هي اليوم موضوعات للتأمل العميق، وإنها لتبدو كالصور الحسناء في الهواء. وليس الأمر كذلك في أعمالنا التي تمت من عهد قريب، أي في العمل الذي نشغل به اليوم أيدينا، فإننا في هذا العمل عاجزون كل العجز عن التأمل؛ لأن عواطفنا ما برحت تتخلله، فلا نحسه أو نعرفه أكثر مما نحس بالقدمين أو اليدين أو الذهن في أجسامنا. العمل الجديد لا يزال جزءا من حياتنا، وهو يبقى فترة غائصا في حياتنا اللاشعورية. وفي ساعة من ساعات التأمل ينفصل هذا العمل عن الحياة كما تنفصل الثمرة الناضجة، لكي يصبح فكرة في العقل. فالعمل يرتفع في لحظة وتتغير صورته، وما كان عرضة للفساد يصبح شيئا لا يقبل الفساد، ويصير بعدئذ شيئا جميلا مهما يكن منشؤه وبيته. ثم لاحظ كذلك استحالة وقوع ذلك قبل الأوان. إن تحول العمل إلى الفكرة يمر بمرحلة كالتي تمر بها الدودة، التي لا تستطيع الطيران ولا تستطيع الإضاءة، إنما هي دودة ثقيلة، ولكنها فجأة، ودون أن نلحظ عليها ذلك، تتفتح عن أجنحة جميلة، وتصبح ملاكا من ملائكة الحكمة. وكذلك ليست هناك واقعة، وليس هناك حادث، في تاريخنا الخاص، لا يفقد - إن عاجلا أو آجلا - صورته المائعة الساكنة، ويذهلنا بالانفصال عن حياتنا ليصبح ذكرى. لقد ولى المهد وولت الطفولة والمدرسة واللعب وخوف الصبية، والكلاب والمقرعة، وحب الفتيات والتوت، وحقائق أخرى كثيرة كانت في وقت من الأوقات تملأ السماء كلها. وكذلك الصديق والقريب، والمهنة والحزب، والمدينة والريف، والأمة والعالم، كل ذلك لا بد أن يمضي ويتلاشى ثم يستحيل نشيدا.
وإن من يضع كل قوته في أعمال مناسبة تعود إليه الحكمة - بطبيعة الحال - كأغلى ما تكون. إنني لن أحبس نفسي بعيدا عن دنيا العمل هذه، وأنقل السنديانة إلى آنية الزهر، لتجف فيها وتذبل. ولن أثق فيما تجلبه لي موهبة وحيدة، وأرهق وترا واحدا من أوتار الفكر، فأكون أشبه بأهل سافوي الذين كانوا يحصلون على عيشهم بنحت تماثيل الرعاة والراعيات والهولانديين وهم يدخنون لكل أنحاء أوروبا، فلما قصدوا الجبل ذات يوم للبحث عن الخشب اكتشفوا أنهم قد قطعوا آخر شجرة من أشجار الصنوبر ليحرقوها. لدينا مؤلفون عديدون استنفدوا قدرتهم على الكتابة، ثم دفعتهم حكمة حميدة فأقلعوا إلى بلاد اليونان وفلسطين، أو اقتفوا أثر الصائد في المروج، أو تجولوا حول بلاد الجزائر؛ لكي يزودوا أنفسهم بالبضاعة الرائجة.
لو أن العالم لا يقصد إلا التعابير فإنه لا بد يتشوق إلى العمل؛ فالحياة قاموسنا، وإنك لتحسن إنفاق السنين لو أنفقتها في العمل بالريف، أو بالمدينة، أو في تبصر الحرف والصناعات، أو في الاتصال الخالص بالرجال والنساء، أو في العلم، أو الفن، وذلك لغرض واحد هو إتقان لغة نوضح بها ونصوغ فيها آراءنا في حقائق هذه الأشياء جميعا. وإنني لأعرف في الحال من المتكلم مقدار ما أصاب من معيشة، وذلك من خلال حديثه التافه أو العظيم. إن الحياة تكمن خلفنا كأنها المحجر الذي نحصل منه على الآجر والحجارة لما نشيده اليوم. وبذلك نتعلم قواعد اللغة. أما الكليات والكتب فهي تكتفي بأن تحاكي اللغة التي صنعها الحقل وميدان العمل.
بيد أن قيمة العمل النهائية - شأنها في ذلك شأن قيمة الكتب بل أكثر من قيمة الكتب - هي أن العمل مورد من الموارد. إن القانون العظيم للتراوح في الطبيعة، الذي يتبدى في شهيق الأنفاس وزفيرها، وفي الاشتهاء والاكتفاء، وفي مد البحر وجزره، وفي الليل والنهار، وفي الحرارة والبرودة، ذلك القانون الذي يكون أشد انطباعا في كل ذرة وكل سائل، إنما نعرفه باسم «الاستقطاب»، وهذه «النوبات من الانتقال السهل والانعكاس اليسير» - كما عبر عنها نيوتن - هي قانون الطبيعة، لأنها قانون الروح.
يفكر العقل مرة، ويعمل مرة أخرى، وكل نوبة تبعث الأخرى. عندما يستنفد الفنان أدواته، فلا يصور خياله، وعندما يكف عن فهم الأفكار وتصبح الكتب مملولة، فإن لديه دائما مورد «الحياة». والشخصية أسمى من العقل. التفكير هو الوظيفة، والعيش هو صاحب الوظيفة، والتيار يتراجع إلى منبعه، والروح العظمى تقوى على العيش كما تقوى على التفكير. وهل تنقصها الأداة أو الوسيط لإذاعة ما لديها من حقائق؟ إنها تستطيع أن تركن إلى هذه القوة المبدئية، وهي قوة العيش وفقا لهذه الحقائق. وإن هذا لعمل كلي، في حين أن التفكير عمل جزئي. حينئذ يشرق على الروح جلال العدالة. ويبهج جمال المحبة مأواها، فإن أولئك «البعيدين عن الشهرة» الذين يقطنون ويعملون معها، سوف يحسون قوة بنائها في أعمال يومها وما يمر بها فيه، وذلك خير من أن يقاس هذا البناء بالتظاهر أمام الجمهور تظاهرا مقصودا. إن الوقت سوف يعلم صاحب هذه الروح. إن العالم لا يضيع الساعة التي يحياها كرجل؛ ففي هذه الساعة يكشف عن غرائزه التي تشبه الجواهر المقدسة، ويبعدها عن المؤثرات، وما يفقده في التظاهر يكسبه في القوة. إن أولئك الذين أرهقت نظم التربية ثقافتهم لا يظهر من بينهم ذلك العملاق الذي يعين على هدم القديم وبناء الجديد، وإنما يخرج هذا العملاق من الطبيعة الوحشية التي لم تلوث قط، إنما يخرج ألفرد وشكسبير في النهاية من المحارب النوردي الهمجي المتهور، ومن الكاهن الكلتي في بلاد الغال القديمة وبريطانيا.
ولذا فإني أستمع بسرور إلى كل ما بدأ الناس يذكرون عن كرامة العمل وضرورته لكل مواطن. فلا تزال للفأس والمعول فضيلتهما لأيدي المتعلمين وغير المتعلمين على السواء. مرحبا بالعمل في كل مكان، إننا دائما ندعى إليه، ولكن علينا أن نلاحظ هذا الشرط: وهو أن الرجل لا ينبغي له من أجل اتساع نطاق العمل أن يضحي بأية فكرة في سبيل أحكام العامة وأساليب العمل.
تحدثت الآن عن تربية العالم عن طريق الطبيعة، وعن طريق الكتب، والعمل، وبقي أن أقول شيئا عن واجباته.
إنها الواجبات التي تلائم «الإنسان المفكر»، ويمكن أن تشملها كلها الثقة في النفس. وظيفة العالم هي أن يدخل البهجة في نفوس الناس، ويعلو بهم، ويرشدهم، وذلك بأن يوضح لهم الرشد من الغي. إنه يثابر على القيام بالملاحظة البطيئة التي لا تجلب شرفا ولا مالا. إن فلامستيد وهرشل في مراصدهما البلورية يستطيعان أن يقرآ النجوم بما يسر الناس جميعا، وهذه النتائج العظيمة النافعة تكفل لهما الشرف الرفيع. ولكن العالم في مرصده الخاص، وهو يحسب نجوم العقل البشري المعتمة المظلمة التي لم يفكر فيها قبل اليوم إنسان، وهو يرقب بضع حقائق أياما وشهورا في بعض الأحيان، مصححا سجلاته القديمة، هذا العالم لا بد له من نبذ التظاهر والشهرة المباشرة. وفي خلال فترة استعداده الطويلة لا بد له غالبا من أن يفضح جهلا وجمودا في الفنون الشعبية، فيجلب على نفسه ازدراء القادرين الذين ينحونه جانبا. ولا بد له من التعثر طويلا في كلامه، وكثيرا ما يهجر الأحياء إلى الأموات. وأسوأ من هذا، أنه لا مناص له من قبول الفقر والعزلة، وما أكثر ما يفعل ذلك! وإنه ليستعيض عن السهولة والمتعة في طرق الطريق القديم، وقبول الطراز السائد وما تتبعه الجماعة في التربية والدين، يستعيض عن ذلك بما ينشئه لنفسه، وإنه ليصبح من أجل ذلك هدفا بطبيعة الحال لاتهام النفس وضعف القلب، والشك في قيمة الوقت وضياعه في كثير من الأحيان، وهي أمور كالحشائش والكروم المعقدة تعترض سبيل الاعتماد على النفس والتوجيه الذاتي، كما يستهدف لخصومة حقيقية يبدو فيها عدو المجتمع وبخاصة المتعلمون منه. وماذا يقابل كل هذا الخسران والازدراء؟ إنه يجد عزاءه في ممارسة أعلى وظائف الطبيعة البشرية. إنه رجل يسمو بنفسه عن الاعتبارات الخاصة ويتنفس ويعيش على الآراء المشرقة العامة. هو عين العالم، وقلبه. إنه يقاوم الرفاهية الدنيئة التي تعود بنا دائما نحو البربرية، وذلك بنقله مشاعر البطولة والسير النبيلة، وعذب الشعر، وعبر التاريخ، وكل حكمة عبر عنها قلب الإنسان في كل ظرف طارئ وكل ساعة رهيبة، تعليقا على عالم الأعمال، كل حكمة من هذا القبيل يتلقاها العالم ويعلمها غيره، وكل حكم جديد ينطق به العقل من كرسيه الحصين على ما يمر اليوم من رجال وأحداث، كل حكم من هذا القبيل يصغى إليه ويصوره.
ولما كانت هذه هي وظائف العالم، فجدير به أن يستشعر كل الثقة في نفسه، وألا يذعن أبدا لصوت الجماهير؛ فهو وحده الذي يعرف العالم. والعالم في أية لحظة من اللحظات ليس إلا مظهرا. والعمل الذي يكون له بريق، أو الحكومة التي يقدسها الشعب على غير أساس، أو الصناعة الزائلة، أو الحرب، أو الإنسان، هذه أمور قد يؤيدها نصف البشر وقد يعترض عليها النصف الآخر، كأن كل شيء يتوقف على هذا التأييد أو ذاك الاعتراض. والأرجح أن الموضوع كله لا يستحق أدنى تفكير ينفقه العالم في الإصغاء إلى الجدل. وعلى العالم ألا يتخلى عن عقيدته في أن البندقية الفارغة لا تعدو أن تكون بندقية فارغة، حتى إن أكد لنا القدامى والأشراف في هذه الأرض أنها تنطلق فتقضي على الدنيا. ليثق العالم في نفسه، في صمت وثبات وتجرد مطلق، وليضم ملاحظة إلى أخرى، صبورا على إهمال الناس له، وعلى لومهم إياه، ويترقب الوقت لنفسه، ويكفيه سعادة أنه يستطيع أن يقنع نفسه وحده أنه في هذا اليوم قد شاهد شيئا ما على حقيقته. وإن النجاح ليحدو خطوة صحيحة؛ لأن الغريزة التي تدفعه إلى أن يخبر أخاه بما يرى غريزة صادقة، وسوف يدرك بعد ذلك أنه حينما يغوص في أسرار عقله إنما يهبط إلى أسرار العقول جميعا. وإنه حينما يتحكم في أي قانون من قوانين فكره الخاص، إنما يتحكم في جميع الناس الذين يتحدث بلغتهم، وفي جميع من يتكلمون لغة يمكن أن تترجم إليها لغته؛ فالشاعر الذي يذكر في عزلته التامة أفكاره التلقائية فيدونها، إنما يدون ما يجده الناس في المدائن المزدحمة حقا لديهم كذلك. والخطيب يرتاب أول الأمر في صلاحية اعترافاته الصريحة، وفي نقص علمه بالأشخاص الذين يخطبهم، حتى يجد أنه متمم لسامعيه، وأنهم يستقون من كلماته لأنه يعبر عن طبيعتهم نيابة عنهم. وكلما اشتد غوصه في خوالجه الخاصة الدفينة يشتد عجبه حينما يجد أن ذلك هو أشد الأمور قبولا، وأكثرها شيوعا، وأصدقها عند الناس أجمعين؛ فالناس يسرون منها، ويشعر الجانب الطيب في كل إنسان أن هذه هي موسيقاه وتلك هي نفسه.
وتشتمل الثقة في النفس على جميع الفضائل؛ فالعالم يجب أن يكون حرا وجريئا. يجب أن يكون حرا على حد تعريف الحرية «دون عائق لا يصدر عن نفسه»، وجريئا لأن الخوف شيء يخلفه العالم وراءه بحكم وظيفته؛ لأن الخوف دائما ينشأ عن الجهل. وعار عليه إذا كان هدوءه، في الأوقات العصيبة، ناشئا عن افتراضه أنه من الطبقات المحمية، كالأطفال والنساء، أو إذا كان يبحث عن السلام المؤقت بتحويل أفكاره من السياسة أو الموضوعات الشائكة، مخفيا رأسه كالنعامة في الشجيرات المثمرة، ناظرا في مناظيره المكبرة، أو ناظما للشعر، كما يصفر الطفل لكي يحتفظ بشجاعته. فالخطر لا يزال هو الخطر، والخوف أسوأ. وإنما يجب عليه أن يلتفت إليه ويجابهه كما يفعل الرجال. وليحدق في عين الخطر ويبحث عن طبيعته، ويفحص أصله - ويرى منبت هذا الأسد - الذي لا يبعد وراءه كثيرا. سوف يجد في نفسه حينئذ إدراكا كاملا لطبيعته ومداه، ولسوف تلتقي يداه في الناحية الأخرى. ومن ثم يستطيع أن يتحداه ويمر به في استعلاء. إنما الدنيا لمن يستطيع أن يخترق مزاعمها بالنظر. وما ترى من صمم ومن عادة عمياء ومن خطأ متفاقم إنما مرده إلى رضا المرء باحتماله، فإن نظرت إلى ذلك على أنه أكذوبة، فقد قضيت عليه بضربة لازب.
أجل، إنما نحن الأذلاء، نحن الذين لا نثق في أنفسنا، وإنها لفكرة شريرة تلك التي تزعم أننا قد قدمنا إلى الطبيعة متأخرين، وأن العالم قد تم منذ زمان بعيد. وكما أن الدنيا كانت مرنة سائلة في أيدي الله، فهي كذلك دائمة في كثير من الصفات التي نجلبها لها، إنها كحجر الصوان عند الجاهلين والخاطئين، فأولئك ينصاعون لها ما أمكنهم ذلك، ولكن بمقدار ما في المرء من قداسة يخضع الكون له، ويتخذ طابعه وصورته. وليس عظيما من يستطيع أن يغير المادة، وإنما العظيم من يستطيع أن يغير حالتي العقلية: إنما عظماء العالم هم الذين يضفون لون تفكيرهم الراهن على الطبيعة كلها وعلى الفن كله، ويحملون الناس بمعالجتهم الأمر في جد وانشراح على أن هذا الذي يعملون هو بمثابة التفاحة التي كانت العصور الماضية تتوق إلى قطفها، والآن تم نضجها، وهي تدعو الأمم إلى جنيها؛ فالرجل العظيم هو من يحقق الأمر العظيم. فأينما يجلس «ماكدونالد» يكون رأس المائدة. ولقد جعل «لناوس» علم النبات أكثر الدراسات تشويقا، واكتسب ذلك من الفلاح والمرأة التي تجمع العشب، وكذلك فعل «ديفي» بالكيمياء، و«كوفير» بالحفريات. إنما يكسب اليوم من يعمل فيه بجد ولأغراض سامية، ويظفر بتقدير الناس - الذي لا يستقر على حال - من امتلأ عقله بالصدق، ويتراكم له التقدير كما تتراكم أمواج الأطلانطي في إثر القمر.
والسبب في دعوتنا إلى الثقة بالنفس أعمق من أن يسبر غوره، وأظلم من أن يستنير. وربما لا أستطيع أن أظفر بمشاعر المستمعين إلي عندما أصرح لهم بعقيدتي. ولكني قد أبنت لكم أساس آمالي، وذلك عندما نبهت إلى المذهب القائل بوحدة الإنسان. وإني أعتقد بأن الإنسان قد أسيء إليه، أو أنه قد أساء إلى نفسه، وكاد أن يفقد النور الذي يمكن أن يرده إلى ما تميز به . ولم يعد للناس وزن؛ فهم في التاريخ، وهم في عالم اليوم كالهوام أو بيض السمك، ويسمون «الجموع» أو «القطيع». وفي كل قرن، أو في كل ألف عام، يظهر رجل واحد أو رجلان، أعني واحدا أو اثنين، يقربان من الحالة الصحية التي ينبغي أن يكون عليها كل إنسان، وكل من عداه أو عداهما يرى في البطل أو في الشاعر وجوده الساذج البدائي في حالة النضوج. أجل، وإنه ليرضى أن يكون أقل من ذلك، لكي يتم لذلك البطل نموه. ويا له من دليل، ينم عن المجد ويدعو إلى الحسرة، ذلك الدليل الذي يقدمه - ليلبي حاجة نفسه - الرجل الفقير في القبيلة، أو العضو المعدم في الجماعة، حينما يبتهج للمجد يظفر به زعيمه. في ذلك يجد الفقير والوضيع شيئا من العوض لكفايتهما المعنوية الهائلة، عوضا عن هبوطهم إلى الحضيض في معترك السياسة والاجتماع. لقد رضوا لأنفسهم أن يزالوا كالذباب من طريق الرجل العظيم كي يمكنوا له من إقامة العدل لتلك الطبيعة المشتركة التي يتوق الناس جميعا إلى أن يروها معظمة ممجدة. إنهم يستدفئون بالحرارة المنبعثة من الرجل العظيم، ويشعرون بأن هذه الحرارة أو ذلك الضوء من إشعاع أنفسهم. إنهم ينبذون كرامة الإنسان من نفوسهم الذليلة ليضعوها على أكتاف البطل، وإنهم ليقضون نحبهم لكي يضيفوا قطرة من دماء ينبض بها ذلك القلب الكبير، وتجعل تلك الأعصاب الجبارة تقاتل وتنتصر. هذا الرجل العظيم يعيش لنا، ونعيش فيه.
والناس - كما هم - من الطبيعي جدا أن يطلبوا المال والنفوذ، وإنما يطلبون النفوذ لأنه بمثابة المال، أو غنيمة الوظيفة كما يقال. ولم لا؟ فهم يتطلعون إلى ذروة العلا، وهذا في أحلام يقظتهم ما يعتقدون أنه ذروة العلا. أيقظهم يتخلوا عن هذا الخير الزائف ويقفزوا إلى الحقيقة، ويتركوا الحلم للكتبة والمكاتب. ويمكن إشعال هذه الثورة بترويض فكرة الثقافة تدريجا. إن أهم ما يصبو إليه العالم لبلوغ المجد واتساع الأفق هو بناء الإنسان. وها هي ذي مواد البناء ملقاة على الأرض. إن الحياة الخاصة لرجل واحد سوف تكون مملكة أبهى سناء وأشد ذعرا للعدو، وأحلى وأجدى نفوذا للصديق، من أية مملكة في التاريخ؛ لأنك إن أنعمت النظر إلى الرجل ألفيته ينطوي على الطبائع الموزعة على الناس جميعا. وكل فيلسوف وكل شاعر وكل ممثل قد أدى لي نيابة عني ما أستطيع ذات يؤم أن أؤديه لنفسي. والكتب التي كنا فيما مضى نقومها كما نقوم إنسان العين قد استوعبناها تماما. ولا يختلف ذلك عن قولنا إننا قد التقينا في وجهة النظر التي طبعها العقل العالمي في عيني الكاتب. لقد كنا ذلك الرجل، ثم انصرفنا، إننا ننزح مستودعات الماء جميعا واحدا بعد الآخر، ولما كنا ننمو من كل هذا المدد، فإننا نشتهي طعاما أحسن وأوفر. إن الرجل الذي لا يطعمنا البتة لم يعش قط. والعقل الإنساني لا يمكن أن يدخر في شخص يضع سدا في أي جانب من جوانب هذه الإمبراطورية التي لا تحد. إنها نار واحدة مركزية، تشتعل مرة بين شفتي أتنا فتضيء رءوس صقلية، ومرة أخرى من حلق فيزوف فتبعث الضوء إلى بروج نابلس وكرومها. إنه ضوء واحد يشع من ألف نجم. إنها روح واحدة تبعث الحياة في جميع الناس.
ولكني ربما أكون قد أسهبت إلى حد الإملال في الحديث عن العالم كموضوع مجرد، ولا ينبغي لي أن أتلكأ أكثر من ذلك في ذكر ما أريد التنويه عنه من الإشارة القريبة إلى هذا العصر وهذا البلد.
إننا نحسب - من الناحية التاريخية - أن هناك فارقا في الآراء التي تسود في العصور المتعاقبة، وأن هناك من الحقائق ما يميز العقلية الكلاسيكية من العقلية الرومانتيكية، ومن عقلية العصر الحديث، عصر التفكير أو الفلسفة. وبعد الآراء التي قدمتها عن وحدة العقل أو مماثلته في جميع الأفراد، لن آبه كثيرا بهذه الفوارق، بل إني لأعتقد أن كل فرد يمر بالمراحل الثلاث؛ فالصبي يوناني، والشاب رومانتيكي، والراشد مفكر. ومع ذلك فإني لا أنكر أننا نستطيع أن نتتبع في جلاء تطورا في الفكرة الرئيسية.
إننا نندب عصرنا لأنه عصر «انطواء»، ولكن هل هذا شر؟ يبدو أننا ناقدون، تحيرنا أفكار الآخرين، ولا نستطيع أن نستمتع بشيء لأننا نتلهف على معرفة مصدر السرور. نحن مبطنون بالعيون، حتى إنا لنرى بأقدامنا، وعصرنا مصاب بما أصاب هاملت من شقاء.
مرضى بألوان من التفكير شاحبة.
وهل هذا شر؟ إن النظر هو آخر ما يتحسر عليه الإنسان، هل نرضى لأنفسنا العمى؟ هل نخشى أن نرى أبعد من الطبيعة ومن الله، ونشرب الحقيقة على جفاف؟ إنني لأنظر إلى سخط طبقة الأدباء على أنه إقرار منهم بأنهم لا يجدون أنفسهم في الحالة العقلية التي كان عليها آباؤهم، ويأسفون لأنهم لم يجربوا حالة المستقبل، كما يخشى الغلام الماء قبل أن يعلم أنه يستطيع السباحة. ولو أن هناك عصرا يود الإنسان أن يولد فيه فهو ألا يكون عصر «الثورة» حينما يقف القديم والجديد وجها لوجه، ويتعرضان للمقارنة، حينما يتأثر نشاط الناس جميعا بالخوف والأمل، حينما يستعاض عن أمجاد الماضي التاريخية بإمكانيات العصر الجديد الغنية. إن هذا الوقت، كغيره من الأوقات جميعا، وقت طيب جدا، لو عرفنا كيف نستغله.
إنني أقرأ بشيء من السرور عن علامات الأيام المقبلة التي تبشر بالخير، وهي تتلألأ خلال الشعر والفن، وخلال الفلسفة والعلم، وخلال الكنيسة والدولة.
وإحدى هذه العلامات هي أن الحركة عينها التي أدت إلى رفع مستوى ما كان يسمى بأحط الطبقات في الدولة، اتخذت في الأدب صورة واضحة جدا تشبهها رفقا ورأفة. فبدلا من السامي والجميل بحث الأدباء عن القريب والوضيع والمألوف، ونظموا فيه الشعر. وما كان يدوسه بالأقدام ويهمله أولئك الذين كانوا يعدون أنفسهم ويتزودون للرحلات البعيدة في الأقطار النائية، وجد فجأة أنه أغنى من كل بلد أجنبي؛ فموضوعات اليوم هي أدب الفقير، ومشاعر الطفل، وفلسفة الشارع، ومعنى الحياة المنزلية. وإنها لخطوة عظيمة. أليس من علامات القوة أن يدب النشاط في الأطراف، وأن تجري تيارات من الحياة الدافئة في الأيدي والأقدام؟ إنني لا أبحث عن العظيم والبعيد والخيالي، ولا أسأل عما يجري في إيطاليا أو بلاد العرب، أو على الفن الإغريقي أو أناشيد «بروفنسال»، وإنما أنا أحتضن الأمر العادي، وأكتشف الشيء المألوف والشيء الوضيع وأجلس عند قدميه. بصرني باليوم، أعطك العالم القديم وعالم المستقبل. ماذا عسانا حقا نحب أن نعرف له معنى؟ الطعام في الإناء، واللبن في الوعاء، والقصة المنظومة في الشارع، وأنباء الزورق، ولمحة العين، وهيئة الجسم ومشيته. أرني الأسباب البعيدة لهذه الأمور، وأرني الوجود السامي للأسباب الروحية العليا كامنة - كما تكمن دائما - في هذه الضواحي وهذه الأطراف من الطبيعة، ودعني أرى التوافه وهي تتطاول إلى الاستقطاب الذي يردها توا إلا القانون الأبدي، دعني أرى الحانوت، والمحراث، ودفتر الحسابات الذي يصدر عن نفس السبب الذي تنشأ عنه ذبذبة الضوء وغناء الشعراء. دعني أرى كل ذلك، ولن تكون الدنيا بعد ذلك خليطا مملا كالحجرة يتراكم فيها سقط المتاع، بل تكون على صورة ونظام. ليس هناك أمر تافه، أو لغز، وإنما هناك خطة واحدة توحد بين أعلى القمم وأسفل الأخاديد وتبعث فيها الحياة.
هذه الفكرة ألهمت عبقرية جولد سمث وبرنز وكوبر، وفي عصر أحدث، ألهمت جيته ووردزورث وكارليل. هؤلاء تابعوا هذه الفكرة على صور مختلفة وبدرجات متفاوتة من النجاح. وتتباين كتابتهم مع أسلوب بوب وجونسن وجبن الذي يبدو باردا متكلفا. أما كتابتهم ففيها دفء الدماء. وإن الإنسان ليدهشه أن يرى أن الأشياء القريبة ليست أقل جمالا وعجبا من الأشياء البعيدة. القريب يفسر البعيد. وليست القطرة إلا محيطا صغيرا، والإنسان متصل بالطبيعة كلها. وهذه الفكرة عن قيمة الشيء الشائع تنفع في كشف ما استتر. ولقد كان جيته في ذلك أحدث المحدثين، ومع ذلك فقد أطلعنا - كما لم يطلعنا أحد من قبل - على عبقرية القدماء.
هناك رجل عبقري واحد أدى خدمة كبرى لفلسفة الحياة هذه، ولم تقدر بعد تقديرا صحيحا القيمة الأديبة لهذا الرجل، ذلك هو عمانويل سودنبرج.
1
كان أبعد الناس خيالا، ومع ذلك فقد كان يكتب بدقة العالم الرياضي، محاولا أن يطبع المسيحية الشائعة في عصره بطابع قواعد الأخلاق الفلسفية الخالصة. ومثل هذه المحاولة لا بد لها - بطبيعة الحال - من أن تلقى صعوبة لا يستطيع التغلب عليها أي عبقري. ولكنه رأى العلاقة بين الطبيعة وصلات النفس وأطلعنا عليها. لقد اخترق الصفة الرمزية أو الصفة الروحية للكلمة المرئية والمسموعة والمحسوسة. وكان شيطانه في الشعر الذي يحب الظلال، يحلق خاصة فوق أجزاء الطبيعة السفلى ويفسرها. وأظهر الرابطة العجيبة التي تصل ما بين الشر الخلقي والصور المادية الدنيئة. وقدم لنا في تشبيهات من شعره القصصي نظرية عن ضعف العقل، وعن الوحوش، وعن الأشياء الدنيئة المفزعة.
وعلامة أخرى من علامات العصر الذي نعيش فيه، تتميز كذلك بحركة سياسية مشابهة، هي الأهمية الجديدة التي أعطيت للفرد، وكل ما يرمي إلى عزلة الفرد، وإحاطته بحواجز الاحترام الطبيعي، حتى يحس كل فرد أن الدنيا له، ويعامل الإنسان أخاه الإنسان كما تعامل الدولة ذات السيادة دولة أخرى ذات سيادة، يرمي كذلك إلى الوحدة الحقيقية، وإلى العظمة. يقول بستالوزي ذلك الرجل المكتئب: «عرفت أن ليس هناك إنسان في دنيا الله الواسعة هذه يحب أو يستطيع أن يعين إنسانا آخر.» إن العون لا بد أن يأتي من صميم القلب وحده. والعالم هو ذلك الرجل الذي يجب عليه أن يتقمص في شخصه كل ما في عصره من قدرة، وكل ما وهبه لنا الماضي، وآمال المستقبل. يجب أن يكون جامعة من المعارف. وإن كان هناك درس يجب أن يطرق أذنه أكثر من غيره فذلك هو: «إن الدنيا لا شيء، والإنسان كل شيء.» ففي نفس الإنسان قانون الطبيعة كلها، وأنتم لا تدركون بعد كيف ترتفع فقاعة الماء، وفي نفس الإنسان يرقد العقل كله، فعليكم أن تعرفوا كل شيء، وعليكم أن تقتحموا كل شيء.
سيدي الرئيس، سادتي:
إن هذه الثقة في قوة الإنسان التي لم تبحث بعد تخص العالم الأمريكي، بكل دوافعها وكل ما تبشر به وكل استعداد لديها. لقد استمعنا طويلا إلى آلهة الشعر الأوروبية الظريفة، ووصمنا روح الرجل الحر الأمريكي بالجبن والتقليد والاستئناس. إن الشراهة العامة والخاصة لتجعل الهواء الذي نتنفسه كثيفا غليظا. والعالم رقيق متراخ لطيف. فانظر إلى العواقب الوخيمة. إن عقل هذا البلد - الذي تعلم أن يهدف إلى الوضيع من الأمور - ليأكل بعضه بعضا. ليس هناك عمل إلا للخانع القانع. أما الشبان الذين نتوقع منهم أحسن الرجال، والذين يبدءون الحياة على شواطئنا منتفخين برياح الجبال، تسطع عليهم كل نجوم الآلهة، فإنهم لا يجدون الأرض تحتهم متفقة مع هذه الأشياء، فيعوقهم عن العمل نفور من المبادئ التي تسير عليها الأعمال، فينقلبون عمالا كادحين، أو يموتون من النفور، وبعضهم يقضي نحبه انتحارا. وماذا عسى أن يكون العلاج؟ إنهم لم يروا بعد، ولا يرى كذلك ألوف الشباب المتفائلين مثلهم والمتزاحمين الآن حول الحواجز التي تقف في سبيل مستقبلهم، لم يروا أن الفرد إذا ركن إلى غرائزه ركونا راسخا، وتمسك بها، فإن الدنيا العريضة سوف تنقاد له. صبرا، صبرا، والتمسوا الصحبة في ظلال الخير والعظمة، والعزاء فيما يتراءى أمام حياتكم التي لا تنتهي، والعمل في دراسة المبادئ ونقلها إلى الناس، وفي سيادة هذه الغرائز، وفي هداية العالم. أليس أكبر عار في الدنيا ألا يكون الفرد وحدة، وألا يعد شخصا، وألا يثمر تلك الثمرة الخاصة التي خلق كل إنسان ليثمرها، إنما يحسب في المجموع، في المئات، أو الآلاف أو الحزب أو الفريق الذي ينتمي إليه، وإن يمكن التنبؤ برأي الفرد منا جغرافيا، فيقال إنه من الشمال أو من الجنوب؟ لا تكونوا كذلك، إخواني وأصدقائي، اللهم لا تجعلنا كذلك. إنما نريد أن نمشي على أقدامنا، وأن نعمل بأيدينا، وأن نعبر عما يجول في خواطرنا. ولن تكون دراسة الآداب بعد اليوم مدعاة للإشفاق، وللشك، ولمتعة الحواس. ولسوف تكون رهبة الإنسان ومحبته سورا للدفاع وإكليلا من البهجة يكلل هامات الجميع. ولسوف توجد لأول مرة أمة من الرجال؛ لأن كل فرد يعتقد أنه ملهم من الروح المقدس الذي يلهم كذلك الناس جميعا.
خطاب
(ألقي هذا الخطاب أمام الفرقة العليا في مدرسة هارفارد للاهوت في مساء يوم الأحد، 15 يوليو من عام 1838م. وكان أمرسن قد دعي لإلقائه لا من موظفي المدرسة، ولكن من طلبة الفرقة العليا. وقد اعترض كثير من رجال الدين على ما جاء بهذا الخطاب، حتى إن موظفي المدرسة قد تنصلوا علنا من تبعته. وانقضى زهاء الثلاثين عاما قبل أن يدعى أمرسن مرة أخرى للخطابة في هارفارد.)
إنها لنعمة في هذا الصيف المتلألئ أن يستنشق المرء أنفاس الحياة؛ فالعشب ينمو وبراعم الأزهار تتفتح، والمراعي مرقشة بألوان الزهور النارية والذهبية. والهواء يموج بالطير، ويحلو برائحة الصنوبر وريحان جيلعاد والبرسيم الجاف الجديد. والليل لا يبعث في القلب الكآبة بظلاله التي ترحب بها النفوس. وخلال الظلام الشفاف ترسل النجوم أشعتها التي تكاد أن تكون روحانية. وإن الإنسان ليبدو تحت هذه النجوم كأنه طفل صغير وكرته الأرضية ألعوبة، والليل البارد يرطب الدنيا كأنه نهر، ويعد العيون مرة أخرى للفجر القرمزي. إن لغز الطبيعة لم يبد قبل اليوم أكثر من ذلك سعادة؛ فلقد نالت المخلوقات جميعا ما شاءت من حنطة ونبيذ، والصمت الذي لا يشق والذي لازمته الوفرة من قديم لم يقدم حتى الآن كلمة من كلمات التفسير. وإن المرء ليكره على تبجيل كمال هذا العالم الذي تتناجى فيه حواسنا. ما أفسحه، وما أغناه، وأية دعوة من كل خاصة من خواصه يقدمها لكل موهبة من مواهب العقل الإنساني! إن العالم في تربته المثمرة، وفي بحره الصالح للملاحة، وفي جباله المعدنية والحجرية، وفي غاباته وأحراشه، وفي حيواناته، وفي أجزائه الكيميائية، وفي قوى الضوء ومسيره، والحرارة، والجاذبية والحياة، إن العالم في كل ذلك قمين بأفئدة عظماء الرجال وقلوبهم يخضعونه ويستمتعون به. وإن التاريخ ليسره أن يكرم المزارعين والميكانيكيين والمخترعين والفلكيين، ومشيدي المدن والقواد.
ولكن عندما يتفتح العقل ويكشف عن القوانين التي تسير في العالم وتجعل الأشياء كما هي، حينئذ تتضاءل الدنيا العظيمة فورا إلى رسم أو أسطورة من أساطير العقل. إن الروح الإنساني ليتساءل في لهفة إلى المعرفة لا ينطفئ أوارها: «ماذا عساي أن أكون؟ وما هو الكائن؟» انظر إلى هذه القوانين السباقة، التي يستطيع إدراكنا الناقص أن يراها تميل في هذا الاتجاه أو ذاك، ولكنه لا يراها كاملة الاستدارة، أنظرة إلى هذه العلاقات التي لا حصر لها، تتشابه مرة، وتختلف أخرى؟ ما أكثرها، ولكنها واحدة! وإني لأحب أن أدرس، وأحب أن أعرف، وأحب أن أعجب دائما. إن أعمال العقل هذه كانت في كل العصور تسلية الروح البشري.
ولكن جمالا أعذب وأقوى وأشد خفاء يظهر للإنسان عندما يتفتح قلبه وعقله للإحساس بالفضيلة. إنه حينئذ يتعلم شيئا أعلى منه، يعلم أن وجوده لا حد له، وأنه إنما ولد للخير والكمال، برغم المكانة الدنيئة التي جلبها له الشر والضعف. إن ما يقدسه لا يزال ملكا له، ولو أنه لم يدرك ذلك حتى الآن، وإنما ينبغي له أن يدركه. إنه يعلم معنى تلك الكلمة العظيمة، بالرغم من أن تحليله يعجز عن وصفها. إنه عندما يستطيع ببراءته أو بإدراكه العقلي أن يقول: «إنني أحب الحق، والصدق جميل دائما في الداخل وفي الخارج. أيتها الفضيلة، أنا لك، خلصيني، استخدميني، سوف أخدمك، ليلا ونهارا، في الكبير والصغير، حتى لا أكون فاضلا، بل أكون الفضيلة نفسها.» عندما يقول ذلك يتحقق الغرض من الخليقة، وتتحقق إرادة الخالق.
إن الإحساس بالفضيلة تقديس لوجود بعض القوانين الإلهية وابتهاج بها. فبهذا الإحساس نستطيع أن ندرك أن هذا الدور الساذج الذي نلعبه في الحياة ينطوي على مبادئ تذهل العقل، وإن بدا في حركات تافهة. إن الطفل وسط ألاعيبه يتعلم تأثير الضوء، والحركة، والجاذبية، والقوة العضلية. وفي لعبة الحياة الإنسانية يتفاعل الحب والخوف والعدالة والشهوة والإنسان وكل ما هو مقدس. وهذه القوانين تستعصي على التعبير الصحيح عنها. إنها لا تكتب على الورق، أو يعبر عنها باللسان. إنها تستعصي على التفكير المثابر، ومع ذلك فنحن نقرؤها كل ساعة بعضنا في وجه الآخر وفي فعاله، وفي ضمائرنا. إن الصفات الخلقية التي تتركز جميعا في كل عمل أو فكر فاضل، ينبغي لنا أن نميزها في الكلام، وأن نصفها أو نشير إليها بالتعداد المضني لكثير من التفصيلات. ولما كان هذا الإحساس هو لب الدين، فدعوني ألفت أنظاركم إلى الأهداف الدقيقة له. فأعدد لكم بعض أنواع تلك الحقائق التي يظهر فيها هذا العنصر جليا.
إن الإدراك الفطري للإحساس الخلقي هو تبصر بكمال قوانين الروح، وهذه القوانين تنفذ نفسها بنفسها، خارجة عن الزمان والمكان، ولا تخضع للظروف. ولذا فإن في روح الإنسان عدالة جزاؤها سريع وشامل. من يعمل عملا صالحا يكرم في حينه، ومن يعمل عملا طالحا ينقبض من مجرد قيامه بهذا العمل الطالح. ومن يخلع الدنس، يلبس بذلك الطهارة. وعندما يصبح الإنسان عادلا في صميمه، فإنه يحقق إرادة الله؛ لأن سلام الله، وخلود الله، وجلالة الله، سوف تتمثل في كل ما يفعله الرجل العادل. وإذا كان الرجل يتظاهر ويخدع، فهو إنما يخدع نفسه، ولا يتفق مع وجوده. الرجل أمام الخير المطلق عابد خاضع تمام الخضوع، غير أن كل خطوة يخطوها في هذا السبيل إلى أسفل هي خطوة إلى أعلى. الرجل الذي ينكر ذاته يدركها.
انظروا كيف تعمل هذه الطاقة السريعة الجوهرية في كل مكان، تصلح الأخطاء، وتصحح المظاهر، وتجعل الحقائق منسجمة مع الأفكار. وأثرها في الحياة، وإن أدركته الحواس في بطء شديد، إلا أنه في النهاية أكيد كما هو كذلك في الروح. هذه الطاقة تجعل الإنسان سيد نفسه، يصف عمله الصالح بالخير وخطيئته بالشر. فإن صفات الأشياء تعرف دائما. والسرقات لا تغني، والإحسان لا يفقر، وجريمة القتل تنطق بها الأسوار الحجرية. وأقل أثر من آثار الخداع كوصمة الغرور - أو محاولة إيجاد تأثير حسن أو مظهر ملائم - يلوث النتيجة فورا. أما إن نطقت صدقا فإن الطبيعة والأرواح كلها سوف تعينك على التقدم إلى الأمام تقدما غير منظور. انطق الصدق، وسوف يسندك كل حي وأعجم، بل إن جذور الحشاش نفسها التي تنمو على الأرض لتبدو كأنها تهتز وتتحرك لكي تشهد لك. وتأكدوا كذلك من كمال القانون وهو يطبق نفسه على ما بين الناس من صلات، ويصير قانون الجماعة. فكما نكون يكون رفاقنا. الطيب بالتشابه يبحث عن الطيب، والخبيث بالتشابه يبحث عن الخبيث. ولذا فإن الأرواح تسير إلى الفردوس أو إلى الجحيم بإرادتها.
هذه الحقائق كانت توحي دائما إلى الإنسان بالعقيدة السامية التي تؤمن بأن الدنيا ليست نتيجة لقوى متعددة، وإنما هي نتيجة لإرادة واحدة وعقل واحد، وهذا العقل الواحد ناشط في كل مكان، في كل شعاع من أشعة النجم، وفي كل مويجة من مويجات البركة. وكل ما يقف في سبيل هذه الإرادة يفشل ويتعرقل في كل مكان؛ لأن الأشياء هكذا خلقت، ولم تخلق على صورة أخرى. الخير إيجابي، والشر شخصي محض، وليس مطلقا، فهو كالبرودة التي هي انعدام الحرارة. الشر كله موات أو عدم. أما الخير فهو مطلق وحقيقي. وعلى قدر ما عند الإنسان من خير، يكون ما لديه من حياة؛ لأن كل شيء يصدر عن روح واحدة تسمى بأسماء مختلفة، كالحب والعدالة والاعتدال، حسب تطبيقها في مختلف النواحي، كما يسمى المحيط بأسماء مختلفة على الشواطئ المختلفة التي يرتطم بها. كل شيء يصدر عن روح واحدة ويتآمر معها. وما دام الإنسان يهدف إلى أغراض طيبة فإنه يزود نفسه بقوة الطبيعة كلها، وكلما بعد عن هذه الأغراض حرم نفسه القوة، وحرم نفسه كل معين، وينكمش وجوده عن كل تيار بعيد، ويتضاءل ثم يتضاءل، حتى يصبح ذرة أو قطرة، ويصير السوء المطلق موتا مطلقا.
وإدراك قانون القوانين هذا يوقظ في العقل إحساسا نسميه الإحساس الديني، وهو الذي تنشأ عنه سعادتنا القصوى. وما أعجب سحره وسلطانه! إنه جبل من الهواء، وهو الذي يعطر العالم. هو مر وميعة يابسة وكلورين وحصا البان. إنه يعلو بالسماء والجبال، وهو أنشودة النجوم الصامتة. به يسلم العالم وتحلو الإقامة فيه، ولا يكون ذلك بالعلم أو بالنفوذ. ربما كان أثر الفكر في الأشياء باردا جامدا، لا يلتمس غاية أو وحدة، ولكن إشراق الإحساس بالفضيلة في القلب يعطينا «القانون العام»، ويؤكد لنا أن هذا القانون يسود جميع الطبائع، فتبدو العوالم والزمان والمكان والأبد، كأنها تنفطر من السرور.
هذا الإحساس سماوي إلهي، هو سر سعادة الإنسان، هو الذي يجعله غير محدود. وعن سبيله تعرف الروح نفسها أولا. وهو الذي يصحح الخطأ الأكبر في الإنسان الصغير، الذي ينشد العظمة باتباع العظماء، ويأمل أن يستمد الفائدة «من غيره»، وذلك لأن هذا الإحساس يريه أن مصدر الخير في نفسه، وأنه - كغيره من الناس جميعا - منفذ إلى أعماق العقل. حينما يقول «ينبغي لي»، وحينما يدفئه الحب، وحينما يختار العمل الصالح العظيم بتبنيه من العلا ، حينما يفعل ذلك تتخلل روحه الأناشيد العميقة من «الحكمة العليا». حينئذ يستطيع أن يتعبد، وأن يعظم بالعبادة، لأنه لا يستطيع أن يتخلف عن هذا الإحساس. وفي أسمى تحليق للنفس، لا يمكن أن يقهر الصواب، أو يتفوق على الحب شيء.
وهذا الإحساس أساس من أسس المجتمع، وهو يخلق بالتتابع كل صور العبادة. إن مبدأ التقديس لا يموت أبدا، والإنسان الذي يقع فريسة للخرافة، أو للمتع الحسية، لا يفقد البتة رؤى الإحساس الخلقي. وكذلك يكون كل ما يعبر عنه هذا الإحساس مقدسا وثابتا على قدر طهارته. وما يعبر عنه هذا الإحساس يؤثر فينا أكثر مما تؤثر كل المركبات الأخرى. وعبارات الأزمنة القديمة التي تعبر عن هذا الورع ما برحت جديدة عطرة. وقد كانت هذه الفكرة دائما أشد تعمقا في نفوس الناس في الشرق التقي المتأمل، لا في فلسطين وحدها حيث بلغت أطهر صورة من صور التعبير، ولكن في مصر كذلك، وفي بلاد الفرس والهند والصين. وكانت أوروبا دائما مدينة بدوافعها الإلهية إلى العبقرية الشرقية، فإن ما قاله هؤلاء المنشدون المقدسون وجده عقلاء الرجال جميعا ملائما صادقا. والأثر الفريد ليسوع المسيح على البشر - وليس اسمه مكتوبا في تاريخ هذا العالم بل محفور فيه حفرا - لدليل على الفضل العظيم لهذه التعاليم المتغلغلة في النفوس.
وما دامت أبواب المعبد مفتحة، ليلا ونهارا، أمام كل إنسان، وما دام الكهان الذين ينطقون بهذا الحق لا يكفون، فإنه لا يبقى سوى شرط واحد صارم، وذلك هو الفطرة السليمة. فإن الحق لا يدخل النفس مبتذلا، وإنك في الواقع لا تستطيع أن تتلقى من روح أخرى علما، وإنما تتلقى حافزا. ما يبشر به غيرك لا بد أن تجده صادقا في نفسك أو تنبذه. وإن كلماته، وتبعيتك له - أيا كان هو - لا تجعلك وحدها تتلقى منه شيئا. بل على النقيض من ذلك، فإن في انعدام هذا الإيمان الأولي بذور التدهور . فكما يكون المد يكون الجزر. وإذا زال هذا الإيمان، أصبحت الكلمات نفسها التي صدرت عنه أو الأعمال التي قام بها زائفة مؤذية، وبذلك تنهار الكنيسة، والدولة، والفن، والأدب، والحياة. إذا نسينا مبدأ تقديس الطبيعة الإنسانية أصيبت النظم بالعلة التي تجعلها تتضاءل. كان الإنسان فيما مضى كل شيء، وهو اليوم زائدة تدعو إلى القلق، وحيث إن «الروح العليا» الكامنة في كل شيء لا يمكن تحاشيها كلية، فإن المبدأ الذي يبشر بها لا يحتمل هذا التناقض، وهو أن الطبيعة الإنسانية المقدسة تنسب إلى شخص أو شخصين، وتنكر على بقية الأشخاص، بل وتنكر في غضب شديد. لقد فقدنا مذهب الإلهام، واغتصب المبدأ الوضيع - مبدأ أكثرية الأصوات - مكانة مبدأ الروح. ولا توجد المعجزات والنبوءات، والشعر، والحياة المثالية، والحياة المقدسة، إلا باعتبارها تاريخا قديما فحسب؛ فهي ليست من عقائد الناس أو من آمالهم، وتبدو مضحكة حينما يشار إليها. والحياة تكون مدعاة للهزل أو للإشفاق بمجرد ما تختفي عن الأبصار أغراض الوجود السامية، ويصبح الإنسان قصير النظر، ولا يستطيع أن يلتفت إلا إلى ما يخاطب الحواس.
هذه الآراء العامة - التي لا ينازعها أحد ما دامت عامة - تجد لها أمثلة وافرة في تاريخ الأديان، وبخاصة في تاريخ الكنيسة المسيحية، وفي هذه الكنيسة ولدنا جميعا ونشأنا، وستشرعون يا أصدقائي في تعليم الصدق الذي تتضمنه هذه الحقيقة. وإن لها لأهمية تاريخية كبرى. ولستم بحاجة إلى أن أحدثكم عن كلماتها المباركة التي كانت عزاء الإنسانية. وسوف أحاول أن أؤدي واجبي نحوكم في هذه المناسبة بالإشارة إلى خطأين في إدارة الكنيسة، يتضخمان يوما بعد يوم من وجهة النظر التي اتخذناها منذ حين.
إن يسوع المسيح ينتمي إلى الجنس الصادق من الأنبياء، ولقد رأى بعين مفتوحة لغز الروح، وجذبه انسجامها الشديد وفتنة جمالها، فعاش فيها، وكان وجوده هناك. وهو وحده في التاريخ كله الذي قدر عظمة الإنسان. رجل واحد كان مخلصا لما في نفسك وما في نفسي. رأى أن الله يجسد نفسه في الإنسان، ويتقدم دائما من جديد لكي يستولى على دنياه . وفي عيد الذكر لهذه العاطفة السامية يقول: «أنا مقدس، والله يعمل من خلالي، ويتكلم من خلالي. إن أردت أن ترى الله فانظر إلي، أو انظر إلى نفسك إذا كنت كذلك تفكر كما أفكر أنا الآن.» ولكن أي تحريف عانى مبدؤه وعانت ذكراه في عصره، وفي العصر الذي تلاه، والعصور المتعاقبة! ليس هناك مبدأ من مبادئ «العقل» يمكن أن يعلم عن طريق «الفهم». إنما أصغى فهم الإنسان إلى هذه النغمة العالية من بين شفتي الشاعر، وقال في العصر التالي: «هذا هو الله (يهوه) نزل من السماء، وسأقتلك إن قلت إنه كان إنسانا.» واحتلت تعابير لغته وضروب فصاحته مكانة صدقه، ولم تبن الكنائس على مبادئه، وإنما بنيت على استعارته ومجازه، وصارت المسيحية أسطورة، كما صارت من قبل التعاليم الشعرية اليونانية والمصرية. تحدث عن المعجزات لأنه أحس بأن حياة الإنسان معجزة، وكل ما يعمل الإنسان معجزة، وعرف أن هذه المعجزة اليومية تشرق كلما ارتفعت الشخصية. غير أن كلمة المعجزة كما تنطق بها الكنائس المسيحية تعطي معنى زائفا. إنها كالحيوان الخرافي، ولا تتفق والطبيعة التي تتمثل في البرسيم المزهر والمطر المتساقط.
وأحس بالاحترام لموسى والأنبياء، ولكنه لم يشعر بأن وحيهم الأول يصلح للبقاء للساعة الراهنة وللإنسان الحالي، أو يصلح أن يكون وحيا أبديا في القلب. ولم يعطف على هذه الفكرة. وهكذا كان المسيح إنسانا حقا. ولما رأى أن القانون الكامن في أنفسنا متسلط لم يرض له بالخضوع، وأعلن شجاعة، وبيده وقلبه وحياته أن هذا القانون هو الله. هذا هو المسيح، كما أظن، الروح الوحيدة في التاريخ التي قدرت قيمة الإنسان. (1)
من وجهة النظر هذه ندرك العيب الأول للمسيحية التاريخية. لقد وقعت المسيحية التاريخية في خطأ يفسد كل محاولة لنشر الدين. فإنها تبدو لنا - كما بدت عدة عصور - كأنها ليست مذهب الروح، وإنما مبالغة فيما هو شخصي وما هو إيجابي، مبالغة في الطقوس. ولقد اهتمت - ولا تزال تهتم - في مبالغة شديدة بشخص المسيح، ولكن الروح لا تعرف الأشخاص، إنها تدعو كل فرد إلى أن يمتد حتى يبلغ دائرة الكون بأسرها، وهي لا تؤثر شيئا سوى المحبة التلقائية. بيد أن هذه المسيحية التي تشبه الملكية الشرقية، التي قامت على التراخي والخوف، قد جعلت صديق الإنسان رجلا مؤذيا له. والطريقة التي يحاط بها اسمه بعبارات كانت فيما مضى نفحات من الإعجاب والمحبة، ولكنها تحجرت الآن في ألقاب رسمية، هذه الطريقة تقتل كل عطف كريم أو محبة. وكل من يستمع إلي يحس أن اللغة التي يوصف بها المسيح في أوروبا وأمريكا ليست من أساليب الصداقة والحماسة لقلب طيب نبيل، ولكنها لغة خاصة رسمية، تصور نصف إله، كما كان الشرقيون أو الإغريق يصفون أوزيرس أو أبولو. لو قبلتم التعاليم التي فرضت عليكم فيما مضى بطريقة السؤال والجواب فأوذيتم بها لوجدتم أن الأمانة نفسها وإنكار الذات إنما كانتا من الخطايا الكبرى إذا لم تتصفا باسم المسيحية. وإن المرء لخير له أن يكون «وثنيا يرضع لبان مذهب بال» من أن يخدع في حقه الإنساني، فيأتي إلى الطبيعة ويجد أن الأسماء والأماكن، والبلدان والمهن - ليست وحدها - بل كذلك الفضيلة والحق، قد حبست واحتكرت. بل إنك لن تكون رجلا. لن تملك الأرض، لن تجرؤ على العيش في سبيل القانون الأبدي الذي يحل بك، ويصحب الجمال الأبدي الذي تعكسه لك الأرض والسماء في كل صورة جذابة. وإنما ينبغي لك أن تخضع طبيعتك لطبيعة المسيح. ينبغي لك أن تقبل تفسيرنا وترى صورته كما ترسمها العامة.
إن خير الأمور ما يسلمني إلى نفسي. وإن المذهب الرواقي العظيم: «أطع نفسك» ليثير في نفسي السمو والرفعة. ما يظهر الله في نفسي يعززني، وما يظهر الله خارج نفسي يجعلني زائدة جلدية أو غدة دهنية، فلا تبقى علة ضرورية لوجودي. وإنما تزحف علي ظلال النسيان قبل الأوان، فأموت إلى الأبد.
المنشدون المقدسون أصدقاء فضيلتي، وعقلي، وقواي. إنهم ينبهونني إلى أن الأشعة التي تومض في عقلي ليست لي، إنما هي لله، وإلى أنهم كانوا يملكون مثل هذه الأشعة، ولم يعصوا رؤى السماء، ولذا فإني أحبهم. عنهم يصدر الإيعاز النبيل، الذي يدعوني إلى مقاومة الشر، وإلى أن أخضع الدنيا، وإلى أن أكون. وعلى هذه الصورة وحدها يخدمنا المسيح بأفكاره المقدسة. أما أن يهدف إلى أن يهدي الإنسان بالمعجزة، فذلك تدنيس للروح. الهداية الصادقة، والمسيح الصادق، إنما يتم اليوم - كما كان يتم دائما - بتقبل العواطف الجميلة. وحقا إن روحا عظيما غنيا كروحه إذا هبط بين قوم سذج كان له الرجحان، فيشمل العالم، كما فعل روحه. هؤلاء السذج يبدو لهم أن الدنيا وجدت له، ولم يشربوا روحه فيروا أنهم لا يكبرون أبدا إلا إذا ثابوا إلى أنفسهم، أو إلى الله في أنفسهم. وإنها لمنفعة يسيرة أن تعطيني شيئا، ومنفعة كبرى أن تمكنني من أداء شيء بنفسي. ولسوف يأتي الوقت الذي يرى فيه الناس جميعا أن هبة الله للروح ليست في القداسة التي تزدهر وتتسلط وتستبعد كل شيء سواها، وإنما هي في الخير العذب الطبيعي، خير كالذي عندك والذي عندي. هي الهبة التي تدعو خيرك وخيري إلى أن يوجد وأن ينمو.
وإن العسف الذي تنطوي عليه نغمة الوعظ العامة لا يسيء إلى يسوع أقل مما يسيء إلى الأرواح التي يدنسها. إن الوعاظ لا يدركون أنهم لا يجعلون بشرى المسيح سارة، وإنهم ينزعون عنه شارات الجمال وصفات السماء. إنني عندما أشاهد رجلا جليلا مثل أبامينونداس أو واشنطن، وعندما أرى بين معاصري خطيبا صادقا أو قاضيا عادلا، أو صديقا حميما، وعندما أهتز لما في القصيدة الشعرية من موسيقى وخيال، حينئذ أرى جمالا يشتهى. وإن موسيقى المنشدين العنيفة التي تغنت بالإله الحق في كل العصور لترن في أذني فيطمئن لها كياني البشري اطمئنانا أشمل من ذلك. وإذن فلا تحطوا من شأن حياة المسيح ومحاوراته فتخرجوها من دائرة هذا السحر، وذلك بعزلها وتخصيصها. دعوا هذه الحياة وهذه المحاورات تقع في نفوسنا كما هبطت، حية دافئة، جزءا من الحياة البشرية ومن منظر الطبيعة ومن اليوم السعيد. (2)
والعيب الثاني في الطريقة التقليدية المحدودة لاستخدام فكرة المسيح نتيجة للعيب الأول، وذلك هو أن القانون الخلقي، قانون القوانين الذي يدخل وحيه العظمة - بل الله نفسه - في الروح المتفتحة، ذلك القانون لا يكشف عنه باعتباره منبع التعاليم السائدة في المجتمع. فصار الناس يتحدثون عن الوحي كأنه قد أوحي به وانتهى من عهد قديم، كأن الله قد مات. وإن هذا الضعف في الإيمان ليخنق الواعظ نفسه، كما يصبح خير النظم صوتا مترددا غير فصيح.
ولا مراء في أن الاتجاه إلى جمال الروح يؤدي إلى الرغبة بل والحاجة إلى تلقين الآخرين المعرفة نفسها والمحبة ذاتها؛ فإن الفكرة إذا حرمت التعبير عنها تبقى عبثا على عاتق صاحبها. من ير فلا بد له دائما من القول، لا بد له من التحدث عن حلمه بطريقة ما، فينشره على صورة ما في جد وسرور، فهو يمثل معبود روحه مرة بقلم الرصاص على لوحة التصوير، وأخرى بالإزميل في الحجر أو في البروج وممرات الكنائس المصنوعة من الجرانيت، ومرة في الأناشيد ذات الموسيقى الناعسة، ولكن أحلامه أوضح ما تكون وأثبت ما تكون في الألفاظ.
والرجل الذي تستهويه هذه البراعة يصبح لهذه الأحلام قسيسا أو شاعرا، وكلتا الوظيفتين قد وجدتا منذ خلقت الدنيا. ولكن انظر إلى شرط الوظيفة أو حدها الروحي. إن الروح وحدها تستطيع أن تعلم، فلا يقدر على التعليم أي رجل دنس، أو أي إنسان مادي، أو كاذب، أو رقيق. وإنما الذي يعطي هو وحده الذي يملك، والذي يخلق هو الكائن، والرجل الذي تهبط عليه الروح، والذي تتحدث الروح بوساطته، هو وحده الذي يقدر على التعليم؛ فالشجاعة، والورع، والمحبة والحكمة، يمكنها أن تعلم. ويستطيع كل إنسان أن يفتح بابه لهذه الملائكة، ولسوف تأتيه بهبة الألسنة. أما الرجل الذي يهدف إلى الكلام كما تمكنه الكتب، وكما تقول مجامع العلماء، وكما ترشد الآراء الشائعة، وتهدي المصالح، ذلك الرجل إنما يهذي، وخير له أن يسكت.
ولهذه الوظيفة المقدسة تعتزمون أن تكرسوا أنفسكم، ووددت لو أحسستم بواجبكم كأنه نبض الرغبة والأمل. فإن وظيفتكم في مقدمة الوظائف في هذه الدنيا، وقد بلغت من الحق حدا لا يجعلها تحتمل نقصا من الزيف. ومن واجبي أن أقول لكم إن الحاجة إلى إلهام جديد لم تكن في أي وقت من الأوقات أشد مما هي الآن. ومن الآراء التي عبرت لكم الآن عنها تستنبطون عقيدتي المؤلمة - التي يشاركني ويعتقد فيها معي عدد عديد - في التدهور الشامل للإيمان في المجتمع الذي يكاد أن يبلغ الموت في هذه الأيام؛ فالروح لم تتعظ، والكنيسة كأنها تترنح وتئول إلى السقوط، وتكاد حياتها كلها أن تبيد. وفي هذه المناسبة، من الجرم أن يتلطف معكم متلطف - أمله ورسالته أن يعلمكم العقيدة المسيحية - فيخبركم أن هذه العقيدة قد بلغت.
لقد حان الوقت لكي ترتفع التمتمة المكبوتة التي يتمتم بها الرجال المفكرون ضد القحط الذي أصاب كنائسنا، وذلك الأنين الذي يصدر عن القلب؛ لأنه حرم العزاء والأمل والجلال الذي لا يأتي إلا من تثقيف الطبيعة الخلقية، يرتفع فيسمع خلال سنة التراخي، ويعلو على طنين العمل المألوف. هذا العمل العظيم الخالد يقوم به الواعظ لم يؤد بعد. الوعظ تعبير عن الإحساس الخلقي عند تطبيقه على واجبات الحياة. خبروني في كم كنيسة، وعن طريق كم من المبشرين، يدفع الإنسان إلى الإحساس بأنه روح لا يحد، وإلى أن الأرض والسموات تتخلل عقله، وأنه يتشرب دائما روح الله؟ وأين اليوم الذي يرن فيه ذلك الصوت الذي يدفع قلبي بموسيقاه إلى سكنى الفردوس، فيؤكد أن أصله في السماء؟ أين أسمع مثل تلك الكلمات التي كانت في العصور القديمة تجذب المرء فيترك كل شيء ليتبعه، يترك الأب والأم والبيت والأرض والزوج والولد؟ أين أسمع القوانين العظمى للوجود الخلقي التي ينطق بها الناطق فتملأ مسمعي، وأشعر بالتكريم عندما أهب أقصى جهدي وأحر عواطفي؟ إن اختبار الإيمان الصادق يجب - من غير شك - أن يكون في قدرته على سحر الروح والتسلط عليها، كما تتسلط قوانين الطبيعة على نشاط الأيدي، يتسلط علينا هذا الإيمان إلى حد أننا نجد المتعة والشرف في طاعته. يجب أن يختلط الإيمان بضوء الشمس المشرقة والشمس الغاربة، وبالسحاب الزائل، والطير المغني، وأنفاس الزهور، بيد أن يوم الدين (يوم السبت) قد فقد الآن عند القسيس سناء الطبيعة، إنه يوم بغيض يسرنا انقضاؤه. وإنا لنستطيع أن نجعل - بل إنا لجاعلون فعلا - حتى جلوسنا فوق مقاعد الكنيسة خيرا لنا من ذلك بكثير وأقدس وأحلى.
وكلما اغتصب منبر الخطابة رجل رسمي، خدع العابد وانتابته الكآبة. إننا ننكمش عندما تبدأ الصلاة التي لا تسمو بنا وإنما تقضي علينا وتسيء إلينا. وإنا حينئذ لنتوق أن نلتف في أرديتنا ونلتمس - ما استطعنا ذلك - مكانا معتزلا لا نستمع فيه إلى أحد. أصغيت مرة إلى واعظ فأغراني بشدة أن أقول إني لن أقصد الكنيسة مرة أخرى، فالناس كما ظننت يذهبون إلى ما ألفوا الذهاب إليه، وإلا لما قصد المعبد أحد في المساء. إن عاصفة ثلجية تهب حولنا، هذه العاصفة حقيقية، وليس الواعظ إلا خيالا، وإن العين لتحس التباين الأليم عندما تنظر إليه، ثم تنظر من النافذة خلفه إلى تلك الظاهرة الجوية الجميلة، ظاهرة التثليج. لقد قضى حياته عبثا. ليست لديه لفظة واحدة تدل على أنه ضحك أو بكى، تزوج أو أحب، أثني عليه أو خدع أو اغتم. وإذا كان قد عاش وعمل، فإنا لم نكتسب من ذلك حكمة. إنه لم يتعلم سر مهنته الرئيسي، وهو أن يحول الحياة إلى الحقيقة. ولم يبث في مبادئه واقعة واحدة من كل خبرته. هذا الرجل حرث وزرع وتكلم واشترى وباع، وقرأ الكتب، وأكل وشرب، وآلمه رأسه، ونبض قلبه، وابتسم وكابد، ومع ذلك ليس في كل حديثه تلميح أو إشارة إلى أنه عاش أبدا. ولم يرسم خطا واحدا من التاريخ الحقيقي. إنما يعرف الواعظ الحق بهذا: إنه يشرح للناس حياته، الحياة التي اكتوت بنيران الفكر. أما الواعظ السيئ فلا تستطيع أن تقول من موعظته في أي عصر من عصور الدنيا عاش، وهل كان له ابن وولد، وهل كان مالكا لعقار أو معدما، وهل كان يسكن المدينة أو الريف، أو أي واقعة أخرى في تاريخ حياته. وإنه ليبدو عجيبا أن يقصد الناس الكنائس، كأن بيوتهم لا تسلي البتة، فآثروا هذا الضجيج الذي لا ينم عن معنى. ويدل ذلك على أن في الإحساس الخلقي قوة جاذبة ترسل بصيصا ضئيلا من الضياء على الملل والجهل وقد اتخذا اسمه ومكانته. إن المستمع الكريم على ثقة من أن قلبه يمس أحيانا، وعلى ثقة من أن هناك ما يبتغى، وأن هناك الكلمة التي يمكنها أن تحقق الهدف. وعندما يستمع إلى هذه الكلمات الباطلة، يعزي نفسه؛ لأنها تمت بالصلة إلى ذكرياته عن ساعات أحسن منها، ولذا فهي تقعقع ويعلو صوتها دون أن يصدها شيء.
لست أجهل أننا حينما نقدم الموعظة التي ليست لها قيمة لا يكون ذلك دائما عبثا باطلا، فإن لبعض الناس آذانا طيبة تستمد من كل طعام تافه غذاء للفضيلة. وهناك حقيقة شعرية تختفي في الأدعية والمواعظ العادية. وهي وإن كانت تذكر في حماقة يمكن الإصغاء إليها في حكمة؛ لأن كل دعاء منها أو موعظة تعبير مختار انطلق في لحظة من لحظات الورع من روح مكتئبة أو مبتهجة، وقد جعلت براعة الصياغة العبارة شيئا مذكورا. إن الدعوات - بل والعقائد الثابتة - في كنائسنا أشبه شيء بالبرج الفلكي في دندره أو الآثار الفلكية عند الهندوس، تنعزل انعزالا تاما عن أي شيء مما يوجد في حياة الناس وأعمالهم. إنها تشير إلى أعلى نقطة بلغتها المياه في وقت من الأوقات. غير أن هذه الدماثة هي من الطيبين المتدينين حد للشر والأذى. إن الصلاة الدينية عند كثير من الناس تنبعث عنها آراء وعواطف أخرى مخالفة. وليست بنا حاجة إلى لوم المصلي المهمل، بل إنا لنشفق عليه من سرعة ما يلاقي من جزاء على استرخائه، ووا حسرتاه على الرجل التعس الذي يدعى إلى اعتلاء المنصة ولا يعطي خبز الحياة. إن كل ما يقع تهمة له. هل يطلب المعونة للإرساليات الأجنبية والداخلية؟ ما أسرع ما يعلو الخجل خديه عندما يقترح على أبناء دائرته الدينية أن يرسلوا مالا على بعد مائة أو ألف ميل لإمداد طعام يسير كالذي عندهم في بلدهم، وربما كان خيرا له أن يسير المائة أو الألف ميل هربا من هذا الموقف. أم هل يحث الناس على طريقة ربانية للعيش، وهل يستطيع أن يطلب إلى زميل له أن يأتي إلى الاجتماعات الدينية يوم السبت، في حين أنه وهم جميعا يعرفون أن أقصى ما يتوقعونه هناك ضئيل؟ وهل يدعوهم دعوة خاصة للعشاء الرباني؟ إنه لا يجرؤ على ذلك. وإذا كان القلب لا يدفئ هذه الشعائر، فإن صورتها الجوفاء الصارخة تصبح واضحة، فلا يستطيع أن يجابه رجلا ذا فطنة ونشاط ويدعوه بغير وجل. وماذا عساه قائل في الشارع للقروي الجريء الذي يكفر بالله؟ إن القروي الكافر يرى الخوف في وجه القسيس وهيئته ومشيته.
دعني لا أصم إخلاص هذه الدعوى بالتغاضي عن حقوق الرجال الأخيار. إنني أعرف وأقدر نقاء الضمير وصرامته عند عدد كبير من رجال الدين. إن ما تحتفظ به الصلاة العامة من حياة إنما مرده إلى فئة مبعثرة من الرجال الأتقياء، الذين يعظون الناس هنا وهناك في الكنائس، والذين يقبلون أحيانا في رقة بالغة مذاهب الأقدمين، بيد أنهم لم يقبلوا من غيرهم - ولكن من قلوبهم - الدوافع الحقيقية للفضيلة، ولذا فهم لا يزالون يرغموننا على حبهم ورهبتهم لقداسة أشخاصهم. ثم إن الاستثناء لا يلتمس في وعاظ قلائل بارزين بمقدار ما يلتمس في أحسن ساعاتنا جميعا، في آمالنا الصادقة. أجل، في لحظات الإخلاص عند كل إنسان، ولكن مهما يكن الاستثناء، فمن الحق مع ذلك أن التقاليد من مميزات الوعظ في هذا البلد، وهو يصدر عن الذاكرة، ولا يصدر عن الروح، وهو يرمي إلى المألوف، ولا يرمي إلى الضروري والأبدي، وإن المسيحية التاريخية بذلك تحطم قوة الوعظ، بصرفه عن كشف الطبيعة الخلقية عند الإنسان، حيث يكون السمو، وحيث مصادر الدهشة والقوة. وما أقسى ما في ذلك من ظلم لذلك القانون - وهو فرحة الأرض بأسرها - الذي يستطيع وحده أن يجعل الفكر عزيزا غنيا، ذلك القانون الذي تحذو حذو صحته الأكيدة المدارات الفلكية فلا تجيد الاحتذاء. لقد انقلب هذا القانون هزلا وانحطت قيمته، ولم يذكر بخير أو بحمد، بل ولم ينطق أحد بصفة من صفاته أو كلمة من كلماته. وإن منبر الخطابة بإغفاله هذا القانون إنما يغفل سبب وجوده، ويتحسس شيئا لا يدركه. ولنقص في هذه الثقافة اعتلت روح الجماعة وفقدت إيمانها، وهي ليست بحاجة إلى شيء حاجتها إلى تربية مسيحية صارمة عالية رواقية، كي تعرف نفسها وتعرف اللاهوت الذي يتكلم بوساطتها. إن الإنسان اليوم ليخجل من نفسه، وهو يتوارى ويتسلل في هذه الدنيا، يقصد التسامح معه ويقصد الإشفاق عليه. وقل أن تجد في كل ألف عام رجلا يجرؤ على الحكمة وعلى الخير، فيستقطر دموع النوع البشري ويستمطر بركته.
ولقد مرت عصور أمكن فيها بالتأكيد أن يظهر إيمان أكبر في الأسماء والأشخاص وسط ركود التفكير في بعض الحقائق؛ فقد وجد البيورتان في إنجلترا وأمريكا في مسيح الكنيسة الكاثوليكية وفي العقائد الموروثة من روما مجالا لورعهم الشديد وتشوقهم إلى الحرية المدنية. غير أن مذهبهم آخذ في التلاشي، ولم ينشأ مذهب آخر ليتخذ مكانته. ولا أحسب أن أحدا يستطيع أن يقصد إحدى كنائسنا، وأفكاره معه، دون أن يحس أن ما كان للكنيسة من سلطان على الناس قد ولى أو هو في سبيل الانتهاء. لقد فقدت الكنيسة سيطرتها على عواطف الأخيار ومخاوف الأشرار. وفي الريف، وفيما يجاورنا من بلاد، أصبحت نصف الدوائر الدينية «تنشد لمجرد النشيد» على حد التعبير المحلي. وبدأت البوادر تدل على أن الأخلاق والدين تختفي من الاجتماعات الدينية. سمعت رجلا متدينا يقيم لليوم الديني وزنه يقول في مرارة القلب: «يبدو أنه من الإثم أن يقصد المرء الكنيسة يوم الأحد.» وليس الباعث الذي يدفع الأخيار إلى هناك اليوم سوى الأمل والانتظار. وما كان فيما مضى أمرا عارضا، وهو أن يلتقي في يوم من الأيام الأخيار والأشرار في الدائرة الدينية، والفقراء والأغنياء، والعلماء، والجهلاء، والشباب والشيوخ، كما يلتقي الزملاء في بيت واحد، دليلا على المساواة في حق الروح؛ قد صار دافعا ذا أهمية قصوى إلى الذهاب إلى هناك.
أظن أنني في هذين الخطأين - أيها الأصدقاء - أجد أسباب انهيار الكنيسة والجحود القاتل بالله. وأية كارثة أكبر من فقدان العبادة يمكن أن تحل بأمة من الأمم؟ إن ذلك يؤدي إلى تدهور كل شيء، وذلك يدعو النابغين إلى هجر المعابد لارتياد الأسواق ومجالس الشيوخ. ويصير الأدب ماجنا، والعلم باردا. ولا تستضيء عيون الشباب بالأمل في عوالم أخرى، وتخلو الشيخوخة من الوقار. ويعيش المجتمع للتوافه، وبعدما يموت الناس لا نذكرهم.
وقد تسألونني الآن يا إخواني: ماذا نستطيع أن نصنع في هذه الأيام البائسة؟ إنني وصفت لكم العلاج في أساس شكواي من الكنيسة، إننا أوجدنا بين الكنيسة والروح تباينا. وفي الروح يجب أن نلتمس الخلاص. حيثما يحل الإنسان يحل التجديد، إنما القديم للأرقاء. إذا جاء الإنسان باتت جميع الكتب مقروءة، وصار كل شيء شفافا، وكل الديانات صورا. الإنسان هو المتدين، وهو محدث العجائب، وإنه ليرى وسط المعجزات، وكل الناس يباركون ويلعنون. والإنسان الصادق وحده هو الذي يقول لا ونعم فقط. إن جمود الدين، والزعم أن عصر الإلهام قد ولى، وأن الإنجيل قد استغلق، والخوف من الحط من شخصية المسيح بتمثيله في صورة رجل، كل ذلك يدل في وضوح كاف على خطأ علمنا بالدين. وواجب المعلم الصادق أن يرينا أن الله كائن اليوم، لا كان فيما مضى. وإنه يتكلم، لا تكلم وانتهى. إن المسيحية الصادقة - أقصد إيمانا كإيمان المسيح في قدرة الإنسان التي لا تحد - قد ضاعت. ولم يعد أحد يعتقد في روح الإنسان، وإنما يعتقد الناس في رجل أو شخص هرم وولى. ويلي! إنني لا أرى أحدا يسير وحيدا. إنما يسير الناس قطعانا إلى هذا القديس أو ذلك الشاعر، غافلين عن الله الذي يرى في الخفاء. إنهم لا يستطيعون الرؤية في الخفاء، ويؤثرون أن يكونوا عميانا وسط الجماهير. إنهم يحسبون أن الجماعة أحكم من روحهم، ولا يدركون أن روحا واحدة، وأن روحهم أحكم من العالم بأسره. انظروا كيف أن أمما وأقواما تسبح فوق بحر الزمن ولا تخلف وراءها موجا خفيفا يدل على المكان الذي طفت فوقه أو غاصت فيه، في حين أن روحا واحدا طيبا يجعل اسم موسى، أو زينون، أو زرادشت، مقدسا إلى الأبد. ليس هناك من يحاول ذلك الطموح الصارم كي يصبح «نفس» الأمة و«نفس» الطبيعة، وإنما كل فرد منكم يود أن يكون تابعا سهلا لفكرة من أفكار المسيحية ، أو رابطة من الروابط الطائفية، أو رجلا من الرجال البارزين. وإنك لو تركت علمك الخاص بالله، وتركت عاطفتك، واتخذت علما ثانويا، كعلم القديس بولس، أو جورج فوكس، أو سودنبرج، بعدت عن الله عاما بعد عام ما دامت هذه الصورة الثانوية، فإذا دامت الصورة - كما هي اليوم - قرونا، فإن الهوة تنفرج إلى حد لا يكاد أن يعتقد الناس معه أن فيهم شيئا إلهيا.
وإني أنصحكم قبل كل شيء أن تسيروا وحدكم، وأن ترفضوا النماذج الطيبة، حتى تلك التي يقدسها الناس في خيالهم، وتشجعوا على محبة الله بغير وسيط أو حجاب. وسوف تجدون من الأصدقاء من يكفي لأن يطلعكم على أمثال وزلي وأوبرلين، والقديسين والأنبياء لكي تقتدوا بهم. اشكروا الله على هؤلاء الرجال الأخيار، ولكن ليقل كل منكم «أنا كذلك إنسان.» إن التقليد لا يمكن أن يرتفع فوق النموذج، والمقلد يحكم على نفسه بضعف لا رجاء فيه، وإنما يخترع المخترع؛ لأن الاختراع لديه طبيعة، ولذا فإن لاختراعه سحرا. أما المقلد فالطبيعي عنده شيء آخر: إنه يحرم نفسه جماله كي يقرب من جمال إنسان آخر.
كل منكم منشد من منشدي الروح القدس ولد حديثا، فلينبذ وراءه كل تقليد، وليعرف الناس مباشرة بالله، وليراع كل منكم أولا ذلك فحسب: إن السائد والمألوف والسلطة والمتعة والمال، ليست له شيء يذكر - ليست ضمادات على أعينكم تمنعكم من النظر - وإنما أريدكم أن تعيشوا مع ميزة العقل الذي لا يحد. ولا يشغلنكم شاغل عن زيارة جميع الأسر، وكل أسرة، في حدود دائرتكم الدينية بين الحين والحين. وعندما يقابل أحدكم رجلا أو امرأة منهم، فليكن له إنسانا مقدسا، وليكن له فكرا وفضيلة. ولتجد الآمال المحدودة لهؤلاء الرجال والنساء لديكم أصدقاء، ولتجد غرائزهم الممتهنة متنفسا طيبا في جوكم. ولتعرف شكوكهم أنكم سبقتموها بالشك، وليشعر إحساسهم بالتعجب أنكم سبقتموه بالعجب. إنكم إن وثقتم في أنفسكم ظفرتم بثقة أكبر في نفوس الآخرين. وبرغم ما عندنا من حكمة في الأمور المادية، وبرغم ما في نفوسنا من استرقاق للعادات يحطم الروح، فإنا لا نشك في أن الناس جميعا لديهم أفكار سامية، وإن الناس جميعا يقدرون ساعات الحياة الحقيقية القليلة حق قدرها. إنهم يحبون أن يسمعوا وأن يشاهدوا وهم يحلمون بالمبادئ. إن المقابلات القليلة التي اجتمعنا فيها - في سنوات موحشة من عمل رتيب وخطيئة - بالأرواح التي جعلت أرواحنا أحكم، والتي عبرت عما كنا نفكر فيه، والتي أخبرتنا بما كنا نعلم، والتي سمحت لنا أن نكون ما كنا في دخيلة أنفسنا، هذه المقابلات نجدها مضيئة في الذاكرة. أدوا للناس واجب القسيس، يتبعوكم - في حضرتكم وغيبتكم - بمحبتهم كالملائكة.
ولتحقيق هذا الغرض ينبغي لنا ألا نهدف إلى مراتب عادية من الجدارة. ألا نستطيع أن نترك - لمن يحب ذلك - الفضيلة التي تلمع لكي تظفر بثناء الجماعة، ونقتحم نحن الأماكن النائية المنعزلة القمينة بالتقدير والجدارة المطلقة؟ ما أيسر أن نبلغ مستوى الخير في الجماعة! وما أرخص الحصول على ثناء الجماعة! ويكاد جميع الناس أن يقنعوا بهذا التقدير الميسور. غير أن أول أثر من آثار الاتصال بالله هو إهمال هذا التقدير. من الناس من لا يمثل ولا يخطب، ولكنه ذو أثر. هؤلاء أعظم من الشهرة ومن الظهور. إنهم يزدردون الفصاحة، وكل ما نسميه الفن والفنانين يبدو لهم شديد الصلة بالمظاهر والأغراض القريبة، وبالمبالغة في كل ما هو محدود وأناني، وبكل ما يفقد الصفة العالمية. إن الخطباء والشعراء والقواد إنما يعتدون علينا كما تعتدي علينا النساء الحسناوات، أي بمقدار ما نتسامح ونخضع. استصغر شأنهم بما لديك مما يشغل العقل. استهن بهم - وإنك لتستطيع ذلك جدا - بالأغراض العالمية العليا، استهن بهم يحسوا توا أنك صاحب حق، وأنه ينبغي لهم أن يضيئوا في الأماكن الدنيا. إنهم يشعرون كذلك بحقك؛ لأنهم وإياك معرضون لفيض الروح العليمة بكل شيء، التي تتبدد أمام ظهيرتها الوهاجة الظلال الضئيلة ودرجات الذكاء المختلفة في المؤلفات التي نحسبها أحكم من غيرها أو أحكم من كل شيء.
دعنا في مثل هذا الاجتماع الرفيع ندرس السمات الكبرى للاستقامة: هي حب للخير شديد، واستقلال عن الأصدقاء، حتى لا تنقص الرغبات المتعسفة عند أولئك الذين يحبوننا من حريتنا، ولكي نقاوم من أجل الحق تلك الشفقة التي تتدفق بغير حساب، ونناشد عواطف أرقى من هذه العواطف، وكذلك نوع من الامتياز البارز، الامتياز الذي لا يأبه برأي الناس، ولكنه في صميمه وفي ظاهره فضيلة، من المسلم به أنها تخطو الخطوة الصحيحة الجريئة الكريمة دون أن يفكر أحد في الثناء عليها (وهو أسمى صفة نعرف بها هذا العنصر الجميل). إنك تمتدح المهرج إذا قام بعمل طيب، ولكنك لا تثني على الملاك. والصمت الذي نتقبل به جدارة الجدير كأنها أقرب شيء في الدنيا إلى الطبيعة، هو أعلى من كل تصفيق. أمثال هذه الأرواح - عندما تظهر - هي حرس الفضيلة الإمبراطوري، وهي المعين الدائم، هي التي تتحكم في الأقدار. وليس المرء بحاجة إلى الثناء على شجاعتها، فهي قلب الطبيعة وروحها. أيها الأصدقاء، إن لدينا لموارد لم نستغلها، ومن الناس من ينهض منتعشا حينما يستمع إلى تهديد، ومن الناس من تأتيهم الأزمات رشيقة مستحبة كالعروس، وهي الأزمات التي تفزع أكثر الناس وتصيبهم بالشلل؛ لأنها لا تتطلب منهم القدرة على التبصر والتدبر، وإنما تتطلب الإدراك والسكون والاستعداد للتضحية. يقول نابليون عن مسينا إنه لم يكن نفسه حتى بدأت رحى المعركة تدور ضده. وعندما بدأ الموتى يسقطون حوله صفوفا، تيقظت قدرته على الجمع بين الأشياء، فارتدى ثياب الفزع والنصر في آن واحد. وكذلك الحال في الأزمات الوعرة، وفي القدرة على الاحتمال التي لا تكل، وفي الأغراض التي لا تعبأ بالعواطف فتظهر الملاك الخفي. ولكن هذه أمجاد لا نكاد نذكرها أو نتطلع إليها دون ندم أو خجل. ولنحمد الله على وجود هذه الأشياء.
والآن دعنا نبذل ما استطعنا من جهد كي نعيد إشعال النار الخامدة التي أوشكت أن تنطفئ على المذبح. إن مساوئ الكنيسة القائمة الآن ظاهرة. وإنا لنتساءل مرة أخرى: ماذا نصنع؟ إني أعترف أن كل محاولة للتفكير في عبادة جديدة وإقامتها على شعائر وصور جديدة يبدو لي عبثا باطلا. إن الإيمان يصنعنا ولا نصنع الإيمان، والإيمان يصنع صوره الخاصة به. وكل محاولة لاستنباط نظام ما محاولة فاترة فتور العبادة الجديدة التي أوجدها الفرنسيون لإلهة «العقل». إنها اليوم لعب وزينة، ولكنها تنتهي غدا بالجنون والقتل. وخير لكم أن تتنفسوا أنفاس الحياة الجديدة عن طريق الصور القائمة فعلا؛ لأنكم إن دبت فيكم الحياة وجدتم هذه الصور مرنة وجديدة، وعلاج نقائصها هو الروح أولا، والروح ثانيا، والروح في كل حين. إن بابوية بأسرها من الصور تستطيع نبضة واحدة من نبضات الفضيلة أن ترفعها وتحييها. لقد أعطتنا المسيحية ميزتين لا تقدران؛ أولاهما: «اليوم الديني»، وهو بهجة الدنيا بأسرها، التي يشرق ضياؤها فيلقى ترحيبا في برج الفيلسوف كما يلقاه في المصنع أو غرفة السجن، ويوحي في كل مكان - حتى للأدنياء - بكرامة الكائن الروحاني، فليقم هذا اليوم دائما محرابا ترد المحبة الجديدة والإيمان الجديد والمشهد الجديد إليه سناء أبهى من سنائه الأول للبشر. وثانيتهما: فكرة الوعظ، أو حديث المرء للناس. وهو بطبيعته أكثر الأدوات وأكثر الصور مرونة. وماذا يمنعكم اليوم، في كل مكان، فوق المنابر، وفي قاعات المحاضرات، وفي البيوت والحقول، وحيثما ترشدكم دعوة الناس، أو ترشدكم ظروفكم، ماذا يمنعكم من التفوه بالحق الذي تعلمتموه من حياتكم ومن ضمائركم؟ ماذا يمنعكم من تشجيعكم لقلوب الناس المترقبة الواهنة بأمل جديد وكشف جديد؟
إني لأتطلع إلى الساعة التي يتكلم فيها في الغرب كذلك ذلك الجمال العلوي الذي افتتنت به أرواح أولئك الشرقيين، وبخاصة أولئك العبريون، الذين تحدث الأنبياء من خلال شفاههم لكل زمان. إن الكتب المقدسة العبرية والإغريقية تتضمن عبارات خالدة كانت للملايين خبز الحياة. ولكن هذه العبارات ليس لها تكامل الملاحم، متقطعة، لا تبدو للذهن منظمة مرتبة. وإني لأتطلع إلى المعلم الجديد الذي يتابع هذه القوانين المشرقة، حتى يراها كاملة الاستدارة، ويرى جمالها الكامل الشامل، ويرى العالم مرآة الروح، ويرى التطابق بين قانون الجاذبية وطهارة القلب، ويثبت أن ما ينبغي أن يكون، أو الواجب، هو والعلم والجمال والسرور شيء واحد.
المقالات: المجموعة الأولى
(نشر أمرسن كتابه الثاني في عام 1841م. ولقد صدر بعد ذلك مباشرة تقريبا في إنجلترا بمقدمة لكارليل. وأكثر المقالات يتألف من محاضرات ألقاها أمرسن في أماكن متنوعة خلال السنوات السابقة.)
التاريخ
ليس هناك كبير أو صغير،
عند الروح التي تصنع كل شيء،
والتي حيثما تحل، تكون جميع الأشياء،
وإنها لتحل في كل مكان. •••
أنا مالك الكرة الأرضية،
ومالك النجوم السبعة والسنة الشمسية،
ومالك يد قيصر، وذهن أفلاطون،
ومالك قلب السيد المسيح، ولحن شكسبير.
للناس جميعا عقل واحد مشترك. وكل فرد منفذ لهذا العقل، وله كله. ومن يعط القدرة على التفكير يصبح مالكا حرا لضيعة العقل كلها. فما فكر فيه أفلاطون يستطيع أن يفكر فيه، وما أحس به أي قديس يستطيع أن يحس به. وما حدث لأي إنسان في أي وقت يستطيع أن يدركه. من يصل إلى هذا العقل العالمي يكن شريكا في كل ما يعمل أو يمكن أن يعمل؛ لأن ذلك هو العامل الوحيد الذي يسود.
والتاريخ سجل لأعمال هذا العقل. ولا تظهر قيمته إلا من سلسلة الأيام كلها. ولا يمكن تفسير الإنسان بأقل من التاريخ بأسره. إن الروح الإنسان تسير قدما في غير عجلة وغير ركود من البداية لكي تضم إليها كل موهبة وكل فكرة وعاطفة تخصها، في حوادث ملائمة. غير أن الفكرة تسبق الواقع دائما، وكل وقائع التاريخ سبق وجودها في العقل على صورة قوانين. وكل قانون بدوره تجعله الظروف سائدا، وحدود الطبيعة لا تعطي القوة إلا لقانون واحد في الوقت الواحد. والإنسان هو موسوعة المعارف كلها. وإنك لواجد خلق ألف غابة في ثمرة واحدة من ثمار البلوط. وقد كانت مصر واليونان وروما وبلاد الغال وبريطانيا وأمريكا مطوية في الإنسان الأول.
هذا العقل البشري دون التاريخ، وهو الذي لا بد أن يقرأه، وعلى أبي الهول أن يحل لغز نفسه. وإذا كان التاريخ كله في إنسان واحد فإن التجربة الفردية تفسره كله. وهناك علاقة بين ساعات حياتنا وقرون الزمان. وكما أن الهواء الذي أستنشقه ينسحب من مستودعات الطبيعة العظمى، وكما أن الضوء الذي يسطع فوق كتابي يصدر عن نجم يبعد ألف مليون من الأميال، وكما أن وضع جسمي يعتمد على اتزان القوى الطاردة والقوة الجاذبة، فكذلك الساعات ينبغي أن تتعلم من العصور، والعصور تفسرها الساعات. وكل فرد صورة مجسدة جديدة للعقل العالمي. تتركز فيه كل خواص هذا العقل. وكل حقيقة جديدة في خبرته الخاصة تلقي ضوءا على ما قامت به جماعات كبرى من الناس. وأزمات حياته تشير إلى الأزمات القومية. وقد كانت كل ثورة في مبدأ أمرها فكرة في عقل فرد واحد، فإذا ما طرأت الفكرة عينها لفرد آخر فهي مفتاح ذلك العصر. وكل إصلاح كان فيما سبق فكرة خاصة، فإذا ما أصبح فكرة خاصة مرة أخرى، فإنه يحل مشكلة العصر. والحقيقة التي تروى ينبغي أن تقابل في نفسي شيئا لكي يمكن تصديقها وفهمها. وينبغي لنا حين نقرأ أن نصبح من اليونان أو الرومان أو الأتراك، وأن نصبح من القسيسين والملوك، ومن الشهداء والقاتلين. ينبغي لنا أن نربط هذه الصور بحقيقة من الحقائق في خبرتنا الخفية، وإلا ما تعلمنا شيئا حق العلم. إن ما حل بأسدربال أو قيصر بورجيا، يفسر قوى العقل وفساده كما يفسرهما ما حل بنا. كل قانون جديد وكل حركة سياسية، لها لديك معنى. قف أمام كل لوحة من لوحاتها وقل: «تحت هذا القناع أخفت طبيعتي المتغيرة نفسها.» وفي ذلك علاج للنقص الذي نعانيه من اقترابنا الشديد من أنفسنا، وهو يلقي بأعمالنا في حدود المنظور. وكما أن السرطان والحمل والعقارب والميزان ووعاء الماء تفقد وضاعتها عندما تعلق بدائرة البروج، فإني كذلك أستطيع أن أرى آثامي بغير حرارة في أشخاص سليمان والسبيادس وكاتلاين الأقدمين.
هي الطبيعة المطلقة التي تكسب الأفراد والأشياء قيمتها. والحياة الإنسانية التي تحتوي على ذلك لغز ولا يمكن اقتحامها، ونحن نحيطها بالعقوبات والقوانين. ومن ذلك تستمد جميع القوانين السبب في وجودها، وكلها تعبر بدرجات مختلفة من الوضوح عن سلطانها على هذه الأرواح العليا التي لا تحد. والملكية كذلك تستولي على الروح، وتشمل حقائق روحية عظمى، ونحن بالغريزة في مبدأ الأمر نتمسك بها بحد السيف والقانون وباتحادات واسعة معقدة. والإحساس الغامض بهذه الحقيقة هو ضياء يومنا كله، وأقصى أمانينا. هو ذريعتنا للتربية والعدالة والإحسان، وأساس الصداقة والمحبة، والبطولة والعظمة التي تتعلق بالأعمال التي تتصل بالاعتماد على النفس. ومما يستلفت النظر أننا - رغم إرادتنا - نطالع دائما باعتبارنا كائنات عليا؛ فالتاريخ العالمي، والشعراء، وكتاب القصص الخيالية، في أفخم صورة لهم - في الكهنوت وفي قصور الملوك، وفي انتصار الإرادة أو العبقرية - لا تعدم منا آذانا مصغية في أي مكان، ولا تجعلنا في أي مكان نحس أننا دخلاء، وإن ذلك من شأن رجال أحسن منا، بل إنه لمن الحق أننا نحس بأقصى الطمأنينة إزاء أعظم ما أبدعت قرائحهم. كل ما يقوله شكسبير عن ملك من الملوك يحس مدى صدقه على نفسه ذلك الصبي المغمور الذي يقرأ في إحدى الزوايا. وإننا لنعطف على لحظات التاريخ الكبرى، والكشوف العظمى، وكل مقاومة عنيفة، والخصائص الكبرى للرجال؛ لأنه - في هذه الحالة أو تلك - قد نفذ قانون، أو جرى البحث في محيط، أو وجدت أرض، أو ضربت من أجلنا ضربة، كما لو كنا نحن أنفسنا - أو شجعنا على ذلك - في هذا الموقف.
وإنا لنهتم هذا الاهتمام عينه بالأحوال والأشخاص. نكرم الغني؛ لأنه يملك في ظاهره الحرية والنفوذ والجلال التي نشعر بملاءمتها للإنسان وملاءمتها لنا أيضا. ولذا فإن كل ما يضفيه رواقي أو كاتب مقال شرقي أو حديث على «الرجل الحكيم» إنما يصف لكل قارئ آراءه الخاصة، ويصف له نفسه التي يمكن تحقيقها ولكنه لم يحققها بعد. والأدب كله إنما يكتب شخصية الرجل الحكيم. وليست الكتب والآثار والصور والأحاديث سوى رسوم يجد فيها القارئ الملامح التي تكون نفسه. الصامت والمفصح يثني عليه ويناديه، وحيثما انتقل تنبهه الإشارات الشخصية. ولذا فإن الطموح الصادق ليس بحاجة إلى التماس الإشارات الشخصية التي تتضمن التمجيد في الحديث؛ فهو يستمع إلى الثناء المستطاب على تلك الشخصية التي يبحث عنها - لا على نفسه - في كل كلمة تقال بشأن الشخصية، بل أكثر من ذلك في كل حقيقة وكل ظرف، في النهر الجاري وفي حفيف نبات القمح. من الطبيعة الصامتة، ومن الجبال ومن أنوار السموات يشاهد الثناء، ويقدم الولاء، ويفيض الحب.
هذه الإشارات، التي كأنها تساقطت من النوم ومن الليل، دعنا نستخدمها في وضح النهار. ينبغي للطالب أن يقرأ التاريخ قراءة إيجابية لا سلبية، وينبغي له أن يقدر حياته متنا، والكتب شرحا. فتجد آلهة التاريخ نفسها مرغمة على النطق بالكلام المقدس، وهي لا تفعل ذلك البتة لأولئك الذين لا يقدرون أنفسهم. ولست آمل أن يقرأ التاريخ قراءة صحيحة رجل يحسب أن ما فعله في عصر بعيد رجال رن صيتهم في الآفاق له معنى أعمق مما يفعل هو اليوم.
إنما الدنيا قائمة لتعليم كل إنسان، وليس هناك عصر أو حالة من حالات المجتمع أو أسلوب من أساليب العمل في التاريخ، لا يناظره شيء في حياته. كل شيء يميل بشكل عجيب أن يختصر نفسه ويقدم فضيلته إليه. وعليه أن يدرك أنه يستطيع أن يعيش التاريخ كله في شخصه. وينبغي له أن يبقى في وطنه صلبا، ولا يجشم نفسه مشقة التعرض لاستبداد الملوك والإمبراطوريات، وإنما يعرف أنه أعظم من بلدان الدنيا كلها وحكوماتها. يجب أن ينقل وجهة النظر التي منها يقرأ التاريخ عادة، من روما وأثينا ولندن إلى نفسه، ولا ينكر اعتقاده أنه الحكم، وإذا كانت إنجلترا أو مصر لتقول له شيئا، فليتدبره، وإذا لما تذكرا له شيئا، فليبقيا إلى الأبد صامتين. يجب أن يبلغ ذلك المشهد المرتفع حيث تقدم الحقائق مغزاها الخفي، وحيث يكون الشعر والتاريخ سواء، ثم يثبت هناك. هذه الغريزة من غرائز العقل، وهي الهدف الذي ترمي إليه الطبيعة، تكشف عن نفسها في انتفاعنا بروايات التاريخ الأساسية. إن الزمن يحول الحقائق ذات الاتجاه الواحد الثابت إلى أثير مشرق. ولا تجدي المراسي والحبال والأسوار في إبقاء الحقائق حقائق؛ فها هي ذي بابل وطروادة وصور وفلسطين بل وروما في عهدها الأول تتحول إلى خيال. وجنة عدن، والشمس الساكنة في جبيون، هي منذ اليوم شعر عند جميع الأمم. من ذا الذي يهمه ما كانت الحقيقة عليه، بعد أن جعلنا منها مجموعة نجمية معلقة في السماء شارة خالدة؟ ولا بد أن تسير لندن وباريس ونيويورك في نفس الطريق. قال نابليون: «ليس التاريخ سوى أسطورة اتفقنا عليها.» إن حياتنا الراهنة لتلتصق بمصر واليونان وبلاد الغال وإنجلترا، وبالحروب والاستعمار والكنيسة والبلاط والتجارة، كما تلتصق بكثير من الزهور وزخارف الطبيعة الرزينة والمرحة. ولن أبسطها أكثر من ذلك؛ فإني أعتقد في الخلود، وإني لأستطيع أن أجد في ذهني اليونان وآسيا وإيطاليا وإسبانيا والجزر، وأن أجد فيه عبقرية كل عصر (بل وجميع العصور)، وما يتميز به من أسس الخلق والإبداع.
إننا نلتقي دائما بحقائق التاريخ المؤكدة في تجاربنا الخاصة، ونتحقق من صدقها هنا. ويصبح التاريخ كله ذاتيا، أو بعبارة أخرى ليس هناك تاريخ ثابت، إنما هناك سير فحسب. وكل عقل ينبغي له أن يعرف الدرس كله لنفسه، وينبغي له أن يطوف الأرض كلها. ما لا يراه وما لا يحياه لا يعرفه. وما لخصه العصر السابق في صيغة أو قاعدة لسهولة التناول، يفقد العقل ميزة تحقيقه لنفسه بسبب الحائل الذي تقيمه هذه القاعدة. وفي مكان ما وفي وقت ما يتطلب العقل، ويجد عوضا عن هذه الخسارة بأدائه العمل بنفسه. لقد اكتشف فرجوسن في الفلك أشياء كثيرة كانت معروفة من زمان قديم، وأفاد من ذلك.
التاريخ إما أن يكون ذلك أو لا يكون شيئا. كل قانون تنفذه الدولة يشير إلى حقيقة في الطبيعة البشرية، وهذا هو كل شيء. يجب أن نرى في أنفسنا الباعث الحقيقي لكل واقعة، نرى كيف يمكن أن تكون وكيف ينبغي أن تكون. هكذا يجب أن نجابه كل عمل عام أو خاص، وأن نجابه خطابة بيرك، وانتصار نابليون، واستشهاد سير توماس مور، وسدني، ومار مديوك روبنسن، وأن نجابه حكم الإرهاب في فرنسا، وشنق الساحرات في سالم، وتعصب حركة الإحياء، والتنويم المغناطيسي في باريس، أو في أمريكا. إننا نفرض أننا تحت تأثير مشابه لهذا نتأثر تأثيرا مشابها، ونقوم بعمل مشابه، ونهدف إلى أن نسيطر على الخطوات التي خطاها زميل أو قريب لنا، ونبلغ ما بلغ من رفعة أو انحطاط.
كل بحث في القديم، كل تشوق إلى معرفة الأهرام، وحفريات المدن، وستونهنج، ودوائر أوهيو والمكسيك وممفيس، ينبغي أن ينتهي بالاستغناء عن المكان والزمان البعيدين بما يتصفان به من همجية وتوحش واستحالة، ليحل محلهما المكان والزمان القريبان. إن بلزوني يحفر ويقيس قبور المومياء والأهرام في طيبة حتى يرى غاية الفرق بين هذا العمل الهائل وبين نفسه، فإذا ما أقنع نفسه عموما وتفصيلا أن ذلك العمل العظيم قام به شخص مثله، بمثل سلاحه ودوافعه، ولأغراض كان ينبغي له هو نفسه كذلك أن يعمل لها، حلت المشكلة، فتعيش أفكاره بين صفوف المعابد وآباء الهول والسراديب جميعا، وتمر بهم كلهم راضية مرضية، وهذه الأشياء تحيا مرة أخرى في العقل، أو تصبح حاضرا بعد ماضيها.
إن الكاتدرائية الغوطية لتؤكد أننا نحن الذين شيدناها، ونحن الذين كذلك لم نشيدها، لا شك أنها من صنع الإنسان، ولكنا لا نجدها في إنساننا. ولكنا نطابق بين أنفسنا وبين تاريخ إنشائها، ونضع أنفسنا مكان منشئها وفي حالته. إننا نذكر ساكني الغابات، والمعابد الأولى، وكيف كان النموذج الأولي، وزخرفته، كلما زادت ثروة الأمة. إن القيمة التي يكتسبها الخشب بالنقش أدت إلى نحت كتدرائية في جبل بأسره من الحجر. وبعدما نمر بهذه العملية، ونضيف إليها الكنيسة الكاثوليكية، بصليبها، وموسيقاها، ومواكبها، وأعياد قديسيها وعبادتها الصور، نمسي كأننا الرجل الذي نصب القسيس، وندرك كيف يمكن أن تكون الأمور وكيف ينبغي أن تكون، ويصبح لدينا الإدراك الكافي.
وإنما يفترق إنسان عن إنسان في القاعدة التي يسير عليها في ربط الأشياء. بعض الناس يصنفون الأشياء بلونها وحجمها وغير ذلك من العرض الظاهر. وبعضهم الآخر يصنفها بما بينها من تشابه ذاتي، أو بالعلاقة بين الأسباب والنتائج. ويتقدم الذهن نحو زيادة الوضوح في رؤيا الأسباب، بحيث تهمل الفوارق السطحية؛ فالأشياء كلها ودية ومقدسة، والأحداث كلها نافعة، والأيام كلها مقدسة، والرجال كلهم قديسون، في نظر الشاعر والفيلسوف والقديس ؛ لأن العين تحدق في الحياة، وتهمل الأعراض. إن كل مادة كيمائية وكل نبات، وكل حيوان في نموه، يعلمنا وحدة الجوهر، وتنوع المظهر .
ولما كانت هذه الطبيعة التي تبتدع كل شيء تحملنا وتحيط بنا، فتسبغ علينا لينا وسيولة تجعلنا كالسحاب أو كالهواء، فلماذا نكون متحذلقين جامدين، فنكبر صورا محدودة؟ ولماذا نأبه للزمان، أو للعظمة أو لأي شكل من الأشكال؟! إن الروح لا تعرف هذه الأشياء، والعبقرية التي تخضع لقانونها الذاتي تعرف كيف تتلاعب بها كما يلعب الطفل بالأواني الخزفية وفي الكنائس. العبقرية تدرس الفكر المسبب، وترى - في أصول الأشياء السحيقة - الأشعة التي تصدر عن أحد الأجرام الشمسية، فتتفرق إلى خطوط لا حصر لها قبل سقوطها. العبقرية ترقب الجوهر الفردي الحي في كل صورة يتقنع فيها. العبقرية تكشف في الذبابة وفي الفراشة وفي الدودة وفي البيضة الفرد الثابت. وترى خلال الأفراد العديدين النوع الثابت، وخلال الأنواع الكثيرة الأجناس، وخلال جميع الأجناس الأصل الثابت، وخلال جميع ممالك الحياة المنظمة الوحدة الخالدة. الطبيعة سحابة متقلبة، هي دائما نفسها - وليست بعينها - إنها تصب الفكرة الواحدة في صور عديدة، كما يخلق الشاعر عشرين أسطورة لها مغزى واحد. إن الروح الرقيقة تخضع كل شيء لإرادتها خلال المادة الجامدة، والحجر الصلب يتشكل أمام الروح في صورة لينة ولكنها محددة، غير أن شكله وتكوينه يتغيران مرة أخرى أثناء نظري إليه. ليس هناك شيء سريع الزوال كالصورة، وهي مع ذلك لا تنكر نفسها أبدا كل الإنكار. وفي الإنسان ما زلنا نتلمس البقايا والإشارات لكل ما نحسبه من سمات العبودية في الأجناس الدنيا. ومع ذلك فهذه البقايا وتلك الإشارات تحفز ما لديه من نبل وجلال، كقصة أيو عند أيسكلس التي تحولت إلى بقرة فأساءت إلى الخيال، ولكن كيف تبدلت الحال عندما اتخذت شكل إيزيس في مصر والتقت بأوزيريس-جوف، على هيئة امرأة جميلة، ولم تبق لديها من دلائل التحول سوى القرون القمرية تزين جبينها زينة فاخرة!
إن تشابه حوادث التاريخ هو - كهذه القصة - من طبيعة التاريخ، وكذلك تنوعها واضح وضوحه فيها . هناك في الظاهر تنوع للأشياء لا حصر له، وفي الجوهر بساطة في الأسباب. كم من أعمال الرجل الواحد ما تتبين فيها نفس شخصيته! لاحظ مظاهر علمنا بالعبقرية اليونانية. لدينا التاريخ المدني لهذا الشعب، كما قدمه لنا هيرودوت، وثيوسيديد، وزنفون، وفلوطارخس. وهو دليل كاف على نوع أفراد هذا الشعب وعلى ما فعلوا. ولدينا كذلك عقلهم القومي عينه كما عبرت عنه آدابهم مرة أخرى، في شعر الملاحم والشعر الغنائي، والتمثيليات، والفلسفة، وإنها لصورة كاملة. وهو لدينا مرة أخرى كذلك في فن النحت، وهو «لسان يوشك أن ينطق». صور متعددة في أقصى حرية للحركة، ولا تجاوز البتة الهدوء المثالي، كأنها أصحاب نذور يؤدون رقصة دينية أمام الآلهة، وبرغم ما يكابدون من ألم ممض أو قتال مميت، لا يجرءون بتاتا أن يخرجوا على شكل الرقص وذوقه. وهكذا فإن لدينا أربعة أشكال تتمثل فيها عبقرية شعب واحد مجيد، وما أبعد التشابه لدى الحواس بين أنشودة لبندار، أو تمثال مرمري لقنطروس الحيوان الخرافي، ودهليز في البارثنون، وآخر عمل من أعمال فوسيون؟
كل منا شاهد وجوها وأشكالا تترك في الرائي أثرا متشابها دون أي تشابه في ملامحها. إن صورة من الصور، أو مقطوعة من الشعر المنظوم، قد لا يبعثان نفس السلسلة من الخيالات التي تبعثها مشية وحشية جبلية، ولكنهما تبعثان ما تبعثها المشية من عاطفة، بالرغم من أن التشابه لا يتجلى للحواس على أية صورة من الصور، ولكنه خفي لا تدركه الأفهام. الطبيعة مزيج وتكرار لا حصر له لبضعة قوانين. وهي تتغنى بالأنشودة القديمة المعروفة، في أنغام لا يحصرها العد.
الطبيعة ملأى بالتشابه العائلي السامي في كل عمل من أعمالها، ويسرها أن تفجأنا بالتشابه في نواح لا نتوقع فيها التشابه بتاتا. رأيت رأس شيخ كبير لإحدى القبائل الهندية الأمريكية في الغابات، فذكرني في الحال بقمة جبلية جرداء، وذكرتني أخاديد الجبهة بطبقات الصخر، وهناك أناس لآدابهم نفس الأبهة التي تظهر على التمثال البسيط الرائع القائم على أفريز البارثنون، وعلى آثار الفن الإغريقي القديم. وهناك من المؤلفات ما له نفس القوة التي كانت في كتب العصور السالفة جميعا. ليس رسبجليوزي أورورا لجيدو سوى فكرة صباحية، وليس الخيل فيها سوى سحابة من سحب الصباح. ولو أن أي إنسان جشم نفسه مشقة ملاحظة الأعمال المتنوعة التي يميل إليها في بعض حالات العقل، وتلك الأعمال التي ينفر منها بنفس الدرجة؛ لأدرك عمق صلة القرابة بينهما.
قال لي مصور إن أحدا لا يستطيع أن يرسم شجرة دون أن يصبح شجرة في صورة ما، أو أن يرسم طفلا بمجرد دراسة تخطيط هيئته، أما إذا لاحظ لفترة ما حركاته وألعابه فإنه يدخل طبيعته، ويستطيع عندئذ أن يرسمه إن أراد في كل موقف. هكذا دخل روس «أعمق أغوار طبيعة الأغنام». وقد عرفت رساما يشتغل بمساحة الأرض يقول إنه لم يستطع تخطيط الصخور إلا بعد أن شرح له أولا تكوينها الجيولوجي. وفي حالة واحدة من حالات التفكير يكون الأصل المشترك لأعمال غاية في التنوع؛ فالروح هي التي تتكرر على صورة واحدة وليست الوقائع. ويستطيع الفنان أن يبلغ القدرة على إيقاظ الأرواح الأخرى كي تقوم بعمل معين بسعة إدراكه، لا بمعرفته المضنية بكثير من المهارات اليدوية.
ولقد قيل: «إن أرواح العامة تستوفي حقها وفقا لما تعمل. أما الأرواح الأنبل فتستوفي حقها وفقا لما تكون عليه.» لماذا؟ لأن الطبيعة العميقة توقظ فينا بفعالها وكلماتها وبنظراتها وسلوكها النفوذ والجمال عينهما اللذين يوجههما إلينا متحف للنحت أو للتصوير.
ينبغي أن نفسر التاريخ المدني والتاريخ الطبيعي، وتاريخ الفن، وتاريخ الأدب، بتاريخ الفرد، أو تبقى هذه التواريخ كلمات مجردة. ليس هناك شيء لا يتصل بنا، أو لا يهمنا، من الملكية إلى الكلية، والشجرة، والجواد، والحدوة الحديدية، فإن جذور كل شيء في الإنسان. وليس سانتا كروتشي وقبة القديس بطرس سوى نسخ عرجاء من نماذج مقدسة. وكتدرائية ستراسبورج صورة مادية لروح أروين الاستنباخي. والقصيدة الصادقة هي عقل الشاعر، والسفينة الصادقة هي بناء السفينة. ولو استطعنا أن نكشف عن الإنسان، رأينا علة آخر زهرة أو ثمرة من عمله، كما أن كل شوكة أو لون في القوقعة المائية قد سبق وجوده في أعضاء السمكة المفرزة. وفي آداب المجاملة تجد كل فنون الدروع والفروسية. والرجل ذو الآداب الرفيعة ينطق باسمك بكل الزخرفة التي تستطيع أن تضيفها إليه ألقاب الشرف.
إن التجربة التافهة التي تمر بنا كل يوم تحقق دائما لنا قولا سابقا، وتحول إلى الأشياء الكلمات والإشارات التي سمعناها أو رأيناها دون أن نلقي إليها بالا. قالت لي سيدة كنت أركب معها في الغابة إن الغابات تبدو لها دائما كأنها «على انتظار» كأن الجن الذي يقطنها قد أوقف أعماله حتى يمر بها عابر السبيل ويمضي. وهي فكرة حفل بها الشعر في رقص الجنيات اللائي يتوقفن عن الرقص عند اقتراب أقدام بشرية. والرجل الذي يرى القمر المشرق يشق السحاب في منتصف الليل يشبه في هذا رئيس الملائكة الذي شهد خلق الضياء وخلق الدنيا. أذكر ذات يوم صائف في الحقول أن رفيقي قد وجه التفاتي إلى سحابة ربما امتدت ربع ميل بحذاء الأفق، وهي على هيئة الملاك الصغير تماما كما يصور في الكنائس، كتلة مستديرة في الوسط، من السهل أن تبعث فيها الحياة بثغر وعينين، وأن نسندها من الجانبين بجناحين متماثلين منتشرين. وما يظهر مرة في الجو قد يظهر مرارا. ولقد كان ذلك المنظر بغير شك النموذج المثالي لذلك الزخرف المألوف. وشهدت في السماء سلسلة من برق الصيف، فتذكرت في الحال أن الإغريق رسموا من الطبيعة عندما صوروا الصاعقة في يد جوف. ورأيت كومة ثلجية على جوانب الحاجز الحجري هي التي قطعا أوحت بفكرة بناء البروج.
إذا أحطنا أنفسنا بالظروف الأصلية اخترعنا من جديد قواعد فن البناء وزخرفته، كما كان كل قوم يزينون مساكنهم الأولية وحدهم. إن المعبد الدوري يحتفظ بالشبه بينه وبين الكوخ الخشبي الذي كان يقطنه الرجل الدوري. وليس المعبد الصيني إلا مجرد سرادق تتري. والمعابد الهندية والمصرية ما زالت تنم عن الأكمات والبيوت المنحوتة تحت الأرض التي كان يقيم فيها آباؤهم. ويقول هيرن في بحوثه عن الإثيوبيين: «إن عادة إنشاء البيوت والمقابر في الصخر الحي عينت بطريقة طبيعية جدا الصفة الأساسية في فن البناء النوبي المصري، فاتصف بضخامة الشكل التي عرفت عنه. في هذه الكهوف التي أعدتها الطبيعة تعودت العين أن تحدق في أشكال وكتل ضخمة، حتى إذا ما جاء الفن لمعونة الطبيعة لم يستطع أن يسير في نطاق صغير دون أن يحط من شأن نفسه. وماذا تكون التماثيل ذات الحجم العادي، وماذا تكون السقوف والأجنحة البسيطة إذا قيست بتلك الأبهاء الهائلة التي لا تستطيع أن تحرسها - أو أن تستند إلى عمدانها الداخلية - سوى التماثيل التي تفوق الحجم الطبيعي؟»
ومن الجلي أن الكنيسة القوطية نشأت من اقتباس أشجار الغابة بكل أغصانها اقتباسا ساذجا، ورسم الممرات ذات الأعمدة التي تستخدم في الاحتفالات والمناسبات الدينية على صورتها. ولا زالت الأطواق حول الأعمدة المشقوقة تدل على فروع الصفصاف الخضراء التي كانت تطوق الأشجار. ولا يستطيع أحد أن يسير في طريق شق في غابات الصنوبر دون أن يذهله مظهر الغابة الذي يوحي بفن البناء، وبخاصة في الشتاء، حينما تدل تعرية جميع الأشجار الأخرى على الأقواس السكسونية المنخفضة. وإذا سرت في الغابات في أصيل يوم من أيام الشتاء رأيت كذلك لتوك منشأ النافذة الزجاجية الملونة التي تتحلى بها الكاتدرائيات الغوطية في ألوان السماء الغربية التي نشاهدها خلال أغصان الغابة المتشابكة الجرداء. ولا يستطيع إنسان يحب الطبيعة أن يدخل خلال الأعمدة الخشبية القديمة في كاتدرائية أكسفورد والكاتدرائيات الإنجليزية دون أن يحس أن الغابة قد تسلطت على عقل البناء، وأن إزميله ومنشاره ومسحجه ما برحت تحاكي نباتها، وأشواك زهورها، وخرنوبها، وأشجار الدردار والبلوط والصنوبر والشوح والتنوب الفضي فيها.
الكاتدرائية الغوطية حجر مزهر خاضع إلى الرغبة الملحة في الانسجام عند الإنسان، تلك الرغبة التي لا تقنع. إن جبل الجرانيت يتفتح عن زهر خالد، فيه من جمال الخضرة الخفة ودقة الإبداع، كما فيه النسب السماوية والمنظر السماوي.
وكذلك يمكن إفراد جميع الحقائق العامة، وتعميم جميع الحقائق الخاصة. عندئذ يصبح التاريخ في الحال مستساغا وصادقا، وعلم الحياة عميقا وساميا. وكما أن الفرس حاكوا في فروع بنائهم وأصوله ساق اللوتس والنخلة وثمارها، فكذلك البلاط الفارسي في أعظم عهوده لم يتخل البتة عن بداوة القبائل البربرية، بل تنقل من أكباتانا حيث كان يقضى الربيع إلى سوزا في الصيف وبابل في الشتاء.
وفي تاريخ آسيا وأفريقيا القديم كانت البداوة والزراعة حقيقتين متعارضتين. كانت طبيعة البلاد في آسيا وفي أفريقيا تتطلب حياة بدوية. غير أن البدو كانوا سببا لفزع أولئك الذين دعتهم إلى بناء المدن طبيعة التربة أو مزايا السوق؛ ومن ثم كانت الزراعة مما يوصي به الدين بسبب المخاطر التي تتعرض لها الدولة من البداوة. وفي إنجلترا وأمريكا، هذين القطرين المتمدنين اللذين جاءا مؤخرا في التاريخ، ما زالت هذه الاتجاهات تقاتل المعركة القديمة في الأمة وفي الفرد. كان هجوم ذباب المواشي الذي تجن له الماشية يرغم البدو في أفريقيا على التجول، فتضطر القبيلة إلى الهجرة في موسم الأمطار وإلى سوق الماشية إلى المناطق الرملية العليا. وكان البدو في آسيا يتابعون المراعي من شهر إلى شهر. وفي أمريكا وأوروبا تتخذ البداوة صورة التجارة وحب الاستطلاع، وهو تقدم بالتأكيد من ذباب سطابوراس إلى الجنون الإنجليزي والإيطالي بخليج بوسطن. والمدن المقدسة التي كان يتحتم الحج إليها في فترات معينة، والقوانين والعادات الصارمة التي كانت تميل إلى تقوية الرابطة القومية، كانت توقف المتجولين القدماء عند حد، والقيم التي تجمعها الإقامة الطويلة هي الأغلال التي تقيد حب التجول في العصر الحاضر. وليس العداء بين الاتجاهين بأقل نشاطا في الأفراد؛ فقد يسود حب المغامرة أو حب الحياة الوادعة. والرجل ذو الصحة القوية والروح الفياضة يميل إلى سرعة التنقل في إقامته؛ فهو يعيش في عربته، ويطوف خلال الأرض من شمالها إلى جنوبها في سهولة، وفي البحر أو في الغابة أو فوق الثلوج ينام في دفء ويأكل في شهية طيبة ويعاشر في سعادة، كأنه إلى جوار مدخنته. وربما كانت حياته أشد يسرا كلما اتسع الأفق أمام قدرته على الملاحظة، تلك القدرة التي تعطيه موضوعات يهتم بها كلما وقعت عيناه على شيء جديد. كانت الأمم الرعوية محتاجة جائعة إلى حد اليأس، وهذه البداوة العقلية - إذا بولغ فيها - تفلس العقل بتبديدها القوى على موضوعات متنوعة، في حين أن العقل الذي يلزم موطنه يتصف بالزهد أو بالقناعة التي تجد كل عناصر الحياة فوق تربته، ويجد مخاطره في الملل والانهيار إذا لم يحفزه باعث من الخارج.
كل ما يراه الفرد خارج نفسه يقابل حالاته العقلية، وكل شيء بدوره يكون مفهوما له بمقدار ما يسوقه تفكيره الجريء إلى الحقيقة التي تنتمي إليها تلك الواقعة أو تلك المجموعة من الوقائع.
إنني أستطيع أن أغوص إلى العالم الأولي - أو العالم السابق كما يقول الألمان - في نفسي، كما أستطيع أن أتحسسه بأصابع باحثة في سراديب الموتى، وفي المكتبات، وفي الجدران والأجزاء البارزة المنهارة من خرائب البيوت التي كانت تقوم وسط الحدائق. ترى ما أساس ذلك الاهتمام الذي يحسه الناس جميعا بتاريخ اليونان وآدابهم وفنونهم وشعرهم في جميع عصورهم من عصر البطولة أو عصر هومر حتى الحياة العائلية، حياة الأثينيين والإسبرطيين بعد ذلك بأربعة أو خمسة قرون؟ ما هو الأساس؟ أليس هو ذلك: إن كل إنسان يمر شخصيا بعصر يوناني. الحالة اليونانية هي عصر الطبيعة الجسدية، عصر كمال الحواس، أو عصر الطبيعة الروحانية مبسوطة في اتحاد دقيق مع الجسد. في تلك الحالة كانت توجد تلك الصور البشرية التي أمدت النحات بنماذجه لهرقل وفيبس وجوف، لا كتلك الصور التي تموج بها شوارع المدن الحديثة، حيث يكون الوجه لطخة مضطربة من الملامح، وإنما كان وجها يتألف من ملامح لم تفسد، واضحة التحديد متماثلة، تجويف العينين فيه مكون بحيث يستحيل أن يكون بالعينين حول، أو أن تختلس العينان النظرات يمينا أو يسارا، ولكنهما عينان يلتفت معهما الرأس كله. وكانت آداب السلوك في ذلك العصر واضحة قاسية. يقدم الاحترام للصفات الشخصية، الشجاعة، والحذق، وضبط النفس، والعدالة، والقوة، والسرعة، والصوت المرتفع، والصدر العريض. ولم يعرف الترف أو الرقة. وتباعد السكان والحاجة تجعل كل إنسان خادم نفسه، طباخا، وقصابا، وجنديا. وكانت عادة إمداد حاجته لنفسه بنفسه تعلم الجسم أداء أعمال عجيبة. هكذا كان أجاممنون وديومد عند هومر، ولم تختلف عن ذلك كثيرا الصورة التي يعطيها زنفون عن نفسه وعن مواطنيه في «تقهقر العشرة آلاف»: «بعدما عبر الجيش نهر تلبوس في أرمينيا، سقطت ثلوج كثيرة هناك، واستلقى الجنود فوق الأرض بائسين تغطيهم الثلوج. غير أن زنفون نهض عاريا وأمسك بفأس وشرع يشق الخشب، وعندئذ نهض الآخرون وحذوا حذوه.» وكانت حرية الكلام التي لا تحد موجودة بين جنود جيشه جميعا. يتشاجرون من أجل الغنائم، ويختصمون مع القواد عند كل أمر جديد، وزنفون حاد اللسان كغيره، وأحد لسانا من أكثرهم؛ ولذا فقد كان يعطي بمقدار ما يأخذ. من ذا الذي لا يرى أن هذه كانت عصابة من صبية كبار، لها ما للصبية الصغار من قانون للشرف وتربية حرة؟
وأثمن ما يفتن المرء في المأساة القديمة، بل وفي الأدب القديم كله، هو أن الأشخاص يتكلمون ببساطة، يتكلمون كأشخاص لديهم قدر كبير من حسن الإدراك دون علمهم بذلك، وقبل أن تصير عادة التفكير هي العادة العقلية السائدة. إن إعجابنا بالعتيق ليس إعجابا بالقديم، ولكنه إعجاب بالطبيعي.
لم يكن الإغريق مفكرين، بل كانوا كاملين في حواسهم وصحتهم، لهم أجمل تكوين جثماني في العالم. والكبار يتصرفون ببساطة الأطفال ورشاقتهم. كانوا يصنعون الأواني والمآسي والتماثيل، كما تصنعها الحواس الصحيحة، أي بذوق سليم. وقد لبثت هذه الأشياء تصنع في كل العصور، ولا تزال تصنع اليوم، حيثما وجد جسم سليم. ولكنهم تفوقوا على الجميع كطبقة بسبب تفوقهم في التكوين. كانوا يجمعون بين نشاط الرجولة واللاشعور الذي يسيطر على الأطفال. إن ما يفتننا في هذه الآداب هو أنها تخص الرجل، ويعرفها كل رجل بحكم أنه قد مر بدور الطفولة. وفوق ذلك، فهناك دائما أفراد يحتفظون بهذه الصفات. والشخص الذي لديه عبقرية الطفولة ونشاط موروث لا يزال يونانيا، ويعيد إحياء عشقنا لآلهة الشعر في هلاس. وإني لأعجب بحب الطبيعة عند فلكتيتس. وعند قراءة تلك الابتهالات الجميلة إلى النوم وإلى النجوم وإلى الصخور والجبال والأمواج أحس كأن الوقت يمر كالبحر وهو في الجزر. أحس خلود الإنسان ، وذاتية فكره. ويبدو لي أن الإغريقي كان له زملاء في الوجود مثلما لي. كانت الشمس والقمر، والماء والنار، تقابل قلبه كما تقابل قلبي تماما. ثم إن ذلك التميز الذي نتباهى به بين اليوناني والإنجليزي، وبين المدرسة الكلاسيكية والمدرسة الرومانتيكية يظهر أنه سطحي متكلف. عندما تصبح فكرة أفلاطون فكرتي، عندما تشعل الحقيقة قلبي كما أشعلت قلب بندار، عندئذ يتلاشى الزمن. وعندما أحس أن كلينا نلتقي في نظرة، وإن روحينا يصطبغان بلون واحد، وكأنهما يمتزجان في روح واحدة، أسأل نفسي: لماذا أقيس درجات العرض الأرضية؟ ولماذا أعد السنوات المصرية؟
إن الطالب يفسر عصر الفروسية بعصره الخاص للفروسية، كما يفسر أيام المغامرات البحرية وطواف البحار بتجاربه المصغرة التي تماثلها تماما. وله كذلك المفتاح عينه لتاريخ العالم المقدس. وحينما لا يردد صوت نبي من الأنبياء منبعث من أعماق التاريخ القديم سوى صدى عاطفة من عواطف طفولته، أو دعاء من أدعية الشباب، فإنه ينفذ حينئذ إلى الحقيقة خلال جميع اضطرابات التقاليد وخلال الصور الهزلية التي تتمثل في النظم القائمة.
ويندر أن تهبط علينا في فترات منقطعة أرواح متطرفة تبسط لنا حقائق جديدة في الطبيعة. ولقد لاحظت أن رجال الله من حين إلى حين يسيرون بين الناس ويجعلون السامع العادي جدا يحس رسالتهم بروحه وقلبه. ومن ثم جاءت من غير شك منصة الخطابة، وظهر القسيس والكاهن موحى إليهما بالإلهام الآلهي.
المسيح يذهل القوم الحسيين ويغلبهم على أمرهم، فلا يستطيعون أن يوحدوا بينه وبين التاريخ أو أن يوفقوا بينه وبين أنفسهم. فإذا ما قدسوا بصائرهم وتتطلعوا إلى حياة مقدسة فإن تقواهم تفسر لهم كل حقيقة وكل كلمة.
ما أيسر أن تستأنس العبادات القديمة لموسى وزرادشت ومنو وسقراط نفسها في العقل؛ فإني لا أرى فيها البتة قدما، فهي لي بمقدار ما كانت لهم.
ولقد شهدت الرهبان والنساك الأوائل دون أن أعبر البحار أو القرون. وظهر لي أكثر من مرة رجل عادي مهمل في عمله شديد التأمل، منتفع متعال متعاظم، يتسول باسم الله، كما كان سميون ستيلايت وبثيس والكابوشان الأوائل الذين قدرهم القرن التاسع عشر.
إن حيل الكهنة في الشرق والغرب، وحيل الماجيان وبراهمان ودرويد وأنكا تفسرها الحياة الخاصة للفرد. إن التأثير الشديد الذي يقع من رجل رسمي متزمت على طفل صغير فيكبت روحه وشجاعته، ويشل تفكيره، ويكون ذلك دون أن يحدث لديه سخطا، دائما يثير الخوف والطاعة فحسب، بل ويثير عطفا شديدا على الظلم - هذا التأثير حقيقة مألوفة تتضح للطفل عندما يصبح رجلا - وذلك عندما يدرك أن من ظلمه في صباه هو نفسه طفل ظلمته تلك الأسماء والكلمات والصور التي كان لتأثيرها مجرد آلة توصل ذلك التأثير للطفل الجديد. وتعلمه الحقيقة كيف كان بلوس يعبد، وكيف بنيت الأهرام، أحسن مما تعلمه كشوف شمبليون لأسماء جميع العمال وتكاليف البناء. كما يجد آشور وتلال شلولا عند بابه، وهو الذي يلقي على نفسه الدروس.
ثم إنه - في ذلك الاحتجاج الذي يصرخ به كل رجل منصف ضد خرافة عصره - يستعيد خطوة خطوة دور المصلحين القدامى، ويجد مثلهم أثناء بحثه وراء الحقيقة مخاطر جديدة تهدد الفضيلة. ويتعلم كذلك أن تطويق الخرافة يتطلب شجاعة أدبية. وأن الإباحية الشديدة تأتي في إثر الإصلاح. وكم مرة حدث في تاريخ العالم أن لوثر العصر قد بكى انهيار التقوى بين آل بيته! قالت زوجة مارتن لوثر له ذات يوم: «كيف كنا يا دكتور نصلي كثيرا وبحرارة شديدة عندما كنا خاضعين للبابوية، في حين أننا اليوم قلما نصلي، فإن فعلنا ففي برودة شديدة؟!»
ويكتشف الرجل الراقي عمق ما يملك في الأدب، في القصص الخرافية كلها وفي التاريخ. ويجد أن الشاعر لم يكن رجلا شاذا عندما وصف مواقف عجيبة ومستحيلة، وأن ذلك الرجل العالمي قد كتب بقلمه اعترافا يصدق على الفرد كما يصدق على الجميع. يجد هذا الرجل الراقي تاريخ حياته الخفي مدونا في سطور مفهومة له بشكل عجيب، وقد كتبت قبل أن يولد، وأنه ليشارك في مغامراته الخاصة حكايات أيسوب الخرافية، وقصص هومر وحافظ وأريستو وشوسر وسكوت واحدة بعد الأخرى، ويحققها برأسه ويديه.
إن أقاصيص الإغريق الجميلة حقائق عالمية ؛ لأنها من الخلق الصحيح للخيال لا من خلق الوهم. ما أكثر المعاني المتنوعة وما أدوم المغزى الذي تنطوي عليه قصة «بروميثيس»! فإنها إلى جانب قيمتها الأولية باعتبارها الفصل الأول من تاريخ أوروبا (فالأسطورة تستر الحقائق الثابتة سترا رقيقا، كاختراع الفنون الآلية، والهجرة إلى المستعمرات) تقدم لنا تاريخ الدين مع شيء من الصلة بإيمان العصور المتأخرة؛ فبروميثيس هو يسوع الأساطير القديمة، هو صديق الإنسان، يقف بين «العدالة» المتعسفة «للأب الأبدي» وجنس الإنسان الفاني، ويتحمل بثبات كل شيء في سبيلهم. ولكن القصة حينما تبعد عن المسيحية الكلفنية وتصور بروميثيس متحديا لجوف، تمثل حالة عقلية تظهر كلما بشرنا بمبدأ الإيمان بالله - مع إنكار الوحي - في صيغة ساذجة موضوعية، حالة عقلية يبدو أنها دفاع الإنسان عن نفسه ضد هذه الأكذوبة، وهي عدم الرضا بما يعتقد فيه الناس من أن الله موجود، والشعور بأن الخضوع لفكرة التقديس أمر شاق، وأنها لتسرق لو استطاعت نار الخالق وتسكن بعيدة منه ومستقلة عنه. إن بروميثيس فنكتس هي القصة الخيالية للشك. وتفصيلات هذه القصة العظيمة تصدق على جميع الأزمنة، كما تصدق على زمانها. ولقد قال الشعراء إن أبولو احتفظ بقطعان أدميتس. إن الآلهة لا تعرف عندما تأتي إلى الناس، ولم يكن كذلك يسوع، ولم يكن كذلك سقراط أو شكسبير. وقد اختنق أنتيوس من قبضة هرقل، ولكنه كلما مس أمه الأرض تجددت قواه. الإنسان هو العملاق المتحطم، وبرغم ضعفه كله، ينتعش جسمه وعقله بتعوده مناجاة الطبيعة. وقوة الموسيقى، وقوة الشعر في نزع الأجنحة من الطبيعة الجامدة أو إلصاقها بها، تفسر لغز أورفيس. والإدراك الفلسفي المتشابه بين الأشياء مهما تعددت أشكالها تجعله يعرف تقلبات بروتيس. ماذا عسى أن أكون غير ذلك، وقد ضحكت أو بكيت بالأمس، ونمت ليلة الأمس كالجثة الهامدة، ثم نهضت هذا الصباح وعدوت. وماذا أرى في أي جانب سوى تناسخ الأرواح لبروتيس؟ إني أستطيع أن أرمز لفكري باستخدام اسم أي مخلوق أو أية حقيقة؛ لأن كل مخلوق إنسان عامل أو عليل. وليس تانتلاس سوى اسم لك ولي. تانتلاس معناها استحالة شرب مياه الفكر التي تضيء دائما وتتماوج على مرأى من الروح. إن تناسخ الأرواح ليس خرافة. وددت لو كان كذلك ، ولكن الرجال والنساء ليسوا إلا أنصاف بشر. كل حيوان في مخزن الغلال، وفي الحقل، والغابة، وفي الأرض والماء تحت الأرض، حاول أن تكون له قدم وأن يترك آثارها وصورتها في أحد هؤلاء المتكلمين المغتصبين الذين يواجهون السماء. أي أخي! كف عن انكماش روحك، انكماشها إلى الأشكال التي انزلقت في عاداتها عدة سنوات. وكذلك تلك الخرافة القديمة، خرافة ذلك المخلوق العجيب الذي يتكون من رأس إنسان وجسم أسد، ويقال إنه كان يجلس في الطريق ويضع الألغاز لكل من يمر به، فإذا عجز الرجل عن الإجابة ابتلعه حيا، وإن استطاع حل اللغز قتل ذلك المخلوق. وليست حياتنا سوى سرب طويل من الحقائق أو الحوادث! هذه الحوادث تعرض لنا متنوعة تنوعا كبيرا، كل منها يقدم الأسئلة للروح البشرية. وأولئك الرجال الذين لا يستطيعون الإجابة عن حقائق الزمن أو مشكلاته هذه بحكمة عليا يخدمونها؛ فالحقائق تعرقل سيرهم، وتتعسف معهم، وتجعل من رجال العمل اليومي رجالا ذوي حس، الطاعة العمياء للحقائق تطفئ فيهم كل شرارة من ذلك الضوء الذي يجعل الإنسان إنسانا حقا. أما إن كان الإنسان صادقا نحو غرائزه أو عواطفه الأولى، ويرفض تسلط الحقائق عليه، كأنه آت من جنس أعلى، ويتمسك بالروح ويراعي المبادئ، فإن الحقائق تركد مكانها في مرونة وخضوع؛ ذلك لأنها تعرف سيدها، وأقلها شأنا يمجده.
وفي «هلنا» لجيته نلمس الرغبة عينها في أن تصبح كل كلمة شيئا. إنه يقول إن هذه الشخصيات، شيرون وجريفن وفوركياس وهلن وليدا إن هي إلا أشياء، ولها تأثير معين على العقل. ولذلك فهي إلى الآن موجودات أبدية، واقعية اليوم كما كانت في أول أولمبياد. فكر فيها كثيرا، ثم كتب ما رأى بطلاقة، وجسدها في خياله. وإن كانت هذه القصيدة غامضة وهمية كالحلم، إلا أنها أشد جاذبية من القطع التمثيلية، التي تفوقها نظاما لنفس المؤلف؛ وذلك لأنها تخلص العقل بطريقة عجيبة من مألوف الصور المعتادة، وهي توقظ ما عند القارئ من اختراع ووهم بما تتضمنه من حرية طليقة في التصوير، وما فيها من تتابع متصل من صدمات المفاجأة العنيفة.
إن الطبيعة المطلقة أقوى من طبيعة الشاعر الهينة؛ فهي تمتلك رقبته وتكتب عن طريق يده، وقد يبدو كأنه ينفس عن مجرد خاطرة طارئة وخيال جامح وهو في الواقع يخرج قصة رمزية دقيقة. ولذا قال أفلاطون: «إن الشعراء ينطقون عن أشياء عظيمة وحكيمة لا يفقهونها هم أنفسهم.» وكل قصص العصور الوسطى الخيالية يمكن تفسيرها على أنها تعبير مستتر أو فكاهي عما كان العقل في تلك العصور يعمل جاهدا لتحصيله في جد رزين. والسحر كل ما ينسب إليه إحساس داخلي عميق بقوى العلم. وحذاء السرعة، والسيف الحاد، والقدرة على إخضاع عناصر الطبيعة، واستخدام المزايا الخفية للمعادن، وفهم أصوات الطيور، كل أولئك جهود عقلية غامضة في اتجاه سليم. وبسالة البطل الخارقة للطبيعة، وهبة الشباب الدائم، وما إلى ذلك، هي كذلك محاولة الروح البشرية «أن تخضع مظاهر الأشياء لرغبات العقل».
وفي برسفرست وإمادس دي جول يزدهر الإكليل والزهر على رأس من يؤمن، ويذوي على جبين من يتردد. وفي قصة الولد والعباءة، قد يدهش حتى القارئ الناضج ويخالجه وميض من السرور البريء لانتصار جنلاس المهذب، وفي الحق إن كل ما تفترضه أقاصيص الجن - من أنها لا تحب أن يذكر لها اسم، وأن مواهبها متقلبة لا يوثق فيها، وأن من يبحث عن كنز ينبغي له ألا يتكلم، وما إلى ذلك - كل ذلك أجده صادقا في كنكورد، مهما يكن أمره في كورنوول أو بريتانيا.
فهل الأمر على خلاف ذلك في أحدث القصص الخيالية؟ لقد قرأت «عروس لامرمور». ووجدت أن السير وليم آشتن قناع للإغراء الشعبي، و«رافنزوود كاسل» اسم جميل للفقير المتكبر، وأن إرسالية الدولة الأجنبية هي كزي بنيان الذي تنكر فيه كي يعمل عملا خالصا. كلنا نستطيع أن نستفز العجل المتوحش الذي يلقي بالخير والجمال أرضا، وذلك بأن نصرع الظالمين والشهوانيين. ولوس آشتن اسم آخر للإخلاص، الذي يتصف بالجمال دائما ويتعرض في هذه الدنيا للمصائب دائما.
وإلى جانب تاريخ الإنسان المدني والميتافيزيقي يسير كل يوم تاريخ آخر إلى الأمام. هو تاريخ العالم الخارجي ، ليس الإنسان فيه بأقل اشتباكا وتلاصقا؛ فالإنسان هو خلاصة الزمن، وهو متصل العلاقة بالطبيعة، وتنحصر قدرته في كثرة علاقاته، أو في أن حياته مشتبكة بسلسلة الكون العضوي وغير العضوي كلها. كانت الطرق العامة في روما القديمة تبدأ عند فورم وتسير شمالا وجنوبا وشرقا وغربا إلى مركز كل إقليم من أقاليم الإمبراطورية، فتجعل كل مدينة تجارية في بلاد الفرس وإسبانيا وبريطانيا سهلة الاقتحام لجند العاصمة، وكذلك فإن الوشائح تخرج من القلب البشري إلى قلب كل شيء في الطبيعة، كي تخضعه لسلطان الإنسان. الإنسان مجموعة من العلاقات، أو عقدة من الجذور، العالم زهرتها. ومواهبه تشير إلى طبائع خارجة عنه، وتنبئ بالعالم الذي يسكنه، كما تتوقع زعانف السمكة وجود الماء، أو تفترض أجنحة النسر في البيضة وجود الهواء. إنه لا يستطيع أن يعيش بغير عالم. ضع نابليون في سجن جزيرة، ولا تدع مواهبه تلتقي بإنسان يؤثر فيه، أو بجبال كجبال الألب يتسلقها، أو خطر يستهدف له، إذا فعلت به ذلك ضرب الهواء وبدا عليه الغباء. أما إن نقلته إلى أقطار فسيحة وشعب كثيف، وأمور معقدة يهتم بها، وقوى معادية، وجدت أن نابليون الرجل الذي يحده شكل الوجه وهيئة الجسم ليس نابليون الحقيقي، إنما ذلك شبح تالبوت الذي قيل عنه في مسرحية هنري السادس:
إن مادته ليست هنا؛
لأن ما ترون ليس سوى أدنى الأجزاء،
وأصغر نصيب من الإنسانية.
ولو كان الهيكل كله هنا
لوجدتم أن ارتفاعه ضخم جسيم،
لا يكفي سقفكم أن يحتويه.
إن كولمبس يحتاج إلى كوكب يرسم طريقه فيه. ويحتاج نيوتن ولابلاس إلى آلاف العصور ومساحات سماوية منشورة. وتستطيع أن تقول إن النظام الشمسي ذا الجاذبية تنبأت به من قبل طبيعة عقل نيوتن. وليس بأقل من ذلك ذهن ديفي أوجاي لوساك، الذي أخذ منذ الطفولة يكشف أسباب التقارب والتباعد بين الجزئيات، فتنبأ بقوانين النظام. ألا تتنبأ بالضوء عين الجنين البشري؟ ألم تتنبأ أذن هاندل بسحر الصوت المنسجم؟ ألم تتنبأ الأصابع المنشئة لوت وفولتن وهوتمور وآر كرايت بطبائع المعادن الصلبة والتي تنصهر والتي تلين، وخواص الحجر والماء والخشب؟ وألا تنبئ الصفات الطيبة للفتاة الصغيرة العذراء بما يصل إليه المجتمع المدني من تهذيب وبهاء. وهنا كذلك يجب أن نذكر فعل الإنسان بالإنسان؛ فالعقل قد يتدبر بفكره عصورا ولا يظفر بمعرفة نفسه بمقدار ما تعلمه عاطفة الحب في يوم واحد. من ذا الذي يعرف نفسه قبل أن يثور سخطه على انتهاك الحرمات، أو يستمع إلى لسان فصيح، أو ينبض قلبه مع ألوف الناس في فرح أو ذعر قومي؟ لا يستطيع إنسان أن يتنبأ بخبرته، أو أن يتكهن بالقدرة العقلية أو الشعور الذي يتفتح لشيء جديد، لا يستطيع ذلك أكثر مما يستطيع أن يرسم اليوم وجه إنسان سوف يراه في الغد لأول مرة.
ولن أذهب الآن وراء الرأي العام كي أكشف عن علة هذه المناظرة. ويكفي أن يقرأ التاريخ ويكتب في ضوء هاتين الحقيقتين، وهما أن العقل واحد والطبيعة تناظره.
ومن ثم فإن الروح تتركز وتخرج كنوزها لكل طالب بكل الطرق، ويمر الطالب كذلك بدورة التجارب كلها، ويجمع في بؤرة واحدة أشعة الطبيعة. فلا يصبح التاريخ بعد ذلك كتابا مملا، بل يسير مجسدا في كل رجل عادل حكيم. ولا تخبروني باللغات والعناوين عن بيان المجلدات التي قرأتموها، بل اجعلوني أحس أي العصور عشتم. سوف يكون الإنسان معبدا لآلهة الشهرة، يسير - كما وصف الشعراء تلك الآلهة - في رداء صورت في جميع أنحائه الحوادث والتجارب العجيبة. سوف تصبح هيئته وملامحه بذكائها البالغ ذلك الرداء المزركش. سوف أجد فيه ما قبل الدنيا، وفي طفولته العصر الذهبي، وتفاح المعرفة، ورحلات أرجونوت، ونداء إبراهيم، وبناء المعبد، وظهور المسيح، والعصور المظلمة، وإحياء الآداب، والإصلاح الديني، واكتشاف البلاد الجديدة، وفتح علوم جديدة ومناطق جديدة في الإنسان. سوف يكون الإنسان قسيس بان، ويجلب معه إلى الأكواخ المتواضعة بركة نجوم الصباح وكل ما عرف من منافع الأرض والسماء.
هل في هذا المطلب شيء من الغرور؟ إذن لنبذت كل ما كتب؛ لأنه لا فائدة في ادعاء المعرفة لما لا نعرف. ولكنه الضعف في قدرتنا على التعبير الذي لا يمكننا من تأكيد حقيقة دون أن يبدو علينا كأننا نكذب غيرنا. إنني لا أقدر علمنا الفعلي إلا قدرا رخيصا. استمع إلى الفيران في الحائط، وانظر إلى الضب فوق السور، وإلى الطحلب تحت قدمك، وإلى حشائش البحر فوق الكتل الخشبية. ماذا أعرف عن هذه العوالم الحيوية معرفة فيها عطف ولها مغزى؟ منذ الإنسان القوقازي - وربما أقدم من ذلك - كانت هذه المخلوقات تمد هذا الإنسان بالمعرفة، ولكن ليس هناك سجل لأية كلمة أو إشارة مما انتقل منها إليه. أية علاقة تفصح عنها الكتب بين الخمسين أو الستين عنصرا كيمائيا، وبين حقب التاريخ؟ بل ماذا يسجل التاريخ حتى الآن عن التاريخ الميتافيزيقي للإنسان؟ وأي ضوء يلقيه على تلك الألغاز التي نخفيها تحت اسم الموت والخلود؟ ومع ذلك فإن كل تاريخ ينبغي أن يكتب بحكمة تقدر علاقة الإنسان بغيره من الأشياء حق قدرها وتنظر إلى الحقائق كرموز. وإني ليخجلني أن أرى أن ما نسميه التاريخ ليس سوى قصة قروية تافهة. كم مرة ينبغي لنا أن نذكر روما وباريس والقسطنطينية! ماذا تعرف روما عن الفأر والضب؟ وماذا تكون الأولمبياد والقنصليات إذا قيست إلى نظم الكائنات التي تجاورنا؟ بل وأي طعام أو خبرة أو معونة تقدمها هذه الأشياء لصائد العجل البحري من الإسكيمو، أو لكتاكا في الزورق، أو لصائد السمك، أو لعمال الشحن والتفريغ في السفن، أو للحمالين؟
إنما ينبغي أن نكتب تاريخنا في صورة أشمل وأعمق - فيصدر عن رغبة في الإصلاح الخلقي، وعن تدفق الضمير الأزلي والأبدي - إن أردنا أن نعبر في صورة أصدق عن طبيعتنا الأساسية ذات العلاقات المتشعبة، بدلا من هذه الصورة العتيقة لسرد وقائع الأنانية والكبرياء التي أعرناها أنظارنا مدى طويلا. هذا اليوم ماثل أمامنا فعلا، ويشرق علينا على غير انتظار، ولكن طريق العلم والأدب لا يؤدي إلى الطبيعة. إن الأبله، والهندي، والطفل، وابن الفلاح الذي لم يتعلم في مدرسة، أقرب في موقفهم إلى الضياء الذي تطالع فيه الطبيعة من ذلك الذي يحلل الآثار القديمة.
الاعتماد على النفس
لا تجشم نفسك مشقة البحث فيما وراءها.
الإنسان نجم نفسه؛
والروح التي تستطيع أن تخلق إنسانا أمينا كاملا،
تسيطر على كل ضوء، وكل أثر، وكل مصير؛
ليس هناك لهذا الإنسان ما يقع مبكرا أو متأخرا.
إنما فعالنا ملائكتنا، طيبة أو خبيثة،
وهي ظلالنا المحتومة التي تسير إلى جوارنا أبدا.
مقدمة «نصيب الإنسان الأمين» لبومنت وفلنتشر ***
ألق الطفل الرضيع فوق الصخور،
وأرضعه من ثدي أنثى الذئب؛
ودعه يقضي الشتاء مع الصقر والثعلب،
تدب القوة في يديه والسرعة في قدميه.
قرأت ذات يوم قريب بعض أبيات من الشعر كتبها مصور مشهور فوجدتها أصيلة لا أثر للتقليد فيها. والروح دائما تستمع إلى العبرة والموعظة في مثل هذه الأبيات مهما يكن موضوعها. والعاطفة التي تمليها أعظم قيمة من أية فكرة قد تحتويها. إن العبقرية هي أن تعتقد في رأيك، وأن تعتقد أن ما هو صادق في قلبك الخاص صادق لجميع الناس. انطق بعقيدتك الخفية تكن هذه العقيدة قولا معقولا للعالم أجمع؛ لأن الباطن يصبح ظاهرا حينما يحين الحين، يوم ينفخ في الصور يذكر كل امرئ ما قدمت يداه. إن أكبر فضل نعزوه إلى موسى وأفلاطون وملتن، هو أنهم أهملوا الكبت والتقاليد كل الإهمال، ونطقوا بما دار في خلدهم لا بما دار في خلد الناس، كل وفق ما أملاه عليه عقله. يجب على المرء أن يتعلم أن يلاحظ ويرقب ذلك الشعاع من الضوء الذي يومض في ذهنه من الداخل، أكثر مما يرقب بريق السماء التي يحلق فيها الشعراء والحكماء. ولكن المرء مع ذلك ينبذ رأيه عن غير علم؛ لأنه رأيه الخاص. وإنا لنتبين في كل عمل من أعمال العبقرية آراءنا المنبوذة وتعود إلينا هذه الآراء في نوع من الجلال غريب عنا. إن الأعمال الفنية العظمى تلقي علينا درسا له أثره في نفوسنا، وذلك الدرس هو أننا نتعلم كيف نتمسك بانطباعنا التلقائي في صلابة مشوبة بروح طيبة، وبخاصة عندما تكون جميع الأصوات في غير جانبنا، وإلا فسوف نجد أن شخصا غريبا سيقول في الغد في حكمة نافذة نفس ما فكرنا فيه وأحسسناه دائما، ونرغم على أن نتقبل في خجل رأينا الخاص صادرا إلينا من غيرنا.
وتمر فترة في تعليم كل فرد يصل فيها إلى الاعتقاد بأن الحسد جهل، والتقليد انتحار، وأنه يجب عليه أن يأخذ نفسه على أنها نصيبه، خيرا كان أو شرا، وأن الدنيا الواسعة قد تكون مليئة بالخير، إلا أن الحبة الواحدة من الحنطة المغذية لا تأتيه إلا عن طريق عمله الذي يهبه قطعة الأرض التي أعطيت له ليفلحها. إن القوة التي تسكن بين جنبيه جديدة في الطبيعة، ولا يعرف أحد سواه ماذا بوسعه أن يعمل، ولا يعرف هو نفسه إلا بعد التجربة. وليس عبثا أن يكون لوجه من الوجوه أو لشخصية أو لحقيقة ما، أثر كبير في نفسه، في حين أن غيرها لا يكون له مثل هذا الأثر. وليس هذا النحت في الذاكرة بغير استعداد ثابت سابق؛ فلقد وضعت العين بحيث يقع عليها الشعاع من الضوء فتستطيع أن تختبر هذا الشعاع المعين. إننا لا نعبر عن أنفسنا إلا نصف تعبير، ونخجل من تلك الفكرة المقدسة التي يمثلها كل منا. ويجب علينا أن نثق آمنين أن هذه الفكرة منسقة تبشر بأطيب النتائج، ولكن الله لا يظهر عمله عن طريق الجبناء. يشعر المرء بالفرج والسرور عندما يضع قلبه في عمله ويبذل قصارى جهده. وما يقوله أو يفعله بغير ذلك لا يريح نفسه. فهذا عمل لا ينقذ صاحبه. وهو في محاولته إياه يفتقد قوى عقله، لا يصادقه الفكر، ولا يحالفه ابتكار أو أمل.
ثق بنفسك: كل قلب ينبض بهذا الرباط الحديدي. وارض بالمكانة التي أوجدتها لك العناية الإلهية، وبمجتمع معاصريك، وبارتباط الحوادث. هذا ما فعله عظماء الرجال دائما؛ فقد أسلموا أنفسهم كالأطفال إلى عبقرية عصرهم، فأوهموا مداركهم بأن الشيء الذي يوثق فيه كل الثقة مستقر في قلوبهم، يعمل عن طريق أيديهم ويسود كيانهم كله. ونحن اليوم رجال، ويجب أن نقبل لعقولنا الكبيرة هذا الحكم الإلهي نفسه الذي يفوق الإدراك. لسنا صغارا مرضى في زاوية محمية، ولسنا جبناء نفر من الثورة. وإنما نحن مرشدون ومخلصون ونافعون، نخضع لما يبذله العلي العظيم، ونتقدم فوق الفوضى وفوق الظلام.
أي دليل قوي ذلك الذي تقدمه لنا الطبيعة تعزيزا لهذا الرأي، في وجه الأطفال والرضع - بل والوحوش - وسلوكهم! هؤلاء لا يملكون ذلك العقل المنقسم العصي، ذلك الإنكار للعاطفة؛ لأن حسابنا قد قدر القوة والوسائل التي تعترض أغراضنا. ولما كان عقلهم كلا، فإن عينهم لم تقهر بعد، وعندما نتطلع إلى وجوههم تتبلبل خواطرنا. الطفولة لا تخضع لأحد، بل الكل يخضع لها، ولذا فالرضيع الواحد يساوي أربعة أو خمسة من الراشدين الذين يرغون ويلعبون معه، وبدرجة لا تقل عن ذلك سلح الله الشباب والمراهقة والرجولة بحدتها وفتنتها، وجعلها محسودة جليلة، لا تهمل مطالبها إذا وقفت وحدها. لا تحسب أن الشباب لا قوة له؛ لأنه لا يستطيع أن يتحدث إليك أو يتحدث إلي. أنصتوا! إن صوته في الغرفة المجاورة واضح مؤكد بدرجة كافية. يبدو أنه يعرف كيف يتحدث إلى معاصريه، فإن كان خجولا أو مقداما إذن فلسوف يعرف كيف يستغني عنا نحن الذين نكبره.
إن استهتار الصبية الواثقين من غدائهم، والذين يزدرون - كما يزدري السادة - أن يعملوا أو يقولوا شيئا يسترضون به أحدا، هو الموقف الصحيح للطبيعة البشرية. الصبي في غرفة الاستقبال كالمتفرج في ساحة المسرح: مستقل غير مسئول، ينظر من زاويته إلى الأشخاص والوقائع الذين يمرون به، فيفحصهم ويحكم عليهم بما يستحقون بطريقة الأطفال السريعة الموجزة، فهم طيبون أو خبيثون، أو شائقون أو مملون، أو فصحاء، أو متعبون. ولا يعرقل نفسه البتة بالنتائج أو المنافع، وإنما يصدر حكما مستقلا صادقا. ويجب عليك أن تتملقه، فهو لا يتملقك. ولكن كأن وعي الإنسان قد أودع هذا الإنسان سجنا. فبمجرد ما يعمل أو يتكلم بشكل يبهر الأبصار، يمسي شخصا مسئولا، ترقبه المئات بعطفها أو مقتها، المئات التي يقيم الآن لمحبتهم وزنا. وليس له عن ذلك معدى. آه لو استطاع أن يرتد ثانية إلى حيدته! ومن ثم فإن من يستطيع أن يتحاشى كل ارتباط، ويلاحظ مرة أخرى - بعدما لاحظ أولا - بنفس السذاجة التي لم تتأثر ولم تنحز ولم ترتش ولم تخش شيئا، مثل ذلك الرجل لا بد أن يكون جليلا دائما. إنه ينطق بآرائه في كل ما يمر به من أمور. ولما كانت هذه الآراء لا ترى كأنها خاصة، وإنما ضرورية، فإنها تهبط كالسهام في آذان الناس، وتشيع الذعر في نفوسهم.
تلك هي الأصوات التي نصغي إليها في عزلتنا، ولكنها تنخفض ولا تسمع عندما ندخل العالم. فالمجتمع في كل مكان يتآمر ضد رجولة كل فرد من أعضائه. المجتمع شركة مساهمة يتفق أعضاؤها - لحسن ضمان الخبز لحامل السهم - على أن يتنازل الآكل عن حريته وثقافته. والفضيلة في أكثر الأمور هي الانسجام مع الآخرين، ولكن الاعتماد على النفس على نقيض ذلك، وهي لا تحب الحقائق والرجال المبدعين، ولكنها تحب الأسماء والعادات.
ومن أراد أن يكون رجلا ينبغي أن ينشق على السائد المألوف. ومن يحب أن يجمع ثمر النخيل الخالد ينبغي ألا يعوقه ما يسميه الناس خيرا، بل يجب عليه أن يكتشف إن كان ذلك خيرا حقا. لا شيء في النهاية مقدس سوى نزاهة عقلك، حرر نفسك لنفسك يؤيدك العالم. أذكر إجابة دفعت وأنا صغير جدا إلى أن أجيب بها على ناصح له قيمته اعتاد أن يلحف علي بمبادئ الكنيسة القديمة العزيزة. عندما كنت أقول ما لي ولقداسة التقليد إذا كنت أعيش كل حياتي من الداخل؟ اقترح صاحبي قائلا: «ولكن هذه الدوافع قد تكون سفلية لا علوية.» فأجبت بقولي: «إنها لا تبدو لي كذلك، ولكني إن كنت ابن الشيطان، فسوف أعيش إذن عيشة الشيطان.» ليس عندي قانون مقدس سوى قانون طبيعتي. الخير والشر اسمان يمكن في سهولة شديدة أن ينتقلا إلى هذا أو ذاك. والشيء الوحيد الصحيح هو ما يتبع تكويني، والشيء الوحيد الخطأ هو ما يقاومه. وعلى المرء أن يثبت أمام كل معارضة، كأن كل شيء اسمي زائل ما عداه. وإنه ليخجلني أن أرى كيف يسهل علينا أن نستسلم للشارات والأسماء وللمجتمعات الكبيرة والنظم البائدة. كل فرد دمث الأخلاق، حلو الحديث، يؤثر في نفسي ويستميلني أكثر مما ينبغي. يجب أن أسير معتدلا حيا، وأن أنطق بالحق الصراح بكل وسيلة. وإذا ارتدى الحقد والغرور ثياب حب البشر، فهل يجوز علينا ذلك؟ وإذا تحمس متعصب غاضب لأية قضية، فلماذا لا أقول له: «اذهب، كن ذا طبيعة طيبة ومتواضعا. كن فاضلا، ولا تلون مطامعك الجامدة الجافية بهذا العطف الكاذب.» هذه التحية خشنة لا رقة فيها، ولكن الحق أجمل من التظاهر بالحب. يجب أن يكون للخير عندك حافز - وإلا فهو لا شيء - يجب أن نبشر بمبدأ كراهية الفاسد الزائف، نقابل به مبدأ الحب إذا نضب معينه وفترت حرارته. وإني لأتحاشى أبي وأمي وزوجتي وأخي إذا دعاني عقلي إلى ذلك. وإني لأكتب على عتبة الدار: «هذا هواي.» وآمل أن يكون شيئا أحسن من الهوى في النهاية، ولكنا لا نستطيع أن نقضي اليوم في الشرح. ولا تنتظروا مني أن أبين السبب لماذا أبحث عن الرفاق أو لماذا أستبعدهم. وكذلك لا تذكروا لي - كما ذكر اليوم لي رجل طيب - واجبي في رفع مستوى الفقراء. هل هم فقرائي؟ وإني لأقول ذلك يا أيها الرجل الغافل الذي يحب البشر، إني أحقد على الريال وعشر الريال، والسنت الذي أعطيه إلى قوم لا يتعلقون بي ولا أتعلق بهم. هناك طائفة من الناس أباع لهم وأشترى لما بيني وبينهم من قرابة روحية، من أجلهم أذهب إلى السجن إن دعا الداعي. ولكن صدقاتكم المتنوعة العامة، وتعليم الأغبياء في الكليات، وبناء النوادي لغرض التظاهر الذي يتمسك به الآن الكثير، والإحسان للسكارى، وجمعيات الإعانة - التي تعد بالألوف - هذه الجمعيات أعترف في خجل أني أحيانا أضعف وأهبها الدولار، إلا أنه دولار أثيم سوف تكون عندي الرجولة قريبا فأمنعه.
الفضائل في تقدير الشعب هي الاستثناء وليست القاعدة. هناك الرجل وهناك فضائله. يعمل الناس ما يسمى بالفعل الطيب، كعمل فيه شجاعة أو إحسان، كما يدفعون الغرامة يكفرون بها عن عدم ظهورهم يوميا في الصفوف. يقومون بأعمالهم للاعتذار أو للتخفيف عن حياتهم في الدنيا، كما يدفع العجزة والمجانين أجرا عاليا لإبرائهم؛ ففضائلهم كفارة. ولست أريد أن أكفر، ولكني أريد أن أعيش. حياتي لذاتها وليست للتظاهر. وإني لأوثر جدا أن تكون من مستوى منخفض، لكي تكون صادقة ثابتة، على أن تكون مضيئة ولكنها غير ثابتة. أريدها أن تكون صحيحة حلوة، ليست بحاجة إلى غذاء وإراقة دماء. إني أطلب دليلا مبدئيا على أنك رجل، وأرفض أن يجيبني هذا الرجل إلى مطالبي بفعاله. وأعرف عن نفسي أنه لا فارق عندي إن كنت أؤدي أو أمتنع عن تلك الأفعال التي تعد ممتازة. لا أستطيع أن أوافق على أن أدفع ثمنا لامتياز ما حيث يكون لي حق ذاتي. وقد تكون مواهبي قليلة ووضيعة، ولكني أنا نفسي فعلا، ولست بحاجة إلى شهادة ثانوية لأن أثبت ذلك لنفسي أو أن أثبته لرفاقي.
كل ما يهمني، هو ما ينبغي لي أن أعمله، لا ما يفكر فيه الناس. وهذه القاعدة صارمة، سواء في الحياة الواقعة أو الحياة العقلية. ولذا فهي تصلح لأن تكون تمييزا كاملا بين العظمة والوضاعة. ويزيد هذه القاعدة عسرا أنك تلقى دائما أولئك الذين يظنون أنهم يعرفون واجبك خيرا مما تعرفه أنت. ومن الميسور أن تعيش في الدنيا وفقا لآرائها. ومن الميسور في العزلة أن نحيا وفقا لآرائنا، بيد أن الرجل العظيم هو ذلك الذي يحتفظ وسط الجماهير باستقلال العزلة في سهولة تامة.
والاعتراض على اتباع العادات التي أصبحت ميتة بالنسبة إليك هي أن ذلك يشتت قواك، ويفقرك وقتك، ويمحو أثر شخصيتك. إذا أنت حافظت على كنيسة ميتة، وأسهمت في جمعية إنجيلية ميتة، وأعطيت صوتك مع حزب كبير إما مع الحكومة أو ضدها، وأعددت مائدتك كما يفعل أصحاب البيوت السفلة، فإني تحت كل هذه الستائر أجد مشقة في أن أكشف عن حقيقتك تماما كإنسان. وتحرم حياتك الصحيحة - بطبيعة الحال - من قوة كبرى. ولكنك إن أديت عملك عرفتك وعززت نفسك. ينبغي لك أن تدرك أنك كالأعمى حينما تلعب دور التبعية لغيرك. إذا عرفت طائفتك توقعت جدلك. وإني لأستمع إلى الواعظ يعلن أن مادته وموضوعه هما من مستلزمات نظام من النظم الخاصة بكنيسته. أفلا أعرف مقدما أنه لا يستطيع أن يقول كلمة جديدة من تلقاء نفسه؟ أفلا أعرف أنه لا يفعل ذلك، برغم كل ذلك التظاهر بفحص أسس هذا النظام؟ وألا أعرف أنه عاهد نفسه ألا ينظر إلا إلى جانب واحد، وهو الجانب المسموح به، لا كرجل ولكن كقسيس الدائرة الدينية؟ إنما هو محام محافظ، وهذه الهيئة التي يتخذها وهو يعتلي المنصة تظاهر أجوف. ثم إن أكثر الناس قد عصبوا أعينهم بنوع من أنواع المناديل، وربطوا أنفسهم إلى إحدى هذه الشيع الفكرية. هذه التبعية لا تجعلهم مخطئين في قليل من التفصيلات، أو مبدعين لقليل من الأكاذيب، ولكن مخطئين في التفصيلات كلها. كل ما لديهم من صدق ليس صادقا تماما. والاثنان عندهم ليسا الاثنين الحقيقيين، وأربعتهم ليست الأربعة الحقيقية، ولذا فإن كل كلمة ينطقون بها تضايقنا، ولا نعرف من أين نبدأ كي نقومهم، وفي الوقت عينه لا تتوانى الطبيعة في إمدادنا بزي السجن الذي يرتديه الحزب الذي ننتمي إليه. إننا نبدو في ملامح وأشكال متشابهة، ونحصل تدريجا على أصدق ملامح الغباء. وهناك بنوع خاص تجربة قاتلة لها أثرها الملحوظ في التاريخ العام، وأعني بها «ناحية الإطراء السخيفة»، تلك الابتسامة المفتعلة التي تبدو علينا في صحبة الجماعة حينما لا نشعر بالراحة عندما نجيب على حديث لا يشوقنا. إن العضلات حينئذ لا تتحرك حركة تلقائية، وإنما يحركها تعمد غاصب، فتتصلب في خطوط الوجه، وتحدث إحساسا لا يرغب البتة فيه.
إن الدنيا تضربك بسياط الغم إذا أنت لم تسر في الركب. ولذا فمن واجب المرء أن يتعلم كيف يجابه الوجوه المريرة؛ فالمتفرجون ينظرون إليه شزرا في الطريق العام أو في حجرة استقبال الصديق. وإن كان هذا النفور منشؤه ازدراء أو مقاومة مثلما لديه فإنه يعود إلى بيته بوجه مكتئب. غير أن وجوه الجماهير المريرة، كوجوهها السمحة، ليس لها سبب عميق، ولكنها تتلبس بها أو تنزعها وفقا لهبوب الريح أو توجيه الصحف. ومع ذلك فإن سخط الجمهور أشد رعبا من سخط الشيوخ أو الكلية الجامعية. ومن اليسير على رجل حازم يعرف العالم أن يصبر على سخط الطبقات المثقفة، فسخطها محتشم حكيم، فهم جبناء لأنهم هم أنفسهم عرضة للتجريح. ولكن إذا أضيف إلى غضبهم النسوي سخط العامة، إذا أثرت الجاهل والفقير، وإذا أنت وضجت القوى الوحشية غير العاقلة التي تكمن خلف المجتمع، كنت بحاجة إلى اعتياد النخوة وعقيدة الدين، كي تواجهها متألها على أنها من توافه الأمور التي ليس من ورائها خطر.
والفزع الآخر الذي يبعدنا عن ثقتنا بأنفسنا هو ثباتنا على حال واحدة، أو تقديسنا لأعمالنا وأقوالنا الماضية؛ لأن أعين الآخرين ليست أمامها حقائق أخرى تقدر بها مدارنا سوى ماضي فعالنا، ونحن نكره أن نخيب رجاءهم.
ولكن لماذا تبقي على رأسك فوق كتفك؟ ولماذا تحمل عبء ذاكرتك - وكأنك تحمل جثة هامدة - خشية أن تناقض شيئا بحت به في مكان عام؟ هب أنك ناقضت نفسك، ماذا وراء ذلك؟ يبدو أن من قواعد الحكمة ألا تعتمد على ذاكرتك وحدها، حتى في أفعال الذاكرة البحتة، ولكن يجب أن تزج بالماضي في أحكامك وسط الحاضر الذي يملك ألف عين، وتعيش دائما في يوم جديد. إنك في عقائدك الميتافيزيقية قد أنكرت الشخصية للإله، ومع ذلك فعندما تأتي الحركة المقدسة للروح، استسلم لها بقلبك وحياتك، حتى إن أكسبت الإله شكلا ولونا، وتخل عن نظريتك كما تخلى يوسف عن قميصه في يد العاهرة، ثم اهرب.
إن الثبات السخيف على رأي واحد هو غول العقول الصغيرة، الذي يقدسه صغار السياسيين والفلاسفة ورجال الدين. أما الروح العظيمة فليس لها البتة شأن بهذا الثبات. وإلا فكأنها تأبه لظلها فوق الحائط. انطق بما تفكر فيه الآن في ألفاظ قوية، وانطق غدا بما تفكر فيه غدا في ألفاظ قوية كذلك، حتى إن ناقض كل ما قلته اليوم - وإذن فثق أنك سوف يساء فهمك - وهل من شر الأمور أن يساء فهمك؟ لقد أسيء فهم فيثاغورس، وكذلك سقراط ويسوع ولوثر وكوبرنكس وغاليليو ونيوتن وكل روح طاهرة عاقلة، تجسدت. لكي تكون عظيما لا بد أن يساء فهمك .
لست أحسب أن أحدا من الناس يستطيع أن يناقض طبيعته. وكل نزوات الإرادة عند الإنسان محاطة بقانون وجوده، كما أن التواءات الإنديز والهملايا تافهة في استدارة الكرة الأرضية. ولا يهم كيف تقيس المرء أو تختبره. الشخصية تشبه الموشح العبري المعكوس أو الموشح الإسكندري، إن قرأته إلى الأمام أو إلى الوراء أو عرضا فإن هجاءه لا يتغير. وفي هذه الحياة السارة المحدودة الجامدة التي وهبني الله إياها، دعني أسجل كل يوم آرائي المخلصة دون نظر إلى المستقبل أو إلى الماضي، ولست أشك في أنها سوف تكون متناسبة حتى إن لم أقصد إلى ذلك وإن لم أدركه. يجب أن ينم كتابي عن رائحة الصنوبر وأن يرن بصدى طنين الحشرات. والسنوسوة التي فوق نافذتي يجب أن تسهم بالخيط أو بالقش الذي تحمله في منقارها في نسيجي كذلك. يجب أن يرانا الناس على حقيقتنا؛ فإن ما تعلمه الشخصية فوق ما تمليه الإرادة. ويتصور الناس أنهم يظهرون فضائلهم ورذائلهم بالعمل العلني فقط، ولا يدركون أن الفضيلة والرذيلة ترسل الأنفاس في كل لحظة.
ولا بد أن يكون هناك اتفاق في الأعمال مهما تنوعت، حتى يكون كل منها صادقا وطبيعيا في ساعته؛ لأن الأفعال التي تصدر عن إرادة واحدة تتسق مهما بدت متباينة. وهذا التنوع لا يرى عن كثب أو على ارتفاع قليل من الفكر؛ فهناك اتجاه واحد يوحد بينها جميعا. إن رحلة أحسن السفن خط متعرج في مائة اتجاه. انظر إلى الخط من بعد كاف يستقم في متوسط اتجاهه. إن عملك الصادق يفسر نفسه، كما يفسر أعمالك الصادقة الأخرى، ولكن تبعيتك لا تفسر شيئا. اعمل بمفردك، وما عملته حتى الآن بمفردك يبررك الآن. إن العظمة تنظر إلى المستقبل. ولو استطعت أن أثبت اليوم ثبوتا كافيا على فعل الصواب، وازدريت الأعين، فلا بد أن أكون قد فعلت صوابا كثيرا فيما مضى أدفع به عن نفسي اليوم. ومهما يكن من شيء فعليك أن تفعل الصواب الآن. احتقر المظاهر دائما، وإنك لتستطيع ذلك دائما. إن قوة الشخصية قوة متجمعة . كل ما انقضى من أيام الفضيلة يفعل فعله الصحيح في ذلك. ما الذي يكسب أبطال مجلس الشيوخ وأبطال الميدان جلالهم الذي يملأ الخيال؟ هو الإحساس بسلسلة من الأيام العظيمة والانتصارات القديمة. إنها تلقي ضوءا متحدا على الرجل العامل الذي يتقدم الناس، وكأن حرسا ظاهرا من الملائكة يحدوه، وذلك هو ما يلقي الرعد في صوت تشاتهام، والكرامة في مسلك واشنجتن، وما يلقي بأمريكا في عين آدمز. الشرف مقدس لدينا؛ لأنه لا يتغير بتغير الأيام ولكنه فضيلة أزلية. نعبده اليوم؛ لأنه ليس ابن اليوم. نحبه ونقدم له الولاء؛ لأنه لا يكيد لحبنا وولائنا، ولكنه مستقل استقلالا ذاتيا، مشتق من نفسه، ولذا فهو من سلالة طاهرة قديمة، حتى إن اتصف به شخص صغير السن.
وإني لآمل أن تكون هذه الأيام آخر عهدنا بالتبعية والثبات. ولنسجل هاتين الكلمتين في الجريدة الرسمية ونهزأ بهما بعد الآن. دعنا نستمع إلى صفير المزمار الإسبرطي بدلا من الطبل الذي يدق إيذانا ببدء الغداء. دعنا لا ننحني ولا نعتذر بعد اليوم. إن رجلا عظيما قادم ليأكل في بيتي، فلست أود أن أسره، وإنما أود لو أراد سروري. سوف أقف هنا أمثل الإنسانية، وسوف أجعلها صادقة وإن جعلتها رفيقة. دعنا نعتب على ضعف عصرنا الشديد وقناعته الذليلة، ولنلق في وجه التقاليد والمهنة والعمل الذي تؤديه تلك الحقيقة التي هي مغزى التاريخ، وهي أن هناك مفكرا وعاملا عظيما مسئولا يعمل حيثما يعمل الإنسان، وأن الرجل الصادق لا ينتمي إلى زمان أو مكان آخر، وإنما هو مركز الأشياء. حينما يكون تكون الطبيعة، وهو الذي يقيسك ويقيس الناس والحوادث جميعا. إن كل فرد في المجتمع - عادة - يذكرنا بشيء آخر أو بشخص آخر، ولكن الشخصية، والواقع، لا تذكرك بشيء آخر. إنها تحل محل الخليقة كلها. ويجب أن يبلغ المرء هذا الحد كي يجعل الظروف كلها تافهة.
كل رجل حقيقي سبب، وقطر، وعصر . يحتاج إلى مساحات وإعداد ووقت لا ينتهي كي ينجز خطته كاملة، ويبدو أن الأجيال القادمة تتبع خطاه كرتل من الأتباع. يولد الرجل القيصر، وبعد ذلك بعدة عصور تكون لدينا الإمبراطورية الرومانية. ويولد مسيح، ثم تنمو ملايين العقول وتلتصق بعبقريته حتى تذهله الفضيلة وما يستطيعه الإنسان. المذهب هو الظل الممتد لرجل واحد، كالرهبانية فهي ظل الناسك أنتوني، والإصلاح الديني ظل لوثر، وطائفة الأصحاب ظل فوكس، والنظامية ظل وزلي، وإلغاء الرق ظل كلاركسون. ولقد سمى ملتن سكبيو «أوج روما». والتاريخ كله يرتد بأسره بسهولة جدا إلى سيرة أشخاص قلائل عظام جادين.
فليعرف الإنسان إذن قيمته، ويجعل الأشياء تحت قدميه. دعه لا يتطلع إلى غيره ولا يسرق ولا يتوارى هنا أو هناك وعليه مسحة الصبي يطلب الإحسان، أو ابن الزنا، أو المتطفل، في العالم الذي يوجد من أجله. ولكن رجل الشارع الذي لا يجد قيمة في نفسه توازن القوة التي شيدت برجا أو نحتت إلها من المرمر، يشعر بالفقر عندما ينظر إلى هذه الأشياء. والقصر أو التمثال أو الكتاب الثمين يبدو له غريبا ممتنعا، كالبضاعة الزاهية، وكأنها تقول له: «من أنت يا سيدي؟» ومع ذلك فكل أولئك له، يتطلب التفاته، ويلتمس من مواهبه أن تبرز لكي تملك. تأتمر الصورة بأمري ولا أأتمر بأمرها، وإنما علي أن أحكم على قيمتها. إن تلك القصة الشائقة التي تقول إن مدمنا من مدمني الخمور وجد مخمورا إلى حد الموت في الطريق، فحمل إلى بيت الدوق، ثم اغتسل وارتدى الملابس واستلقى في سرير الدوق، ولما استيقظ عومل بالاحتفال والخضوع كما يعامل الدوق، وألقي في روعه أنه كان في غير وعيه، هذه القصة تدين بشيوعها إلى أنها ترمز رمزا حسنا إلى حالة الإنسان الذي يكون في الدنيا كأنه مدمن خمر، ولكنه يصحو بين الفينة والفينة، ويمارس عقله، ويجد نفسه أميرا حقا.
إن قراءتنا ضعيفة منافقة. وفي التاريخ يخدعنا خيالنا؛ فالملك والسيادة، والنفوذ والضيعة، كلمات لها بريق ليس للفرد العادي جون أو إدوارد في البيت الصغير وعمل اليوم المألوف. ولكن حاجات الحياة هي بعينها لكليهما، والمجموع الكلي لكليهما هو عينه، فلماذا إذن كل هذه الرعاية لألفرد وسكاندربج وجستافس؟ هب أنهم كانوا فضلاء ، فهل تحلوا بفضيلتنا؟ إن خطرا عظيما يتوقف على عملك الخاص اليوم، كما كانت لخطواتهم العامة المشهورة خطورتها. عندما يعمل الأفراد بأفكار مبتكرة ينتقل البريق من أعمال الملوك إلى هؤلاء السادة من الأفراد.
لقد تعلمت الدنيا من ملوكها الذين جذبوا أعين الأمم. تعلمت الدنيا من هذا الرمز الضخم الاحترام المتبادل الذي يستحقه الإنسان من أخيه الإنسان. فكما أن الإخلاص الأعمى الذي حمله الناس في كل مكان للملك أو النبيل أو المالك العظيم، فسمحوا له أن يسير بينهم بقانون من وضعه، وأن يعمل للناس والأشياء مقياسا من عنده، ويقلب مقاييس غيره، ولا يدفع ثمنا للمنافع مالا وإنما يدفع شرفا، ويمثل القانون في شخصه، ذلك الإخلاص كان الرمز الهيروغليفي الذي تبين به الناس في شيء من الغموض ما لهم من حق وقيمة، فتبينوا حق كل إنسان.
إن الجاذبية التي يتصف بها كل عمل مبتكر يمكن تفسيرها عندما نبحث في علة الثقة بالنفس. من هو صاحب هذه الثقة؟ وما هي هذه النفس الأصيلة التي نعتمد عليها في كل شيء؟ وما طبيعة وما نفوذ ذلك النجم الذي حير العلم، والذي لا يتغير، والذي يخلو من العناصر التي يمكن حسابها، ذلك النجم الذي يرسل شعاعا من الجمال حتى إلى الأعمال التافهة الفاسدة، إن بدت عليها أقل علامة من علامات الاستقلال؟ إن البحث يهدينا إلى ذلك المنبع، الذي هو لب العقل، وجوهر الفضيلة والحياة في وقت واحد، الذي نسميه التلقائية أو الغريزة. إننا ندعو هذه الحكمة الأولى ب «البداهة»، في حين أننا نسمي كل ما عرفنا بعد ذلك ب «التعاليم». في تلك القوة العميقة - وهي القوة الحقيقية النهائية التي لا تخضع للتحليل - تجد كل الأشياء أصلها المشترك؛ لأن الإحساس بالوجود الذي يظهر في ساعات الهدوء في الروح بطريقة لا نعرفها، ذلك الإحساس لا يختلف عن الأشياء، أو المكان أو الضياء، أو الزمان، أو الإنسان، ولكنه يتحد مع هذه الأشياء، ومن الواضح أنه يخرج من المصدر عينه الذي خرجت منه الحياة والوجود. إننا في أول الأمر نشارك الأشياء حياتها التي توجد بها، ثم نراها بعد ذلك مظاهر في الطبيعة وننسى أننا قاسمناها علتها، هنا مصدر العمل والفكر. هنا الرئتان لذلك الإلهام الذي يهب الإنسان الحكمة، والذي لا يمكن إنكاره إلا مع الإلحاد والكفر أننا ننطوي تحت ذكاء عام نتقبل حقيقته، ولسنا سوى أعضاء لنشاطه. وحينما نتبين العدالة أو نتبين الصدق لا نعمل شيئا بأنفسنا، ولكنا نفسح السبيل لأشعته. فإن سألنا من أين يأتي هذا، وإن أردنا أن نمحص الروح التي كانت السبب، شطحت بنا الفلسفة عن الصواب. إن وجوده أو غيابه هو كل ما نستطيع أن نؤكده. وكل إنسان يميز بين أعمال عقله الإرادية ومدركاته اللاإرادية، ويعرف أن أعماله اللاإرادية جديرة بالإيمان الكامل. إنه قد يخطئ في التعبير عنها، ولكنه يعرف أن هذه الأشياء هي كذلك، كالليل والنهار، لا جدال فيها. إن تحصيلي وأعمالي المقصودة ليست إلا عابرة. إن أسخف الأحلام، وأضعف العواطف الطبيعية، تستحق مني البحث والتقدير. ولكن الذين لا يفكرون يناقضون ما تقرره الحواس كما يناقضون ما تقرره الآراء، بل هم أقرب إلى مناقضة ما تقرره الحواس؛ ذلك لأنهم لا يفرقون بين الحس والرأي. إنهم يتوهمون أنني أختار رؤية هذا الشيء أو ذاك. بيد أن الحس لا يخضع للأهواء، وإنما هو حتمي. إن أنا رأيت خاصة من الخواص، رآها أطفالي من بعدي، ثم رآها الناس جميعا بمرور الزمن، حتى إن حدث أن أحدا لم ير تلك الخاصة من قبلي؛ ذلك لأن إحساسي بها حقيقة واقعة كالشمس.
إن العلاقات بين روح الإنسان والروح المقدس مباشرة، وحرام علينا أن نقيم بينهما الوسائط. إن الله عندما يتكلم لا يتصل بشيء واحد، إنما يتصل بجميع الأشياء. إنه يملأ الدنيا بصوته، وينشر النور في الطبيعة والزمان والأرواح من مركز الفكرة الراهنة، ويعيد تاريخ كل شيء ويعيد خلق كل شيء. وعندما يكون العقل ساذجا، ويتقبل الحكمة الإلهية، تزول الأشياء القديمة ، فتسقط الوسائل والمعلمون والنصوص والمعابد؛ فهو يعيش الآن ويتشبع بالماضي والمستقبل في الساعة الراهنة، ويصبح كل شيء مقدسا باتصاله به، لا فرق بين شيء وشيء. كل الأشياء تعود إلى مركزها بعلتها، كما تختفي المعجزات الصغيرة الخاصة في زحمة المعجزة المطلقة. ولذا فإذا زعم إنسان أنه يعرف الله ويتكلم عنه، ويعود بك إلى مصطلحات أمة قديمة بالية في بلد آخر، أو في عالم آخر، فلا تصدقه. هل بذرة البلوط خير من شجرة البلوط، والشجرة هي كمال البذرة وتمامها؟ وهل الوالد خير من الطفل الذي أودعه كيانه الناضج. من أين إذن جاءت هذه العبادة للماضي؟ إن القرون تتآمر ضد صحة الروح وسلطانها. وليس المكان والزمان سوى ألوان فيزيقية تخلقها العين، ولكن الروح ضياء، حيث تكون يكون النهار، وحيث كانت يكون الليل. وليس التاريخ إلا سفاهة وأذى إذا زاد على أن يكون قصة وجودي ومصيري أو مغزاهما.
الإنسان جبان يلتمس المعاذير. إنه لم يعد مستقيما، ولا يجرؤ أن يقول «إني أفكر» أو «أنا أكون»، وإنما يعيد ما قاله قديس أو حكيم معين، إنه يخجل أمام ورقة العشب أو الزهرة اليانعة. وهذه الورود تحت نافذتي لا تشير إلى ورود سابقة أو إلى ورود أحسن منها، إنما هي كما هي ليس لها زمان. هناك الوردة فقط، وهي كاملة في كل لحظة من لحظات وجودها. وقبل أن تتفتح الأكمام تكون حياتها كلها دائبة في حركة، لا تزيد شيئا عندما تصبح زهرة يانعة، ولا ينقص عنها في شيء الجذر الذي لا ورق له. طبيعتها مكتفية بذاتها، وهي تكفي الطبيعة، في كل لحظة على السواء. ولكن الإنسان ينظر إلى المستقبل أو يتذكر الماضي، لا يعيش في الحاضر، ولكنه بعين مرتدة يبكي الماضي، أو لا يلتفت إلى الكنوز التي تتحوطه، فيقف على أطراف أصابعه كي يتنبأ بالمستقبل. إنه لا يستطيع أن يكون سعيدا قويا حتى يعيش هو كذلك مع الطبيعة في الحاضر، فوق الزمان.
يجب أن يكون ذلك واضحا وضوحا كافيا. ولكن انظر إلى العقول القوية تجد أنها لم تجرؤ بعد على الإصغاء إلى الله نفسه، إلا إذا تكلم بألفاظ داود وأرميا وبولس وغيرهم. يجب ألا نقيم دائما وزنا كبيرا لنصوص قليلة أو حيوات قليلة. نحن كالأطفال الذين يرددون من الذاكرة عبارات العجائز والمربين، كما يرددون كذلك عندما يكبرون عبارات ذوي المواهب والشخصيات الذين يقابلونهم مصادفة، ويجهدون أنفسهم لكي يذكروا الكلمات بعينها التي تفوهوا بها، وبعد ذلك، عندما يصلون إلى وجهة النظر التي كانت لدى أولئك الذين صدرت عنهم هذه الأقوال يفهمونهم، ويرغبون في اختفاء الكلمات؛ لأنهم يستطيعون في أي وقت أن يستخدموا ألفاظا مثلها عندما تحين المناسبة. إذا عشنا عيشة صادقة، شهدنا مشاهدة صادقة. ومن اليسير على الرجل القوي أن يكون قويا، كما أنه من اليسير على الضعيف أن يكون ضعيفا. وعندما ندرك شيئا جديرا يسرنا أن نخفف عن الذاكرة عبء الكنوز المكدسة كأنها نفايات عتيقة. وعندما يعيش الإنسان مع الله يصبح صوته عذبا كخرير الغدير وحفيف نبات القمح.
وأخيرا بقيت الحقيقة العليا في هذا الموضوع دون ذكر، وربما لا نستطيع ذكرها؛ لأن كل ما نقوله إن هو إلا تذكر من بعيد للفطرة الأولى. تلك الحقيقة - في أيسر أسلوب لدي الآن للتعبير عنها - هي هذه: حينما يكون الخير قريبا منك، وحينما تدب فيك الحياة، فإن ذلك لا يكون بطريقة معروفة أو مألوفة، فإنك لن تتبين مواقع خطى شخص آخر، ولن ترى وجه إنسان، ولن تسمع أي اسم، وإنما طريقك وفكرتك وما لديك من خير كله جديد مستحدث. إنك في ذلك تستبعد ما سبق من مثال وخبرة، وتسير بعيدا عن الإنسان، ولا تقترب منه. كل إنسان عاش فيما مضى قسيس بشر بفكرتك وغاب عن ذكرك. وهي فكرة لا تعبأ بخوف أو أمل؛ لأن هناك شيئا من الوضاعة حتى في الأمل. وفي ساعة الرؤيا، ليس هناك ما يمكن أن نسميه الاعتراف بالجميل، أو أن نسميه بالسرور ونحن صادقون. إن الروح عندما تعلو العاطفة ترى تماثل الأشياء، وترى العلة الخالدة، وتدرك البقاء الذاتي للحقيقة والصواب، وتهدئ نفسها بمعرفتها أن الأشياء جميعا تسير سيرا حسنا؛ فالمساحات الشاسعة من الطبيعة، والمحيط الأطلنطي، والبحر الجنوبي - والفترات الطويلة من الوقت، والسنين والقرون - ليست بذات بال. وهذا الذي أفكر فيه وأحسه كان يكمن تحت كل حالة سابقة من حالات الحياة والحوادث، كما هو كامن تحت حاضري، وما نسميه الحياة وما نسميه الموت.
الحياة وحدها تجدي، ولا يجدي ما عشناه فيما سبق. والقوة تزول ساعة السكون، وتوجد في لحظة الانتقال من ماض إلى حالة جديدة، وفي انطلاق الماء من الخليج، وفي تصويب السهام نحو الهدف. وهذه الحقيقة الواحدة تمقتها الدنيا، وهي أن الروح «تصير»؛ لأن ذلك يحط من شأن الماضي دائما، ويحيل كل الكنوز إلى فقر، وكل سمعة طيبة إلى عار، ويخلط بين القديس والوغد، ويلقي بيسوع ويهوذا جانبا على السواء. فلماذا إذن نلغط بالاعتماد على النفس؟ بمقدار ما تكون الروح حاضرة، تكون هناك قوة عاملة وإن تكن خفية. إن الكلام عن الاعتماد ليس سوى طريقة ضعيفة سطحية للكلام. وإنما يجب أن تتكلم عن ذلك الذي يعتمد لأنه يعمل ولأنه كائن. من يركن إلى نفسه أكثر مما أفعل يسيطر علي حتى إذا لم يرفع إصبعه. ولا بد لي أن أدور حوله بجاذبية الأرواح. إننا عندما نتكلم من علو الفضيلة نتوهم أن ذلك من فصاحة اللسان. فنحن لم ندرك بعد أن الفضيلة «علو»، وأن الرجل - أو مجموعة الرجال - إذا استكان ورضخ للمبادئ العليا، وجب - وفقا لقوانين الطبيعة - أن يتسلط وأن يسيطر على جميع المدائن والأمم والملوك والأغنياء والشعراء، الذين لم يستكينوا كما استكان.
هذه هي الحقيقة القصوى التي سرعان ما ندركها في هذا الموضوع، كما ندركها في غيره من الموضوعات، وهي: ذوبان كل شيء في «الواحد» المبارك دائما؛ فالوجود الذاتي هو صفة «العلة العليا»، ومن هذا الوجود الذاتي يتألف مقياس الخير بمقدار تغلغله في جميع الصور الدنيا. والأشياء حقيقية بمقدار ما فيها من هذه الصفة. والتجارة والزراعة والقنص وصيد الحوت، والحرب والفصاحة، وقيمة الفرد، هي شيء ما، وتظفر بتقديري كأمثلة لوجود هذه الصفة وأثرها غير المباشر. وإني لأرى القانون عينه يعمل في الطبيعة للبقاء والنمو. القوة في الطبيعة مقياس للحق لا مفر منه. والطبيعة لا تسمح لشيء أن يبقى في ممالكها إذا كان لا يعتمد على نفسه. ونوع الكوكب وقوته، وموضعه ومداره، والشجرة المنحنية التي تسترد استقامتها بعد هبوب الريح العاتية، والموارد الحيوية لكل حيوان وكل خضرة، كل أولئك دليل على الروح التي تكفي ذاتها فتعتمد على نفسها.
وهكذا يتركز كل شيء. دعنا لا نتجول، ولنقبع في دورنا مع العلة الأولى. دعنا نذهل وندهش أولئك الغوغاء من الناس والكتب والنظم بإعلان بسيط للحقيقة المقدسة. مر الغزاة أن يخلعوا نعالهم لأن الله هنا في دخيلة أنفسنا. ولتحكم عليهم بساطتنا، وليبين انصياعنا لقانون أنفسنا فقر الطبيعة وكل ما يصيب الإنسان إذا قيس إلى ثروتنا الأصيلة فينا.
ولكننا اليوم رعاع. لا يقيم الإنسان لإنسانية وزنا، ولم يتعلم أن يلزم داره كي يتصل بمحيطه الداخلي، ولكنه يرحل إلى الخارج، يطلب كأسا من الماء من أوعية الآخرين. يجب أن نسير وحدنا. وإني لأحب الكنيسة صامتة قبل أن تبدأ الصلاة أكثر مما أحب الوعظ أيا كان. كيف يبدو الأشخاص بعيدين باردين طاهرين، كل منهم تحوطه رحبة أو معبد. ولذا فلنقعد دائما. لماذا نحمل وزر الصديق والزوجة والوالد والولد؟ ألأنهم يجلسون حول موقدنا، أو لأنه يقال إن في عروقهم نفس دمائنا؟ الناس جميعا في عروقهم دمائي، ودماؤهم جميعا في عروقي. ولن أحمل نزق حماقتهم من أجل ذلك، حتى أبلغ حد الخجل. بيد أن عزلتك ينبغي ألا تكون آلية، بل روحية، أي ينبغي أن تكون سموا. إن الدنيا بأسرها أحيانا تتآمر على أن تشغلك بتوافه ليس لك عنها من محيص. يطرق باب غرفتك الصديق والعميل والطفل والمرض والخوف والحاجة والإحسان في وقت واحد وتقول: «اخرج إلينا.» عندئذ الزم حالتك ولا تخرج إلى ما يضطربون فيه. إن القوة التي يملكها الناس لمضايقتي إنما أعطيهم إياها بضعف في نفسي، هو حب التطلع. لا يستطيع أحد أن يقترب مني إلا عن طريق ما أعمل: «إننا نملك ما نحب، ولكننا بالاشتهاء نحرم أنفسنا من الحب.»
إذا لم نستطع في الحال أن نرتفع إلى قدس الخضوع والإيمان فلا أقل من أن نقاوم ما يغرينا، ولنعلن الجهاد، ونوقظ الشجاعة والثبات في صدورنا السكسونية. نؤدي ذلك في أوقاتنا الرخية بقولنا الصدق. ولنكف عن الجود الزائف والحب الكاذب. دعنا لا نعيش بعد اليوم كما يتوقع هؤلاء القوم الخادعون المخدوعون الذين نتحدث إليهم. قل لهم: أبي، وأمي، وزوجي، وأخي، وصاحبي، لقد عشت معكم وراء الظواهر حتى اليوم، ولكني منذ الآن ملك للحقيقة. ولتعلموا أني منذ اليوم لن أطيع قانونا سوى القانون الأبدي. لن أخضع لما تقولون، ولكن لما تمليه علي نفسي، سوف أحاول أن أطعم والدي، وأن أعول أسرتي، وأن أكون الزوج الطاهر لزوجة واحدة، ولكن هذه العلاقات لا بد أن أؤديها بطريقة جديدة لم يسبقني إليها أحد. إني أبتعد عن عاداتكم، ولا بد أن أكون نفسي. لن أستطيع بعد اليوم أن أحطم نفسي من أجلكم، ولن تستطيعوا ذلك. إذا أمكنكم أن تحبوني على حالي كنا أسعد حالا، وإذا لم يمكنكم ذلك فسوف أعمل على أن أستحق منكم ذلك. لن أخفي ما أميل إليه وما أعزف عنه، وسوف أثق بأن كل ما يختفي في أعماق الفؤاد مقدس. وسأؤدي بقوة أمام الشمس والقمر أي شيء يسرني في دخيلة نفسي أو يمليه قلبي. إن كنتم نبلاء أحببتكم، وإن لم تكونوا لن أوذيكم وأوذي نفسي برعايتي إياكم نفاقا. وإن كنتم صادقين، ولكنكم لستم معي فيما أصدق، فتمسكوا برفاقكم، وسوف أبحث عن رفاقي، وإني لا أفعل ذلك عن أنانية، ولكني أفعله متواضعا صادقا. وإنه ليهمكم كما يهمني ويهم الناس جميعا - مهما طال انغماسنا في الأكاذيب - أن نعيش في الصدق. هل يبدو هذا اليوم صارما؟ سرعان ما تحبون مثلي ما تمليه عليكم طبائعكم. وإذا نحن تابعنا الصدق فسوف ينقذنا في النهاية، ولكنكم ربما سببتم بذلك للأصدقاء آلاما. أجل، ولكني لا أستطيع أن أبيع حريتي ونفوذي لكي أنقذ إحساسهم. ثم إن الناس جميعا لهم لحظات يتعقلون فيها، وذلك عندما يتطلعون إلى دولة الحق المطلق. إنهم حينئذ يبرروني ويفعلون مثلما أفعل.
تظن العامة أنك حين تنبذ المعايير العامة تنبذ كل المعايير، وتعصي القواعد الخلقية لمجرد العصيان. ويستخدم الشهواني الجريء اسم الفلسفة ليكسو جرائمه بالذهب. ولكن قانون الوعي قائم. وهناك كرسيان للاعتراف، يجب أن نقبل الاعتراف في أحدهما. فإما أن تؤدي ما عليك من واجبات بتخليص نفسك بطريق مباشر أو بطريق الانعكاس، فقد يهمك أن يرضى عنك أبوك وأمك وابن عمك وجارك وبلدك وقطتك وكلبك، وألا يوجه إليك أحد من هؤلاء لوما. ولكني أستطيع كذلك أن أهمل هذا المعيار المعكوس وأرضي ضميري أمام نفسي، وأجعل مطالبي مستقلة ودائرتي كاملة. هذه النفس المستقلة تنكر اسم الواجب لكثير من الأعمال التي تسمى واجبات، وإن استطعت أن أدفع ديونها مكنتني من الاستغناء عن القانون العام. وعلى من يتصور أن في هذا القانون تراخيا أن يخضع له يوما واحدا.
إن من ينبذ الدوافع العامة للإنسانية ويجرؤ على الثقة العامة فيما تمليه عليه نفسه لا بد له أن يتميز ببعض صفات الآلهة. ولكي يكون المرء لنفسه حقا مذهبا ومجتمعا وقانونا، ولكي يكون الغرض اليسير له قويا قوة الحاجة الماسة عند غيره، لا بد أن يكون قلبه كبيرا، وإرادته صادقة وبصره صافيا.
لو أن أي إنسان فكر في الصفات الحالية لما نسميه على وجه الدقة ب «المجتمع» لأدرك الحاجة إلى هذه القوانين الخلقية. ويبدو أن أعصاب الإنسان وقلبه قد تراخت وأصبحنا بكائين هيابين يائسين. إننا نخشى الحق، ونخشى القدر ونخشى الموت، ويخشى بعضنا بعضا. وعصرنا لم يتمخض عن شخصيات عظيمة كاملة. نريد رجالا ونساء يجددون الحياة ويجددون حالتنا الاجتماعية، ولكنا نجد أن أكثر الطبائع مفلسة، لا تستطيع أن تسد حاجة نفسها، لها مطامع لا تتناسب البتة وقوتها العملية، وتلين وتتسول ليلا ونهارا بغير انقطاع. إن تدبيرنا المنزلي ضعيف، وفنوننا، وأعمالنا، وزواجنا، وديننا، لم نختره لأنفسنا، وإنما اختاره لنا المجتمع. إنما نحن جنود في غرفة الاستقبال، نتحاشى معركة القدر الحامية التي تتولد فيها القوة.
إذا فشل شبابنا في مشروعاته الأولى فقد كل شجاعته. وإذا خاب التاجر الناشئ قال الناس عنه إنه «أفلس». وإذا درس أبرع النابغين في إحدى جامعاتنا، ولم يعين في وظيفة بعد عام واحد في مدينتي بوسطن ونيويورك أو ضواحيهما، بدا لأصحابه وبدا له أنه على حق في يأسه وفي شكواه بقية حياته. إن الصبي القوي من نيوهامبشير أو فرمنت الذي يحاول جميع المهن بالدور يرعى، ويفلح، ويطوف بالبيع، ويدير مدرسة، ويعظم، ويحرر في صحيفة، ويذهب إلى الكنجرس، ويشتري أرضا في المدينة، وما إلى ذلك، في سنوات متتالية، ويقع دائما كالقطة على قدميه، يساوي مائة من دمى المدن هؤلاء. إنه يسير قدما مع أيامه ولا يشعر بالخجل لأنه لم «يدرس مهنة ما»؛ لأنه لا يرجئ حياته، وإنما يحياها فعلا. ليست لديه فرصة واحدة، بل أمامه مائة فرصة. ينبغي على الرواقي أن يدرك مواهب الإنسان، وأن يبلغ الناس أنهم ليسوا كشجر الصفصاف الذي يميل مع الريح، ولكنهم يستطيعون - بل وينبغي لهم - أن يستقلوا بأنفسهم، وليعلمهم أنهم إن وثقوا بأنفسهم ظهرت لهم قوى جديدة، وأن الإنسان هو الكلمة قد تجسدت، ولد لينشر الشفاء بين الأمم، ويجب أن يخجل من رحمتنا به، وليعلم أنه في اللحظة التي يعمل فيها بوازع من نفسه، ويلقي بالقوانين والكتب والأوثان والعادات من النافذة، لا نشفق عليه، بل نقدره ونحترمه - من يعلمنا ذلك يضفي على حياة الإنسان سناء وبهاء، ويرفع ذكره في جميع صفحات التاريخ.
ومن اليسير أن نرى أن مزيدا من الثقة بالنفس لا بد أن يحدث انقلابا في جميع وظائف الناس وعلاقاتهم، في ديانتهم، وفي تربيتهم، وفي أهدافهم، وأساليب عيشهم، واجتماعهم، وفي امتلاكهم، وفي آرائهم التي يتدبرون:
أي الصلوات يسمح الناس لأنفسهم بها! إن ما يسميه الناس وظيفة مقدسة ليس فيه من الشجاعة والرجولة بمقدار ما فيه من القداسة. إن دعاءنا عجيب، نلتمس فيه الزيادة فيما نملك عن طريق فضيلة غريبة عنا، وهو يضل في متاهات لا نهاية لها مما هو طبيعي وما هو غير طبيعي، وما هو وسيط وما هو معجز. إن الدعاء الذي نطلب فيه سلعة خاصة - ولا نتطلب الخير خالصا - دعاء مرذول. إنما الصلاة هي تأمل حقائق الحياة من أعلى وجهة من وجهات النظر. هي مناجاة النفس المبصرة المنشرحة. هي روح الله تعلن أن أعماله طيبة. ولكن الصلاة كوسيلة لتحقيق غرض خاص، صناعة وسرقة، إنها تفرض في الطبيعة والوعي الثنائية بدلا من الوحدة. إن الإنسان إذا اتحد مع الله لا يتسول. إنه عندئذ يرى الصلاة في كل عمل. إن صلاة الفلاح راكعا في حقله يشذبه، وصلاة صاحب الزورق جاثيا يضرب بمجدافه صلوات صادقة تصغي إليها الطبيعة بأسرها، وإن تكن لأغراض رخيصة. في «بندوكا» لفلتشر يجيب «كاراتاش» عندما نصح بالبحث في عقل الإله «أوديت»:
إن معانيه الخفية تكمن في محاولاتنا،
وأعمالنا الباسلة خير آلهتنا.
والندم نوع آخر من الصلاة الزائفة؛ فالضجر نقص في الاعتماد على النفس، وعجز في الإرادة. اندم على الكوارث إن كنت بهذا الندم تعين من يكابدها. وإلا فباشر عملك وسوف يشرع الشر في إصلاح ذاته. وعطفنا لا يقل عن الندم وضاعة. إننا نتوجه إلى أولئك الذين يبكون غافلين، ونجلس إلى جوارهم، وننادي بصحبتهم، وذلك بدلا من أن نعرفهم بالحق والصواب ونصدمهم صدمات كهربية عنيفة، كي نردهم ثانية إلى الاتصال بعقولهم. إن سر ما يصيب الإنسان من خير هو الابتهاج بما بين يديه. والرجل الذي يعين نفسه ترحب به الآلهة والناس في كل حين. تتفتح له الأبواب، وتحييه الألسنة جميعا، ويتوجه الشرف، وتتبعه الأعين كلها في شغف. نهبه حبنا ونطوقه به، لأنه لم يحتج إليه. ونلاطفه ونحفل به في اهتمام واعتذار؛ لأنه ثبت على طريقته واستهان باستنكارنا لها. تحبه الآلهة لأن الناس قد كرهوه. قال زرادشت: «إن الآلهة المباركة تخف إلى الإنسان المثابر.»
وكما أن صلوات الناس مرض في الإرادة، فكذلك عقائدهم مرض في العقل. إنهم يقولون مع أولئك الإسرائيليين الحمقى: «لا تدع الله يتحدث إلينا خشية أن نموت، بل تكلم أنت أو ليكلمنا أي إنسان نطعه.» في كل مكان أجد عقبة في سبيل لقاء الله في نفس أخي؛ لأنه أغلق أبواب معبده، واكتفى بتلاوة حكايات إله أخيه، أو إله أخي أخيه. كل عقل جديد نوع جديد. إن ثبت أنه عقل له نشاط وقوة غير عادية، كعقل لوك أو لافوازييه أوهتن أو بنتام أو فورييه فإنه يفرض نوعه على غيره من الناس، ثم انظر فإذا نظام جديد! وإن اطمئنان الطالب يتناسب وعمق تفكيره، وبالتالي يتناسب وعدد الأشياء التي يمسها هذا التفكير ويجعلها في متناوله. ويظهر هذا خاصة في المذاهب والكنائس المتنوعة، وهي كذلك ضروب من عقل قوي يعمل وفقا لفكرة الواجب الأولية، وعلاقة الإنسان بربه. هكذا كانت الكلفنية والكويكريه ومذهب سودنبرج. إن التلميذ يسر لإخضاع كل شيء للمصطلحات الجديدة، كالفتاة التي تعلمت علم النبات حديثا عندما ترى تربة جديدة وفصولا زراعية جديدة تتفق وما تعلمت. وقد يحدث لفترة ما أن يجد الطالب أن قواه العقلية قد نمت بدراسة عقل أستاذه. ولكن العقول غير المتزنة تعبد الفرع عبادة الأوثان، وتجعله هدفا في ذاته، ولا تجعله وسيلة سريعة الزوال، بحيث تندمج في أعينهم - في الأفق البعيد - حدود النظام الجديد في حدود العالم بأسره، بل تبدو لهم الأجسام المضيئة في السماء معلقة على البناء الذي شيده أستاذهم. أصحاب هذه العقول الناقصة لا يستطيعون أن يتصوروا كيف يكون لكم أنتم أيها الأغراب أي حق في المشاهدة، أو كيف تستطيعون الرؤيا: «لا بد أن تكونوا قد اختلستم النور منا بطريقة ما.» إنهم لم يدركوا بعد أن النور لا يسير على نسق واحد ولا يمكن إخضاعه؛ فهو يسطو على أي كوخ حتى على كوخهم. هلا ابتهجت نفوس هؤلاء القوم مرة ورأت أن النور نورها! إنهم إن أخلصوا وحسنت أعمالهم ضاقت حظيرتهم المحدودة الجديدة في الحال، وانخفضت، وتشققت، ومالت، وانهارت ثم اختفت، وأشرق على الدنيا ضياء خالد كذلك الذي يشرق في أول الصباح، قوي بهيج، متعدد الأفلاك، مختلف الألوان.
إن خرافة السفر التي تقدس الرحلة إلى إيطاليا وإنجلترا ومصر تستمد جاذبيتها لجميع الأمريكيين المهذبين من نقص ثقافتهم الذاتية. إن أولئك الذين جعلوا بلادهم - إنجلترا وإيطاليا واليونان - مقدسة في الخيال، إنما فعلوا ذلك بثباتهم في أمكنتهم كمحور الأرض. وإننا في ساعات الرجولة نحس أن واجبنا أن نثبت في مكاننا. الروح لا تسافر، والرجل العاقل يبقى في بيته، وعندما تستدعيه ضروراته وواجباته في أية مناسبة إلى مغادرة بيته أو إلى ارتياد بلاد أجنبية، فإنه برغم ذلك يكون في بيته، ويجعل الناس يحسون بما يبدو على ملامحه من تعبير أنه إنما جاء ليبشر بالحكمة والفضيلة، وأنه يزور المدائن والرجال كما يزورها السيد لا كما يزورها المتطفل أو التابع.
ليس عندي اعتراض سخيف على الطواف بالكرة الأرضية، في سبيل الفن والدراسة وفعل الخير، إن كان المرء يتوطن أولا، ولا يرحل إلى الخارج آملا أن يجد شيئا أعظم مما يعرف. من يرحل للتسلية، أو لكي يظفر بشيء لا يحمله بين جنبيه إنما يرحل بعيدا عن نفسه، ويشيخ حتى في شبابه بين الأشياء العتيقة. إن إرادته وعقله تشيخ وتتحطم في طيبة وبلميرا، مثلهما. إنه يضم أطلالا إلى أطلال.
الأسفار جنة «العبيط». ورحلاتنا الأولى تبين لنا ما بين الأماكن من تشابه. إنني في وطن أتخيل أن جمال نابلي وروما يمكن أن يخدرني وينسيني أحزاني. فأحزم متاعي، وأعانق أصدقائي، وأقلع في البحر، وأستيقظ أخيرا في نابلي، وهناك إلى جواري أجد الحقيقة الصارمة، أجد نفسي الحزينة، التي فررت منها، هي هي لم تذعن ولم ترضخ. إنني أقصد الفاتيكان والقصور. وأتظاهر بأني أثمل بالمناظر وما تثيره، ولكني لست كذلك، فإن ماردي يرافقني أنى ذهبت.
بيد أن سورة السفر ليست إلا عرضا لاختلال أبعد مدى يؤثر في الأعمال العقلية جميعا؛ فالذهن متشرد، ونظامنا في التعليم يربي القلق. ترحل عقولنا حينما تضطر أجسامنا إلى البقاء في الدار. إننا نقلد، وليس التقليد سوى رحلة من رحلات العقل. ونبني بيوتنا بذوق أجنبي، ونزين رفوفنا بأدوات الزينة الغريبة عنا. وآراؤنا، وأذواقنا، وكفاياتنا، تخضع، وتتبع الماضي والبعيد. لقد أبدعت الروح الفنون حيثما ترعرعت هذه الفنون. ولم يبحث الفنان عن نموذجه إلا في عقله. كان يطبق فكره على الشيء الذي يصنعه والشروط التي يراعيها . وما حاجتنا إلى تقليد النموذج الدوري أو الغوطي؟ إن الجمال وراحة الفكر وعظمته وغرابة التعبير قريبة منا قربها من أي إنسان آخر . وإذا درس الفنان الأمريكي - يحدوه الأمل والحب - الشيء الذي يريد صنعه تماما، وأخذ في اعتباره المناخ والتربة وطول النهار وحاجات الناس وتقاليد الحكومة وشكلها؛ لأنشأ بيتا تجد فيه هذه الأشياء كلها لنفسها مكانا ملائما لها ويرضى به كذلك الذوق والعاطفة.
اعتمد على نفسك، ولا تقلد مطلقا. إنك تستطيع في كل لحظة أن تمد موهبتك بالقوى المتجمعة من ثقافة حياة بأسرها، ولكن ذكاء غيرك الذي تستعيره لا تملك إلا نصفه امتلاكا مزعزع الأصول. إن ذلك الذي يستطيع الفرد أن يتقنه أكثر من إتقانه أي شيء سواه لا يستطيع أن يعلمه إياه إلا بارئه. لا يعرف أحد ما هو، ولا يستطيع أن يعرف، حتى يعرضه صاحبه. أين ذلك الأستاذ الذي كان يستطيع أن يعلم شكسبير؟ وأين الأستاذ الذي كان يمكنه أن يعلم فرانكلن أو واشنطن أو بيكون أو نيوتن؟ كل رجل عظيم فريد في نوعه. إن آراء سكبيو الخاصة هي ذلك الجانب بعينه الذي لم يكن يستطيع استعارته. وإنك لن تخلق شكسبير بدراسة شكسبير. إن أنت فعلت ما عين لك لم تكن مغاليا في أملك أو في إقدامك. لك في هذه اللحظة رسالة جريئة عظيمة كرسالة إزميل فدياس الضخم أو مسطار المصريين، أو قلم موسى أو دانتي، ولكنها تختلف عن كل هؤلاء. إن الروح الفنية الفصيحة ذات اللسان الذي له ألف شق، لا يمكن أن ترضى بتكرار نفسها. ولكنك لو استطعت أن تصغي إلى ما يقوله هؤلاء الشيوخ أمكنك بالتأكيد أن تجيب عليهم بصوت مرتفع كصوتهم؛ لأن الأذن واللسان عضوان من طبيعة واحدة. الزم دائرة حياتك الساذجة النبيلة، وأطع قلبك، تستعد الدنيا القديمة مرة أخرى.
وكما أن ديانتنا وتربيتنا وفنوننا تبدو غريبة عنا، فكذلك روح الجماعة عندنا. كل الناس يفخرون بارتقاء المجتمع، ولا يرتقي منهم أحد.
إن الجماعة لا تتقدم مطلقا. إنما هي تتراجع في جانب بمقدار ما تكتسب في جانب آخر. إنها تتعرض لتغير مستمر؛ فهي وحشية، ومتحضرة، ومسيحية، وغنية، وعلمية. ولكن هذا التغير ليس تقدما، إنما يؤخذ منها بمقدار ما تعطى. تكتسب الجماعة فنونا جديدة، وتفقد غرائز قديمة. ما أشد التباين بين الأمريكي المهندم اللباس، القارئ، الكاتب، المفكر، ومعه ساعته وقلمه وقائمة الحساب في جيبه، وبين الرجل العاري من نيوزيلاند، الذي لا يملك سوى العصا والرمح والحصير، وجزءا من عشرين لا يقبل التجزئة في حظيرة ينام تحتها! ولكن وازن بين صحة الرجلين، تجد أن الرجل الأبيض قد فقد قوته الأصيلة، وإن صدق ما يروي الرحالة فإنك إن ضربت المتوحش بفأس عريضة التأم لحمه بعد يوم أو يومين وتم شفاؤه كأنك ضربت ضربتك في قار لين. في حين أن الضربة عينها تقذف بالرجل الأبيض إلى قبره.
أنشأ الرجل الأبيض العربة، ولكنه فقد استخدام قدميه. تسنده عكازته، ولكنه يفتقر إلى مثل هذا السند من عضلاته. لديه ساعة جميلة من جنيف، ولكن تنقصه مهارة معرفة الوقت بالشمس. ولديه تقويم بحري من جرينتش، ولذا فإن رجل الشارع لا يعرف نجما في السماء؛ لأنه قمين ببلوغ المعرفة كلما أراد. إنه لا يرصد الانقلاب الشمسي، ولا يعرف عن الاعتدالين إلا قليلا. وليس للتقويم المشرق السنوي في ذهنه مزولة. مذكراته تضعف ذاكرته، ومكتباته تبهظ ذكاءه. ومكتب التأمين يزيد من عدد الحوادث، وأشك في أن الآلة معطلة، وأننا فقدنا بالتهذيب شيئا من النشاط، وبالمسيحية المستغرقة في المؤسسات والصيغ شيئا من قوة الفضيلة الطبيعية؛ لأن كل رواقي كان رواقيا، ولكن أين المسيحي في العالم المسيحي؟
لم يحدث تغير في مستوى الأخلاق أكثر مما حدث في مستوى الطول أو حجم الجسم. ولا يوجد اليوم رجال أعظم ممن وجدوا في أي عهد سبق. ويمكن أن تلاحظ المساواة التامة بين عظماء العصور الأولى وعظماء العصور المتأخرة. ولا تستطيع جميع العلوم والفنون والديانات وفلسفة القرن التاسع عشر أن تجدي في تربية رجال أعظم من أبطال فلوطارخس الذين عاشوا منذ ثلاثة أو أربعة وعشرين قرنا. ولم يتقدم الجنس البشري مع تقدم الزمان . وفوكيون وسقراط وأنكساجوراس وديجونيس رجال عظماء، ولكنهم لم يخلفوا طبقة معينة. من يكن حقا من طبقتهم لا يتسمى باسمهم، وإنما يكون رجلا معينا، ومؤسسا بدوره لطائفة من الطوائف. إن فنون كل عصر ومخترعاته هي رداء العصر فقط، لا تمد الناس بالقوة. والضرر من تحسين الآلة قد يعادل الفائدة منها. إن هدسن وبهرنج قد أنجزا عملا ضخما في زوارق الصيد أذهلا به باري وفرانكلن اللذين استنفد إعدادهما موارد العلم والفن. كما أن غاليليو بمنظاره المسرحي قد كشف عن مجموعة من الظواهر السماوية أفخر مما كشف أي إنسان حتى اليوم. وكشف كولمبس العالم الجديد في سفينة مسطحة. وإنك لتعجب لو عرفت أن الوسائل والآلات التي تقابل عند اختراعها بالتهليل والتمجيد يبطل استعمالها وتموت بعد فترة لا تتجاوز بضع سنوات أو بضعة قرون. وإنما العبقرية العظمى مردها إلى الإنسان الذي لا مناص منه. كنا نعد تقدم فنون الحرب من انتصارات العلم، ومع ذلك فإن نابليون قد هزم أوروبا بإقامة جيشه في العراء من غير خيام، وهي طريقة تتوقف على الشجاعة المجردة التي تخلو من كل معين. يقول لاس كاساس إن الإمبراطور كان يعتقد أنه من المستحيل أن يكون جيشا كاملا «دون إلغاء أسلحتنا ومستودعات الذخيرة ورؤساء المؤن والعربات، فيتسلم الجندي نصيبه من القمح - جريا على عادة الرومان - ويطحنه بطاحونته اليدوية، ويخبز خبزه بنفسه.»
المجتمع موجة، والموجة تسير إلى الأمام، ولكن الماء الذي تتكون منه لا يتحرك. وذرة الماء عينها لا ترتفع من الأخدود إلى القمة، إنما وحدتها ظاهرية فقط. والأشخاص الذين تتألف منهم اليوم أمة من الأمم، يموتون في عام مقبل، وتموت معهم تجاربهم.
ومن ثم فإن الاعتماد على الملك، الذي يتضمن الاعتماد على الحكومات التي تحميه، نقص في الاعتماد على النفس. إن الناس قد صرفوا أبصارهم عن أنفسهم لينظروا إلى الأشياء، ولبثوا على ذلك طويلا حتى باتوا ينظرون إلى النظم الدينية والعلمية والمدنية كأنها حماة الملكية، وهم يستعيذون من التهجم على هذه النظم؛ لأنهم يحسون أنه تهجم على الملكية. وهم يقيسون تقدير أحدهم للآخر بما لدى الفرد لا بما هو عليه. ولكن الرجل المثقف يخجل من ملكه؛ لأنه يحترم طبيعته احتراما لا يحسه سواه ، وهو يمقت ما يملك بوجه خاص، إذا رأى أنه عرضي، أتاه عن طريق الميراث، أو الهبة، أو الجريمة. إنه حينئذ لا يشعر شعور الملكية، ويحس أن ما لديه لا يخصه، ولا تمتد جذوره في نفسه، وهو ملك لا يثبت في مكانه إلا لأن الثورة أو الغاصب لا تنزعه منه، ولكن ما يكون عليه الإنسان هو دائما بالضرورة مما يكتسبه، وما يكتسبه المرء هو الملكية الحية التي لا تنتظر إشارة الحكام، أو الرعاع، أو الثورات، أو النيران، أو الزوابع، أو الإفلاس، ولكنها تجدد نفسها دائما حيثما تنفس الإنسان. قال الخليفة علي ما معناه: «إن نصيبك أو حصتك من الحياة يبحث عنك، ولذا فأرح نفسك من البحث عنه.» إن اعتمادنا على هذه السلع الأجنبية يؤدي بنا إلى احترامنا لكثرة العدد احتراما مذلا. إن الأحزاب السياسية تلتقي في مؤتمرات عديدة. وكلما تضخم الحشد، وعند كل ضجة جديدة تعلن «وفد أسكس» أو «الديمقراطيين من نيو هامبشير»، أو «الأحرار من مين» يشعر الشاب المحب لوطنه أنه أقوى من ذي قبل بألف عين وألف ذراع جديدة. وكذلك المصلحون يجمعون المؤتمرات، ويبدون رأيهم ويبرمون أمرهم وسط الجماهير. ولكن الله أيها الرفقاء لا يسلك هذا السبيل كي يدخل في نفوسكم ويسكن فيها، ولكنه يفعل ذلك بطريقة تناقض هذه الطريقة تماما. إنني أعتقد أن المرء لا يقوى ولا يسود إلا إذا تخلى عن كل معونة أجنبية، ووقف وحيدا. إن كل جندي ينضم إلى لوائه يضعفه. أليس الإنسان أفضل من المدينة؟
لا تسأل الناس شيئا، وفي التقلبات التي تفوق الحصر قف وحدك كالطود الشامخ واظهر في الحال عمادا لكل ما يحيط بك. من يعرف أن القوة فطرية، وأنه ضعيف لأنه بحث عن الخير خارجا عنه وفي مكان آخر، يدرك ذلك فيعمد بغير تردد إلى أفكاره. مثل هذا الرجل يستقيم في الحال عوده، وتعتدل قامته، ويسيطر على أعضائه، ويأتي بالمعجزات، كالرجل الذي يقف على قدميه يكون أقوى من الرجل الذي يقف على رأسه.
على هذه الصورة ينبغي أن تستغل كل ما يسمونه «نصيب الإنسان». إن أكثر الناس يقامرون بهذا النصيب فيكسبون كل شيء، أو يخسرون كل شيء، حسبما تدور عجلته. ولكن عليك أن تتخلى عن هذه المكاسب وأن تعدها غير شرعية، وأن توجه اهتمامك نحو العلل والنتائج ففيها سر القوة الإلهية، واعمل واكتسب بإرادتك، فإنك بذلك تضع عجلة «الحظ» في الأغلال، وتكون حينئذ في مأمن من دوراتها. إن نصرا سياسيا، أو ارتفاعا في الأجور، أو شفاء مريض لك، أو عودة صديق غائب عنك، أو أي حدث غير ذلك مما تحب، ينهض بروحك فتحسب أن الأيام الطيبة تتأهب لك. لا تعتقد ذلك، فلا يجلب لك السعادة غير نفسك، ولا يجلب لقلبك الطمأنينة غير انتصار المبادئ.
التعويض
إن أجنحة الزمان سود وبيض،
منهما يتكون الليل والنهار.
والجبل الشاهق والمحيط العميق،
يحتفظان دائما باتزان دقيق.
وفي تقلبات القمر ومد الأمواج،
تتجلى الخصومة بين النقص والكمال.
والنجم الكهربي وحزمة الضوء،
تشتد حينا وتضعف حينا في الفضاء.
إن الأرض المنعزلة بين الكواكب،
التي تسير مسرعة خلال الفضاء الأبدي،
وتجري لتسد بثقلها فراغا
كأنها أنجم يكمل بعضها بعضا،
أو شرر يتطاير للتكافؤ،
تنطلق خلال الظلام الدامس. •••
الإنسان شجرة الدرداء، وثروته كروم العنب،
خيوطها تلتوي قوية متينة،
وقد تخدمك هذه الخيوط الواهنة،
ولكن الكرم لا يستطيع أن يأخذ عن الشجرة ثباتها.
فلا تخش شيئا إذن أيها الطفل العاجز؛
فليس في الآلهة من يجرؤ على إساءة دودة.
إن أكاليل الغار تهدى لمستحقيها،
ويظفر بالنفوذ من يبسط النفوذ.
ألم تأخذ نصيبك؟ انظر! إنه على أقدام طائرة.
يجري لكي يلقاك،
وكل ما خصتك به الطبيعة
طائرا في الهواء أو محبوسا في الحجر
سوف يشق التلال ويعبر البحار،
ويقفو أثرك كظلك.
كنت دائما منذ صباي أتوق إلى أن أكتب حديثا في التعويض. فقد بدا لي وأنا في سن الحداثة أن الحياة في هذا الموضوع قد سبقت الدين، والناس يعرفون أكثر مما يعلم الوعاظ. وكذلك الأسانيد التي يستند إليها هذا المذهب فتنت خيالي بتنوعها الذي لا ينتهي، ومثلت دائما أمامي حتى أثناء النوم ؛ فهناك الآلات في أيدينا، والخبز في سلالنا، ومعاملات الطريق، والمزرعة، والمسكن، والتحيات، والعلاقات، والديون والأرصدة، وتأثير الشخصية، وطبيعة جميع الناس ومواهبهم. وبدا لي كذلك أن الناس يمكنهم - على هدي هذا المذهب - أن يشاهدوا قبسا من نور الله، وأن يدركوا الأثر الراهن لروح هذه الدنيا، مطهرا من كل أثر من آثار التقاليد، ومن ثم فإن قلب الإنسان يمكن أن يغوص في فيض من الحب الأبدي، متحدثا مع ذلك الذي يعرف أنه كان دائما، ويجب دائما أن يكون؛ لأنه كائن الآن فعلا. وبدا لي - فوق ذلك - أنه إذا أمكن أن يصاغ هذا المذهب في عبارات تشبه بعض الشيء تلك البداهات المشرقة التي تتكشف لنا فيها هذه الحقيقة أحيانا لكان لنا كالنجم في كثير من الساعات المظلمة والطرق الملتوية في رحلتنا، يهدينا فلا نضل الطريق.
وأكدت هذه الاتجاهات عندي أخيرا الموعظة التي استمعت إليها في الكنيسة؛ فإن الواعظ - وهو رجل مبجل من أجل مذهبه الأرثوذكسي - بسط مبدأ الحساب في الآخرة بالطريقة المألوفة. فزعم أن المرء لا يلقى جزاءه في هذه الدنيا؛ فالأشرار مفلحون، والأخيار بائسون. ثم ادعى بحجة من العقل ومن الكتاب المقدس أن هناك تعويضا للفريقين في الحياة الأخرى. ولم يسئ هذا المبدأ إلى الجماعة التي استمعت إليه. وبمقدار ما استطعت أن ألاحظ تفرق الناس في نهاية الحفل دون أن يعلق واحد منهم على الموعظة.
ولكني أتساءل عن مغزى هذا الرأي. ماذا كان يعني الواعظ عندما قال إن الأخيار بائسون في الحياة الدنيا. هل قصد أن البيوت والأراضي والمراكز والنبيذ والخيل واللباس والترف إنما يظفر بها من لا خلاق لهم، في حين أن القديسين فقراء محتقرون، وأن هؤلاء سوف يلقون عوضا في الحياة الآخرة، بإعطائهم ما يشبه ذلك من أسباب الرضا في يوم آخر، أوراق مالية وعملة إسبانية ولحم الصيد والشمبانيا؟ لا بد أن يكون ذلك هو التعويض الذي يعنيه . أو ماذا عسى أن يكون غير ذلك؟ هل قصد أن تتاح لهم الصلاة والحمد؟ والحب وخدمة الناس؟ إنهم يستطيعون أداء ذلك اليوم . إن النتيجة الحتمية التي يخرج بها التلميذ هي هذه: «سوف ننعم بوقت طيب مثل ما ينعم به الآثمون اليوم.» - أو إذا نحن سرنا بما يترتب على ذلك إلى نهاية الشوط - «أنت تأثم اليوم، وسوف نأثم نحن فيما بعد. وإنا لنأثم اليوم إذا نحن استطعنا ذلك، ولكنا لم نفلح، ولذا فإنا نتوقع الانتقام لأنفسنا غدا.»
وموضع المغالطة هنا هو الإذعان المطلق للرأي القائل بأن الأشرار مفلحون، وأن الإنسان لا يلقى جزاءه اليوم. ويرجع عمى الواعظ إلى ركونه إلى تقدير السوقة الوضيع لعناصر نجاح الرجولة، بدلا من مواجهة الدنيا والحكم عليها من زاوية الحقيقة، وإعلان وجود الروح، وقدرة الإرادة المطلقة، وبهذا يقيم معيار الخير والشر والنجاح والفشل.
وإني لأجد نغمة وضيعة كهذه في المؤلفات الدينية الشائعة في هذه الأيام، وفي نفس المذاهب التي يعتنقها رجال الأدب عندما يعالجون ما يتعلق بهذا الموضوع بين الحين والحين. وأظن أن العقائد الدينية الشائعة قد تفوقت على الخرافات التي حلت محلها في الظاهر فقط لا في المبدأ. ولكن الناس خير من هذه العقائد الدينية. وحياتهم اليومية تفندها. كل نفس نابغة طموحة تولي المبدأ ظهرها في أثناء تجاربها، ويشعر جميع الناس أحيانا بالخطأ ولكنهم لا يستطيعون إظهاره؛ لأن الناس أحكم مما يعرفون. وذلك الذي يسمعونه في المدارس ومن المنابر دون أن يفكروا فيه بعد ذلك - إذا قيل في حديث - ربما كان موضع تساؤل في صمت. وإذا ما أعلن إنسان ما في جمهور مختلط عقائده الجامدة في الله والقوانين السماوية، أجيب بسكون يدل الرائي دلالة قاطعة على سخط السامعين مع عجزهم عن التعبير عن آرائهم.
وسوف أحاول في هذا الفصل أن أسجل بضع وقائع تشير إلى سير قانون التعويض. وسوف أجد من السعادة فوق ما أتوقع لو رسمت رسما صادقا أدنى قوس من هذه الدائرة.
التجاذب، أو الفعل ورد الفعل، شيء تقابله في كل جزء من أجزاء الطبيعة، في الظلام والنور، في الحرارة والبرودة، في جزر المياه ومدها، في الذكر والأنثى، في شهيق النباتات والحيوانات وزفيرها، في تعادل الكم والنوع في سوائل الجسم الحيواني، في انقباض القلب وانبساطه، في تموجات السوائل والأصوات، في القوة الطاردة والقوة الجاذبة، في الكهرباء والكهربية السائلة، وفي الصلات الكيمائية. إذا أنت أحدثت مغناطيسية في أحد طرفي إبرة، حدثت المغناطيسية المضادة في الطرف الآخر. وإذا كان الجنوب يجذب فإن الشمال يطرد. وإذا أنت أفرغت هنا ملأت هناك. إن الطبيعة تخترقها ثنائية لا مفر منها؛ فكل شيء نصف يشير إلى شيء آخر يكمله، كالمادة والروح، والرجل والمرأة، والمفرد والمزدوج، والذاتي والموضوعي، والداخل والخارج، والعالي والسافل، والحركة والسكون، والإيجاب والنفي.
وكما أن العالم ثنائي هكذا، فكذلك كل جزء من أجزائه؛ فإن النظام الشامل للأشياء يتمثل في كل جزء؛ فهناك ما يشبه مد البحر وجزره، والليل والنهار، والرجل والمرأة، في كل إبرة من إبر الصنوبر، وكل حبة من حبات القمح، وكل فرد من أفراد أية قبيلة حيوانية. إن رد الفعل، الذي تراه عظيما في العناصر، يتكرر داخل هذه الحدود الضيقة؛ ففي المملكة الحيوانية مثلا يلاحظ الفسيولوجي أنه ليس هناك مخلوقات مفضلة، ولكن هناك تعويضا خاصا يوازن كل ميزة وكل عيب؛ فالزيادة التي تعطى لجزء ما تكون على حساب نقص في جزء آخر من نفس المخلوق. فإذا كان الرأس والرقبة على ضخامة، فالجذع والأطراف على ضآلة.
ونظرية القوى الآلية مثال آخر؛ فما نكتسبه في القوة نفقده في الوقت، وعكس ذلك صحيح. والعيوب المعوضة أو الفترية في الكواكب مثال آخر. وأثر المناخ والتربة في التاريخ السياسي مثال رابع. الجو البارد يبعث النشاط، والتربة القاحلة لا تولد الحميات أو التماسيح والنمور والعقارب.
والثنائية عينها تكمن وراء طبيعة الإنسان وحالته. كل زيادة ينجم عنها نقصان، وكل نقصان تترتب عليه زيادة. لكل حلو مرارته، وفي كل شر خير. وكل قدرة على قبول المتعة لها ما يوازيها من عقوبة إذا أسيء استخدامها. وعليها أن تضحي بحياتها في سبيل الاعتدال. كل ذرة من الذكاء تقابلها ذرة من الحماقة. ولقاء كل شيء يفوتك تكتسب شيئا آخر، ونظير كل شيء تكسبه شيء تخسره. إذا زادت الثروة زاد من يستخدمها. وإذا بالغ الجامع في الجمع، استلبت الطبيعة من الرجل بمقدار ما أودعت صندوقه. إنها تضخم ضيعته ولكنها تقتل صاحب الضيعة. الطبيعة تكره الاحتكار والاستثناء. وأمواج البحر تسارع إلى الهبوط من أعلى قممها كما تسارع تقلبات الأحوال إلى تسوية نفسها. هناك دائما ظرف من الظروف يميل إلى التسوية ويحط ماديا من المتعالي والقوي والغني والسعيد، حتى يجعله في مستوى واحد مع الآخرين. فإذا كان الرجل قويا على المجتمع متوحشا، مواطنا سيئا بمزاجه ومركزه، خبيثا حاد الطباع، فيه دفعة القرصان، فإن الطبيعة ترسل إليه جماعة طيبة من البنين والبنات، ناجحة في الفصول الأولية التي تديرها السيدات بمدرسة القرية، وحب الرجل وخوفه عليهم يخفف من تنكره للأخلاق الكريمة. وهكذا فإن الطبيعة تحاول أن تلين الجرانيت والفلسبار، وأن تنتزع الخنزير وتودع مكانه الحمل، وتحتفظ باتزانها دائما.
يتخيل المزارع أن القوة والمكانة من الأشياء الحسنة، ولكن رئيس الجمهورية قد دفع ثمنا غاليا للبيت الأبيض. إنه عادة يكلفه طمأنينته وخير صفات الرجولة لديه. ولكي يحتفظ لفترة قصيرة من الزمن بمظهر بارز كهذا أمام العالم تراه يقنع بأن يأكل التراب أمام السادة الحقيقيين الذين يقفون منتصبين خلف العرش. أم هل يرغب الناس في عظمة النبوغ لأنها أثقل وزنا وأشد ثباتا؟ إن هذه كذلك ليست لها حصانة. من يكون عظيما بقوة الإرادة أو قوة الفكر ويعلو على الألوف يتحمل تكاليف العظمة. كل فيض من النور يصحبه خطر جديد. هل لديه ضياء؟ لا بد له من صيانته، ولا بد له دائما من عدم الاكتفاء بشعور القناعة والرضى، وذلك لإخلاصه لكل وحي جديد تلهمه به روحه التي لا تفتر. لا بد له من أن يكره أمه وأباه، والزوج والولد. أم هل لديه كل ما تحب الدنيا وتعجب به وتشتهيه؟ لا بد له من أن ينبذ وراءه إعجاب الناس به، وأن يفجعهم بإخلاصه لحقيقته، فيصبح لهم كلمة عابرة، أو همسا خافتا.
هذا القانون يدون قوانين المدائن والأمم. ومن العبث أن نقيم ما يفنده أو نتآمر عليه أو نتحد ضده. «إن الأشياء ترفض أن تساء إدارتها طويلا.» إن الشر المستحدث قد لا تظهر فيه العقبات، ولكن العقبات قائمة وسوف تظهر. إذا كانت الحكومات قاسية، فإن حياة الحاكم لا تكون آمنة. وإذا فرضت ضريبة عالية فإن الدخل لا يأتيك بشيء. وإذا جعلنا قانون الجنايات دمويا، فإن المحكمين لن يدينوا أحدا. وإذا كان القانون لينا تدخل الانتقام الشخصي. وإن كانت الحكومة ديمقراطية مزعجة فإن فيض النشاط عند المواطن يقاوم ضغطها، فتتوهج الحياة بشعلة أقوى وميضا. يظهر أن حياة الإنسان الحقة وما يرضيه فعلا لا يخضع لأشد الظروف قسوة أو مواتاة، بل تثبت دون مبالاة بتقلبات الظروف جميعا. إن تأثير الشخصية يبقى كما هو تحت كل حكومة، يكاد يتشابه في تركيا ونيو إنجلند. وفي ظل الحكام المستبدين الأوائل في مصر يعترف التاريخ صراحة أن الإنسان كان يستمتع بالحرية بمقدار ما كانت تمكنه ثقافته.
هذه المظاهر تشير إلى أن الكون ممثل في كل جزء من أجزائه. كل شيء في الطبيعة يحتوي على قوى الطبيعة جميعا. وكل شيء مصنوع من مادة خفية واحدة، كما يرى عالم الطبيعة نوعا واحدا في التطورات المختلفة للشيء الواحد، ويرى الحصان كالرجل العداء، والسمكة كالرجل السابح، والعصفور كالرجل الطائر، والشجرة كالرجل ثابت الجذور. كل شكل جديد لا يكرر الصفة الأساسية للنوع فحسب، وإنما يكرر جزءا جزءا كل التفصيلات، وكل الأغراض، وأسباب التقدم، وأسباب التأخر، والقوى، والنظام بأسره، الذي يتميز به كل جزء آخر، وكل عمل وكل مهنة وفن وتعامل خلاصة للدنيا ويتمم كل واحد منها الآخر. كل فرد رمز كامل للحياة الإنسانية، رمز لخيرها وشرها، ومحاولاتها، وخصومها ومسيرها وغايتها. وكل فرد ينبغي له أن يستوعب الإنسانية كلها بصورة ما، وأن يكرر مصيرها كله.
إن الدنيا تكون نفسها في قطرة الندى. ولا يستطيع المنظار المكبر أن يجد الحيوان المتناهي في الصغر الذي يقل كمالا لأنه يقل حجما. إن العيون، والآذان، والذوق، والشم، والحركة، والمقاومة، والشهوة، وأعضاء التناسل التي تسيطر على الخلود، كل ذلك يجد مجالا يحتويه في المخلوق الصغير. وهكذا نضع حياتنا في كل عمل. والعقيدة الحقيقية في وجود الله في كل مكان معناها أن الله يعيد ظهوره بكل أجزائه في كل ذرة من طحلب أو خيط من نسيج العنكبوت. وقيمة الكون تجاهد أن تلقي بنفسها في كل قطرة: إن وجد الخير وجد كذلك الشر، وإن وجد التقارب وجد التباعد، وإن وجدت القوة وجد العجز.
هكذا يحيا الكون. كل شيء خلاصة؛ فالروح - التي نحسها عاطفة في نفوسنا - هي قانون خارج أنفسنا، نشعر بوحيها، ونشهد في التاريخ قوتها القاضية «فهي في الدنيا، وبها وجدت الدنيا». والإنصاف لا يؤجل، والعدالة الكاملة تقيم ميزانها في جميع أجزاء الحياة، والله مستعد دائما بأحكامه. إن الدنيا تشبه جدول الضرب في الحساب، أو معادلة رياضية، إذا قلبتها كيفما شئت توازن نفسها. خذ أي رقم تشاء تجد أن قيمته المضبوطة هي بالنسبة إليك لا تزيد ولا تنقص. كل سر يفشو، وكل جريمة تجد جزاءها، وكل فضيلة تكافأ، وكل خطأ يجازى، في صمت وبالتأكيد. وما نسميه الجزاء هو الحقيقة العالمية التي تدل على أن الكل يبدو حيثما ظهر الجزء. فإن شهدت دخانا فلا بد أن تكون هناك نار. وإن رأيت يدا، أو طرفا، عرفت أن الجذع خلفهما.
كل عمل يكافئ نفسه، أو بعبارة أخرى يكمل نفسه، بطريقتين؛ أولا: في الشيء، أو في الطبيعة الواقعة، وثانيا: في الظروف أو في الطبيعة الظاهرة. ويسمي الناس الظروف الجزاء. والجزاء السببي في الشيء تراه الروح، والجزاء في الظروف يدركه العقل، ولا ينفصل عن الشيء، ولكنه غالبا ما ينتشر على فترة طويلة من الزمن، ولذا لا يتضح إلا بعد سنوات عدة، فإن آثارا معينة قد تتبع الإساءة في وقت متأخر، ولكنها تتبعها لأنها ترافقها؛ فالجريمة والعقاب يصدران عن أصل واحد. العقوبة ثمرة تنضج في الخفاء داخل زهرة المتعة التي تخفيها الجريمة، ولا يمكن أن نفصل السبب عن النتيجة، أو الوسيلة عن الغاية، أو البذرة عن الثمرة؛ لأن النتيجة تتفتح فعلا في السبب، والغاية يسبق وجودها في الوسيلة، والثمار في البذور.
وبينما الدنيا هكذا تريد أن تكون واحدا وترفض أن تنقسم، نسعى نحن إلى العمل الجزئي، وإلى الانفصال، وإلى التخصص؛ فمثلا لكي نرضي الحواس نفصل متعة الحواس عن حاجات الشخصية، ومن هنا فإن عبقرية الإنسان كانت تتوجه دائما نحو حل مشكلة واحدة، وهي كيف نفصل اللذة الحسية، أو القوة الحسية، أو الإشراق الحسي، إلى آخر ذلك، عن اللذة الروحية، والعمق الروحي، والجمال الروحي، ومعنى ذلك أننا نحاول أن نعزل عزلا تاما السطح العلوي ونرققه حتى يصبح من غير قاع، أو أن نحصل على طرف دون الطرف الآخر. تقول النفس كل، ويريد الجسم أن يولم، وتقول النفس إن الرجل والمرأة سيكونان جسدا واحدا وروحا واحدة، ولكن الجسم يريد أن يتصل بالجسد وحده. وتقول النفس: تسلط على كل شيء من أجل الفضيلة، ولكن الجسم يريد النفوذ على الأشياء لأغراضه الخاصة.
إن الروح تجاهد بكل قوة لكي تعيش وتعمل خلال الأشياء جميعا. وتريد أن تكون الحقيقة الوحيدة. وكل شيء ينضم إليها، القوة والمتعة والمعرفة والجمال. إن الرجل الواحد يهدف إلى أن يكون شخصا ما، وأن يقوم لذاته، وأن يبادل السلع ويساوم لصالحه الخاص، وهو في تفصيلات حياته يريد أن يركب لكي يكون راكبا، وأن يلبس لكي يكون لابسا، وأن يأكل ليكون آكلا، وأن يحكم لكي يرى. إن الناس يرمون إلى بلوغ العظمة، فهم يريدون المناصب والثراء والقوة والشهرة. ويحسبون أن بلوغ العظمة هو امتلاك ناحية من نواحي الطبيعة - الناحية الحلوة دون الناحية الأخرى - المرة.
هذا التقسيم وهذا الانفصال يقابل دائما بما يناقضه. ويجب أن نعترف أن كل من حاول أن يبرز وحده لم يلاق حتى اليوم أدنى نجاح. إن المياه المنشقة تتحد ثانية خلف أيدينا. والمتعة تزول عن الأشياء الممتعة، والكسب عن الأشياء المكسبة، والقوة عن الأشياء القوية إذا أردنا أن نفصلها عن الكل. إننا لا نستطيع أن نجزئ الأشياء وأن نحصل على الفائدة الحسية وحدها أكثر مما نستطيع أن نحصل على داخل ليس له خارج، أو ضوء بغير ظل «إذا دفعت الطبيعة بشوكة، ارتدت إليك مسرعة .»
إن الحياة تخلع على نفسها شروطا لا مفر منها، يحاول الحمقى أن يتنصلوا منها، ويحاول هذا الفرد أو ذاك أن يفخر بتجاهلها أو بأنها لا تمسه، ولكنه فخر زائف يجري على شفتيه فقط، أما الشروط ففي روحه. إذا فر منها في ناحية هاجمته في ناحية أخرى أشد حيوية، وإن تحاشاها شكلا ومظهرا فذلك لأنه قاوم حياته وفر من نفسه، وليس جزاؤه أقل من الموت. إن فشل كل محاولة في فصل الخير عن ضريبته أمر واضح لا يشجع على إجراء التجربة - ما دام إجراؤها ضربا من الجنون - لولا ما تقتضيه الظروف، وإذا ما ظهرت في إرادة المرء علة العصيان والانفصال، أصيب بها الذهن كذلك، فيتوقف الإنسان عن رؤية الله كاملا في كل شيء، ولكنه يستطيع أن يرى الغواية الحسية للأشياء دون أن يرى الأذى الحسي. إنه يرى رأس عروس البحر ولا يرى ذيل الأفعوان، ويظن أنه يستطيع أن يفصل ما يريد أن يحصل عليه عما لا يريد الحصول عليه. يقول القديس أوغسطين في الكتاب الأول من اعترافاته: «ما أشد اختفاءك يا من تسكن السموات العلا في صمت وسكون، أنت أيها الإله العظيم الأوحد، يا من تنشر بقدرة لا تكل أنواعا من العمى عقوبة لمن يطلقون لشهواتهم العنان.»
إن الروح البشرية تخلص لهذه الحقائق في تصوير الحكايات الخرافية، والتاريخ، والقانون، والأمثال، والأحاديث. وتجد لها لسانا في الأدب بغير قصد؛ ولذا فقد أطلق الإغريق على «جوبتر» اسم «العقل الأسمى». ولما كانوا في تقاليدهم قد نسبوا إليه كثيرا من الأعمال الوضيعة، فقد استرضوا العقل عفوا. وذلك بتقييد يدي إله سيئ كهذا. فأصبح عاجزا كملك إنجلترا. ويعرف «بروميثيس» سرا واحدا لا بد ل «جوف» أن يساوم فيه، وتعرف «منيرفا» سرا آخر. ولا يستطيع جوف أن يظفر بصواعقه؛ لأن «منيرفا» تحتفظ بمفاتيح هذه الصواعق.
من بين الآلهة جميعا أنا وحدي أعرف المفاتيح،
التي تفتح الأبواب الجامدة التي تختفي صواعقه
داخل قبابها.
وهذا اعتراف صريح عن العمل الباطني «للكل» وعن عرضه الخلقي. وتنتهي الميثولوجيا الهندية بنفس هذه القواعد الخلقية. ويظهر أنه من المستحيل أن تخترع حكاية خرافية وتشيع بين الناس إلا إذا كانت تقوم على أساس خلقي. لقد نسيت «أورورا» أن تطلب الشباب لعشيقها، ومع أن «تيثونس» خالد إلا أنه عجوز، ولم يكن «أخيل» محصنا ضد الطعنات تماما؛ لأن المياه المقدسة لم تغسل العقب الذي أمسكته منه «ثتس». وكذلك «سيجفريد» في نيبلنجن ليس خالدا كل الخلود؛ لأن ورقة من أوراق الشجر سقطت على ظهره بينما كان يستحم في دماء الأفعوان، وتلك البقعة التي غطتها الورقة فانية. وينبغي أن تكون كذلك. إن في كل شيء خلقه الله نقطة ضعف. ويظهر أن الظرف الانتقامي يوجد دائما، ويدب في الشيء دون أن يحس به، حتى في الشعر الهمجي الذي حاول فيه خيال الإنسان أن يأخذ حرية جريئة، وأن يتخلص من القوانين العتيقة، هذه الضربة الخلفية، أو هذه القذيفة المدفعية، تشهد بأن القانون لا مفر منه، وأن الأشياء لا توهب في الطبيعة، لكنها جميعا تباع.
ذلك هو المبدأ القديم لنمسس، الذي يسهر على الكون، ولا يدع إساءة تمر بغير عقوبة. ويقال إن آلهة الانتقام في خدمة العدالة، وإذا ما تخطت الشمس في السماء مسيرها عاقبتها هذه الآلهة. وروى الشعراء أن الأسوار الحجرية والسيوف الحديدية، والسيور الجلدية تشارك في الخفاء ما يقترف أصحابها من آثام، وأن الحزام الذي أعطاه «أيجكس» ل «هكتور» جر بطل طروادة في الميدان إلى عجلات عربة «أخيل»، وأن السيف الذي أعطاه «هكتور» ل «أيجكس» هو الذي سقط «أيجكس» على حده. ورووا أنه لما أقام «ألثاسيان» تمثالا ل «ثيجنيز» الذي ظفر في المباريات، تسلل إليه أحد منافسيه في المساء، وحاول أن يحطمه بالضربات المتتالية، حتى استطاع في النهاية أن يزعزعه عن قاعدته، فسقط التمثال وسحقه تحت سقطته حتى مات.
وفي رواية هذه الحكاية الخرافية شيء من القداسة؛ فقد نبتت من تفكير فوق إرادة الكاتب. وذلك أحسن ما عند أي كاتب؛ إذ ليس فيه شيء خاص، إنما هو شيء لا يعرفه يصدر عن كيانه، ولا يصدر عن فرط خياله. إنها صفة لا تستطيع أن تلمسها بسهولة عندما تدرس فنانا بمفرده، ولكنك تلمسها حين تدرس الكثيرين فتستخلصها وتدرك أنها روحهم أجمعين. إنني لا أريد أن أعرف «فدياس»، ولكني أريد أن أعرف عمل الإنسان في ذلك العالم الهليني القديم، فإن اسم «فدياس» وظروفه، مهما كانت ملائمة للتاريخ، تحيرنا عندما نتعرض للنقد الدقيق. علينا أن نرى ذلك الذي كان يميل الإنسان إلى فعله في فترة معينة، ولكن تدخل إرادات «فدياس» و«دانتي» و«شكسبير» - أي ذلك العضو الذي استخدمه الإنسان في تلك اللحظة - قد حال دون أدائه، أو إن شئت فقل قد وجهه وجهة أخرى.
ويسترعي أنظارنا أكثر من ذلك التعبير عن هذه الحقيقة في أمثال جميع الأمم، وهي دائما أدب العقل، أو صوت الحق المطلق دون تعديل. الأمثال - كالكتب المقدسة في كل أمة - هي محراب البديهيات؛ فإن ذلك الذي لا يسمح العالم المتراخي، المقيد بالمظاهر، للرجل الواقعي أن يقوله في كلمات من عنده، يسمح له بقوله في أمثال من غير تناقض. وقانون القوانين هذا الذي تنكره المنابر ومجالس الشيوخ والكليات تبشر به في كل ساعة وفي كل سوق وكل مصنع أسراب من الأمثال معناها صادق وموجود في كل مكان كأنها الطيور أو الذباب.
كل شيء مزدوج، هذا يقابل ذاك، دقة بدقة، والعين بالعين، والسن بالسن، والدماء بالدماء، وخطوة بخطوة، وحب بحب - أعط تعط، من يرو يرتو - يقول الإله: ادفع ثمن ما تريد يكن لك. إذا لم تغامر لا تظفر بشيء. ولسوف تؤجر تماما بقدر ما عملت، لا أكثر ولا أقل. من لا يعمل لا يأكل. من يرقب الأذى يصب به، واللعنة تنصب دائما على رأس من يستنزلها. إذا طوقت جيد عبد بسلسلة، فإن الطرف الآخر يطوق جيدك. والنصيحة السيئة تزعج الناصح بها، إنما الشيطان حمار.
هكذا كتب علينا؛ لأن الحياة كذلك، فإن قانون الطبيعة يسيطر على أعمالنا ويدفعها فوق إرادتنا . إننا نرمي إلى غاية تافهة أبعد كل البعد عن الصالح العام، ولكن أعمالنا تنخرط بجاذبية لا تقاوم في سلك واحد مع قطبي الدنيا.
إن الإنسان قد لا يتكلم ولكنه يحكم على نفسه. وبإرادته أو رغما عن إرادته، يرسم صورته لأعين رفاقه في كل كلمة. كل رأي يرتد على من ينطق به؛ فهو كالكرة ترتبط بخيط ويلقى بها إلى هدف، ولكن الطرف الآخر يبقى في جعبة الرامي. أو قل إن الرأي كصنارة الصيد يقذف بها الحوت، تحل وهي طائرة في الهواء لفافة حبال في قارب الصيد. وإذا لم تكن الصنارة صالحة، أو إذا لم تسدد رمايتها، أوشكت أن تشق ربان السفينة نصفين، أو أن تغرق القارب.
إنك لا تستطيع أن تفعل الخطأ دون أن تتحمل وزره. يقول برك: «لا يمكن أن تكون للإنسان نقطة افتخار لا يصيبه منها أذى.» إن من يتنحى عن الحياة المألوفة لا يدرك أنه يتنحى عن المتعة لكي يظفر بها. ومن يعتزل في الدين لا يدرك أنه يغلق أبواب السماء على نفسه محاولا أن يغلق الباب في وجه الآخرين. إذا عاملت الناس كبيادق الشطرنج أو دبابيس اللعب كابدت ما يكابدون. وإذا أهملت قلوبهم فقدت قلبك. إن الحواس تجعل من الناس أشياء، من النساء ومن الأطفال والفقراء. والمثل الشعبي القائل: «سوف أحصل على ما أريد من كيس نقوده أو من جلده» فلسفة صحيحة.
كل نقص في الحب والإنصاف في علاقاتنا الاجتماعية يلقى جزاءه فورا. يلقى الجزاء في الخوف. إذا وقفت من زميلي في علاقتي به موقفا بسيطا، فإني لا أجد غضاضة عندما ألقاه. إننا نلتقي كما يلتقي الماء بالماء، أو كما يختلط تياران من الهواء، في امتزاج كامل وتداخل في الطبائع. غير أننا لو انحرفنا عن البساطة، وحاولنا المناصفة، أو كان هناك خير لي ليس فيه خير لجاري، فإنه يشعر بالإساءة، ويبتعد عني بمقدار ما ابتعدت عنه. لا تبحث عيناه عن عيني بعد ذلك، وينشب بيننا الخصام وتقوم في نفسه الكراهية وفي نفسي الخوف.
كل مساوئ المجتمع القديمة ، العامة والخاصة، وكل ملك أو نفوذ جاء ظلما إنما يلقى الانتقام على صورة واحدة. الخوف يعلمنا الحكمة الكبرى، وهو رائد كل انقلاب . وهو يعلمنا شيئا واحدا، وذلك أن هناك فسادا حيثما ظهر. إنه أشبه بالحدأة أو الغراب، قد لا ترى جيدا ما يحومان حوله، إلا أنك تثق من وجود الموت والجيف الممزقة في مكان ما. إن أملاكنا هيابة، وقوانيننا هيابة، وطبقاتنا المثقفة هيابة. وقد أنذر طائر الخوف بالشر منذ آماد طويلة وقطب جبينه وتذمر من الحكومة ومن الملك، ولم يوجد ذلك الطائر الدنس هناك من غير داع. وإنما كان يشير إلى أخطاء كبرى لا بد أن يعاد فيها النظر.
ومن هذا القبيل ما نتوقعه من التغير الذي يعقب مباشرة توقف حركتنا الإرادية. كما أن الفزع من الظهيرة الخالية من السحب، وزمردة «بوليكراتس»، والرهبة التي نحسها إزاء كل فلاح، والغريزة التي تقود كل روح كريمة إلى أن تفرض على نفسها واجبات من الزهد النبيل والفضيلة التي نؤديها لغيرها، ذلك كله ذبذبة ميزان العدالة في قلب الإنسان وعقله.
يعلم المجربون من الرجال في هذه الدنيا جيدا أنه من الخير لهم أن يجزلوا العطاء أنى ساروا، وأن الإنسان كثيرا ما يدفع الثمن غاليا نظير اقتصاد ضئيل. والمدين يعاني من دينه. هل يكسب شيئا ذلك الإنسان الذي يتلقى مائة معروف ولا يصنع واحدا. وهل يكسب إن هو استعار - لتراخيه أو لمكره - أدوات جاره أو خيله أو ماله؟ في هذه الفعلة ينشأ الاعتراف المباشر بالمنفعة من ناحية، والدين من ناحية أخرى، أي ينشأ السمو والنقص في آن. وتبقى العملية في ذاكرته وذاكرة جاره. وكل عملية جديدة تغير - وفقا لطبيعتها - علاقة أحدهما بالآخر، وربما يدرك حالا أنه كان خيرا له أن يحطم عظامه من أن يركب عربة جاره، وأن «أعلى ثمن يمكن أن يدفعه للشيء هو طلبه إياه».
والرجل العاقل يطبق هذا الدرس على جميع نواحي الحياة، ويعرف أنه من الحكمة أن يواجه كل طالب، وأن يدفع ثمنا لكل مطلب عادل من وقته ومواهبه وقلبه. ادفع دائما؛ لأنك لا بد أن تدفع الدين كله أولا أو آخرا. والأشخاص والحوادث قد يقفون لفترة ما بينك وبين العدالة، ولكن ذلك لا يكون إلا إلى حين. لا بد أن تدفع دينك أخيرا. ولو كنت عاقلا لخشيت النجاح الذي يحملك من هذا الدين المزيد. المنفعة غاية الطبيعة، ولكن لقاء كل منفعة تتلقاها تجبى منك ضريبة. والعظيم من يهب أكثر المنافع. ومن الوضاعة - بل ذلك هو الشيء الوضيع الوحيد في الكون - أن تتلقى الأفضال ولا تقدم فضلا واحدا. وفي نظام الطبيعة لا نستطيع أن نقدم المنافع لأولئك الذين نتلقاها منهم، أو قلما يكون ذلك. ولكن المنفعة التي نتلقاها لا بد أن تبذل لآخر مرة أخرى، خطا بخط، وعملا بعمل، وسنتا بسنت. واحذر من أن تبقي الفائدة طويلا بين يديك. فسرعان ما تفسد وتولد الديدان. أسرع بدفعها على صورة ما.
وهذه القوانين الصارمة عينها تسيطر على العمل. يقول الحكيم: «أغلى الأعمال ثمنا أرخصها.» وما نشتريه في مكنسة أو حصير أو عربة أو سكين هو ما يفيده منها العقل الحكيم باستخدامها في مصلحة عامة. خير لك أن تدفع في أرضك أجرا لبستاني ماهر، أو أن تشتري عقلا حكيما يستخدم الحكمة في فلاحة البستان، أقصد في ملاحك أن يطبق العقل الحكيم على الملاحة، وفي بيتك تطبيق العقل الحكيم على الطبخ والحياكة والخدمة، وفي وكيلك أن يطبق العقل الحكيم على حساباتك وشئونك. هكذا تضاعف وجودك، أو تنشر نفسك خلال مزرعتك. ويترتب على الطبيعة الثنائية لكل شيء أنه لا يمكن أن يكون هناك خداع في العمل أو في الحياة؛ فالسارق يسرق من نفسه؛ لأن الثمر الحقيقي للعمل هو المعرفة والفضيلة، وليس الثراء والامتياز إلا شارة له. وهذه الشارة - كعملة الورق - يمكن تزييفها أو سرقتها، ولكن ما تمثله، أعني المعرفة والفضيلة، لا يمكن أن يزيفا أو يسرقا. وأغراض العمل هذه لا يمكن تحقيقها إلا بالإجهاد الحقيقي للعقل وبالخضوع للدوافع الخالصة. أما الغشاش والمختلس والمقامر فلا يستطيعون أن يسلبوا المعرفة مادية أو معنوية، تلك المعرفة التي يكسبها العامل بجهده المضني وعنايته الصادقة. قانون الطبيعة هو هذا: افعل الشيء تكن لك القوة، أما الذين لا يفعلون ذلك الشيء فلا تكون لهم قوة.
إن العمل الإنساني بكل صوره، من تشذيب الوتد إلى إنشاء المدينة أو الملحمة، مثل واحد كبير للتعويض الكامل في الكون. إن التوازن المطلق بين الإعطاء والأخذ، والمذهب الذي يقول بأن لكل شيء ثمنه، وإذا لم يدفع هذا الثمن، لا تظفر بهذا الشيء، وإنما تظفر بشيء آخر، وأنه يستحيل أن تحصل على شيء دون ثمنه - هذا المذهب لا يقل سموا في أعمدة دفاتر الحساب الخاصة، عنه في ميزانيات الدول، وفي قوانين الضوء والظلام، وفي كل فعل في الطبيعة وما يقابله. ولست أشك في أن القوانين العليا التي يراها كل إنسان في ثنايا كل عمل يؤديه، وأن القواعد الخلقية الصارمة التي تتلألأ على حد إزميله، والتي يقيسها بمسباره ومسطرته، والتي تبدو واضحة في ختام فاتورة العمل التجاري كما تبدو في تاريخ الدولة؛ لست أشك في أن هذه القوانين ترفع له من شأن صناعته، وتمجد له عمله في خياله، وإن قل ذكر هذا العمل.
إن الائتلاف بين الفضيلة والطبيعة يدعو كل شيء إلى أن يقف من الرذيلة موقفا عدائيا. والقوانين والمواد الجميلة في هذه الدنيا تضطهد الخائن وتضربه بالسياط. إنه يجد أن الأشياء معدة للحق والمنفعة، ولكن ليس في الدنيا الواسعة عرين يختبئ فيه إنسان سافل. إن ارتكبت جريمة وجدت الأرض كأنها مصنوعة من زجاج. إن ارتكبت جريمة بدا لك كأن طبقة من الثلج قد سقطت على الأرض، كتلك التي تفضح في الغابات مسير كل حجل وثعلب وسنجاب وخلد. إنك لا تستطيع أن تسترد الكلمة بعد النطق بها، ولا تستطيع أن تمحو أثر القدم. إن شارة سيئة دائما تنضح بما حدث. إن قوانين الطبيعة ومواردها - من ماء وثلج وريح وجاذبية - تصبح للسارق عقوبات.
والقانون - من ناحية أخرى - قائم بدرجة مساوية من الثبات بالنسبة لكل عمل صحيح، أحب تحب. الحب كله متساو مساواة أعداد الحساب، مثله مثل طرفي معادلة جبرية. والرجل الصالح لديه خير مطلق، خير أشبه بالنار التي ترد كل شيء إلى طبيعته، فلا تستطيع أن تصيبه بأذى، ولكن كما أن الجيوش الملكية التي أرسلت لمحاربة نابليون ألقت أعلامها عند اقترابه وصاروا أصدقاء بعد أن كانوا خصوما، فكذلك الكوارث من كل نوع، كالمرض، والإساءة والفقر، تثبت نفعها:
إن الرياح تهب والمياه تموج
قوة للجريء، ونفوذا وقداسته،
وهي - مع ذلك - في ذاتها لا شيء.
إن الأخيار يصادقهم حتى الضعف والنقصان. وكما أن المرء كلما تفاخر بشيء أصابه منه أذى، فكذلك كل نقص عنده لا بد أن يعود عليه بالنفع في ناحية من النواحي، وقد جاء في حكاية خرافية أن الغزال أعجب بقرنيه وألقى اللوم على قدميه، ولكن عندما أتى الصياد أنقذته قدماه، ثم اشتبك بعدئذ في الغابة فقضى عليه قرناه. كل إنسان في حياته يفيد من نقائصه. وكما أن الإنسان لا يفهم الحقيقة فهما كاملا حتى يناضل في وجهها، فكذلك لا يعرف المرء معرفة كاملة مثالب الناس ومزاياهم حتى يقاسي وطأة هذه المثالب ويشهد انتصار تلك المزايا على نفسه لافتقاره إليها. هل عنده نقص في المزاج يجعله غير ملائم للعيش في المجتمع؟ إن هذا النقص عينه يدفعه إلى أن يسلي نفسه وهو وحيد، ويكتسب عادة الاكتفاء بنفسه. وهكذا تراه كالمحار الجريح يصلح صدفه باللؤلؤ.
إن قوتنا تصدر عن ضعفنا، والسخط الذي يسلح نفسه بالقوى الخفية لا يتيقظ إلا حينما نتعرض للأشواك واللدغات والهجمات العنيفة. إن الرجل العظيم يحب دائما أن يكون صغيرا. وبينما يجلس على حشية المزايا تأخذه سنة من النوم. أما إذا دفع، وعذب، وهزم، فإن الفرصة تتاح له لكي يتعلم شيئا؛ لأن ذكاءه ورجولته يوضعان موضع الاختبار. إنه يكتسب الحقائق، ويعرف جهله، ويشفى من جنون الغرور، كما يكتسب الاعتدال والمهارة الحقة. الرجل الحكيم يلقي بنفسه في جانب مهاجميه؛ لأن اكتشاف موطن الضعف فيه يهمه أكثر مما يهمهم، ولأن الجرح بذلك يندمل ويسقط عنه كالجلد الميت، وإذا ما انتصر الخصوم خرج من المعركة محصنا من كل إيذاء. إن اللوم أكثر أمانا من الثناء. وإنني لأمقت أن يدافع عني أحد في صحيفة. وما دام كل ما يقال يقال ضدي فإني أحس الثقة في النجاح. وبمجرد ما توجه إلي عبارات الثناء المعسولة فإني أحس كأني رجل ملقى بغير حماية أمام خصومي. كل شيء لا نخضع له ينفعنا بوجه عام. وكما أن ساكن جزيرة «ساندوتش» يعتقد أن قوة عدوه الذي يقتله وبسالته تنتقل إليه، فكذلك نحن نكتسب قوة الإغراء الذي نقاومه.
إن الضمانات عينها التي تحمينا من الكوارث والعيوب والعداوة تحمينا كذلك - إن أردنا - من الأنانية والخداع. والمزاليج والقضبان ليست خير ما لدينا من نظم، وكذلك المكر في التجارة ليس دليلا على الحكمة. والناس يكابدون طوال حياتهم من وهم باطل يخيل إليهم أنهم يمكن أن يخدعوا. ولكن يستحيل على المرء أن يخدع إلا من نفسه، كما يستحيل على الشيء أن يكون وألا يكون في آن واحد. هناك طرف ثالث صامت في كل مساوماتنا؛ فطبيعة الأشياء وروحها تتعهد بضمان وفاء كل تعاقد، بحيث لا يمكن أن تخسر الخدمة الأمينة. إذا أنت خدمت سيدا ناكرا للجميل، بالغ في خدمته، وانتظر من الله حسن الثواب؛ فكل ضربة تلقى جزاءها، وكلما تأخر عليك الأجر كان ذلك في مصلحتك؛ لأنه يضاعف لك الربح ويزيد من فائدتك.
إن تاريخ الاضطهاد تاريخ محاولات لخداع الطبيعة «كي نجعل الماء يجري إلى أعلى الجبل، وأن نضفر حبلا من رمال.» ولا فرق بين أن يكون الفاعل واحدا أو كثيرين، حاكما مستبدا أو رعاعا؛ فالرعاع مجتمع من الأفراد يحرم نفسه طواعية من العقل وينقض عمله. الرعاع هم الناس يهبطون طواعية إلى طبيعة الحيوان. وقتهم الذي يلائم نشاطهم هو الليل، وأعمالهم جنونية كتكوينهم كله. إنهم يضطهدون المبدأ السليم ويضربون بالحق عرض الحائط، ويسيئون إلى العدالة، فيشعلون النار والثورة في بيوت أولئك الذين يملكون هذه الأشياء وفي أشخاصهم. الرعاع يشبهون عبث الأطفال، الذين يهرعون بآلات المطافئ، لكي يطفئوا الشفق الأحمر الذي يمتد إلى النجوم. إن الروح الطاهرة تصوب حقدهم نحو المسيئين. إن الشهيد لا يمكن أن يهان. كل ضربة توقع لسان من الشهرة، وكل سجن مسكن مضيء، وكل كتاب وكل بيت محترق يضيء العالم. وكل كلمة مكبوتة أو محظورة يرن صداها في الأرض من جانب إلى آخر. إن ساعات الحكمة والتأمل تأتي إلى الجماعات دائما - كما تأتي إلى الأفراد - عندما يظهر لنا الحق، ونجد للاستشهاد ما يبرره.
وهكذا يبشر كل شيء بتفاهة الظروف؛ فالإنسان كل شيء. ولكل شيء وجهان، الخير والشر. ولكل ميزة ضريبتها. وقد تعلمت القناعة، ولكن مبدأ التعويض لا يدعو إلى عدم الاكتراث. يقول الذين لا يتفكرون عندما يسمعون هذه الأمثال: ما جدوانا من فعل الخير؟ هناك غاية واحدة للخير والشر، فإن أنا اكتسبت خيرا دفعت ثمنه، وإن فقدت خيرا اكتسبت آخر. كل عمل لا قيمة له.
وتنطوي الروح على حقيقة أبعد غورا من التعويض، وتلك هي طبيعتها. ليست الروح تعويضا، ولكنها حياة. الروح كائنة. وتحت كل هذا النهر الجاري من الحوادث، الذي تعلو مياهه وتهبط باتزان كامل، تكمن تلك الهوة الأصيلة وهي الوجود الحقيقي. إن الخلاصة، أو الله، ليست علاقة أو جزءا، ولكنها كل. الوجود هو الإيجاب العريض الذي يستبعد النفي، يتزن بنفسه، ويبتلع كل العلاقات وكل الأجزاء وكل الأوقات في دخيلته، والطبيعة والحق والفضيلة فيض من هذا. والرذيلة هي اختفاء ذلك أو البعد عنه. والعدم والزور والبهتان قد توجد حقا كأنها الليل الحالك أو الظل الذي يظهر صورة العالم الحي، ولكنها لا تتمخض عن حق، ولا تستطيع أن تؤدي عملا؛ لأنها ليست كائنة، ولا تستطيع أن تؤتي خيرا أو تؤتي شرا. إنها أذى لأن العدم أسوأ من الوجود.
إننا نحس بالخديعة فيما ينال الشر من عقوبة؛ لأن المجرم يلازم إثمه وتمرده، ولا يبلغ حرجا ولا يخضع لحكم في أي مكان في الطبيعة المرئية. ليس هناك استنكار قوي لعبثه أمام الناس والملائكة. فهل تغلب على القانون بذكائه؟ إنه يذوي من الطبيعة بمقدار ما يحمل بين جنبيه من خبث وكذب. وسوف يظهر الخطأ بصورة من الصور لمن يتفقهون. وبهذا الاستبعاد القاتل يلقى المسيء جزاءه الحق، حتى إذا غاب الأمر عن أنظارنا.
ومن ناحية أخرى لا يمكننا أن نقول إن ما نكسبه من الاستقامة يجب أن نتكبد في سبيله شيئا من الخسارة. ليست للفضيلة عقوبة، وليست للحكمة عقوبة، إنما هما من مستلزمات الوجود المتعلقة به. في العمل الفاضل أكون أنا نفسي تماما، وفي العمل الفاضل أضيف إلى الدنيا. إنني أزرع الصحاري التي هزمتها الفوضى والعدم، وأرى الظلام يتراجع عند حافة الأفق. لا يمكن أن يكون في الحب مبالغة، أو في المعرفة، أو الجمال، إذا اعتبرنا هذه الصفات بأصفى معانيها. إن الروح ترفض القيود، وتؤكد التفاؤل دائما، ولا ترضى بالتشاؤم أبدا.
حياة الروح في تقدم وليست في سكون. وطبيعتها الثقة. إننا بغريزتنا نستعمل «الأكثر» و«الأقل» في الحديث عن الإنسان، وفي «وجود الروح»، ولا نقول ذلك عن عدمها؛ فالرجل الجريء أعظم من الجبان. والصادق وفاعل الخير والحكيم أكثر إنسانية - وليس أقل - من الأحمق والدنيء. ليست هناك ضريبة على خير الفضيلة؛ لأن ذلك هو قدوم الله نفسه، أو الوجود المطلق، الذي لا يقارن. أما الخير المادي فعليه ضريبة، وإن أتى دون استحقاق أو جهد، كان من غير جذور في نفسي، تذروه أول ريح. ولكن خير الطبيعة كله هو خير الروح، ويمكن الحصول عليه، إذا دفع ثمنه بعملة الطبيعة المشروعة؛ أي بالعمل الذي يسمح به القلب والرأس. إنني لا أحب بعد اليوم أن ألقى خيرا لم أكسبه، كأني أجد مثلا وعاء من ذهب دفين؛ لأني أعلم أنه يأتي معه بأعباء جديدة. لست أحب مزيدا من المنافع الخارجية كالأملاك أو ألقاب الشرف أو النفوذ أو الأشخاص؛ فالكسب هنا ظاهري والضريبة مؤكدة. ولكن علمي بوجود التعويض، وبأنه ليس من المستحب أن تستخرج الكنوز من باطن الأرض، ليست عليه ضريبة. فإني في ذلك أستمتع بطمأنينة هادئة دائمة. إنني أضيق حدود الأذى الممكن. وأتعلم حكمة القديس برنارد: «لا شيء يعود علي بالضرر غير نفسي. إن الأذى الذي أكابده أحمله بين جنبي، ولن أعاني ألما حقا إلا من جراء آثامي.»
تعويض النقص في الظروف من طبيعة الروح. ويظهر أن مأساة الطبيعة الأساسية هي التمييز بين الأكثر والأقل. كيف لا يحس «الأقل» الألم، وكيف لا يحس السخط وسوء الطوية نحو «الأكثر»؟ إذا نظرت إلى ذوي المواهب القليلة شعرت بالأسى ولم تدر تماما ماذا تصنع. إنك تتحاشى عيونهم، وتخشى أن تسمعهم يعتبون على خالقهم، ماذا عساهم فاعلون؟ يظهر أن الظلم شديد. ولكنك إن شهدت الحقائق عن كثب تبددت هذه المفارقات الهائلة. إن الحب يزيلها كما تذيب الشمس جبال الثلج في البحار. ولما كانت الروح والقلب عند الناس جميعا شيئا واحدا، فإن المرارة الكامنة في «ما لك» و«ما لي» تتلاشى؛ فما له لي، أنا أخي وأخي أنا. وإن أنا أحسست بأن جيراني الكبار يحجبونني ويتفوقون علي، فإني لا زلت أملك أن أحب، ولا زلت أملك أن أستقبل. ومن يحب يجعل العظمة التي يحبها ملكا له. بذلك أكتشف أن أخي ولي أمري، يعمل من أجلي بأطيب النوايا، وأن الضيعة التي أعجبت بها وحسدته عليها هي ملكي. إن من طبيعة الروح أن تمتلك كل شيء. وليس يسوع وشكسبير سوى أجزاء من الروح، وبالحب أغزوهم وأضمهم إلى ميدان وعيي. أليس فضل أي امرئ فضلي؟ وإذا لم يكن ذكاؤه ذكائي فليس بذكاء.
وعلى هذه الصورة كذلك يكون التاريخ الطبيعي للكوارث؛ فالتغيرات التي تعترض على فترات قصيرة سعادة الناس دلائل على طبيعة قانونها النمو. كل نفس بناء على هذه الضرورة الذاتية تتخلى عن تكوينها كله، وعن أصدقائها وبيتها وقوانينها وإيمانها، كما يزحف المحار من قوقعته الجميلة برغم صلابتها؛ لأن القوقعة لم تعد تسمح بنموه، ويكون بيتا جديدا في أناة. وبنسبة قوة الفرد تكثر هذه التطورات حتى تكون متصلة في العقل السعيد، وتتعلق جميع الصلات الدنيوية حوله في تفكك شديد حتى تصبح كأنها غشاء سائل شفاف ترى من خلاله الصورة الحية، ولا تكون - كما هي عند أكثر الناس - هيكلا من عديد الحوادث، صلبا، غير متجانس، مقلقلا، يحتبس فيه صاحبه. حينئذ يمكن النمو ولا يكاد إنسان اليوم أن يعرف إنسان الأمس. وهكذا ينبغي أن تكون سيرة الإنسان الخارجية في الزمان. نبذ للظروف البائدة يوما بعد يوم، كلما جدد إهابه يوما بعد آخر. بيد أن هذا النمو يصدمنا لأننا متخلفون، ساكنون، لا نتقدم، نقاوم العظمة الربانية المقدسة ولا نعاونها.
إننا لا نستطيع أن نستغني عن أصدقائنا، ولا نستطيع أن نسمح لملائكتنا بالانصراف، ولا ندرك أنها إنما تنصرف لكي يحل محلها زعماء الملائكة. نحن عبدة أوثان القديم. لا نعتقد في ثورة الروح، وفي خلودها التام ووجودها في كل مكان. نحن لا نعتقد أن في الحاضر قوة تنافس أو تجدد ذلك الماضي الجميل. إننا نتلكأ في خرائب السرادق القديم، حيث كان لنا فيه فيما مضى خبز ومأوى وأدوات، ولا نثق في أن الروح تستطيع أن تطعمنا وتكسونا وتمنحنا القوة. إننا لا نستطيع أن نجد مرة أخرى شيئا عزيزا حلوا سمحا كالذي انقضى. إنما نحن نجلس ونبكي من غير طائل. إن صوت الله القادر على كل شيء يقول: «إلى أعلى وإلى الأمام دائما!» لا يمكن أن تبقى وسط الأطلال. إننا لا نعتمد على الجديد، ولذا فنحن نسير دائما وأعيننا إلى الوراء، كتلك المخلوقات الخرافية المخيفة التي تنظر خلفها.
ومع ذلك فإن ما يعوض الكوارث لا يدركه العقل إلا بعد فترات طويلة من الزمان. فإن الحمى، وبتر الأعضاء، وضيعة الأمل الشديدة، وضياع الثروة، وفقدان الصديق، قد تبدو أول الأمر خسارة بغير ثمن ولا يمكن أن ترد. ولكن السنين الثابتة تكشف عن القوة العلاجية العميقة التي تنطوي على جميع الوقائع، فإن موت صديق عزيز، أو زوجة، أو أخ، أو حبيب، قد لا يبدو لنا إلا حرمانا، ولكي يصبح فيما بعد هديا لنا وحكمة؛ لأنه يسبب لنا عادة انقلابا في طريقة حياتنا، ويختم عصرا من الطفولة أو الشباب كان وشيك الانتهاء، ويهدم عملا ألفناه، أو حياة منزلية، أو أسلوبا خاصا من العيش، ويهيئ ألوفا منها جديدة أقرب ملاءمة لنمو الشخصية. إنه يسمح لنا أو يرغمنا على تكوين معارف جدد، وعلى تقبل مؤثرات جديدة تبرهن السنوات المقبلة على أهميتها القصوى . والرجل أو المرأة كالزهرة المشمسة في البستان، لا تمتد جذورها في أغوار الأرض وإن استمتعت أطرافها بفيض من ضياء الشمس، فإن انهارت من حولها جدران الحديقة وأهملها البستاني أمست كالشجرة السامقة تنمو في الغابة وتمد بظلها وثمرها عددا كبيرا من الناس.
الحب
كنت كنزا مخفيا، فأردت أن أعرف، فخلقت الخلق، فبي عرفوني. (حديث قدسي)
1
كل وعد من وعود الروح يمكن أن يوفى على صور لا تعد. وكل شوق من أشواقها يتطور إلى حاجة جديدة. والطبيعة التي لا يحتويها شيء، المتدفقة، المتطلعة، تودع فعلا في عاطفة الشفقة الأولى حبا شاملا للخير يهمل كل الاعتبارات التفصيلية في ضوئه العام. والمدخل إلى هذا الإحساس السعيد إنما يكون بالعلاقة الخاصة الرقيقة بين فرد وفرد. هذه العلاقة هي سحر الحياة البشرية، وهي - كالفورة أو الحماسة الإلهية - تستولي على المرء في فترة ما، وتؤجج ثورة في عقله وجسمه، وتوحد بينه وبين جنسه، وتربطه بصلاته البيتية والمدنية، وتحمله بعطف جديد إلى الطبيعة، وتعزز قوى الحواس وتفتح الخيال، وتضيف إلى شخصيته صفات البطولة والتقديس، وتؤسس الزواج، وتعطي الجماعة الإنسانية صفة الدوام.
يظهر أن العلاقة الطبيعية بين عاطفة الحب وفورة الشباب تستلزم ألا يهرم المرء حتى يمكنه أن يصور هذه العاطفة بألوان حية يعترف كل فتى وفتاة أنها تعبر تعبيرا صادقا عن تجارب قلوبهم النابضة. إن خيالات الشباب المعذبة تنبذ أدنى شيء يفوح برائحة الفلسفة الناضجة؛ لأنه يصيب ازدهارهم البهيج ببرودة الشيخوخة والحذلقة؛ ولذا فأنا أعلم أني أجلب لنفسي تهمة الجمود والتزمت اللذين لا ضرورة لهما من جانب أولئك الذين يؤلفون برلمان الحب وبلاطه. ولكني أشكو إلى من يكبرونني هؤلاء الرقباء الأشداء؛ لأننا يجب أن نذكر أن هذه العاطفة التي نتحدث عنها لا تهجر الشيوخ وإن بدأت مع الشباب، أو على الأصح إنها لا ترضى لمن يخلص في خدمتها أن يشيخ، وإنما تجعل المسنين الذين يحسون هذه العاطفة كالعذارى الرقيقات، لا يقلون عنهن، وإن اتخذت العاطفة عندهم لونا آخر أشد نبلا؛ لأنها نار تشتعل جذوتها الأولى في ركن ضيق من صدر إنسان ما، وقد شبت فيه من شرارة تطايرت من قلب آخر. وهذه النار تتأجج وتنتشر حتى تدفئ وتضيء عددا كبيرا من الرجال والنساء، أو ذلك القلب العام الذي يشمل الجميع، ولذا فإنها تضيء الدنيا كلها والطبيعة كلها بلهيبها السخي. ومن أجل ذلك لا يهمنا أن نحاول وصف هذه العاطفة في سن العشرين، أو الثلاثين، أو الثمانين. ومن يصورها في العهد الأول يفقد شيئا من صفاتها في عهدها الأخير. ومن يصورها في آخر عهدها يفقد شيئا من صفاتها الأولى. ويكفينا أن نأمل أننا ربما نبلغ - بالصبر وبمعونة آلهة الشعر - سر ذلك القانون الذي يصف حقيقة من الحقائق الفتية دائما والجميلة أبدا، حقيقة مركزية تجذب العين من أية زاوية تشاهد.
وأول شرط هو أنه ينبغي لنا أن نتخلى عن التمسك بالوقائع تمسكا شديدا معطلا، وأن ندرس العاطفة كما ظهرت في الأمل لا كما ظهرت في التاريخ؛ لأن كل امرئ يتصور حياته الخاصة ممسوخة مشوهة على خلاف حياة الناس. كل إنسان يرى تجربته الخاصة لوثة من الخطأ، في حين أن تجربة الآخرين تبدو له جميلة مثالية. ولو عاد المرء إلى تلك الصلات الممتعة التي يتكون منها جمال حياته، والتي أمدته بأخلص المعارف والغذاء، لأسف أشد الأسف. وا أسفاه! لست أدري لماذا يعكر وخز الضمير الشديد - في سن النضوج - صفو ذكريات السرور لعهد الحداثة، ويتغلغل في كل اسم عزيز. كل شيء جميل، إذا نظرت إليه من ناحية العقل أو نظرت إليه كحقيقة من الحقائق. ولكن كل شيء مر إذا نظرت إليه كتجربة. التفصيلات كئيبة، ولكن الخطة العامة نبيلة لائقة المظهر. في الحياة الواقعة - دولة الزمان والمكان الأليمة - تسكن الهموم والآفات والمخاوف. ومع الفكر، والمثل الأعلى، يوجد البشر الخالد، أو زهرة السرور. وحوله تغني جميع آلهة الشعر. ولكن الحزن يلتصق بالأسماء والأشخاص والاهتمامات الجزئية واليوم والأمس.
نستطيع أن ندرك ميل الطبيعة الشديد من المكانة التي يحتلها موضوع هذه العلاقات الشخصية في أحاديث المجتمع. ماذا نريد أن نعرف عن أي شخص له قيمته بقدر ما نريد أن نعرف عن مقدار ما لديه من هذه العاطفة؟ وما هي الكتب التي تروج في المكتبات المتنقلة، ما أشد سرورنا بالروايات العاطفية، حينما تروى فيها القصة بشيء من وميض الحق والطبيعة! وماذا يجذب الالتفات في صلات الحياة، مثل ما يدور بين فردين مما ينم عن المحبة؟ ربما لم نرهما من قبل، وربما لا نراهما مرة أخرى. ولكننا نراهما يتبادلان النظر، أو يظهران عاطفة عميقة، فلا نحس أننا غرباء. إننا نفهمهم ونهتم أشد الاهتمام بتطور قصتهما الخيالية. إن الناس جميعا يعشقون العاشق. والمظاهر الأولى للعطف والشفقة أغلى صور الطبيعة ثمنا. إنها بداية الأدب والرقة عند كل جلف ساذج. إن الفتى القروي الفظ يضايق الفتيات عند باب المدرسة، ولكنه اليوم يهرع إلى المدخل، ويقابل فتاة حسناء ترتب حقيبتها، فيحمل كتبها لكي يعينها، ويبدو له فجأة كأنها ابتعدت عنه نهائيا، وأصبحت له حرما مقدسا. فيجري بفظاظة بين جموع الفتيات، ولكن واحدة منهن فقط تبتعد عنه. وهذان الجاران الصغيران، اللذان كانا متقاربين جدا منذ برهة، قد تعلما أن يحترم كل منهما شخصية الآخر. ومن ذا الذي يستطيع أن يغض الطرف عن أساليب فتيات المدارس التي تسترعي الالتفات، تلك الأساليب التي فيها شيء من المهارة وشيء من السذاجة، والتي يتبعها الفتيات عندما يذهبن إلى محلات البيع في الريف لشراء لفافة من الحرير أو صحيفة من الورق، ويتحدثن نصف ساعة عن لا شيء مع الفتى البائع صاحب الوجه العريض والطبيعة السمحة؟ إنهن في القرية على قدم المساواة الكاملة، التي يتصف بها الحب؛ فترى طبيعة الحب السعيدة عند المرأة تنطلق - دون أي تدلل - في هذا الحديث العذب. قد يكون نصيب الفتيات من الجمال ضئيلا، غير أنهن ينشأن في وضوح وجلاء بينهن وبين الفتى أحب العلاقات وأوثقها صلة بما لديهن من هزل وجد عن «إدجر» و«جوتاس» و«ألميرا» وعمن دعي للحفل، ومن رقص في مدرسة الرقص، وعن موعد افتتاح مدرسة الغناء، وغير ذلك من التفاهات التي يهدر بها الفريقان. ثم تمر الأيام، ويحتاج هذا الفتى إلى زوجة، وإنه ليعرف صادقا من كل قلبه أين يجد الرفيقة الحلوة المخلصة، دون أية مخاطرة، كتلك المخاطرة التي يرثي ملتن تعرض العلماء وعظماء الرجال لها.
قيل لي إن تقديري للعقل في بعض محاضراتي العامة قد جعلني فاترا نحو العلاقات الشخصية بغير مبرر، ولكنني الآن أكاد أرتعد من ذكرى هذه الكلمات التي تستخف بي؛ لأن الأشخاص هم دنيا الحب، وأشد الفلاسفة برودة لا يستطيع أن يتحدث عما تدين به الروح الشابة - التي تجوس خلال الطبيعة - لقوة الحب، دون أن يغرى بنفي كل ما سبق له ذكره مما يحط من قدر الغرائز الاجتماعية؛ لأن الحط من شأن هذه الغرائز خيانة للطبيعة. ومع أن السرور الإلهي الذي يهبط من السماء لا يستولي إلا على قلوب الشباب، ومع أننا قل أن نرى بعد سن الثلاثين جمالا يقهر كل تحليل وكل مقارنة ويقذف بنا بعيدا عن أنفسنا، إلا أن ذكرى هذه الرؤى يدوم أكثر من كل الذكريات الأخرى، وهي كإكليل الزهر على أعتق الجباه. وهنا حقيقة عجيبة؛ فقد يبدو لكثير من الناس - عندما يسترجعون تجاربهم - أن كتاب حياتهم ليست فيه صفحة أجمل من الذكرى العذبة لبعض الصلات التي حاول فيها الحب أن يضفي فيها فتنة على بعض الظروف الطارئة التافهة؛ فتنة تفوق الجاذبية الكبرى لصدق الحب ذاته. وعندما يتطلعون إلى الوراء قد يجدون أن أشياء عديدة لم تكن تسحرهم فيها من الواقع - لهذه الذاكرة المتخبطة - أكثر مما في السحر نفسه الذي كانت تتصف به هذه الأشياء. ولكن مهما تكن خبرتنا بالتفصيلات، فإننا لا يمكن أن ننسى تلك الزيارات التي كانت تؤديها لقلوبنا وأذهاننا تلك القوة التي خلقت كل شيء من جديد، والتي كانت لها مبعث الموسيقى والشعر والفن، والتي جعلت وجه الطبيعة يشرق بالضوء البنفسجي، والتي جعلت للصبح والليل ألوانا من السحر، حينما كانت نغمة مفردة من صوت واحد تستطيع أن تجعل القلب ينبض، وأن نودع سويداء الذاكرة أتفه الحوادث ما دام يرتبط بإنسان معين، حينما كان كله عينا في حضرة فرد معين، وكله ذاكرة في غيبة ذلك الفرد، عندما كان الشباب رقيبا للنوافذ، مهتما بالقفاز والقناع والشريط وعجلات العربة، وعندما لم يكن أي مكان تام العزلة تام السكون بالنسبة إليه؛ لأنه يجد في أفكاره رفاقا أعز وحديثا أعذب مما يستطيع أن يقدمه إليه أي صديق قديم مهما كان من الأخيار الأصفياء؛ لأن صور الشيء المحبب وحركاته وكلماته ليست كغيرها من الصور مكتوبة بالماء، ولكنها كما قال فلوطارخس «مطلية بالنار»، وتصلح للدراسة في منتصف الليل:
إنك عند اختفائك، لا تختفين، فحيثما أنت
تخلفين له عينيك الساهرتين، وقلبك العاشق.
وفي ظهيرة الحياة وأصيلها لا تزال قلوبنا تنبض بذكرى أيام لم تكن فيها السعادة خالصة، وإنما كانت مخدرة بلذة الألم والخوف. ومن قال عن الحب:
إن كل متعة أخرى لا تساوي ألمه.
قد مس سر الموضوع. تلك كانت أياما لم يكن يكفينا منها أن نستغرق النهار كله في عذب الذكريات، وإنما كان لا بد من الليل كذلك. وكان الرأس يغلي طوال الليل فوق الوسادة بالعمل الكريم الذي يعتزم أداءه، وكان ضوء القمر حرارة تمتع النفوس، وكانت النجوم أحرفا، والزهور ألغازا، والهواء يصفر غناء، وكان كل عمل سفاهة، وكل الرجال والنساء الذين يعدون في الطرقات جيئة وذهابا صورا مجردة.
العاطفة تعيد بناء الدنيا للشباب، وتجعل كل شيء حيا له معنى فتصبح الطبيعة واعية، ويغني كل طائر على أغصان الشجر لقلبه وروحه. ويكاد النغم أن ينطق. وتكتسب السحب أوجها حينما ينظر إليها. وأشجار الغابة، والحشائش المتموجة، والأزهار المتفتحة، تكتسب عقلا وحكمة، ويكاد يخشى أن يعهد إليها بالسير الذي يبدو أنها تدركه. ومع ذلك فالطبيعة تريحه وتعطف عليه. ويجد في عزلة الحقول مأوى أعز مما يجد عند الناس:
الينابيع والأحراش التي تخلو من الممرات،
والأماكن التي تعشقها العاطفة الملتهبة،
والطرقات التي يضيئها القمر، عندما تأوي كل الطيور،
آمنة إلى أوكارها، خلا الوطاويط والبوم،
والناقوس في وسط الليل، والأنة العابرة،
تلك هي الأصوات التي بها نحيا.
انظر هناك في الغابة إلى الرجل المجنون الفريد! إنه صرح من الأصوات والمناظر العذبة . إنه ينبسط، إنه رجلان في آن واحد، إنه يسير وذراعاه إلى وسطه، إنه يناجي نفسه، وينادي العشب والشجر، ويحس بدماء البنفسج والبرسيم والسوسن في عروقه، وهو يتحدث مع النهر الذي يبلل قدميه.
إن الحرارة التي نبهته إلى الجمال الطبيعي جعلته يحب الشعر والموسيقى. وكثيرا ما نلاحظ أن المرء يكتب أجود الشعر بوحي الحب. وما كان ليجيد الكتابة تحت أي ظرف آخر غير ذلك.
ولعاطفة الحب أثر مماثل على طبيعته كلها. إنها توسع إحساسه وتجعل من المهرج رجلا مهذبا، وتعطي الجبان قلبا. إنها تبث في أشد الناس حقارة، وأقلهم شأنا قلبا وشجاعة يتحدى بها العالم، إذا ما ظفر بطلعة الحبيب. إن عاطفة الحب تملك المرء لغيره، ولكنها بذلك تجعله أشد امتلاكا لنفسه فيمسي رجلا جديدا، ذا إدراك جديد، وأغراض جديدة أكثر تحديدا، وشخصية موقرة وأهداف كريمة، إنه لم يعد ينتسب إلى أسرة أو جماعة، إنما هو شيء ما، هو شخص، هو روح.
وهنا دعنا نفحص عن كثب طبيعة ذلك التأثير الذي له كل هذا النفوذ على شباب الإنسان. إن الجمال الذي نشيد الآن بظهوره للإنسان، والذي نرحب به كما نرحب بالشمس أنى أشرقت، والذي يدخل السرور على قلب كل إنسان، هذا الجمال يبدو مكتفيا بذاته. والعاشق لا يستطيع أن يتصور عشيقته فقيرة وحيدة. إن الجمال يأنس بنفسه، وهو كالشجرة المتفتحة، رطب، متفتح، عليم، وإن العاشقة لتعلم عين عشيقها لماذا صور «الجمال» محفوفا «بالحب» و«الجلال». إن وجود المعشوقة يفني العالم. وقد تبعد كل شخص آخر عن التفاته وتجعله يبدو له رخيصا لا قيمة له، إلا أنها تعوضه ذلك بأن تجعل وجودها شيئا غير شخصي، كبيرا، يملأ الدنيا، فيتمثل له فيها كل شيء مختار، وكل فضيلة ممتازة. من أجل ذلك، لا يرى العاشق قط وجها للشبه بين شخص معشوقته وبين ذويها أو غيرها. يجد أصدقاؤه فيها شبها بأمها أو أخواتها أو بأشخاص من غير ذوي قرباها. ولكن العاشق لا يرى لها شبها إلا في ليالي الصيف، وفي الصباح المتلألئ، وأقواس قزح، وأناشيد الطير.
كان القدماء يسمون الجمال ازدهار الفضيلة. ومن ذا الذي يستطيع أن يحلل الفتنة الرائعة التي تشع من هذا الوجه أو ذاك وفق هذه الصورة أو تلك. إننا نتأثر بأحاسيس الحنو والرضا، ولكننا لا نستطيع أن نعرف إلى أين تشير هذه العاطفة الرقيقة، أو ذلك الشعاع الضال. وأية محاولة لإخضاعها إلى شيء من النظام تقضي عليها في خيالنا. وهي كذلك لا تشير لأي لون من ألوان صلات الود والمحبة التي يعرفها ويصفها المجتمع، ولكنها - كما يبدو لي - تشير إلى عالم آخر يختلف عن ذلك كل الاختلاف ولا يمكن بلوغه، تشير إلى علاقات رقيقة لا يتصور رقتها العقل، عذبة لا يتصور عذوبتها الخيال، تشير إلى ما يشير إليه وينبئ به الورد والبنفسج. إننا لا نستطيع أن ندرك الجمال، فإن طبيعته كالبريق المتنوع الألوان في رقبة الحمامة، وهي تحلق فوق الرءوس فترة ثم تختفي. وهو في هذا يشبه أروع الأشياء، التي لها جميعا هذه الصفة، صفة الألوان المتعددة كقوس قزح، متحدية كل محاولة للظفر به والانتفاع منه. وماذا كان يعني «جين بول رشتر» حينما خاطب الموسيقى قائلا: «ابتعدي عني! فإنك تحدثينني عن أشياء لم أجدها في حياتي الطويلة كلها، ولن أجدها»؟ ويمكننا أن نرى هذه الطلاقة عينها في كل عمل من أعمال الفنون التطبيقية؛ فالتمثال يكون جميلا عندما يبدأ في غموض لا يدرك، حينما يخرج عن النقد، ولا يمكن تحديده بالبوصلة وعصا القياس، ولكنه يتطلب خيالا نشطا يسايره، ويعبر عما هو قائم به. إن إله النحات أو بطله يتمثل دائما في الانتقال من ذلك الذي يمكن تمثيله للحواس إلى ذلك الذي لا يمكن تمثيله؛ فهو يكف أولا عن أن يكون حجرا. وهذه الملحوظة تنطبق كذلك على التصوير. وكذلك في الشعر لا يفلح الشاعر إذا بث فينا السكينة وأرضانا، ولكن حينما يذهلنا ويشعل نفوسنا بمحاولات جديدة لإدراك ما لا يمكن بلوغه. ويتساءل لاندر في هذا الشأن قائلا: «أليس مرد الشعر إلى حالة من حالات الإحساس والوجود أنقى وأصفى؟»
وكذلك الجمال الشخصي لا يفتن أولا ولا يمثل نفسه إلا إذا نزه نفوسنا عن الأغراض، عندما يصبح قصة بغير نهاية، وحينما يوحي بالإشعاعات والرؤى، ولا يقنعنا بأغراض دنيوية، حينما يجعل الرائي يحس تفاهة قدره، ولا يستطيع أن يحس حقه فيه أكثر مما يحس حقه في القبة الزرقاء وروعة الشمس الغاربة.
ومن ثم نشأ هذا القول: «إن أحببتك، فما قيمة ذلك لك؟» إننا نقول ذلك لأننا نحس أن ما نحب ليس في إرادتك، ولكن فوق إرادتك. إنه ليس أنت، ولكنه إشعاعك. إنه ذلك الذي لا تعرفه عن نفسك، ولا تستطيع أن تعرفه.
ويتفق ذلك تماما وفلسفة الجمال العليا التي أحبها الكتاب الأقدمون؛ لأنهم قالوا إن روح الإنسان، التي تتجسد فوق هذه الأرض، هامت على وجهها هنا وهناك في طلب العالم الآخر الذي يخصها، والذي خرجت منه إلى هذا العالم، ولكنها سرعان ما عشى عينيها ضوء الشمس الطبيعية، وعجزت عن رؤية أي شيء غير ما في هذه الدنيا، وإن هذا إلا ظل للأشياء الحقيقية؛ ولذا فإن الله يرسل جلال الشباب أمام الروح، كي تستفيد الروح من الأجسام الجميلة التي تعينها على ذكر الخير والجمال السماويين. والرجل الذي يشاهد مثل هذا الشخص في الجنس اللطيف من البشر، يهرع إليه، ويجد السرور في تأمل صورة هذا الشخص وحركته وذكائه؛ لأنه يوحي إليه بوجود ذلك الذي هو في داخل الجمال حقا، وعلة الجمال.
ومهما يكن من شيء، فإن الروح إذا أكثرت من الحديث إلى الأشياء المادية ثقلت، وأخطأت الأوضاع ورضيت بالجسد. وهي بذلك لا تجني غير الأسى؛ لأن الجسم يعجز عن الوفاء بما يعد به الجمال. أما إذا تقبل الإنسان بما تشير إليه الإيحاءات والرؤى التي يثيرها الجمال في نفسه، فتخطى بروحه الجسم، وأعجب بمزايا الشخصية، وتأمل العاشق معشوقته في الأحاديث والحركات، ثم يتجه صوب معرض الجمال الحقيقي، فيزيد اشتعال حبه له، وبهذا الحب يطفئ الرغبات الدنيئة، كما تطفئ الشمس النار بشروقها على الأرض. حينئذ يصبح العاشق نقي النفس مقدسا. إن العاشق بحديثه إلى ما هو رائع في ذاته، عزيز النفس، متواضع، عادل، ينتقل إلى حب لهذه الصفات النبيلة أشد حرارة، وإلى إدراك لها أسرع. ثم ينتقل من حبها فرادى إلى حبها جماعة. وهكذا ترى أن الروح الجميلة الواحدة ليست سوى المنفذ الذي يدخل خلاله إلى جملة الأرواح الصادقة الطاهرة. إن العاشق في صحبته الخاصة لرفيقته يشتد وضوح رؤيته لأية بقعة أو أية لوثة من هذه الدنيا لطخت جمالها، ويستطيع أن يشير إليها، ويكون ذلك بسرور مشترك، حتى إن العاشقين يستطيعان - دون أن يسيء أحدهما إلى الآخر - أن يشيرا إلى عيوبهما وعوائقهما، وأن يقدم كل منهما للآخر كل معونة وعزاء لعلاج هذه العيوب وتلك العوائق.
وإذ يرى العاشق في أرواح عديدة صفات الجمال الإلهي، ويفصل في كل روح ما هو مقدس عن الدنس الذي اقتبسته في هذه الدنيا، يرقى إلى قنن الجمال، إلى حب الله ومعرفته، على درجات من سلم الأرواح المخلوقة.
بمثل هذا حدثنا الحكماء الصادقون عن الحب في جميع العصور. وليس هذا المذهب بالقديم أو الجديد. وإذا كان أفلاطون وفلوطارخس وأبوليس قد بشروا به، فكذلك بشر به بترارك وأنجلو وملتن. ونود لو اتصف به الزواج في صدق وإخلاص، فنقضي - ونلوم أنفسنا - على تلك الحكم المستورة التي تسود عقود الزواج التي نصوغها في كلمات نستمدها من العالم العلوي، في حين أننا نتطلع بإحدى عينينا إلى مخزن الطعام، فينم أخطر حديث نتحدث به عن رائحة لحم الخنزير وأواني المساحيق. وأسوأ ما يكون الأمر عندما تدخل هذه الحسية في تعليم الفتيات، وتذوي أمل الطبيعة الإنسانية ومحبتها، بتعليمهن أن الزواج معناه اقتصاد منزلي، وأن حياة المرأة لا تهدف إلى شيء آخر.
غير أن حلم الحب هذا، وإن يكن جميلا، إلا أنه منظر واحد من مسرحيتنا؛ فالروح في سيرها من الداخل إلى الخارج تتسع دائرتها دائما، كالحصاة يلقى بها في بركة الماء، أو كالضوء يصدر عن النجم. إن أشعة الروح تقع أولا على أقرب الأشياء، على كل أداة نافعة وكل ألعوبة، على المربيات والخدم، على البيت، والفناء، والمسافرين، وعلى دائرة المعارف المنزلية، وعلى السياسة والجغرافيا والتاريخ. ولكن الأشياء تتجمع دائما وفقا للقوانين العليا أو السفلى. والبيئة، والحجم، والعدد، والعادات، والأشخاص، تفقد تدريجا نفوذها على أنفسنا . وتسود فيما بعد العلة ومعلولها، والعلاقات الحقيقية، والتشوق إلى الانسجام بين الروح وما يتحوطها من ظروف، والميل الطبيعي إلى التقدم وإلى تصوير الأشياء في صورة مثالية. والخطو إلى الوراء من العلاقات العليا إلى العلاقات السفلى يصبح ضربا من المحال. وهكذا ترى أنه حتى الحب، وهو تأليه الأشخاص، لا بد أن يتحول إلى شيء غير شخصي يوما بعد يوم. ولكنه لا يشير إلى ذلك البتة أول الأمر. وقلما يفكر الشاب والفتاة - عندما يتطلع كل منهما إلى الآخر خلال الحجرات المزدحمة بعيون ملؤها الإدراك المتبادل - في الثمرة الغالية التي سوف يؤتيها بعد وقت طويل هذا الباعث الجديد الخارج عن أنفسنا خروجا تاما. إن عملية الاخضرار تبدأ أولا في أطراف القشور وأوراق البراعم. ومن تبادل النظرات يتقدم الشاب والفتاة إلى الملاطفة وإلى الشهامة، ثم إلى العاطفة الملتهبة، ثم إلى العهد القاطع، فالزواج. إن الرغبة الحارة تنظر إلى هدفها كوحدة كاملة، والروح تتجسد تجسدا تاما، والجسد يتحول تحولا تاما إلى روح:
إن دماءها الصافية الفصيحة،
تنطق في وجنتيها، بكلمات مفصلة واضحة،
حتى إن المرء ليوشك أن يقول إن جسمها يفكر.
إن روميو - برغم موته - يجب أن يقطع أنجما صغيرة لكي يجمل السماء. والحياة مع هذين العاشقين ليس لها هدف آخر، غير جوليت، أو روميو. والليل والنهار والدراسات والمواهب والممالك والدين كلها كائنة في هذه الصورة المشبعة بالروح. وفي هذه الروح التي كلها صورة - إن العاشقين يسعدان بإعزاز أحدهما الآخر. وعندما يتعهدان بالحب، وفي الموازنة بين تحية كل منهما للآخر. وعندما يختلي أحدهما يسلي نفسه بصورة حبيبته التي يذكرها. هل يرى حبيبه الآخر نفس النجم، ونفس السحابة الذائبة، ويقرأ نفس الكتاب، ويحس نفس العاطفة، التي يسعد بها الآن؟ يبذل العاشق حبه ويزنه، ويجمع المزايا الثمينة، والأصدقاء، والفرص، والأملاك. ويبتهج عندما يكتشف أنه يود راضيا مسرورا أن يسلم كل هذا فدية للرأس الجميل الحبيب ، دون أن يمس شعرة واحدة منه أذى. ولكن مصير البشرية يتوقف على هؤلاء الأطفال. يتعرضون للخطر والأسى والألم كما يتعرض غيرهم. فيتوسل الحب ويعقد العهود مع «القوة الخالدة» نيابة عن هذا الرفيق العزيز. والاتحاد الذي يتم على هذه الصورة، والذي يضيف قيمة جديدة إلى كل ذرة في الطبيعة؛ لأنه يحول كل خيط في نسيج العلاقات كله إلى أشعة ذهبية، ويغرق الروح في عنصر جديد أحلى من كل عنصر آخر، هذا الاتحاد مع ذلك حالة مؤقتة؛ لأن الزهور واللآلئ والشعر، والنزاع، بل والسكنى في قلب آخر، كل ذلك لا يستطيع دائما أن يشبع الروح التي تسكن الطين. إنها توقظ نفسها في نهاية الأمر من بين هذه الأشياء العزيزة، التي تشبه اللعب، وتعد العدة متجهة صوب أغراض بعيدة عالمية. إن الروح الكامنة في نفس كل فرد، والتي تشتهي السعادة الكاملة، تكتشف المتناقضات والعيوب، واختلال النسب في الفرد الآخر. ومن ثم كانت الدهشة والعتاب والألم. ومع ذلك فإن ما جذب أحدهما إلى الآخر هو دلائل الجمال، ودلائل الفضيلة، وهذه الفضائل موجودة مهما تسترت. إنها تظهر، ثم يعود ظهورها، وتستمر في جاذبيتها، ولكن التقدير يتغير، ويبتعد عن هذه الدلائل ويلتصق بالمادة. فتسترد بذلك المحبة الجريحة كرامتها. وفي نفس الوقت، كلما بليت الحياة أثبتت أنها لعبة فيها تبادل واتحاد لجميع الأوضاع الممكنة للفريقين، يستخدم فيها كل منهما كل موارده، ويعلم فيها بمواطن الضعف والقوة عند الآخر. كل ما في الدنيا، مما هو معروف أو ينبغي أن يعرف، يندمج بمهارة في تكوين الرجل أو المرأة:
حب الفرد للفرد يلائم النفس،
وهو، كالمن، فيه مذاق كل شيء.
ويسير العالم، وتتغير الظروف في كل ساعة. وتطل من النوافذ الملائكة التي تسكن معبد الجسم هذا، وكذلك الشياطين والرذائل، وتوحدها جميع الفضائل. فإن كانت هناك فضيلة، اتصفت بها جميع الرذائل، وأقرت بذلك وانصرفت. وبمرور الزمن تفتر في صدر كل عشيق تلك النظرة الملتهبة، وتفقد من حدتها ما تكسبه في عمقها، وتصبح تفاهما طيبا كاملا. ويسلم كل منهما للآخر - دون شكاة - بالوظائف الطيبة التي يكلف بأدائها مع مرور الزمن كل من الرجل والمرأة على حدة، ويستبدلان بالعاطفة التي كانت من قبل لا تستطيع أن تحول النظر عن هدفها اهتمام كل طرف بأمل الآخر، اهتماما يشوبه السرور والتحرر من الغرض، سواء في حضرته أو غيبته. وأخيرا يكتشفان أن كل ما جذب أحدهما نحو الآخر أولا - تلك الملامح التي كانت مقدسة، وأثر ذلك الفتنة الساحرة - كان مؤقتا إلى حين، وكان له غرض يرمي إليه، كالهياكل الخشبية التي تشيد عليها المنازل. وتطهير العقل والقلب عاما بعد عام، هو الزواج الحق، الذي يتوقعه الطرفان ويتأهبان له من أول الأمر، وهو فوق إدراكهما تماما. وعندما أفكر في هذه الأغراض التي من أجلها ترى شخصين - رجلا وامرأة - على ما بينهما من اختلاف واتفاق في المواهب، يغلقان عليهما بيتا واحدا ينفقان بداخله اختلاطا زوجيا أربعين أو خمسين عاما. عندما أفكر في ذلك قد أعجب من الاهتمام الذي يترقب به القلب هذا الموقف الحرج منذ الحداثة. ولا أعجب من روعة الجمال، التي تزين بها الغرائز سرير الزوجية، ولا أعجب كذلك من أن تتبارى الطبيعة والعقل والفن، في المزايا والألحان التي تضفيها على أناشيد العرس.
وهكذا نتدرب على حب لا يعرف الجنس، ولا الشخص، ولا الهوى، ولكنه يبحث عن الفضيلة والحكمة. نحن بالطبيعة نلاحظ، ومن ثم نتعلم، وهذه حالنا الدائمة، ولكنا كثيرا ما ندفع إلى الإحساس بأن أهواءنا ليست سوى خيام في الليل، وأهداف أهوائنا تتغير، كما تتغير أهداف الفكر، وإن يكن ذلك في بطء وفي ألم. وهناك لحظات تسيطر فيها الأهواء على المرء وتستوعبه، وتجعل سعادته متوقفة على شخص واحد أو أشخاص. ولكن العقل - في حالة الصحة - سرعان ما يعود إلى الظهور، فترى أبهاءه ذات الأقواس العالية، تلمع بالأضواء الثابتة التي كأنها تشع من الكواكب. ويفقد الحب الحار والمخاوف التي مرت بنا كالسحب صفتها الزائلة، وتتحد مع الله، كي تبلغ كمالها. ولكننا يجب ألا نخشى فقدان أي شيء بتقدم الروح. بل يمكننا أن نثق في الروح حتى النهاية. وأمثال هذه العلاقات الجميلة الجذابة يجب ألا يقلقها ويحتل مكانتها إلا ما هو أجمل منها، وهكذا إلى الأبد.
الصداقة
إن قطرة حمراء من دم الرجولة،
ترجح البحر الزاخر.
والدنيا تقبل وتدبر مزعزعة،
ويبقى العاشق ثابت الجذور.
لقد توهمت فراره،
وبعد عدة سنين،
أشرق منه عطف لا ينفد،
كإشراق الشمس كل صباح.
فتحرر مرة أخرى قلبي المهموم،
وقال الفؤاد: أيها الصديق،
خلالك وحدك تتقوس السماء،
وخلالك تحمر الورود،
كل الأشياء خلالك تتخذ صورة أنبل،
وتبدو كأنها من وراء هذه الدنيا،
والقضاء المحتوم الذي يلحق بنا كالطاحونة الدائرة،
بفضلك يصبح طريقا مشمسا.
وعلمني نبلك كذلك،
أن أسيطر على يأسي.
إن ينابيع حياتي الخفية،
تصفو خلال صداقتك.
في قلوبنا شفقة تفوق كثيرا ما يتردد على ألسن الناس. وبالرغم من كل الأنانية التي تقشعر الدنيا من برودتها كأنها الرياح الشرقية، فإن أسرة الإنسان كلها تدثر بعنصر الحب كأنه الأثير الرقيق. كم من الناس نقابل في البيوت، لا نكاد نتحدث إليهم، ولكننا مع ذلك نقدرهم ويقدروننا! كم من الناس نقابل في الطرقات، أو نجالس في الكنائس، ممن تسرنا رفقتهم سرورا حارا، وإن يكن في صمت! اقرأ لغة الإشعاع الحائر الذي يصدر عن هذه العيون. إن القلب ليعرف.
إن أثر الانغماس في هذه العاطفة البشرية ابتهاج قلبي أكيد. في الشعر وفي الحديث العادي تشبه المودة والخير الذي يحسه المرء نحو الآخرين بما للنار من أثر مادي. وهذا الإشراق الباطني الرقيق يسري في سرعة النار، بل أسرع منها، وأفعل، وأبهج. وهو الذي يجعل الحياة حلوة، من أعلى درجاته وهو الحب العنيف، إلى أحط درجاته وهو النية الطيبة.
إن قوانا العقلية وقدرتنا على العمل تزيد بازدياد ما في قلوبنا من محبة. فترى العالم يجلس ليكتب، ولكن سنواته كلها التي ينفقها في التأمل لا تمده بفكرة واحدة طيبة أو تعبير حسن، فإن اقتضته الضرورة أن يحرر خطابا إلى صديق، توارد عليه في الحال حشد من الأفكار الرقيقة في ألفاظ مختارة من كل صوب. في كل بيت تسكنه الفضيلة واحترام النفس تلمس النبض الذي يثيره قدوم الغريب. وإذا كان قدوم الغريب المحبب إلى النفس متوقعا ثم يعلن عنه غزت قلوب كل من في البيت حالة من القلق هي بين المتعة والألم. إن قدومه يكاد يبعث الخوف في القلوب الطيبة التي تود أن ترحب به. ينفض عن البيت التراب، ويتحرك كل شيء من مكانه، وتستبدل بالسترة القديمة سترة جديدة، ويعد أصحاب البيت غداء إن أمكنهم ذلك. الغريب المحبب إلى النفس لا يحدثك عنه غيره إلا بأطيب الأنباء، ولا تسمع عنه إلا كل خير وكل جديد. إنه يمثل لنا الإنسانية، وهو ما ترغب فيه نفوسنا. وبعدما نتخيله ونستعد له نتساءل على أية صورة ينبغي أن تكون علاقتنا في الحديث والتصرف مع مثل هذا الرجل، وتقلق خواطرنا المخاوف. وهذه الفكرة عينها ترفع من شأن حديثنا معه. فنتكلم أحسن مما ألفنا. يرق خيالنا إلى أقصى الحدود. وتغزر الذاكرة، ويغادرنا الشيطان الأبكم لفترة ما. ولعدة ساعات نستطيع أن نواصل سلسلة من الصلات المخلصة اللطيفة الفنية التي نستمدها من أقدم التجارب وأخفاها، حتى إن من يجلس إلى جوارنا من ذوي قربانا ومعارفنا لتعروه دهشة قوية مما نبدي من قدرة غير مألوفة. ولكن عندما يشرع الغريب في إقحام أهوائه وتعاريفه وعيوبه في الحديث ينتهي كل شيء؛ فقد سمع أول وآخر وأحسن ما يمكن أن يسمعه منا. إنه لم يعد غريبا. إن الانحطاط والجهل وسوء التفاهم قد عرفناها من زمان بعيد. والآن عندما يقبل علينا قد نقابله بالنظام والرداء والغداء، ولكنه لن يظفر منا بعد ذلك بنبضات القلب وصلات الروح.
أي شيء أمتع من هذا التفجر للمودة التي تعيد لي الدنيا إلى شبابها؟ وأي شيء ألذ من لقاء عادل ثابت بين اثنين في فكرة أو إحساس؟ وما أجمل خطا الموهوبين والصادقين عندما تقترب من هذا القلب النابض! إن اللحظة التي نستمتع فيها بالمودة تتحول فيها الدنيا؛ فلا شتاء، ولا مساء، وكل المآسي وكل الهموم تختفي، بل وكل الواجبات. ولا يملأ الأبدية التي تسير إلى الأمام سوى أشباح الأشخاص المحببين إلى قلوبنا التي يشع منها كلها النور. ولتثق كل نفس أنها سوف تلاقي صديقها في مكان ما في هذه الدنيا، وسوف ترضى وتبتهج وحدها ألف عام.
استيقظت هذا الصباح أشكر الله في خشوع على أصدقائي، قديمهم وجديدهم. كيف لا أسمي الله الجميل، وهو يتبدى لي كل يوم في هباته؟ إنني ألوم المجتمع، وأرحب بالعزلة، ومع ذلك فإني لم أبلغ من الجحود أن أغمض عيني عن العقلاء، والظرفاء، ونبلاء الفكر، الذين يمرون بداري بين الحين والحين. من يسمعني، ومن يفهمني يمسي لي، أملكه في كل حين. وليست الطبيعة فقيرة ولكنها تمدني بهذا السرور مرارا، ولذا فإننا ننسج الخيوط الاجتماعية لأنفسنا، نسيجا جديدا من العلاقات. وبما أن الأفكار العديدة تتخذ على التتابع شكلا ماديا، فإننا نقف بعد حين في عالم جديد من خلقنا، ولا نكون بعد ذلك غرباء راحلين في عالم من التقاليد. لقد أتاني أصحابي ولم أبحث عنهم. وهبني إياهم الإله العظيم. وبما لدي من أقدم الحقوق، وبالتقارب المقدس بين ما عند الصديق من فضيلة وما عندي، أجد أصحابي. ثم أهمل - بل وألغي - أو على الأصح يهمل الجانب المقدس في نفسي وفي نفوسهم الجدران السميكة من استقلال الشخصية، والقرابة، والسن، والجنس، والظروف، التي يغض الطرف عنها عادة، ويجعل من المتعدد واحدا. أيها الأحباب الأعزاء، إنني مدين لكم بالشكر العظيم، لأنكم تحملون لي الدنيا إلى أعماق نبيلة جديدة، وتوسعون معاني أفكاري كلها. وذلك شعر الشاعر الأول يبعث من جديد - شعر فياض - من نشيد وأغان وملاحم، شعر متدفق دائما، لا يكف فيه أبولو وآلهة الشعر عن الغناء. وهل هذه الأشياء كلها ستفصل نفسها عني مرة أخرى، كلها أو بعضها؟ لست أدري، ولكني لا أخشى ذلك؛ لأن علاقتي بها طاهرة، تمسكني بها رابطة ساذجة. ولما كان سر حياتي اجتماعيا هكذا، فإن نفس هذه الرابطة سوف تفرض قوتها على من يبلغ من النبل ما بلغ هؤلاء الرجال والنساء، حيثما أكون.
أعترف في هذا الصدد برقة الطبيعة الزائدة، ويكاد يحدق بي الخطر «إذا أنا عصرت من المودة السم الحلو الذي يمازج خمرها حينما يساء استعماله.» الشخص الجديد عندي حادث عظيم، يحرمني من النوم. كثيرا ما ارتسمت في ذهني عن بعض الأفراد خيالات جميلة أسعدتني ساعات، غير أن السرور ينتهي بانتهاء النهار دون ثمرة. وهو لا يولد فكرا، وأعمالي لم تعدل إلا قليلا. لا بد أن أشعر بالفخر بمزايا صديقي كأنها مزاياي، ولا بد أن أشعر بامتلاك فضائله. وأشعر عند الإطراء عليه بالحرارة التي يشعر بها العاشق حينما يسمع الثناء على مخطوبته العذراء. إننا نبالغ في تقدير ضمير الصديق. فيبدو ما لديه من خير أكثر مما لدينا، وطبيعته أرق، ومغرياته أقل. كل ما له - اسمه وشكله ولباسه وكتبه وأدواته - تشغل الخيال. وأفكارنا تصدر عن شفتيه جديدة أعظم مما تصدر هي عينها منا.
ومع ذلك، فإن انقباض القلب وانبساطه لهما ما يشبههما في مد الحب وجزره. الصداقة كخلود الروح، أكثر خيرا من أن تصدق. إن العاشق حينما ينظر إلى فتاته يكاد لا يعرف أنها ليست بعينها معبودته. وفي ساعة الصداقة الذهبية تفاجئنا ظلال من الشك وعدم التصديق. نشك في أننا نهب بطلنا الفضائل التي يتألق بها، وبعد ذلك نعبد الصورة التي نسبنا إليها هذه الصفات المقدسة. والروح - على وجه الدقة - لا تحترم الأشخاص كما تحترم نفسها. وفي العلم الدقيق يتصف جميع الناس بصفة واحدة: هي التباعد الذي ليس له مدى. فهل نخشى أن يفتر حبنا بتنقيبنا عن الأساس الميتافيزيقي لهذا المعبد الفردوسي؟ وهلا أكون حقيقيا كالأشياء التي أراها؟ إذا كنت كذلك، فلن أخشى أن أعرفها كما هي؛ فإن جوهر الأشياء ليس أقل جمالا من مظهرها، وإن كان بحاجة في إدراكه إلى أعضاء أدق. إن جذور النبات لا تخفى عن العلم، وإن كنا نقطع الساق من أجل الأزهار والأغصان. ولا بد أن أخاطر باستخراج الحقيقة الجرداء من بين هذه الأحلام السارة، حتى إن أثبتت أنها جمجمة مصرية في وليمتنا. إن الرجل الذي يثبت على الاتحاد مع فكرته يحسن التفكير في نفسه. إنه يحقق نجاحا شاملا حتى إن اشترى هذا النجاح بألوان معينة من الفشل المطرد؛ فليست هناك أية مزايا، أو قوى أو ذهب أو قدرة، تستطيع أن تلائمه. ولست أملك إلا أن أعتمد على فقري أكثر مما أعتمد على ثروتك، ولا أستطيع أن أجعل وعيك معادلا لوعيي. النجم وحده يخطف البصر، أما الكوكب فأشعته فاترة تشبه ضوء القمر. إنني أسمع ما تقول عن النواحي التي تدعو إلى الإعجاب وعن المزاج الذي مارسته في رفيقك الذي تثني عليه، ولكني أعرف جيدا أني لن أحبه برغم كل أرديته القرمزية، اللهم إلا إذا كان في نهاية الأمر إغريقيا مسكينا مثلي. لا أنكر يا صديقي أن الظل العريض للظواهر يمتد إليك كذلك فيصبغك بظلامه الدامس ولونه الداكن، أنت كذلك، الذي يبدو كل شيء ظلا إذا قورن بك. إنك لست الوجود - كالصدق أو العدل - ولست روحي، ولكنك صورة ورسم منها. أتيتني مؤخرا، ولكنك تقبض برغم ذلك على قبعتك وعباءتك. ألا تنبت الروح أصدقاء كما تنبت الشجرة الأوراق، وبعد توليد البراعم الجديدة تنفض الأوراق القديمة؟ إن قانون الطبيعة هو التبادل دائما. كل حالة كهربية تسبب نقيضها. إن الروح تحيط نفسها بالأصدقاء، كي تدخل في حالة أعظم من معرفة الذات أو العزلة، وتسير وحدها زمنا كي تعلي من قدر حديثها أو من صحبتها. وهذه الطريقة تتضح خلال تاريخ علاقاتنا الشخصية كلها. إن غريزة الحب تحيي الأمل في الاتحاد مع رفاقنا، وعندما يعود إلينا الإحساس بالذلة يستدعينا من هذا السباق. وهكذا ترى أن كل إنسان يقضي حياته في البحث عن الصداقة، وإذا هو سجل عاطفته الصادقة، فقد يكتب خطابا كهذا لكل طالب جديد لحبه:
صديقي العزيز
لو كنت واثقا منك، واثقا من قدرتك، واثقا من التوافق بين مزاجك ومزاجي، لما فكرت مرة أخرى في أمور تافهة تتعلق بإقبالك وإدبارك. لست عاقلا جدا، وحالاتي العقلية يمكن بلوغها تماما، وأنا أحترم نبوغك، وإن لم أسبر غوره بعد، ومع ذلك فإني لا أجرؤ أن أزعم أنك فهمتني فهما تاما، ولذا فأنت لي عذاب مستطاب، وإني لك دائما، أو لست لك مطلقا.
ومع ذلك فإن هذه الملذات القلقة والآلام الخفيفة يدفعنا إليها التطلع ولا تدوم مدى الحياة. ولا ينبغي أن نسترسل فيها؛ فهي كنسيج العنكبوت وليست كالقماش. إن صداقاتنا تسارع إلى خواتيم باترة فاترة؛ لأننا جعلناها نسيجا من الخمر والأحلام، بدلا من الخيوط الصلبة في القلب البشري. قوانين الصداقة صارمة خالدة، من نسيج واحد هي وقوانين الطبيعة وقوانين الأخلاق. ولكننا هدفنا إلى منفعة عاجلة تافهة لكي نمتص حلاوة مباغتة. إننا نجني أبطأ الثمار في فردوس الله كله، الثمرة التي لا بد لها من عدة فصول من الصيف والشتاء لكي تنضج. إننا لا نبحث عن الصديق بحثا منزها، ولكنه ممزوج بعاطفة مختلطة ترمي إلى امتلاكنا له وعبثا ما نحاول؛ فإننا مسلحون إلى الأذقان بعداوات خفية تبدأ فعلها بمجرد ما نلتقي، ونترجم الشعر كله إلى نثر مبتذل. ويكاد الناس جميعا أن ينزلوا للقاء. وكل لقاء ينبغي أن يكون فيه تنازل من الطرفين، بل وما هو أسوأ من ذلك؛ فإن لكل منهما طبيعة جميلة تختفي زهرتها نفسها وعبير زهرتها عندما يقترب كل منهما من الآخر. ما أشد خيبة الأمل الدائمة في الاجتماع الحقيقي، حتى بين الفضلاء وذوي المواهب! بعدما تتم المقابلات بعد توقعها زمنا طويلا لا بد أن نتعرض للعذاب فورا بضربات مخيبة وببلادة الحس المفاجئة التي تأتي في غير إبانها، وبنوبات تصيب العقل وروح المرح، في ريعان الصداقة والفكر. إن مواهبنا العقلية لا تخلص لنا، وكلا الطرفين يخفف عن نفسه بالعزلة.
لا بد أن أكون كفئا لكل علاقة. لا يهمني كم صديق عندي، وأي رضى أستطيع أن أجد في حديثي مع كل منهم، إذا كان هناك واحد لست له كفئا. وإذا تضاءلت لأني غير كفء في إحدى المباريات، فإن السرور الذي أجده في كل ما عداها يصبح وضيعا متخاذلا. وإني لأمقت نفسي إذا جعلت من أصدقائي الآخرين مأوى لنفسي الضعيفة:
إن المحارب الباسل وقد ذاع صيته في القتال،
إذا انتصر مائة مرة، ثم هزم مرة،
يمحى بتاتا من كتاب الشرف،
وكل ما جاهد من أجله ينسى.
ولذا فإننا نلام أشد اللوم على ما يصيبنا من قلق. وليس الخجل وفقدان الحس سوى قشرة سميكة يحتمي وراءها من النضج المبتسر هيكل رقيق. وإن هذا الهيكل ليفقد لو عرف نفسه قبل أن تنضج روح من خير الأرواح نضجا يكفي لمعرفته وامتلاكه. إنني أحترم العوامل الطبيعية الثابتة التي تجمد الياقوت في مليون عام، والتي تفعل فعلها في مدى من الزمان تظهر فيه جبال الألب والإنديز وتختفي كأنها أقواس قزح. إن الروح الطيبة في حياتنا ليست لها سماء تساوي اندفاعها. والحب، وهو جوهر الإله، ليس للطيش، ولكنه لقيمة الإنسان كلها. دعنا لا نأبه في اعتبارنا بهذا الترف الصبياني، بل بأثبت القيم. دعنا نقترب من صديقنا بثقة جريئة في صدق قلبه، وفي اتساع أسسه، التي لا يمكن أن تنقلب.
إن ما يجذبنا في هذا الموضوع لا يمكن مقاومته، وإني أتخلى مؤقتا عن كل ما يتعلق بالمنفعة الاجتماعية الثانوية لكي أتحدث عن تلك العلاقة المختارة المقدسة، وهي نوع من المطلق، بل إنها لتجعل لغة الحب مريبة مبتذلة؛ فذلك أطهر، وليس هناك ما يبلغ هذه المكانة من التقديس.
ولست أحب أن أعالج الصداقات معالجة رقيقة، وإنما أحب أن أعالجها بشجاعة وخشونة؛ فالصداقة الحقيقية ليست كألواح الزجاج المصنفر، أو كالصقيع، ولكنها أصلب شيء عرفناه. والآن بعد أجيال عديدة من التجارب، ماذا نعرف عن الطبيعة، أو عن أنفسنا؟ إن الإنسان لم يخط خطوة واحدة نحو حل مشكلة مصيره. إن الناس في العالم أجمع يوصمون بالغفلة، ولكن السرور وطمأنينة النفس الخالصة العذبة، التي أستمدها من الائتلاف مع روح أخي، هي النواة بعينها، التي ليست الطبيعة كلها والفكر كله سوى القشرة والغلاف لها. ما أسعد البيت الذي يأوي صديقا! إنه يستحق أن يقام كما تقام المقاعد في الولائم، أو كما يقام القوس لاستضافته يوما واحدا. وأسعد من ذلك أن يعرف جلال تلك العلاقة، وأن يكرم قانونها! من يقدم نفسه طالبا هذا الميثاق، يتقدم - كاللاعب في الأولمب - إلى المباريات العظمى، التي يكون أعز أبناء العالم فيها هم المتنافسون. إنه يقدم نفسه لمباريات تتطلب الوقت والحاجة والخطر. والظافر فيها هو وحده ذلك الذي تكفي صحة تكوينه للمحافظة على دقة جماله مما يسببه كل أولئك من بلى. إن هبات الحظ قد تظهر وقد تختفي، ولكن السرعة كلها في هذه المباراة تتوقف على النبل الذاتي وعلى ازدراء توافه الأمور. هناك عاملان يؤثران في تكوين الصداقة، كل منهما له سيادة عليا، حتى إني لا أرى تفوقا في أحدهما، ولا سببا في تقديم ذكر أحدهما على الآخر، أحدهما الصدق؛ فالصديق شخص أستطيع أن أخلص له، وأستطيع أن أفكر أمامه بصوت مرتفع. إنني مع هذا الصديق أصل أخيرا إلى أعماق رجل حقيقي يضارعني، أستطيع معه أن أنزع حتى تلك الثياب الداخلية، ثياب الرياء والرأفة، والتفكير الباطني الذي لا ينزعه الناس أبدا، وأستطيع أن أعامله بالبساطة والتكامل الذي تلتقي به ذرة كيمائية بذرة أخرى. الإخلاص ميزة لا يظفر بها إلا ذوو المراتب العليا، كأنه ذروة السلطان، فأصحاب السلطان وحدهم هم الذين يستطيعون قول الصدق؛ لأنهم لا يخضعون لأحد يداهنونه أو يصوغون أنفسهم على غراره. كل رجل مخلص وهو منفرد. فإذا ما اتصل بشخص آخر بدأ النفاق. إننا ندرأ ونتقي اقتراب زميل لنا بالثناء وبالغيبة وضروب التسلية وغير ذلك من الحاجات. إننا نخفي عنه تفكيرنا تحت مائة غطاء. عرفت رجلا انتابته نوبة جنون ديني، فخلع هذه الثياب، واستغنى عن الثناء وما ألف الناس، فتحدث إلى ضمير كل شخص التقى به، وكان حديثه على بصيرة كبرى وجمال عظيم. فقاومه الناس أول المر، واتفقوا على أنه معتوه، ولكنه أصر على مسلكه لفترة ما، ولم يكن بوسعه حقا غير ذلك، فحقق مزية كبرى، وهي أنه أرغم كل رجل من معارفه على علاقة صادقة به. فلم يفكر أحد في أن يحدثه بالباطل، أو أن يصرفه بحديث عن الأسواق أو قاعات المطالعة. وإنما اضطر كل إنسان بهذا الإخلاص إلى مثل هذه المعاملة الصريحة، وإلى إظهار كل ما لديه من حب للطبيعة، أو الشعر، أو علامة من علامات الصدق، في وضوح وجلاء. ولكن المجتمع لا يسفر لأكثرنا عن وجهه وعينه، وإنما يبدي جانبه وظهره. أليس من خبل العقل أن تصدق في علاقتك بالناس في عصر باطل؟ إننا قلما نستقيم في السير، ويكاد كل رجل نلتقي به أن يكون بحاجة إلى شيء من الملاطفة، وإلى شيء من المداراة. إن لديه بعض الشهرة وبعض الموهبة، وشيئا من النزعة الدينية أو حب الإنسانية في رأسه لا جدال فيه، وإن ذلك ليتلف كل حديث معه. إنما الصديق رجل عاقل لا يتوجه إلى كفايتي العقلية، وإنما يتوجه إلي. صديقي يقدم لي التسلية دون أن يتطلب شرطا من جانبي. فالصديق إذن ضرب من ضروب التناقض في الطبيعة؛ فأنا الذي لا يكون لي وجود إلا وأنا وحيد، والذي لا أرى شيئا من الطبيعة أستطيع أن أؤكد وجوده مثلما أؤكد وجودي بأدلة مماثلة، أنا ذلك الشخص، أرى الآن ما يشبه وجودي، بكل ما سما إليه، وكل ما فيه من تنوع وتطلع، مكررا في صورة أخرى، ولذا فإننا نستطيع أن نعد الصديق أجمل ما أبدعته الطبيعة.
والعامل الآخر من عاملي الصداقة هو رقة العاطفة. إننا نرتبط بغيرنا من الناس بكل لون من ألوان الارتباط، بالدم، والتكبر، والخوف، والأمل، وبالربح، والشهرة، والكراهية والإعجاب، وبكل ظروف وكل إشارة وكل أمر تافه، ولكننا لا نكاد نصدق أن شخصا آخر قد يكون لديه من الصفات ما يجذبنا بالحب. هل يمكن أن يكون لشخص آخر من البركة، ولنا من الطهارة ما يجعلنا نمنحه العطف؟ إذا أصبح الرجل عزيزا علي فقد بلغت هدف الحظ السعيد. قل ما أجده مكتوبا عن هذا الموضوع في الكتب بطريقة تمس القلب مباشرة. وبرغم ذلك فإن لدي نصا لا أملك إلا أن أذكره، يقول مؤلفه: «إنني أعرض نفسي عرضا خفيفا صريحا على أولئك الذين يملكونني حقا، وأقل ما أكون عرضا لنفسي لأولئك الذين كرست لهم نفسي أكثر من سواهم.» وددت لو كان للصداقة قدمان وعينان ولسان فصيح، إذن لثبتت جذورها في الأرض قبل أن تحلق فوق القمر. أحب أن يكون لها شيء من صفات المواطن قبل أن تكون ملاكا كاملا. إننا نزجر المواطن لأنه يجعل من الحب سلعة؛ فالصداقة عنده تبادل الهدايا والسلف النافعة، وهي الجوار الطيب، وهي تسهر على المريض، وترفع بساط الرحمة في الجنازة، وتتجاهل تماما ما تنطوي عليه العلاقة من نبل ورقة. ومع أننا لا نستطيع أن نرى الإله المتخفي في زي هذا التاجر الذي يبيع الطعام والشراب، إلا أننا من ناحية أخرى لا نستطيع أن نعفو عن الشاعر إذا غزل خيوطه رقيقة جدا، ولم يعزز قصته بالفضائل المدنية، فضائل العدل والمواظبة والإخلاص والشفقة. إنني أمقت أن ألطخ اسم الصداقة حتى نجعلها تدل على تحالف دنيوي من الطراز الجديد. وإني لأوثر جدا صحبة الصبية الحراثين وتجار الصفيح المتجولين على المحبة الحريرية المعطرة التي تحتفل بأيام لقياها باستعراض مرح، وبالركوب في العربات الصغيرة تجرها الخيل، وبالعشاء في أحسن الحانات. غاية الصداقة تجارة بأدق معانيها وأشدها ارتباطا بحياتنا المنزلية. إنها أدق من أية تجارة لنا بها خبرة، إنها للعون والراحة في جميع العلاقات والتنقلات في الحياة والموت. إنها تتفق وأيام الجد، والهدايا الأنيقة، وجولات الريف، ولكنها تتفق كذلك والطرق الخشنة والرحلة الشاقة، والسفينة المحطمة، والفقر، والاضطهاد. إنها تصاحب لمحات الفطنة وغيبوبة الدين. على كل منا أن يكرم للآخر الحاجات والأعمال اليومية في حياة الإنسان، وأن يجمل هذه الحياة بالشجاعة والحكمة والاتحاد. ولا ينبغي أن تهوي هذه الحياة إلى المألوف والمستقر، بل يجب أن تكون متنبهة مبتكرة، وأن تجعل للكد والعناء نغما وحكمة.
يمكن أن يقال إن الصداقة تتطلب طبائع نادرة ثمينة، لكل منها مزاج سليم وكيف صحيح، وخصائص خاصة تجعل من العسير إشباعها (وفي هذه الصفة يقول الشاعر إن الحب يتطلب من الطرفين أن يزدوجا تماما). ولا يمكن للصداقة أن توجد في كمالها عند أكثر من اثنين كما يقول بعض أولئك الذين يعرفون ما للقلب من صفات حارة. ولست دقيقا جدا في عباراتي، وربما كان ذلك لأنني لم أعرف قط كغيري زمالة سامية كهذه. إن خيالي ليكون أشد سرورا بجماعة من الرجال والنساء يشبهون الآلهة، وعلى صلات مختلفة بعضهم ببعض. ولكنهم جميعا على درجة عالية من الذكاء. غير أني أجد قانون «الفرد للفرد» لازما في الحديث، وهو وسيلة الصداقة وغايتها. لا تبالغ في خلط المياه؛ فإن خيرها يختلط اختلاطا سيئا كاختلاط الطيب بالخبيث. تستطيع أن تجد حديثا نافعا سارا جدا في أوقات متفرقة مع رجلين مختلفين، ولكن إن اجتمع ثلاثتكم جميعا فلن تظفر بكلمة واحدة جديدة قلبية. يستطيع الاثنان أن يتكلما والواحد أن يسمع، ولكن الثلاثة لا يمكنهم أن يسهموا في حديث من أخلص الأحاديث وأعمقها غورا. في الصحبة الطيبة لن تجد حديثا بين اثنين، عبر المائدة، كذلك الذي يدور إذا تركتهما وحدهما. في الصحبة الطيبة يغرق كل فرد ذاتيته في روح اجتماعية تشمل تمام الشمول وعي كل فرد من الحاضرين؛ فلا تجد ميل الصديق إلى الصديق، أو غرام الأخ بأخته، أو الزوجة بزوجها، ملائما، بل تجد ما هو عكس ذلك. ولا يستطيع حينئذ أن يتكلم إلا من يسبح على الفكرة العامة في الجماعة، ولا يجد نفسه بحدود ضيقة من فكره. بيد أن هذا التقليد، الذي يتطلبه الإدراك العام، يهدم الحرية الكبرى في الحديث العظيم، التي تتطلب الامتزاج المطلق بين روحين حتى يصبحا روحا واحدة.
لن تجد رجلين، يتركان وحدهما، لا يدخلان في صلات مبسطة، ومع ذلك فإن التقارب التام هو الذي يحدد أي اثنين يتبادلان الحديث. الرجال الذين لا علاقة بينهم لا يمتع أحدهم الآخر إلا قليلا، ولن يلمس أحدهم القوى الكامنة عند الآخر. إننا نتحدث أحيانا عن الموهبة العظمى في الحديث، كأنها صفة دائمة لبعض الأفراد. ولكن الحديث علاقة زائلة، لا يزيد عن ذلك. وقد يشتهر الرجل بالفكر والفصاحة، ولكنه لا يستطيع برغم ذلك أن يقول كلمة لابن عمه أو عمه. ويتهم الناس صمته، وهم في ذلك ليسوا أشد صوابا منهم حينما يلومون المزولة لأنها لا تنبئ بشيء في الظل. إنها تعين الساعة في الشمس، وإنه ليسترد لسانه بين أولئك الذين يستمتعون بفكره.
تتطلب الصداقة ذلك التوسط النادر بين التشابه والاختلاف، الذي ينبه الصديقين إلى ما يبعثه الآخر من طمأنينة ونفوذ. خير لي أن أبقى وحيدا إلى نهاية الدنيا من أن يتخطى صديقي عطفه الحقيقي بكلمة أو نظرة. الخصومة والإذعان كلاهما يقف في سبيلي. لا أحب للصديق أن يكف لحظة واحدة عن أن يكون نفسه. إن السرور الوحيد الذي أستمده من أنه لي، هو أن ما ليس لي قد أمسى لي. إنني أكره أن أجد ضعف الامتثال حيثما بحثت عن جرأة الرجولة، أو على الأقل عن مقاومة الرجولة. خير لك أن تكون شوكة في جنب صديقك من أن تكون صدى له. إن الشرط الذي تتطلبه الصداقة المتينة هو القدرة على الاستغناء عنها. وإن تلك المكانة العليا لتحتاج إلى صفات عظيمة سامية. يجب أن يكون هناك اثنان أكيدان، قبل أن يكون هناك واحد أكيد. لتكن الصداقة تحالفا بين طبيعتين كبيرتين مريعتين، تتبادلان النظر، كما تتبادلان الخوف، قبل أن تكشفا عن التطابق التام الذي يوجد بينهما تحت هذه المفارقات.
لا يصلح لهذا المجتمع إلا عزيز النفس، الذي يؤمن بأن العظمة والخير هما دائما في الاقتصاد، والذي لا يسارع إلى التدخل فيما يصيبه من حظ. دعه لا يتدخل في ذلك، واترك للدرة بما تحتاج إليه من دهور لكي تنمو. ولا تتوقع أن يسارع القدر ما سوف يتمخض عنه. إن الصداقة تتطلب معالجة دينية. إننا نتحدث عن اختيار الأصدقاء، ولكن الأصدقاء يختارون أنفسهم. والتقدير جانب هام في هذا الاختيار. عامل صديقك كما تعامل مشهدا. للصديق بالطبع مزايا ليست لك، ولا تستطيع أن تقدرها قدرا كبيرا، وإذا كنت تريد أن تبقيه قريبا من شخصك، فقف جانبا وأفسح في المجال لهذه المزايا، ودعها تعلو وتمتد. فهل أنت صديق لثياب صديقك أم لأفكاره؟ يبقى الصديق لصاحب القلب الكبير غريبا في ألف نقطة، كي يقترب من أقدس نواحيه. إنما الفتيات والفتيان هم الذين يعتبرون الصديق ملكا، ويستمدون من الصداقة متعة قصيرة المدى، تدعو إلى الذهول بدلا من أن يستمدوا منها أنبل منافعها.
ولنشتر دخولنا في هذا الاتحاد بعد فترة اختبار طويلة. لماذا ندنس الأرواح النبيلة الجميلة بتطفلنا عليها؟ لماذا تصر على علاقات شخصية اندفاعية مع صديقك؟ لماذا تذهب إلى بيته، أو تعرف أمه وأخاه وأخواته؟ ولماذا يزورك في بيتك؟ هل لهذه الأشياء أهمية فيما بيننا من ميثاق؟ ارجع عن هذا الاتصال المباشر وعن هذا العض بالنواجذ. ودعه يكون لي روحا. إنني بحاجة إلى رسالة منه أو فكرة أو إخلاص أو نظرة، ولست بحاجة إلى أنبائه أو طعامه. أستطيع أن أحصل على الآراء السياسية وعلى ثرثرة الحديث وأسباب الراحة القريبة من رفاق أرخص من ذلك. فهلا تكون لي صحبة صديقي شعرية، صافية، عامة، عظيمة كالطبيعة نفسها؟ هل لا بد لي من الإحساس بأن الرابطة بيننا دنسة إذا قيست إلى ذلك الحاجز من السحاب الذي يبدو في الأفق، أو تلك الكتلة من الحشائش المتموجة التي تعترض النهر؟ دعنا لا نعيب الصداقة، بل نرفعها إلى هذا المستوى. إن تلك النظرة العظيمة النافذة، وذلك الجمال الذي يحتقر غيره بسيماه ورشاقته، يجب ألا يحفزك إلى الحط منه، بل إلى إعزازه والاستفادة منه. قدس مزايا الصديق، ولا تتمنى لها النقصان، بل اجمع شملها وتحدث عنها، دعه يكون لك دائما نوعا من الخصم الجميل، لا يذعن، احترامه مقدس، ولا تهمل مزية من مزاياه ولا تنبذها مهما قل شأنها. إن ألوان عين القط، وأضواء الدرر، لا ترى إذا اقتربت منها العين جدا. إنني أكتب خطابا إلى صديقي، وأتلقى منه خطابا، وقد يبدو لك ذلك شيئا هينا، ولكنه يكفيني. إنها هبة روحية جديرة به أن يعطيها، وجديرة بي أن أتلقاها؛ فهي لا تدنس أحدا. في هذه الأسطر الحارة يثق القلب في نفسه بما لا يثق في اللسان، ويتدفق بالنبوءات التي تفوق في صبغتها الإلهية كل ما مجده تاريخ البطولة.
احترم قوانين هذه الزمالة المقدسة بحيث لا تلحق بزهرتها الكاملة أذى بتعجلك ازدهارها؛ إذ يجب أن نكون لأنفسنا قبل أن نكون لغيرنا. إن الجريمة فيها على الأقل شيء من الطمأنينة كما جاء في المثل اللاتيني : «إنك تستطيع أن تتحدث إلى شريكك في الذنب وأنتما على قدم المساواة.» ولكننا لا نستطيع أن نتحدث في أول الأمر إلى أولئك الذين نعجب بهم ونحبهم. ومع ذلك فإن أقل نقص في السيطرة على النفس يفسد في رأيي العلاقة كلها، ولا يمكن أن تنشأ الطمأنينة الشديدة بين روحين، أو الاحترام المتبادل، حتى يمثل كل منهما في حديثه الدنيا بأسرها.
دعنا نحمل بأقصى ما نستطيع من عظمة الروح كل أمر جلل كالصداقة. لنقف صامتين حتى نستطيع أن نصغي إلى همس الآلهة. دعنا لا نتدخل فيما لا يعنينا. من ذا الذي كلفك أن تتوجه بالقول إلى الأرواح المختارة، أو علمك كيف تقول كلمة واحدة لهذه الأرواح؟ مهما يكن نبوغك، ومهما تكن رشاقتك ورقتك. للحماقة والحكمة درجات لا تعد، وإن تفوهت بلفظة كنت طائشا. تريث يتحدث قلبك. انتظر حتى يغلبك على أمرك الضروري الأبدي، حتى يفيد الليل والنهار من شفتيك. الجزاء الأوحد للفضيلة هو الفضيلة، والسبيل الوحيد لأن يكون لك صديق هو أن تكون صديقا. إنك لا تقترب من الشخص إذا ولجت داره. إن كان لا يشبهك، فإن روحه بذلك تسرع في الفرار منك، ولن تظفر بنظرة صادقة من عينه. إننا نشهد النبلاء عن بعد، فيصدوننا، فلماذا نتطفل؟ إننا لا ندرك إلا في وقت متأخر جدا أن التدبير السابق، وتقديم الأصدقاء لنا، والتقاليد والعادات الاجتماعية، لا تجدي في تأسيس علاقة بيننا وبين من نريد. لا يجدي سوى نهوض الطبيعة فينا إلى الدرجة التي هم فيها. حينئذ نلتقي كما يلتقي الماء بالماء، وإذا لم نلتق عندئذ فإننا لن نحتاج إليهم؛ لأننا بالفعل هم أنفسهم. إن التحليل الدقيق يدل على أن الحب ليس إلا انعكاس قيمة المرء من غيره من الناس. وقد يتبادل الرجال الأسماء مع أصدقائهم، كأنهم يريدون أن يبرهنوا على أن كل فرد منهم يحب ذاته في صديقه.
كلما ارتفع الأسلوب الذي نتطلبه من الصداقة شق بالطبع إقامتها باللحم والدم. إننا نسير وحدنا في الدنيا؛ لأن الأصدقاء الذين نريدهم أحلام وخرافات. ولكن أملا ساميا يهتف دائما في القلب المخلص بأن هناك في مكان آخر، في مناطق أخرى من مناطق النفوذ في العالم، أرواحا تعمل وتقاسي وتتجاسر، أرواحا تستطيع أن تحبنا، ونستطيع أن نحبها. نستطيع أن نهنئ أنفسنا لأن سن القصور، وعهد الحماقة، والأخطاء الجسيمة، والخجل، ينقضي في العزلة، ولما تكمل رجولتنا نمسك بأيد باسلة في أخرى مثلها. ولتتعظ بما تشهد فقط. ولا تعقد أواصر الصداقة مع أشخاص رخيصين، لا يمكن أن تنشأ معهم صداقة؛ فإن قلق نفوسنا يزج بنا في محالفات اندفاعية حمقاء لا ترعاها الآلهة. وإذا أنت لزمت طريقك فإن ما تظفر به يكون جليلا مهما قل، حتى إن خسرت في سبيل ذلك. إنك تظهر نفسك على حقيقتها كي تبعد بها عن العلاقات الباطلة، وتجذب إليها أبكار الدنيا، أولئك الرحل القلائل الذين لا يجوب الطبيعة منهم سوى واحد أو اثنين في وقت واحد، والذين يبدو كبار العوام أمامهم مجرد أشباح وظلال.
ومن الحماقة أن تخشى أن تكون صلاتك مبالغة في روحانيتها، كأنك بذلك يمكن أن تفقد أي حب صادق. ومهما يكن التصحيح الذي ندخله بالفطرة على آرائنا العامة، فإن الطبيعة تؤيد ما فيه. وإن بدت كأنها تحرمنا بعض المتاع، فإنها تعوضنا بما هو أكبر منه. ولنشعر - إن شئنا - بعزلة الإنسان؛ فنحن على يقين بأن في أنفسنا كل شيء. قد نسافر إلى أوروبا، أو نتابع الأشخاص، أو نقرأ الكتب، في إيمان ساذج بأن ذلك يظهر ما خفي ويكشفنا لأنفسنا. كل ذلك يأخذ ولا يعطي. إنما الأشخاص كما نكون، وأوروبا رداء بال باهت اللون لبعض الموتى، والكتب أشباحهم. دعنا نتخلى عن عبادة هذه الأوثان. بل ولنودع أعز أصدقائنا ونتحداهم قائلين: «من أنتم؟ فكوا يدي، فلن أعتمد عليكم بعد اليوم.» ألست ترى يا أخي أننا إنما نفترق على هذه الصورة لنلتقي مرة أخرى على منصة أعلى، ويكون كل منا أكثر امتلاكا للآخر لأنه أشد امتلاكا لنفسه؟ الصديق له وجه كوجه جينس، ينظر إلى الماضي وإلى المستقبل وهو وليد كل ساعاتي الماضية، ونبي كل ساعاتي المقبلة ، ومبشر بصديق أعظم.
إنني حينئذ أفعل بأصدقائي ما أفعل بكتبي. أحب أن يكونوا لي حيث أستطيع أن أجدهم، ولكني قلما أفيد منهم . لا بد لنا من صحبة تخضع لشروطنا، نقبلها أو نستبعدها لأتفه الأسباب. ليس بوسعي أن أكثر من الحديث مع صاحبي. إذا كان عظيما جعلني من العظمة بحيث لا أستطيع أن أتنزل إلى الحديث. وفي الأيام العظيمة تحلق الخواطر أمامي في الأفق. وينبغي لي إذن أن أهديها نفسي. إنني أقبل أو أدبر لكي أظفر بها. ولا أخشى إلا أن أفقدها فتتراجع في السماء التي تبدو فيها الآن كرقعة من الضوء اللامع. إنني عندئذ حتى إن ظفرت بأصدقائي، لا أستطيع أن أتحدث إليهم وأدرس رؤياهم خشية أن أفقد رؤياي. وإنه حقا لمما يعطيني شيئا من المتعة الصائبة، أن أتخلى عن هذا البحث العميق، وعن هذه الأفلاك الروحية، أو البحث عن النجوم، وأهبط إلى مبادلتك العطف الحار، ولكنني حينئذ أعرف جيدا أنني سوف أبكي دائما اختفاء آلهتي العظام. حقا سوف تنتابني في الأسبوع المقبل حالات عقلية واهنة، أستطيع فيها كل الاستطاعة أن أشغل نفسي بأشياء غريبة عني، ولكنني حينئذ سوف أندم على أدب عقلك الذي أضعت، وأتمنى أن تكون إلى جانبي مرة أخرى. ولكنك إن عدت فلربما تملأ عقلي بالرؤى الجديدة فقط، لا بنفسك، ولكن بمظاهرك البراقة، ولا أستطيع أن أتحدث إليك بأكثر مما أتحدث به إليك الآن؛ ولذا فإني سوف أكون مدينا لأصدقائي بهذا الاتصال الزائل. إنما أريد أن آخذ عنهم لا ما يملكون ولكن ما هم عليه. إنهم بذلك يعطونني ما لا يستطيعون إعطاءه حقا، ولكن ما يصدر عنهم. بيد أن صلتي بهم لن تكون أقل نفاذا أو أقل صفاء. فسوف نتقابل كأننا لم نفعل، ونفترق كأننا لم نفترق.
ظهر لي أخيرا أن الصداقة يمكنها - أكثر مما عرفت - أن تسير شوطا بعيدا في جانب، دون أن تقابلها صداقة مماثلة في الجانب الآخر. لماذا أقيم العراقيل أمامي بالندم على أن من يتقبل مني ليس كفئا لما أعطيه؟ إن الشمس لا يؤذيها قط أن بعضا من أشعتها يسقط عبثا وعلى غير هدى على فضاء جاحد، ولا يسقط منها إلا اليسير على الكوكب الذي يعكس الضوء. دع عظمتك تعلم الزميل الجلف البارد. فإن كان لا يوازيك فسوف يختفي لتوه، ولكنك تكبر بإشراقك، ولن يحلق بعد ذلك رفيق الضفادع والديدان مع آلهة السموات العلا أو يشتعل معهم. يحسب الناس أن من العار أن تحب بغير جزاء، ولكن العظماء يرون أن الحب الحقيقي لا يمكن أن يكون بغير جزاء، الحب الصادق يتخطى الأشياء التي لا قيمة لها، ويحدق ويتأمل في الأشياء الخالدة، وعندما يتحطم القناع الواهن الحائل لا يحزن الحب، ولكنه يشعر بالخلاص من التراب الكثيف، ويحس بزيادة القوة في استقلاله، ومع ذلك فإننا نكاد لا نستطيع أن نقول ذلك دون أن نخون صلة الصداقة بعض الخيانة. إنما لب الصداقة الكمال، والعزة، وتمام الثقة. ولا ينبغي لها أن تتوهم الضعف أو أن تتزود به. إنها تعامل الطرف الآخر كالإله، كي تؤله الطرفين.
البطولة
الجنة تحت ظلال السيوف.
محمد ***
إنما يشرب الخمر القاني الأوغاد،
وينفق السكر ليسمن العبيد،
ويتحلى الماجنون بالورد وأوراق الكروم،
والسحب ذات الرعد أغصان يتحلى بها جوف،
وتتدلى دائما كأنها أكاليل من الرعب،
وتلتف حول رأسه مشوبة بالبرق اللامع.
إن البطل لا يعيش على الحلوى،
إنه يأكل قلبه كل يوم،
وغرف العظماء سجون،
والرياح العاصفة تصلح لسفن الملوك.
تجد عند كتاب المسرحية القدامى من الإنجليز، وبخاصة في مسرحيات بومنت وفلتشر، اعترافا دائبا بصفات الرجل المهذب. فعندما يدخل رجل مثل ردريجو أو بدرو أو فاليرو - وإن كان غريبا - يصيح الدوق أو الحاكم قائلا: هذا رجل مهذب، ويقدم له آيات الاحترام التي لا تنتهي، وكل من عدا ذلك نفاية أو من سقط المتاع. ويتفق وهذا التهليل للمميزات الشخصية ما تجده في مسرحياتهم من سمة البطولة في الشخصية والحديث - كما تجد في بندكا وسوفوكليس والعاشق المجنون، والقران المزدوج - حيث يكون المتكلم جادا مخلصا، ذا مميزات قوية في شخصيته، بحيث يرتفع الحوار بطبيعته إلى الشعر عند أتفه حادث عرضي في القصة. خذ هذا المثال من بين كثير من النصوص: غزا مارتيس الروماني أثينا، كل شيء فيها سوى سوفوكليس دوق أثينا، وزوجته دورجن، وهما روحان لا يقهران. وقد ألهب جمال الزوجة مارتيس، فأراد أن ينقذ زوجها، ولكن سوفوكليس لا يطلب نجاة حياته وإن كان على يقين من أن كلمة واحدة منه تنجيه، ثم يبدأ تنفيذ الإعدام في الزوجين:
فاليريس :
ودع زوجتك.
سوفوكليس :
كلا، لن أستئذن. أي زوجتي دورجن، إن روحي سوف تحلق من أجلك هناك في العلا حول تاج أريادن. أتوسل إليكم أن تسرعوا.
دورجن :
انتظر يا سوفوكليس واعصب عيني بهذا، كي لا أتحول عن طبيعتي اللينة، وأفقد أنوثتي الرقيقة، عندما أرى سيدي يدمى. حسنا، إني لن أشهد أمام سوفوكليس شيئا واحدا تحت الشمس. وداعا، وعلم الرومان كيف يكون الموت.
مارتيس :
هل تعرف ما هو الموت؟
سوفوكليس :
أنت لا تعرفه يا مارتيس؛ ولذا فأنت لا تعرف ما الحياة. الموت بداية الحياة. الموت نهاية كل عمل عتيق مبتذل شاق، وبداية عمل أحدث وأحسن. الموت هو أن تتخلى عن الأوغاد المخادعين لتنتقل إلى صحبة الآلهة والإلهات. ولا بد لك أنت نفسك أن تتخلى عن أكاليلك ومسراتك وانتصاراتك، وتبرهن على ما تستطيع حينئذ أن تفعله بثباتك.
فاليريس :
ولكن ألست حزينا أو محنقا لأنك تترك زوجتك هكذا؟
سوفوكليس :
لماذا أحزن أو أحنق إذا كنت سوف أذهب إلى أولئك الذين أحببتهم دائما أشد الحب؟ والآن سوف أجثو على ركبتي، ولكني سوف أوليك ظهري. وهذا آخر الواجبات التي يؤديها الجسد للآلهة.
مارتيس :
اضرب، اضرب يا فاليريس، وإلا فإن قلب مارتيس سوف يقفز من فمه. هذا رجل، وهذه امرأة! قبل ربك، وعش بكل ما ألفت من حرية. أيها الحب! لقد أسأت إلي مرتين، بالفضيلة والجمال. أيها القلب الخائن، إن يدي سوف ترمي بك سريعا في جدثي، قبل أن تعتدي على هذا الإيمان المتين.
فاليريس :
ماذا يؤلم أخي؟
سوفوكليس :
مارتيس، مارتيس، لقد وجدت الآن سبيلك إلى هزيمتي.
دورجن :
يا نجم روما! أي اعتراف بالجميل يستطيع أن يعبر بكلمات ملائمة في إثر عمل كهذا؟
مارتيس :
هذا الدوق الذي يدعو إلى الإعجاب، يا فاليريس، عندما ازدرى كل ما يصيبه وازدرى الموت أسر نفسه وأسرني. ومع أن ذراعي قد ألقت بجسمه هنا، إلا أن روحه قد أخضعت روح مارتيس. وحق روميولس إني لأحسبه كله روحا، ليس لديه لحم، والروح لا تكبل، وإذن فإننا لم نقهر شيئا، إنه حر، ويسير مارتيس الآن أسيرا.
ولا أذكر الآن أية قصيدة أو مسرحية أو موعظة أو رواية أو خطبة تنفست عنها صحافتنا في السنوات القلائل الماضية، مما يضرب على هذا الوتر. لدينا كثير من المزامير والصفارات، ولكننا قلما نستمع إلى صوت الناي. ومع ذلك فإن في لاوداميا وأغنية «ديون» وبعض أناشيد وردزورث موسيقى نبيلة. وأحيانا يرسم «سكوت» صورة كصورة لورد أفانديل التي صورها بلفور البيرلي. كما أن توماس كارليل، بما عنده من تذوق طبيعي لصفات الرجولة والبسالة في الشخصية لم يرض لنفسه أن يدع أية صفة من صفات البطولة في الرجال الذين اختارهم دون أن يذكرها في صوره التاريخية وسيره. وقبل ذلك قدم لنا روبرت بيرنز أغنية أو اثنتين. وفي متنوعات هارلي تجد تصويرا لموقعة لوتزن يستحق المطالعة. وسيمون أوكلي في كتابه تاريخ العرب يسرد معجزات الشجاعة الفردية بإعجاب، مما يدل على أن المؤرخ من ناحيته كان يحسب أن مركزه في أكسفورد المسيحية يتطلب منه بعض الاحتجاج الصريح الذي ينم عن الكراهية. ولكننا إذا نبشنا أدب البطولة فسرعان ما نصل إلى فلوطارخس طبيبها ومؤرخها؛ فنحن مدينون له بالبراسيداس، وديون، وأبامينوداس، وسبيو القديم، وأظن أننا أكثر دينا له من كل الكتاب القدماء. كل «حياة» في سيره تفنيد للقنوط والجبن الذي تلمسه عند رجالنا من أصحاب النظريات الدينية والسياسية. في كل أقصوصة يرويها تبهرك شجاعة همجية، ورواقية لا تتقيد بمذهب، ولكنها رواقية الدماء، مما أعطى هذا الكتاب شهرته الواسعة.
نحن بحاجة إلى كتب من هذا الطراز المطهر الحريف أكثر مما نحن بحاجة إلى كتب في العلوم السياسية، أو الاقتصاد الخاص. الحياة عيد للحكماء وحدهم . وإن نظرت إليها من زاوية العمل بدت لك خطرة معفرة الوجه. ونحن كذلك نلقى جزاء مخالفات قوانين الطبيعة التي ارتكبها أسلافنا ومعاصرونا . والعلل وضروب التسوية التي تتحوطنا دليل على مخالفة القوانين الطبيعية والعقلية والخلقية. والمخالفة في أثر المخالفة تولد مثل هذا البؤس المركب. إن مرض التتنوس الذي يحني رأس المرء إلى الوراء حتى عقبيه، وداء الكلب الذي يجعله ينبح أمام زوجته وأطفاله، والجنون الذي يدفعه إلى أكل الحشائش، والحرب والطاعون والكوليرا والمجاعة، كلها تشير إلى نوع من الوحشية في الطبيعة، وكما أن الوحشية دخلت عن طريق جريمة الإنسان فلا بد أن تخرج عن طريق آلامه. ولسوء الحظ لن تجد رجلا لم يصبح في شخصه - إلى حد ما - مساهما في الإثم، وبذا جعل نفسه عرضة للمساهمة في التفكير.
ولذا فإن ثقافتنا ينبغي ألا تهمل تسليح الإنسان. وليسمع في الوقت الملائم أنه ولد في حالة حرب، وإن الصالح العام وسعادته الخاصة يتطلبان منه ألا ينصرف إلى الرقص في حشائش السلام، بل يجب أن يحذر، وأن يجمع نفسه، لا يتحدى الرعد ولا يخشاه. وعلى هذه الصورة دعه يستولي في قبضته على سمعته وحياته. وفي دماثة كاملة يجابه المشنقة والجماهير بالصدق المطلق في حديثه، واستقامة مسلكه.
إزاء كل هذا الشر الخارجي يقف الإنسان الكامن في صدره موقف المحارب، ويؤكد له قدرته وحده على مجابهة هذا الجيش الذي لا نهاية له من الأعداء. هذا الموقف الحربي من الروح هو الذي نسميه البطولة، وأبسط صورها احتقار السلامة والراحة، ذلك الاحتقار الذي يعطي الحرب جاذبيتها. البطولة ثقة في النفس تستخف بقيود الحكمة، وتستكمل جهدها وقوتها لكي تصلح الأضرار التي قد تتعرض لها. البطل له عقل متزن بحيث لا تهز الاضطرابات إرادته. ولكنه في سرور، بل وفي طرب، يتقدم وفق موسيقاه الخاصة به، سواء وسط أسباب الرعب المخيف أو المرح النشوان في هذا العالم المنحل. في البطولة شيء ليس بالفلسفة، وشيء ليس بالمقدس. ويبدو أنها لا تعرف أن الأرواح الأخرى من نسيجها. فيها كبر، وهي الغاية القصوى للطبيعة الفردية. ولكنا، برغم ذلك، يجب أن نحترمها احتراما شديدا. في الأعمال العظيمة شيء لا يسمح لنا بمتابعتها. البطولة تحس ولا تفكر مطلقا ، وهي لذلك دائما على صواب. وربما كانت ثقافة أخرى، أو عقيدة ثانية، أو نشاط عقلي أعظم، يؤدي إلى تعديل عمل من الأعمال، بل يؤدي إلى قلبه، ولكن العمل الذي يقوم به البطل هو أرقى الأعمال عنده، لا يتعرض لنقد الفلاسفة أو رجال الدين. البطولة اعتراف من الرجل الذي لم يتعلم في مدرسة بأنه يجد صفة تستحق التنويه فيمن يهمل في بذله، وصحته، وحياته. وفي الحظ، والكره، واللوم، ويعرف أن إرادته أقوى وأكثر امتيازا من كل ما يعاديها فعلا أو يمكن أن يعاديها.
البطولة تعمل على نقيض صوت البشرية، وعلى نقيض صوت العظمة والخير، ولو إلى حين. البطولة طاعة لدافع خفي في شخصية الفرد ولا تظهر حكمة البطولة لإنسان كما تظهر للبطل؛ لأننا يجب أن نفرض أن كل امرئ - في طريقه الخاص المستقيم - يمتد بصره إلى مسافة أبعد قليلا مما تمتد إليه أبصار الآخرين. ولذا فإن العادلين والحكماء من الرجال يرتابون في عمله، حتى إذا ما انقضى بعض الوقت أدركوا أن عمله يتفق وما يعملون. كل رجل عاقل يرى أن عمل البطل يتناقض تماما ومتعته الحسية؛ لأن كل عمل من أعمال البطولة يقيس نفسه باحتقاره لونا من ألوان الخير الخارجي. ولكنه يظفر بنجاحه في نهاية الأمر، وبعدئذ يمجده كذلك العقلاء.
الثقة في النفس جوهر البطولة. وهي حالة الروح وهي تقاتل، وغاياتها القصوى تحدي الباطل والخطأ في نهاية الأمر، والقدرة على تحمل كل ما يمكن أن توقعه عوامل الشر. إنها تنطق بالحق، وهي عادلة، كريمة، سخية، معتدلة، تزدري الحرص في التوافه، وتزدري أن تزدرى. إنها تصر على موقفها، جسورة غير هيابة، لديها جلد لا ينفد. وهي تتندر بصغر الحياة العادية. إن تلك الحكمة الباطلة التي تغرم بالصحة والثراء هي سخرية البطولة وفكاهتها. البطولة مثل أفلوطين، تكاد تخجل من جسمها. ماذا عساها إذن قائلة لأقراص السكر، وألعاب الخيط التي يلعبها الأطفال ، وأدوات الزينة، وكلمات الإطراء، وأسباب النزاع، وورق اللعب، والكسترد، التي تشغل بال المجتمع كله؟ أي متع أمدتنا بها نحن المخلوقات الأعزاء الطبيعة الرحيمة! يظهر أنه ليس هناك وسط بين العظمة والوضاعة. إذا لم تكن الروح سيدة العالم، فلا بد أن تكون سخريته. ومع ذلك فإن الرجل الصغير يأخذ اللعبة الكبرى مأخذا ساذجا، يعمل فيها بحماسة وعقيدة، يولد أحمر اللون، ويموت أبيض الشعر، يهتم بزينته، ويعنى بصحته، يتصيد الطعام الحلو والخمر المعتق، يشغل فؤاده بحصان أو بندقية، ويسعد بالحديث التافه أو الثناء القليل، ولا تملك الروح الكبيرة إلا أن تضحك من مثل هذا الهراء الذي يؤخذ مأخذ الجد. «حقا إن هذه الاعتبارات المتواضعة لتنفرني من العظمة. يا له من عار على نفسي أن أكترث بعدد الجوارب الحريرية التي تملكها أنت، وأن أعرف منها هذه وتلك ذات اللون الخوخي، أو أن أحمل قائمة بقمصانك، وأعرف أن أحدها للترف والآخر للمنفعة!»
إن المواطنين الذين يفكرون بقوانين الحساب يقيمون وزنا للمتاعب التي يلاقونها ساعة استقبال غريب عند موقد نارهم، ويحسبون حسابا دقيقا لضياع الوقت والظهور بمظهر غير عادي. أما الروح التي من معدن أطيب فإنها تضرب بهذا الاقتصاد الذي - ليس في موضعه - عرض الحائط في هذه الحياة، وتقول: سوف أطيع ربي، وسوف يمدني بالضحية وبالنار. يصف ابن حوقل الجغرافي العربي تطرف البطولة في سخاء سجد في بخارى فيقول: «عندما كنت في سجد رأيت بناء شاهقا، كأنه القصر، أبوابه مفتحة ومثبتة في الحائط بمسامير ضخمة. ولما سألت عن السبب قيل لي إن البيت لم يغلق، ليلا أو نهارا، مدة مائة عام. ويستطيع الغرباء أن يقدموا في أية ساعة مهما كان عددهم. ولقد أعد صاحب البيت ما يكفي لاستقبال الرجال وحيواناتهم، وهو أسعد ما يكون عندما يتلكئون بعض الوقت. ولم أر قط في حياتي شيئا من هذا في أي بلد آخر.» يعلم كل رجل كريم النفس تمام العلم أن أولئك الذين يقدمون للغريب الوقت أو المال أو المأوى - عن حب لا عن تظاهر - إنما يتفضلون على الله، وما أكمل ما تعوضهم به الدنيا. إنهم يعوضون الوقت الذي يبدو مضاعا بصورة ما، والآلام التي يبدو أنهم يتحملونها تلقى ثوابها . إن هؤلاء الناس يشعلون نار المحبة الإنسانية، ويرفعون مستوى الفضيلة المدنية بين البشر. ولكن الجود يجب أن يكون للخدمة، لا للتظاهر، وإلا فإنه يحط من قدر المضيف. إن الروح الجريئة تحسب نفسها أرقى من أن تقدر نفسها بفخامة مائدتها وردائها. إنها تعطي ما تملك، وكل ما تملك، ولكن جلالها يضفي النعمة على ما تقدم من خبز وماء قراح، نعمة لا تجدها في ولائم المدن.
ويصدر البطل في اعتداله عن نفس الرغبة التي تملي عليه ألا يشين قدر نفسه. ولكنه يحب الاعتدال لما يدل عليه من رقة لا لما فيه من تقشف؛ فهو لا يأبه أن يكون رزينا، وأن ينبذ في مرارة أكل اللحم وشرب الخمر، وتدخين التبغ أو الأفيون وشرب الشاي واستخدام الحرير والذهب. قل أن يعرف الرجل العظيم كيف يطعم وكيف يلبس. ولكن حياته طبيعية وشعرية دون أن يضع لها القيود والحدود. شرب «جون إليوت» الرسول الهندي الماء وقال عن الخمر: «إنه شراب نبيل كريم، ويجب أن نشكر الله عليه، ولكني أذكر أن الماء خلق من قبله.» وأحسن من هذا اعتدال الملك داود الذي صب فوق الأرض - في سبيل الله - الماء الذي أتاه به ليشربه ثلاثة من مقاتليه، مخاطرين من أجل ذلك بحياتهم.
يقال عن بروتس إنه عندما سقط فوق سيفه بعد معركة فليبي روى هذا السطر عن يوربديس: «أيتها الفضيلة، لقد سرت وراءك خلال حياتي، ووجدتك آخر الأمر ظلا.» ولست أشك في أن هذه الرواية قد قصد بها الوشاية بالبطل؛ فإن روح البطولة لا تبيع عدلها ونبلها. إنها لا تطلب الغداء الفاخر والسرير الوثير. جوهر البطولة هو أن يدرك المرء أن الفضيلة وحدها تكفي؛ فالفقر يزينها. إنها لا تحتاج إلى الوفرة، وتستطيع أن تحتمل خسارتها كل الاحتمال.
بيد أن ما يجذب خيالي أكثر من أي شيء في طبقة الأبطال هو ما يبدونه من انشراح وبشر. إن القدرة على الاحتمال والإقدام في هدوء من الصفات العالية التي يستطيع أن يبلغ غايتها كل رجل يدرك الواجب العام. ولكن هذه الأرواح النادرة لا تقيم وزنا للرأي والنجاح والحياة، فلا يدخلون السرور إلى قلوب خصومهم بما يطلبون، أو بما يبدو عليهم من أسى، ولكنهم يظهرون عظمتهم الخاصة التي اعتادوها. لما اتهم سبيو باختلاس أموال الناس، رفض أن يوصم بعار الانتظار حتى يبرر موقفه، برغم أن قائمة حسابه كانت بين يديه، ولكنه مزقها إربا إربا أمام القضاة. ومن هذا القبيل ما حكم به سقراط على نفسه من بقائه مكرما غاية التكريم في البريتانيم طوال حياته، وعبث سر توماس مور وهو تحت المقصلة. وفي مسرحية «الرحلة البحرية» لبومنت وفلتشر تقول جوليتا للقائد القوي ورفاقه:
جوليتا :
أيها العبيد، إنه بوسعنا أن نشنقكم.
السيد :
هذا محتمل جدا، وبوسعنا إذن أن نشنق وأن نزدريك ...
هذه إجابات سديدة سليمة؛ فاللهو ثمرة من ثمار الصحة الكاملة وشعاع من ضيائها؛ لأن العظماء لا يرضون أن يتنزلوا حتى يأخذوا أي شيء مأخذ الجد. ينبغي أن يكون كل شيء مرحا كشدو الكناري، حتى إن كان تشييد المدن، أو إزالة الكنائس والأمم العتيقة، التي وقفت عقبة في سبيل الدنيا آلاف السنين. إن أصحاب القلوب الساذجة يلقون تاريخ هذه الدنيا وعاداتها كلها خلف ظهورهم، ويلعبون دورهم في تحد بريء لقوانين العالم المرعية. وأمثال هؤلاء يبدون لنا - إذا استطعنا أن نرى الجنس البشري مجتمعا في مشهد واحد - كصغار الأطفال يلهون معا. وإن كانوا في أعين الناس عامة يظهرون كأنهم يرتدون ثيابا من الجلال والوقار من نسيج أعمالهم ونفوذهم.
إن اللذة التي نجدها في هذه الحكاية الرائعة، وسلطان القصص الخيالية على الصبي الذي يمسك بالكتاب المحرم تحت مقعده بالمدرسة، وابتهاجنا بالبطل، هو الحقيقة الأساسية التي نهدف إليها، كل هذه الخواص العظيمة التي تفوق العقل ملك لنا. إذا نحن أمعنا النظر في نشاط الإغريق، وزهو الرومان، فما ذلك إلا لأننا قد طوعنا بالفعل هذه المشاعر عينها لأنفسنا. ولنفسح المجال لها في بيوتنا الصغيرة، فهي كالضيف العظيم. وأول خطوة ترفع من قدرنا هي أن نحرر أنفسنا من الملابسات الخرافية التي نلحقها بالأماكن والأزمنة، وبالعدد والحجم. لماذا ترن في الأذن هذه الكلمات: الأثيني والروماني وآسيا وإنجلترا؟ حيثما يكون القلب تكون آلهة الشعر، ويقيم الآلهة، ولا تكون في مكان من الأرض مشهور. إنكم تحسبون مساشوستس وكنكتكت والنهر وخليج بوسطن أماكن تافهة، وتحب آذانكم أسماء البلدان الأجنبية والكلاسيكية. ولكن ها نحن هؤلاء، وإذا تريثنا قليلا، فقد نتعلم أن هذا المكان خير مكان. ولا عليك إلا أن تضمن شيئا واحدا، وهو أنك هنا، ولن يختفي من الغرفة التي تجلس فيها الفن والطبيعة، والأمل والقدر، والأصدقاء، والملائكة، والكائن الأعلى. إن إبامينوداس، الشجاع المحب، لا يبدو لنا أنه بحاجة إلى أولمبس لكي يموت فوقه، وليس بحاجة إلى شمس سوريا المشرقة. إنه يرقد رقدة طيبة جدا حيث هو، كما أن جرسيز كانت أرضا طيبة تصلح لوطء واشنجطن، وشوارع لندن لقدمي ملتن. الرجل العظيم يجعل جوه في خيال الناس ملائما، وهواءه العنصر المحبب من بين الأهواء الرقيقة جميعا. أجمل البلاد ما يقطنه أنبل العقول. إن الصور التي تملأ الخيال عندما نطالع أعمال بركليز وزنفون وكولمبس وبايار وسدني وهامبدن تعلمنا أن حياتنا وضيعة من غير داع، وأننا بعمق العيش يجب أن نزين حياتنا بما يفوق الأبهة الملكية والقومية، وأن نعمل وفقا لمبادئ يهتم بها الإنسان والطبيعة على مدى أيامنا.
لقد رأينا أو سمعنا بكثير من الشباب الشاذ، الذي لم ينضج قط، أو الذي لم تكن أعماله في الحياة الواقعة شيئا غير عادي. ولكننا حينما نرى صورهم وسيماهم، وحينما نصغي إليهم وهم يتحدثون عن المجتمع، والكتب، والدين، لنعجب بتفوقهم. وكأنهم يلقون الازدراء على نظامنا الحكومي بأسره وعلى حالنا الاجتماعية. إنهم يتحدثون بنغمة العمالقة الشباب الذين بعثوا لإحداث الانقلاب. ولكنهم يمارسون مهنة عملية، فترى أجسامهم الضخمة قد تضاءلت إلى حجم الإنسان المألوف. إن السحر الذي استخدموه هو الاتجاه نحو المثل، الذي يجعل الأمر الواقع دائما مضحكا. ولكن الأرض الصلبة تعرف كيف تنتقم في اللحظة التي يكلفون فيها خيولهم التي صوروها من ضياء الشمس بحرث الأخاديد. إنهم لم يجدوا مثالا أو رفيقا لهم فخارت عزائمهم. ثم ماذا؟ إن الدرس الذي ألقوه في طموحهم الأول لا يزال صادقا. وسوف تهذب عقيدتهم ذات يوم شجاعة أقوى وصدق أنقى. ولماذا تشبه المرأة نفسها بأية امرأة أخرى في التاريخ، وتظن أنه إذا كانت سافو أو سفنييه، أو دي ستيل، أو حبيسات الدير ممن كان لهن ثقافة ونبوغ، إذا كان هؤلاء النسوة لم يشبعن الخيال أو يرضين ثمس الهادئة الرزينة، فإن واحدة غيرهن لن تستطيع ذلك، بله أن تكون هي؟ ولم لا؟ إن لديها مشكلة بكرا مستحدثة عليها حلها، وربما كانت من أسعد المشكلات التي ظهرت في الوجود؛ فعلى كل عذراء، معتدلة النفس، أن تسير في طريقها في رزانة ووقار، وأن تنعم النظر بدورها في كل ما يجتذب عينها، كي تدرك قوتها وفتنتها الفريدة في بابها، وقدرتها على بثق فجر جديد في ظلمات الكون. إن الفتاة الحسناء التي تأبى أن تخضع لمجموعة من المؤثرات المعينة المتجبرة، المؤثرات التي لا تعنى بإمتاع الآخرين، والتي تتصف بالعناد والتعالي، هذه الفتاة توحي إلى كل من يراها بشيء من نبلها. إن القلب الصامت يشجعها. أيها الصديق، لا تجعل للخوف إلى قلبك سبيلا! فإما أن تأوي إلى المرفأ عظيما أو أن تجوب البحار مع الله. إنك لا تعيش عبثا؛ لأن كل عين عابرة تبتهج وتتهذب بما تشاهد.
سمة البطولة المثابرة. لكل إنسان دوافعه الهائمة، وله نوبات من الكرم. فإذا اخترت نصيبك، اثبت عليه، ولا تحاول أن توفق بين نفسك وبين الدنيا في ضعف وخور؛ فأعمال البطولة ليست أعمالا عادية، وليست الأعمال العادية من أعمال البطولة. ومع ذلك فإن في نفوسنا من الضعف ما يجعلنا ننتظر عطف الناس على أعمال امتيازها إنها فوق مجال العطف، وإنها تنتظر الحكم عليها فيما بعد. إن أردت أن تخدم أخاك لأنه قمين بك أن تخدمه، فلا تسحب وعدك إن وجدت العقلاء من الناس لا يحمدون صنيعك. اثبت على عملك، وهنئ نفسك إذا أديت عملا غريبا فيه إسراف، وخالفت ما ألفه الناس في عصر يرعى التقاليد. سمعت مرة نصيحة غالية تهدى إلى شخص ما، وهي: «اعمل دائما ما تخشى عمله.» إن الشخصية البسيطة المسترجلة لا تحتاج البتة إلى تقديم الاعتذار، وإنما ينبغي لها أن تنظر إلى عملها الماضي بهدوء فوكيون، حينما اعترف بأن نهاية المعركة كانت سعيدة، ومع ذلك فإنه لم يندم على انصرافه عنها.
ليس هناك ضعف أو أمر فاضح لا نستطيع أن نلتمس له المعاذير في الأذهان، فتقول هذه طبيعتي، أو جزء من صلتي وواجبي نحو زملائي. فهل عاهدتني الطبيعة على ألا أظهر قط مثلبة أو أبدو مرة في صورة مضحكة؟ دعنا نسخو في كرامتنا كما نسخو في أموالنا. إن العظمة قد اكتفت برأيها في نفسها من زمان بعيد، وسوف تبقى كذلك إلى الأبد. ابذل صدقاتك، لا لأنك تحب أن تظفر بالثناء عليها، ولا لأنك تحسب أن لها قيمة كبرى، ولكن لكي ترضى نفسك. وسوف تعرف فيما بعد أن من الأخطاء الجسيمة أن يتحدث امرؤ عن صدقاته.
يبدو أنه من الزهو الذي تخص به الطبيعة الطيبة العامة أولئك الذين يعيشون في طمأنينة ووفرة أن يقولوا الحق، ولو في شيء من الخشونة، وأن يعيشوا في شيء من الاعتدال الصارم، أو في مبالغة من الكرم، وذلك دليل على إحساسهم بالأخوة للعدد العديد من الناس الذين يقاسون الألم. ولسنا فقط في حاجة إلى إحياء الروح وتدريبها باحتمالنا عبء التقشف، والاستدانة، والعزلة، وعدم القبول عند الجمهور، ولكنه يليق بالرجل الحكيم كذلك أن ينظر بعين جريئة إلى تلك المخاطرة النادرة التي تلحق بالناس أحيانا، وأن يعود نفسه أن تألف صور الأمراض المقذعة، وأصوات السباب، ومرأى الموت العنيف.
إن أوقات البطولة هي بوجه عام أوقات الفزع، واليوم الذي لا يلعب هذا العنصر فيه دورا لا يشرق قط بالضياء. وأحب أن أقول إن ظروف الإنسان من الناحية التاريخية أحسن، إلى حد ما، في هذا البلد، وفي هذه الساعة، مما كانت عليه في أي وقت سبق؛ فأمام الثقافة حرية أوسع ، وهي اليوم لا تلاقي ضربة الفأس عند أول خطوة تخطوها بعيدا عن طريق الفكر المطروق، ولكن البطل يلاقي دائما الأزمات التي تختبر حدته. إن الفصيلة الإنسانية تتطلب أبطالها وشهداءها، ويتبع ذلك دائما اختبار القدرة على احتمال الاضطهاد. حدث من عهد قريب جدا أن لفجوي الجريء عرض صدره لطلقات الجماهير النارية من أجل حرية الكلام والرأي، ومات عندما بات من الخير له ألا يعيش.
لست أرى طريقا للطمأنينة الكاملة يستطيع المرء أن يسلكه سوى ما يشير عليه به قلبه. فليمتنع المرء عن كثرة الاختلاط، وليكثر من الإيواء إلى بيته، ويلتزم تلك المسالك التي يحب السير فيها. إن الاحتفاظ الدائم بالمشاعر البسيطة السامية في الواجبات الخفية، تدريب للشخصية على تلك الصفة التي تدفع المرء إلى أن يعمل بالشرف - إن اقتضت الضرورة - وسط الضجيج أو فوق المقصلة. أي اعتداء على الحقوق لحق بالناس فيما مضى قد يلحق بالفرد مرة أخرى، ويحدث ذلك بسهولة في الجمهورية، إن بدت أية علامة من علامات انحلال الدين. إن الشاب قد يصور لنفسه كيفما شاء، وعلى قدر ما يستطيع من هدوء الأعصاب، إنه عرضة للقذف الشديد، وللنار، ولعقوبة القار والريش، وللمشنقة، ثم يسأل نفسه إلى أي حد يستطيع أن يثبت إحساسه بالواجب، مواجها هذه العقوبات، كلما عن لعدد من الصحف ولجمع كاف من جيرانه أن يحكم على آرائه بأنها تثير الفتن والقلاقل.
قد يخفف من خشية المصائب في أشد القلوب حساسية أن يرى المرء السرعة الفائقة التي ترد بها الطبيعة أقصى ما يصيب الإنسان من شر. إننا سرعان ما نبلغ حافة لا يستطيع عندها عدو أن يلحق بنا:
دعهم يهذون؛
فأنت هادئ في قبرك.
في ظلمة جهلنا بما سوف يحدث، وفي الساعة التي تصم فيها آذاننا عن الأصوات العالية، من منا لا يحسد أولئك الذين ساروا بمحاولاتهم الجريئة حتى نهايتها الآمنة؟ من منا يرى وضاعة سياستنا ولا يهنئ من داخل نفسه واشنطن لأنه قد لف من زمن بعيد في كفنه وأمسى إلى الأبد آمنا، ولأنه أودع قبره في دعة، ولم يمت في قلبه بعد أمل البشرية؟ ومن منا لا يحسد أحيانا الأخيار والشجعان، الذين لم يعودوا يقاسون ضجيج العالم الطبيعي ، ثم لا ينتظر بشيء من الرضى والشغف النهاية الخاطفة لحديثه مع الطبيعة المحدودة؟ ومع ذلك فإن الحب الذي يريد الإنسان القضاء عليه - بسرعة تفوق خطف الغادرين - قد جعل الموت مستحيلا، وأثبت أنه ليس فانيا، ولكنه يستوطن أعماق الكائن المطلق، الذي لا ينطفئ نوره.
العقل
اذهب وعجل سير نجوم الفكر،
نحو أهدافها المضيئة.
إن الزارع يبذر بذوره في مكان فسيح،
والقمح الذي تنثره يستحيل أرواحا.
كل مادة من المواد الكيمائية تكهرب ما فوقها سلبا، وما دونها إيجابا؛ فالماء يحلل الخشب والحديد والملح، والهواء يحلل الماء، والنار الكهربائية تحلل الهواء، ولكن العقل يحلل النار والجاذبية والقوانين والمنهج، وأدق علاقات الطبيعة التي لا اسم لها، وذلك بمادته المذيبة التي لا تقاوم. والعقل يكمن وراء النبوغ؛ لأن النبوغ هو الجانب المنشئ من العقل. العقل هو القوة البسيطة التي تسبق كل عمل أو إنشاء. وكم وددت لو استطعت أن أبسط التاريخ الطبيعي للعقل على مراحل واضحة، ولكن أين الإنسان الذي استطاع قبل الآن أن يحدد خطوات هذا الجوهر الشفاف وحدوده؟ إن الأسئلة الأولى تلقى دائما، وأحكم الأطباء تحيره أسئلة الطفل الكثيرة. كيف نستطيع أن نتحدث عن عمل العقل وأن نقسمه، كما نتحدث عن معارفه، وقواعده الخلقية، وإنتاجه، وما إلى ذلك، ما دام يحول الإرادة إلى إدراك حي، والمعرفة إلى عمل. فيصبح كل منهما الآخر. أما العقل فهو وحده كائن لا يتغير. وهو لا يبصر كما تبصر العين، ولكنه يتحد والأشياء المعروفة.
العقل والتعقل كلاهما يعني - للأذن العارية - تأمل الحق المطلق. إن اعتبارات الزمان والمكان، وأنت وأنا، والمنفعة والضرر، تسيطر على عقول أكثر الناس. ولكن العقل يفصل الحقيقة التي نتأملها عن «شخصك»، وعن كل إشارة إلى ما هو موضعي أو شخصي، وينعم فيها النظر كأنها وجدت لذاتها. كان هرقليطس ينظر إلى الأهواء كأنها غيوم كثيفة ملونة. وفي غيوم الأهواء، خيرها وشرها، يشق على المرء أن يتقدم في خط مستقيم. أما العقل فإنه خلو من الأهواء، ويرى الشيء كما يظهر في ضوء العلم، باردا، لا يرتبط بشيء . العقل يخرج عن الفرد، ويطفو على شخصية العقل نفسه، وينظر إليها كأنها حقيقة، وليس باعتبارها «أنا» أو «لي». ومن يكون مغمورا فيما يتعلق بالشخص أو المكان لا يمكنه أن يرى مشكلة الوجود. ولكن العقل يتدبر الوجود دائما. إن الطبيعة تظهر كل شيء مصورا ومحددا. أما العقل فيخترق الصورة، ويثب فوق الجدار الحاجز، ويكشف التشابه الذاتي بين الأشياء المتباعدة، ويرد الأشياء جميعا إلى عدد من المبادئ محدود.
إذا جعلت حقيقة من الحقائق موضوعا لتفكيرك رفعت من شأنها. وكل تلك الكتلة من المظاهر العقلية والخلقية التي لا نخضعها للتفكير المقصود، تقع في دائرة ما يمكن تغييره. إنها تكون ظروف الحياة اليومية، وتتعرض للتغير وللمخاوف والآمال. إن كل فرد ينظر إلى بشريته بشيء من الحزن. وكما أن السفينة تحطمها الأمواج إذا التصقت بالأرض فكذلك الإنسان - الذي يحتبس في الحياة الفانية - يتعرض لرحمة الحوادث المقبلة. ولكن الحقيقة الواحدة، التي يعزلها العقل وحدها، لا تخضع لتبديل أو تغيير. إننا ننظر إليها كأنها إله يترفع عن الهم والخوف؛ ولذا فإن أية حقيقة في حياتنا، أو أية صورة من صور خيالنا وتأملنا، متحللة من نسيج عقلنا الباطن، تصبح موضوعا خالدا غير شخصي. إنها الماضي عائدا إلينا في صورة محنطة. وقد خلصتها من المخاوف والفساد فنون تفوق فنون المصريين في التحنيط، كما نزعت منها الهموم، ووهبت للعلم. إن ما يوجه إلينا للتأمل لا يهددنا، ولكنه يجعلنا كائنات عاقلة.
العقل ينمو تلقائيا في كل اتجاه. والعقل الذي ينمو لا يستطيع أن يتنبأ بوقت هذه التلقائية أو وسيلتها أو طرائقها. إن الله يدخل من باب خاص إلى كل فرد. ويسبق تفكير العقل عهد التأمل بوقت طويل. لقد خرج من الظلام لا يحس به أحد إلى ضوء النهار الذي يدعو إلى العجب. وفي زمن الطفولة تراه يتقبل بطريقته الخاصة جميع المؤثرات من الخلق الذي يحوطه ويتصرف فيها. إن كل ما يعمله العقل أو يتفوه به يخضع لقانون. وهذا القانون الطبيعي يبقى مسيطرا عليه بعد أن يصل إلى مرحلة التأمل أو التفكير الواعي. إن الرجل المتكلف المنهوك الذي ينطوي على نفسه ويعذبها، لا يمكنه أن يتوقع الجانب الأكبر من حياته؛ فهو مجهول، لا يمكن تصوره. ويجب أن يبقى كذلك، حتى يستطيع أن ينتشل نفسه من أذنيه. من أنا؟ ماذا صنعت إرادتي لتجعلني كما أنا؟ لا شيء. لقد طفوت فوق هذا الرأي، وفي هذه الساعة، وهذه الحوادث المتشابكة، بفعل تيارات خفية من القوة والعقل، ولم يعترض هذا الاتجاه أو يعززه - بدرجة محسوسة - ما عندي من عبقرية أو عناد.
إن ما نعمل تلقائيا هو دائما خير أعمالنا. إنك لا تستطيع، بكل ما لديك من قصد وحرص، أن تقترب من موضوع ما بقدر ما تقربك لمحة تلقائية، عندما تنهض من فراشك، أو تسير في الخارج صباحا بعد أن تتدبر الأمر قبل النوم في الليلة السابقة. التفكير كالوحي يهبط على الرجل التقي؛ ولذا فإن صدق الفكرة تفسده المبالغة في التوجيه العنيف الذي تقوم به الإرادة، كما تفسده زيادة الإهمال. إننا لا نحدد ما نفكر فيه. ولكننا نكتفي بأن نفتح حواسنا، وأن نزيل - ما استطعنا - كل ما يقف في سبيل الحقيقة، ونترك للعقل أن يرى. ما أقل سلطاننا على أفكارنا. إنما نحن سجناء الأفكار. إنها تقبض علينا لحظات في سمائها، وتشغلنا انشغالا كاملا بحيث لا نفكر في الغد، وإنما نحملق كالأطفال، دون أن نحاول أن نجعل هذه الأفكار ملكا لنا. وبعد وقت ما نبتعد عن هذا الابتهاج، ونذكر أين كنا، وما شهدنا، ونستعيد ما رأينا استعادة صادقة بقدر ما نستطيع. وبمقدار ما نستطيع استعادة هذه الحالات النفسية البهيجة، نحمل النتائج في ذاكرة لا تمحى، ويؤيدنا جميع الناس وجميع العصور. وذلك هو ما نسميه «الحقيقة». وفي اللحظة التي نكف فيها عن الاسترجاع، ونحاول فيها التصحيح والتدبير، تتلاشى الحقيقة.
وإذا فكرنا في الأشخاص الذين حفزونا ونفعونا، أدركنا تفوق مبدأ التلقائية أو البداهة على مبدأ الحساب والمنطق. الأول يتضمن الثاني، ولكن في صورة جوهرية كامنة. إننا نتطلب من كل إنسان منطقا طويلا، ولا نتسامح في انعدامه، ولكن هذا المنطق ينبغي ألا ينطق به. المنطق هو سير البديهة أو تفتحها تفتحا متلائما، وفضله في كونه طريقة صامتة. وفي اللحظة التي يظهر فيها في صورة فروض، وتكون له قيمة منفصلة، يصبح عديم القيمة.
في عقل كل إنسان تبقى بعض الصور، والكلمات، والحقائق، دون أن يبذل المرء جهدا في انطباعها، وهي صور وكلمات وحقائق ينساها غيره، وتوضح له هذه الأشياء فيما بعد بعضا من القوانين الهامة. كلما تقدمنا تفتح كتفتح زهرة الخضر. لديك أولا الغريزة، ثم الفكرة، ثم المعرفة، كما للنبات الجذر، فالبرعم، فالثمرة. ضع ثقتك في الغريزة حتى النهاية، حتى إن لم تستطع أن تقدم الأسباب. ومن العبث أن تتعجلها. وإن أنت وثقت فيها حتى النهاية نضجت وأثمرت الحقيقة، وعرفت لماذا آمنت بعقيدة ما.
ولكل عقل طريقته. والرجل الحق لا يجعل معارفه قط طبقا لقواعد الكليات الجامعة. إن ما تجمعه بطريقة طبيعية يذهل الرائي ويسره عندما تخرجه؛ لأننا لا نستطيع أن نكشف عن أسرار غيرنا. ومن ثم فإن الفروق بين الناس في المواهب الطبيعية تافهة إذا قيست إلى ثروتهم المشتركة. وهل تحسب أن حارس الباب والطاهي ليست عندهم لك قصص أو تجارب أو عجائب؟ كل فرد يعرف بقدر ما يعرف العالم. إن جدران العقول الساذجة مخططة كلها بالحقائق والأفكار. وسوف تحصل ذات يوم على مصباح وتقرأ المخطوط. وكل امرئ - بمقدار ما لديه من فطنة وثقافة - يشتعل حبا لمعرفة كل ما يتعلق بطرق العيش والتفكير عند غيره من الناس، وبخاصة عند تلك الطبقات التي لم تخضع عقولها لتدريب التعليم المدرسي.
وهذه الحركة الغريزية التي لا تتوقف البتة في العقل الصحيح، ولكنها تصبح أقوى وأكثر حصولا على المعرفة خلال جميع درجات الثقافة. وأخيرا يأتي عهد التأمل، حينما لا نكتفي بالملاحظة، ولكننا نبذل الجهد الشاق لكي نلاحظ، حينما نجلس عامدين لكي نفكر في حقيقة مطلقة، وحينما نفتح عين العقل أثناء الحديث والمطالعة والعمل ، ونقصد إلى معرفة القانون الذي يستتر خلف مجموعة من الحقائق.
ما أشق عمل في الدنيا؟ أن تفكر! وددت لو استطعت أن أقف الموقف الذي يمكنني من رؤية الحقيقة المطلقة رؤيا العين، ولكني لا أستطيع، فأرخي جفني وأركن إلى هذا الجانب أو ذاك. ويبدو لي أنني عندئذ أدرك ما قصده من قال: لا يستطيع أحد أن يرى الله وجها لوجه ثم يعيش بعد ذلك. ومثال ذلك أن يحاول المرء أن يكشف أساس الحكومة الأهلية. دعه يسلط عقله في اتجاه معين، بغير توقف أو راحة. إن خير ما عنده من التفات مهما طال أمده لا يجديه شيئا. ومع ذلك فإن الأفكار تفلت أمام عينيه. وقد يحدث له أي شيء إلا أن يفهم، ولا يتنبأ بالحقيقة إلا في صورة غامضة. تقول: سوف أمشي خارج بيتي فتتخذ الحقيقة صورتها وتتضح لي. ثم ننطلق ولكننا لا نعثر عليها. ويبدو لنا أننا نحتاج فقط إلى السكون والجلسة الهادئة في المكتبة كي نظفر بالفكرة. ولكننا نلجها، فإذا بنا على بعد منها كما كنا أولا. ثم تظهر لنا الحقيقة في لحظة وعلى غير انتظار. يظهر لنا ضوء شارد معين، وفي وضحه يظهر لنا المبدأ الذي ننشده. يبدو لي أن قانون العقل يشبه قانون الطبيعة الذي نشهق بموجبه الأنفاس ثم نزفرها، ويسحب بمقتضاها القلب الدم ثم يلفظه، أعني قانون التراوح. ولذا فعليك في فترة أن تعمل بذهنك، وعليك في لحظة أخرى أن تكف عن العمل، لترى ما تكشف عنه «الروح» العليا.
إن خلود الإنسان يبشر به التفكير العقلي كما تبشر به إرادة الإنسان المعنوية. كل تفكير في أساسه تطلع إلى المستقبل، وأقل قيمه قيمته الراهنة. أنعم النظر فيما يستهويك في فلوطارخس وشكسبير وسرفانتيس. إن كل حقيقة يحصل عليها كاتب من الكتاب هي مصباح يسلط كل ضوئه على الوقائع والأفكار التي كانت من قبل في عقله، ثم انظر إلى ما يحدث بعد ذلك، تجد أن الحصير والمهملات التي كانت تنتثر في برجه قد أصبحت أشياء ثمينة. كل واقعة تافهة في تاريخ حياته الخاصة تمسي وسيلة لإيضاح هذا المبدأ الجديد، وتعود إلى وضح النهار، وتستهوي الناس جميعا بقوتها وسحرها الجديد. ويتساءل الناس: أنى له هذا؟ ويظنون أن في حياته شيئا مقدسا. كلا، إن لديهم ألوف الوقائع التي لا تقل عن ذلك قيمة، وما عليهم إلا أن يحصلوا على مصباح ينبشون في ضوئه هم كذلك الطبقات العليا من ديارهم.
كلنا عقلاء. والفرق بين فرد وآخر ليس في الحكمة، ولكنه في المهارة. عرفت في ناد علمي شخصا يذعن لي دائما، رأى ميلي إلى الكتابة فتوهم أن تجاربي بها شيء أسمى مما لديه. في حين أني وجدت تجاربه لا تقل شأنا عن تجاربي. أعطني هذه التجارب، ولسوف أفيد منها نفس الفائدة. كان يتمسك بالقديم، ثم يتمسك بالجديد. أما أنا فقد تعودت أن أضم الجديد إلى القديم، وهو ما لم يتعود ممارسته. تجد ذلك في الأمثلة الكبرى. وربما لو أتيح لنا أن نلقى شكسبير لم نشعر بنقص شديد. كلا، بل نحس مساواة كبرى، مع فارق واحد فقط، وهو أنه كانت لديه مهارة غريبة في الإفادة من الحقائق وترتيبها، وهي المهارة التي تنقصنا؛ لأنا برغم عجزنا المطلق عن أن نخرج شيئا مثل هاملت أو عطيل، إلا أن لدينا جميعا استعدادا كاملا نتقبل به هذا الذكاء المفرط، وهذه المعرفة العميقة بشئون الحياة، وهذه الفصاحة الدافقة.
إذا جمعت تفاحا في ضوء الشمس، أو جففت الحشائش، أو قلمت الأرض لزراعة القمح، ثم أويت إلى بيتك، وأغمضت عينيك، وضغطت عليهما بيدك، فإنك لا تفتأ ترى التفاح معلقا في الضوء اللامع بين الأغصان والأوراق، كما ترى الحشائش المعشبة، أو سنابل القمح، لمدة خمس أو ست ساعات بعد ذلك. فإن آثار ما رأيت تنطبع في الإرادة الحافظة، حتى إن جهلت ذلك. وهكذا تستقر سلسلة الصور الطبيعية كلها التي عرفتك بها حياتك في ذاكرتك، حتى إن جهلت ذلك، ثم تلقي هزة من هزات العاطفة ضوءا خاطفا على مكانها المظلم، فتستولي القوة العاملة في الحال على الصورة الملائمة، وتجعلها الكلمة التي تفكر فيها في لحظة من اللحظات.
ينقضي زمن طويل قبل أن نكشف عما لدينا من ثراء. إننا على ثقة من أن تاريخنا مألوف جدا؛ فليس لدينا ما نكتبه أو نستخلصه. غير أن أحكم سنواتنا ما برحت تعود القهقرى نحو ذكريات الطفولة المحتقرة، فنتصيد دائما شيئا عجيبا من ذلك المستنقع، حتى نبدأ - بمرور الزمن - في الشك بأن سيرة الرجل الأحمق الواحد الذي نعرفه لا تقل في حقيقتها عن تفسير مختصر ل «تاريخ العالم» الذي يقع في مائة مجلد.
وفي العقل المنشئ، الذي نطلق عليه عادة اسم النبوغ، نلاحظ نفس الاتزان بين العنصرين الذي نلاحظه في العقل القابل. العقل المنشئ ينتج الأفكار والعبارات والقصائد والخطط والرسوم والنظم؛ فهي من توليد العقل، ومن تزاوج الفكر بالطبيعة. ولا بد للنبوغ من هبتين: الفكرة ونشرها، والأولى هي الكشف، وهي معجزة دائما، معجزة لا يجعلها أبدا تكرار الحدوث أو مواصلة الدرس أمرا مألوفا، ولكنها تترك المتسائل دائما في غباوة التعجب. هي إقحام الحقيقة في الدنيا، هي صورة من صور الفكر تنطلق الآن لأول مرة في العالم، هي وليدة الروح الأبدية القديمة، وجانب من العظمة الصادقة التي لا تحاط، وإنها لتبدو لأول مرة كأنها ترث كل ما سبق وجوده، وكأنها تملى على من لم يولد بعد. إنها تؤثر في كل فكرة من أفكار الناس، وتشكل كل نظام. ولكنها - لكي يسهل الحصول عليها - بحاجة إلى وسيلة أو إلى فن تنتقل عن طريقه إلى الناس. ولكي يمكن انتقالها يجب أن تتحول إلى صورة أو شيء محسوس، يجب أن تتكلم لغة الوقائع. إن أشد ضروب الإلهام عجبا ليموت مع الرجل الملهم إذا لم تكن له يد يصور بها إلهامه للحواس. إن شعاع الضوء يمر خلال الفضاء لا يراه أحد، ولا يرى إلا إذا سقط على شيء ما. والطاقة الروحية عندما تتجه إلى شيء خارجها، تصبح عند ذاك فكرة. والعلاقة بينها وبينك تجعلك أولا - أو تجعل قيمتك - تظهر لي. إن القدرة العقلية الفنية المبدعة عند المصور تخمد وتتلاشى إذا افتقد القدرة على التصوير. وفي ساعاتنا السعيدة يجب أن نكون شعراء لا ينضب لنا معين، إذا استطعنا مرة أن نشق الصمت بالنظم الملائم. وكما أن الناس جميعا يستطيعون الوصول بطريقة ما إلى الحقيقة الأولى، فكذلك لهم جميعا نوع من الفن أو القدرة على الاتصال في رءوسهم، ولكن هذه القدرة لا تهبط إلى اليدين إلا عند الفنان وحده. هناك مفارقة لم نعرف قوانينها بعد، بين رجلين وبين الرجل الواحد في لحظتين، بالنسبة لهذه المقدرة. في الساعات العادية تمر بنا الوقائع عينها التي تمر بنا في الساعات غير العادية أو في ساعات الوحي، ولكن هذه الوقائع لا تتأهب لتصويرها، ولا تنعزل، وإنما تشتبك في نسيج كنسيج العنكبوت. إن الفكرة النابغة تلقائية، ولكن القدرة على التصوير أو التعبير، في أغنى صوره وأكثرها فيضا، تتطلب مزيجا من الإرادة، وشيئا من السيطرة على الحالات التلقائية، وبدون ذلك لا يمكن الإنتاج. هذه القدرة هي تحول الطبيعة كلها إلى التعمق المفصح عن الفكرة، بالتوجيه الحكيم وبالتدريب العنيف على الاختيار. ومع ذلك فإن الألفاظ الخيالية تبدو كأنها تلقائية كذلك. إنها لا تتدفق من الخبرة وحدها أو أساسا، ولكنها تتدفق من ينبوع أغنى. إن الخطوط العظيمة للمصور لا ترسم بالتقليد المقصود لأشكال معينة، ولكنها ترسم بالرجوع إلى المصدر الرئيسي لجميع الأشكال في عقله. ومن ذا يكون أول أستاذ للرسم؟ إننا بغير تعليم نعرف فكرة الصور البشرية معرفة جيدة. يعرف الطفل إذا كان الذراع أو الساق شائهة في الصورة، وإذا كان الموقف طبيعيا أو عظيما، أو وضيعا، مع أنه لم يتلق أي درس في الرسم، أو استمع إلى أي حديث في الموضوع، ولا يستطيع هو نفسه أن يرسم بدقة لمحة واحدة. إن الصورة الحسنة تسر جميع العيون، قبل أن يبلغها أي علم بالموضوع بزمان طويل، والوجه الجميل يبعث النبض في عشرات القلوب، قبل أية معرفة بالنسب الآلية للرأس والملامح. وقد نكون مدينين للأحلام ببعض الضوء على مصدر هذه المهارة؛ لأننا بمجرد ما نبعد الإرادة، ونحل محلها حالة من حالات عدم الوعي، نرى كيف نمسي مصورين ماهرين! إننا نخيل لأنفسنا صورا عجيبة من الرجال والنساء والحيوان والبساتين والغابات والوحوش، والقلم الساحر الذي نرسم به بعد ذلك لا تلمس فيه انحرافا أو جهلا، أو ضعفا أو فقرا، إنه يحسن التصميم كما يحسن التنفيذ، وتأليفه مليء بالفن، وألوانه منسجمة متسقة، وقطعة الخيش كلها التي يصور عليها تكاد تنبض بالحياة، وهي قمينة بأن تبعث فينا الرعب أو الرقة أو التشوق أو الأسى. وليس ما ينقله الفنان من خبرته مجرد صور منقولة، ولكنها صور تتأثر وتتزين بألوان يستمدها من هذا المجال المثالي.
إن الشروط الضرورية للعقل المنشئ لا تظهر غالبا متحدة، ولكن العبارة الحسنة أو البيت الشعري الجميل يبقى جديدا ومذكورا مدة طويلة من الزمان. ومع ذلك فإننا عندما نكتب بسهولة، ونخرج إلى هواء الفكر الطلق، نبدو كأننا على ثقة من أنه ليس هناك ما هو أيسر من الاستمرار في هذا الاتصال حسبما شئنا. إن دولة الفكر ليست لها حدود في أعلاها أو أسفلها أو حولها، ولكن آلهة الفن تطلق لنا الحرية في ميدانها؛ ففي العالم ألف ألف كاتب. وإذن فقد يحسب المرء أن الفكرة الحسنة مألوفة كالماء والهواء، وأن هبات كل ساعة جديدة تستبعد الهبات الماضية. ولكنا مع ذلك نستطيع أن نعد كل ما لدينا من كتب جيدة. كلا، بل إني لأتذكر كل بيت جميل من الشعر مدى عشرين عاما. ومن الحق أن نقول إن العقل المدرك في الدنيا يتقدم دائما العقل المبدع بكثير؛ ولذا فهناك كثير من نقاد خير الكتب الأكفاء، وقليل من كتاب الكتب القيمة. غير أن بعض شروط الإنشاء العقلي نادر الحدوث. والعقل كل، يتطلب الكمال في كل عمل. ويقابل ذلك ويقف في سبيله تعلق المرء بفكرة واحدة، وطموحه إلى توحيد أفكار عديدة لا تحتمل التوحيد.
الحق عنصرنا في الحياة. وعلى ذلك فإن المرء إذا وجه انتباهه إلى وجه واحد من أوجه الحق، وحصر نفسه في هذا الجانب وحده مدة طويلة، فإن الحق يتشوه ولا يصبح حقا، بل باطلا. وهو في هذا يشبه الهواء، وهو عنصرنا الطبيعي، والأنفاس التي نستنشقها، ولكن إذا اتجه منه تيار على الجسم مدة طويلة، فإنه يسبب البرد، والحمى، بل والموت. ما أشقى النحوي ، والعالم بفراسة الرأس، والمتعصب السياسي أو الديني، أو - في الواقع - أي مخلوق تتملكه فكرة واحدة، فيفقد اتزانه بالمبالغة في موضوع واحد. إن ذلك إلا جنون في بدايته. وكل فكرة سجن كذلك. لا أستطيع أن أرى ما ترى؛ لأن ريحا شديدة قد أدركتني وقذفت بي في اتجاه واحد حتى أصبحت خارج نطاق أفقك.
وهل خير من هذا أن يحاول الطالب - كي يتحاشى هذا الخطأ وكي يحرر نفسه - أن يهدف إلى إيجاد كل آلي في التاريخ، أو العلم، أو الفلسفة، بإضافة عددية لجميع الوقائع التي تقع تحت بصره؟ إن العالم يرفض أن يحلل بالجمع أو بالطرح. كم من الوقت ننفق وكم من الآلام ما نعاني في شبابنا في ملء كراساتنا بجميع تعاريف الدين، والحب، والشعر، والسياسة، والفن، آملين في خلال سنوات قلائل أن نلخص في موسوعتنا ما يصفو من قيمة جميع النظريات التي بلغها العالم. ولكن قوائمنا لا تصل إلى الكمال برغم مرور الأعوام، ونكتشف أخيرا، أن منحنانا قطع مخروطي، لا يلتقي قوساه.
إن كمال العقل لا ينتقل إلى عمله بالفصل أو بالوصل، ولكنه ينتقل بالملاحظة التي تحرك العقل وهو في عظمته وخير حالاته إلى العمل في كل لحظة. ولا بد أن تكون له الكلية ذاتها التي للطبيعة. ومع أن الاجتهاد لا يمكنه أن يعيد إنشاء الدنيا في نموذج، بجمع التفصيلات أو التصرف فيها على خير وجه، إلا أن الدنيا تظهر في صورة مصغرة في كل حادث بحيث تمكن مطالعة جميع قوانين الطبيعة في أصغر واقعة. ويجب أن يكون للعقل نفس هذا الكمال في إدراكه وفي أعماله. من أجل هذا كان أساس الكفاية العقلية أو مركز قوتها هو إدراك هذا التطابق. إننا نتحدث إلى أشخاص مهذبين يظهرون غرباء في الطبيعة؛ فالسحابة، والشجرة، والعشب، والطير، ليست لهم، وليس بها شيء منهم. وليست الدنيا لهم سوى مسكن ومائدة. ولكن الشاعر الذي تكون أبياته شاملة كاملة رجل لا تستطيع الطبيعة أن تخدعه، أيا كان وجه الغرابة الذي تتخذه. إنه يحس قرابتها الشديدة، ويكتشف في تقلباتها تشابها أكثر مما يكتشف فيها تنوعا. إن شهوة الفكرة الجديدة توخزنا، غير أننا بعدما نستقبل الفكرة الجديدة نجد أنها ليست سوى الفكرة القديمة اتخذت وجها جديدا، وبالرغم من امتلاكنا لها، إلا أننا نشتهي غيرها في الحال؛ فنحن في الواقع لا تزداد ثروتنا؛ لأن الحق كان كامنا فينا قبل أن تنعكس هذه الفكرة من الأشياء الطبيعية. وصاحب النبوغ النافذ يصب تشابه المخلوقات جميعا في كل عمل ينتجه عقله.
ولكن إذا كانت القوى المنشئة نادرة، ولم يكتب إلا لأفراد قلائل أن يكونوا شعراء، إلا أن كل رجل يتلقى هذا الروح القدسي الهابط، ويستطيع أن يدرس قوانين سريانه. إن قاعدة الواجب العقلي قلما تحاذي تمام المحاذاة قاعدة الواجب الخلقي؛ فالعالم يطلب إليه إنكار الذات إنكارا تاما، شأنه في ذلك شأن القديس، لا بد له من عبادة الحق، ولا بد له من التخلي عن كل شيء من أجل ذلك، وأن يؤثر الهزيمة والألم، كي تنمو عن سبيل ذلك ثروته الفكرية.
يهب الله لكل عقل الخيار بين الحق والراحة. اختر منهما ما شئت، ولن تستطيع أن تظفر بكليهما، والإنسان بينهما يتذبذب كالبندول؛ فمن تغلب عليه محبة الراحة يقبل أول مذهب، وأول فلسفة، وأول حزب سياسي يقابله، والأرجح جدا أن يتبع أباه. إنه يظفر بالراحة والمتاع وحسن السيرة، ولكنه يغلق باب الحقيقة. ومن تغلب عليه محبة الحقيقة يبقى طافيا بعيدا عن كل مرفأ. إنه يمتنع عن قبول كل عقيدة ثابتة، ويعترف بكل ما ينافيها ويعارضها. ويتأرجح كيانه بين الفضيلة وما يناقضها كأنهما جداران. إنه يستسلم للقلق الذي ينجم عن التردد والآراء التي لم يتم نضجها، غير أنه يطلب الحقيقة، كما لا يطلبها الآخر، ويحترم أسمى قانون من قوانين وجوده.
لا بد له أن يجوب بنعليه دائرة الأرض الخضراء، باحثا عن الرجل الذي يستطيع أن يمده بالحقيقة. ولسوف يعرف عندئذ أن في الاستماع شيئا من القداسة ومن العظمة أكثر مما في الكلام. ما أسعد الرجل المستمع، وما أشقى الرجل المتكلم. ما دمت أستمع إلى الحقيقة فإني أغوص في وسط جميل، ولا أحس حدودا لطبيعتي. وما أصغي إليه وما أشاهده يوحي إلي بآلاف الفكر. إن مياه المحيط العظيم تجد إلى الروح مدخلا ومنها مخرجا. ولكني إن تكلمت، أتحدد، وأحتبس، ويقل شأني. عندما يتكلم سقراط لا يلحق العار بليسس ومنكسنس؛ لأنهما لا يتكلمان. إنهما كذلك من الأخيار. وهو أيضا يذعن لهما، ويحبهما، أثناء كلامه؛ وذلك لأن الرجل الصادق الطبيعي يحتوي الحقيقة - بل هو الحقيقة عينها - التي ينطق بها الرجل العظيم، في حين أن الحقيقة ترى أن الرجل الفصيح غير جدير بإيوائها؛ لأنه يستطيع أن يخرجها من بين شفتيه، فتراه يتجه إلى هؤلاء الصامتين الذين يتصفون بالجمال، وهو إليهم أكثر ميلا، وأشد احتراما. يقول المثل القديم: دعنا نلزم الصمت؛ لأن الآلهة صامتة. الصمت قوة تحطم حدود الشخصية، وتسمح لنا أن نكون عظماء عالميين. يتقدم المرء عن طريق المعلمين المتتابعين. ويبدو أن لكل منهم في إبانه النفوذ الأعظم، ولكن هذا النفوذ يخلي السبيل في النهاية إلى نفوذ آخر. وعلى المرء أن يتقبل كل ذلك بإخلاص. يقول يسوع: «اترك أباك وأمك وبيتك وأرضك واتبعني. من يترك كل شيء يزيد ما يحصل عليه.» وتصدق هذه القاعدة عقليا كما تصدق خلقيا. كل عقل جديد نقترب منه يظهر أنه يتطلب منا أن نتنازل عن كل ما ملكنا في ماضينا وحاضرنا. والمذهب الجديد يبدو أول الأمر هادما لكل آرائنا وأذواقنا وطرائق معيشتنا. هكذا بدا سودنبرج، وكانت، وكولردج، وهجل أو ابن عمه الذي شرح مذهبه، لكثير من الشباب في هذا البلد. خذ عنهم بقلبك شاكرا كل ما يستطيعون تقديمه إليك. استنفد ما لديهم وصارعهم، ولا تسمح لهم بالانصراف حتى تظفر بخيرهم، وبعد فترة وجيزة يتبدد الفزع، ويتلاشى النفوذ الزائد، ولا تراهم بعد ذلك شهبا مرعبة، ولكنهم أنجم جديدة لامعة تشرق صافية في سمائك، وتمزج ضوءها بكل نهارك.
وبينما ترى المرء يستسلم بغير تحفظ لما يجذبه ؛ لأن ذلك من ملكه، تجده يأبى أن يرضخ لما لا يجذبه، مهما يكن ما يحيط به من شهرة وسلطان؛ لأن ذلك ليس من ملكه. إن الاعتماد على النفس اعتمادا كليا من خصائص العقل. إن الروح الواحدة تعادل جميع الأرواح، كما أن عمود الماء الذي ينجذب انجذابا شعريا يوازن البحر. وعليها أن تعامل الأشياء والكتب العبقرية المتسلطة، كما تعامل نفسها المتسلطة كذلك. وإذا كان أيسكلس هو ذلك الرجل الذي عرف بصفات خاصة، فإنه لم يؤد واجبه بعد، حتى إن علم أوروبا المتعلمة ألف عام. فعليه الآن أن يبرهن أنه أستاذ في الإمتاع بالنسبة إلي كذلك، فإن لم يستطع ذلك، فإن كل شهرته لن تجديه عندي شيئا. وما كان أشد سخفي؛ لأني لم أضح بألف أيسكلس في سبيل كمالي العقلي. وقل مثل هذا خاصة فيما يتعلق بالحق المطلق، أو علم العقل. ليس باكون أو سبينوزا أو هيوم أو شلنج أو كانت أو غيرهم ممن يعرض عليك فلسفة عقلية سوى مترجم للأشياء التي في وعيك، والتي لك أنت كذلك سبيلك إلى رؤيتها، وربما إلى التعبير عنها كذلك، وترجمته محرفة قليلا أو كثيرا. فقل إذن إنه لم ينجح في أن يرد إليك وعيك، بدلا من أن تنكب متخاذلا على معانيه الغامضة. إنه لم ينجح، فدع الآن غيره يحاول. وإذا كان أفلاطون لا يستطيع، فلربما استطاع سبينوزا. وإذا لم يستطع سبينوزا، فلربما استطاع كانت. وعلى أية حال، فلسوف تجد بعد هذا كله أن ما يرده إليك الكاتب ليس أمرا عويصا، ولكنه بسيط طبيعي مألوف.
ودعنا الآن نختتم هذه التعاليم. لن أتحدث في المشكلة العامة، مشكلة المفاضلة بين الحب والحقيقة، وإن كان الموضوع يثيرها. ولست أزعم أني أتطفل على سياسة السموات القديمة التي تقول: «إن شاروبيم يعرف كثيرا، وصاروفيم يحب كثيرا.» إن الآلهة سوف تصفي منازعاتها بنفسها. بيد أني لا أستطيع أن أروي - حتى في هذه البساطة - قوانين العقل، دون أن أذكر تلك الطبقة العليا المنعزلة التي بشرت بها وتكهنت أكبر قساوسة العقل الخالص، الذين يعرفون باسم «المفسرين»، أو شراح مبادئ الفكر في مختلف العصور. وعندما نقلب صفحاتهم المبهمة في فترات متباعدة، فما أعجب ما يبدو لنا من هدوء وعظمة من هذه القلة، هؤلاء السادة الروحانيون العظماء، الذين ساروا في هذه الدنيا - أولئك الذين بشروا بالدين القديم - وانكفئوا يعبدون دينا تبدو إزاءه المسيحية المقدسة شيئا مستحدثا شعبيا؛ لأن «الإغراء من خصائص الروح، ولكن الضرورة من خصائص العقل.» هذه العصبة من العظماء، هرميز، وهيراقليطس، وأمبدوكليز، وأفلاطون، وإفلوطين، وأولمبيودورس، وبروكلس، وسنسيس، ومن إليهم، لديهم قوة في المنطق، وابتكار في التفكير، يسبق كل المميزات العادية للبلاغة والأدب، كما يبدو كأنه شعر وموسيقى ورقص وفلك ورياضة في آن واحد. كنت حاضرا عندما بذرت بذرة العالم. إن الروح تضع أسس الطبيعة بهندسة من أشعة الشمس. ويدل على صدق تفكيرهم وجلاله مداه وإمكان تطبيقه؛ لأنه يهيمن على قائمة الأشياء كلها ومجموعها ليوضحه. غير أن ما يميز علو تفكيرهم، بل وما يكسبه نظرة ساخرة إلينا، هو الهدوء البريء الذي يبدو على ملوك الآلهة، هؤلاء الذين يشبهون الأطفال، يبدو عليهم وهم قابعون في سحبهم، يتحدث كل منهم إلى الآخر من عصر إلى عصر، ولا يتحدثون إلى معاصريهم. إنهم على ثقة تامة من أن حديثهم مفهوم، ومن أنه أكثر شيء طبيعي في هذه الدنيا، ومن ثم تراهم يضمون بحثا إلى بحث، دون أن يلتفتوا لحظة إلى الذهول الذي يصيب أفراد الجنس البشري أجمعين ممن هم دونهم، والذين لا يفقهون أشد آرائهم وضوحا. ولا يرضى أحدهم أن يلين فيقحم عبارة عامة أو تفسيرية، ولا يبدي أدنى سخط أو كدر من غباء مستمعيه الذاهلين. إن الملائكة يهيمون بلغة التخاطب في السماء، فلا يشوهون شفاههم بلهجات الناس التي تشبه الصفير الذي يخلو من النغم، ولكنهم يتحدثون بلغتهم، سواء كان هناك من يفهمهم أو لم يكن.
المقالات: المجموعة الثانية
(نشر الكتاب الثاني للمقالات في عام 1884م، ثم نشر بعد ذلك بقليل في إنجلترا. وقد استخدمت المقالات أولا كمحاضرات في صيغ متنوعة أمام أنواع مختلفة من الجماهير، ثم أعيدت كتابتها إعادة كاملة لاستخدامها في الكتاب. وكان استقبال هذا الكتاب أحسن من سابقيه.)
الشاعر
طفل متقلب وحكيم ساذج،
يتابع الشوط بأعين مغتبطة،
اختارت - كالشهب - طريقها،
وشقت الظلام بأشعة خاصة،
وتخطت حافة الأفق،
وبحثت بكل ما عند أبولو من امتياز،
وخلال الرجل والمرأة والبحر والنجم
رأت رقص الطبيعة عن بعد أمامها،
وخلال العوالم والأجناس والحدود والأزمان
رأت نظاما فيه نغم، وأبياتا من الشعر فيها قافية. •••
شعراء الأولمب ينشدون
أفكارا إلهية فوق الأرض،
ترانا دائما شبابا،
وتحفظ لنا الشباب دائما.
أولئك الذين نحسبهم حكاما في الأذواق غالبا ما يكونون أشخاصا حصلوا على بعض العلم بالصور والتماثيل التي نعجب بها، ولهم ميل إلى كل ما هو رشيق. ولكنك إن بحثت عما إذا كانت نفوسهم حسنة، وعما إذا كانت أعمالهم كالصور الجميلة، لعلمت أنهم قوم حسيون يحبون أنفسهم. ثقافتهم محلية، كأنك تمسح كتلة من الخشب الجاف في بقعة واحدة لتحدث بذلك نارا، فإن كل ما خلا هذه البقعة يبقى باردا. معرفتهم بالفنون الجميلة شيء من دراسة القواعد والتفصيلات، أو حكم محدود على اللون والشكل، يمارسونه للتسلية أو للتظاهر. ومما يدل على ضحولة مذهب الجمال - كما يفهمه هواته عندنا - أن الناس يظهر أنهم لم يعودوا يدركون أن الشكل يعتمد على الروح اعتمادا كليا. ليس في فلسفتنا مذهب للأشكال. لقد وضعنا في أجسامنا، كما توضع النار في الوعاء، لكي تحمل هنا وهناك. ولكن ليس هناك تناسب دقيق بين الروح والجسم، بله أن يكون الجسم مولدا للروح. وكذلك الحال بالنسبة إلى الأشكال الأخرى، فإن رجال الفكر لا يعتقدون في أية ضرورة لاعتماد العالم المادي على الفكر والإرادة. ويحسب رجال الدين أن الكلام عن المعنى الروحي للسفينة أو للسحابة، أو للمدينة أو التعاقد؛ من قبيل قصور الهواء الجميلة. ويؤثرون العودة إلى الأرض الصلبة، أرض الأدلة التاريخية. وحتى الشعراء يقنعون بأسلوب من العيش مدني تقليدي، وأن يكتبوا القصائد من الخيال، وهم على بعد آمن من تجاربهم. بيد أن أرفع العقول في الدنيا لم تكف قط عن اكتشاف المعنى المزدوج، بل إني لأستطيع أن أقول المعنى الرباعي، أو الخماسي، أو ما هو أكثر من ذلك من المعاني، لكل حقيقة حسية، ومن هؤلاء أورفيس وأمبروكليز وهرقليطس وأفلاطون وفلوطارخس ودانتي وسودنبرج، وأساتذة النحت والتصوير والشعر؛ لأننا لسنا أوعية أو عربات، بل ولسنا حملة للمشاعل، ولكنا أبناء النار، منها خلقنا. ولسنا سوى هذه النار المقدسة عينها في صورة أخرى، وإنما نحن على بعدين أو ثلاثة منها، فلا نعرف عنها إلا القليل. وهذه الحقيقة الخفية، وهي أن الينابيع التي يتفجر منها نهر الزمان هذا كله، ومخلوقاته، مثالية وجميلة في ذاتها، هذه الحقيقة تجرنا إلى التفكير في طبيعة الشاعر - أو رجل الجمال - ووظيفته، وتجرنا إلى الوسائل والمواد التي يستخدمها، وإلى الصفة الغالبة على الفن في الوقت الحاضر.
وهي مشكلة شديدة العمق؛ لأن الشاعر رجل يمثل غيره. وهو يمثل بين الرجال الناقصين الرجل الكامل، ويطلعنا لا على ثروته، بل على ثروة المجموع. وترى الشاب يقدس الرجال النابغين؛ لأنهم - إن صدقنا القول - يمثلون نفسه أكثر مما يمثلها هو. إنهم ينطبعون بالروح كما ينطبع، ولكنهم يفوقونه في ذلك. إن الطبيعة تزداد جمالا في أعين العاشقين؛ لأنهم يؤمنون أن الشاعر يرى مظاهرها في الوقت الذي يرونها فيه. إنه منعزل بين معاصريه، بما عنده من حق وما لديه من فن. وإنما يعزيه في عمله أنه سوف يجذب إليه الناس أجمعين إن عاجلا أو آجلا؛ لأن الناس جميعا يعيشون بالحقيقة، وفي حاجة إلى التعبير. إننا في الحب وفي الفن والأطماع والسياسة والعمل واللعب، نحاول أن نعبر عن خفايانا الأليمة. والرجل نصف نفسه فقط، ونصفه الآخر تعبيره.
وبالرغم من هذه الضرورة إلى نشر الأفكار، فإن التعبير السديد نادر عزيز. ولست أدري كيف نحتاج إلى مترجم. غير أن أكثر الناس صغار، لا يملكون القدرة على التعبير عن أنفسهم، أو بكم، لا يستطيعون رواية الحديث الذي يدور بينهم وبين الطبيعة، وليس هناك إنسان لا يتوقع منفعة تفوق الحس من الشمس والنجوم والأرض والماء. إنها تقف وتنتظر أن تؤدي له خدمة فريدة. غير أن في بنائنا عائقا ما أو فتورا زائدا لا يسمح لها أن تحدث الأثر المطلوب. وانطباعات الطبيعة تقع في نفوسنا موقعا ضعيفا جدا فلا تجعل منا رجال فن. إن كل لمسة يجب أن تهز المشاعر. ويجب على كل إنسان أن يكون فنانا بالقدر الذي يمكنه من أن يروي في الحديث ما وقع له. غير أن الإشعاعات أو الملابسات التي تقع لنا في تجاربنا تبلغ من القوة ما يكفي لأن تبلغ الحواس، ولكنه لا يكفي أن تصل إلى الصميم وترغم صاحبها على التعبير عنها في الحديث. والشاعر هو الشخص الذي تتوازن لديه هذه القوى، هو الرجل من غير عائق، الذي يرى ويتناول ما يحلم به الآخرون، ويجتاز مجال التجارب كله، ويمثل الإنسانية؛ لأنه أعظم قوة تستقبل وتذيع.
للكون ثلاثة أطفال، ولدوا في وقت واحد، يعود ظهورهم تحت أسماء مختلفة في كل طريقة من طرق التفكير سواء يطلق عليهم: السبب والعمل والأثر، أو في عبارة أكثر من ذلك شاعرية: جوف وبلوتو ونبتيون، أو في عبارة دينية: الآب والروح والابن. ولكننا سوف نطلق عليهم هنا: العالم والعامل والقائل. ويمثل هؤلاء على التوالي حب الحقيقة، وحب الخير، وحب الجمال. وهؤلاء الثلاثة على قدم المساواة. وكل واحد من هؤلاء الثلاثة هو من هو بالضرورة، فلا يمكن قهره أو تحليله. وكل واحد منهم لديه ما لدى الآخرين من قوة كامنة فيه، ولديه قوته الخاصة التي يتميز بها.
والشاعر هو القائل، أو من يسمي الأشياء بأسمائها، وهو يمثل الجمال. وهو سلطان يقف في الوسط؛ لأن الدنيا لم تصور أو تجمل، ولكنها جميلة منذ البداية. والله لم يصنع بعض الأشياء الجميلة، ولكن «الجمال» هو خالق الكون. ومن ثم فالشاعر ليس حاكما يستمد النفوذ من سلطان، وإنما هو إمبراطور بحقه الخاص. ولكن النقد موبوء بآفة المادية، التي تفترض أن المهارة اليدوية والحركة هي الميزة الأولى بين الناس أجمعين، وهو يحط من شأن أولئك الذين يقولون ولا يفعلون، ويتغاضى عن أن بعض الناس - أعني الشعراء - قوالون بالطبع، بعثوا في العالم بقصد التعبير، ويخلط بينهم وبين أولئك الذين ميدانهم العمل، غير أنهم يهجرونه لكي يقلدوا رجال القول. ولكن هومر يرى كلماته غالية تدعو إلى الإعجاب، كما يرى أجاممنون انتصاراته كذلك. إن الشاعر لا يتخلف عن البطل أو الحكيم، ولكن كما أن البطل يعمل أولا والحكيم يفكر أولا، فكذلك الشاعر يكتب أولا ما سوف يقال وما ينبغي أن يقال، ويعتبر الآخرين، برغم أنهم كذلك أوائل، ثانويين أو تابعين بالنسبة إليه، كأنهم قعود أو نماذج في غرفة المصور أو مساعدون يأتون بمواد البناء لمهندسي المباني.
لأن الشعر كتب كله قبل أن يبدأ الزمان. وكلما كان تكويننا رقيقا بحيث نستطيع أن ننفذ إلى تلك المنطقة التي يكون فيها الهواء موسيقى استمعنا إلى تلك التغاريد الأولية، وحاولنا أن ندونها، ولكنا نفقد بين الحين والحين كلمة أو بيتا من الشعر، ونستبدل به شيئا من عندنا؛ ومن ثم ترانا نسيء تدوين القصيدة. أما أصحاب الآذان المرهفة فيكتبون هذا القصيد في صدق وأمانة، وتصبح كتاباتهم - رغم ما فيها من نقص - أناشيد الأمم؛ لأن الطبيعة فيها من الجمال الصادق بمقدار ما فيها من الحكمة. وينبغي أن تصور كما ينبغي أن يؤدى فيها عمل وكما ينبغي أن تعرف. إنما الألفاظ والأعمال أسلوبان من أساليب الطاقة لا خلاف البتة بينهما. والكلمات هي كذلك أفعال، والأفعال ضرب من ضروب الكلام.
وسمة الشاعر وميزته الكبرى أنه يعلن ما لم يتنبأ به إنسان من قبل. هو الطبيب الصادق الوحيد. إنه يعرف ويقول. وهو وحده مردد الأنباء؛ لأنه كان حاضرا وملاصقا للصورة التي يصفها. إنه يبصر الأفكار، ويعبر عن الضرورات والأسباب. ولست أتحدث الآن عن رجال ذوي مواهب شعرية، أو عن أصحاب الصناعة والمهارة في النظم، ولكني أتحدث عن الشاعر الحق. اشتركت في حديث منذ بضعة أيام بشأن كاتب من كتاب الأناشيد المحدثين، وهو رجل ذو عقل دقيق، يبدو رأسه كأنه صندوق موسيقى تصدر عنه الأنغام الرقيقة والقوافي، ومهارته وسيطرته على اللغة يفوقان كل ثناء. ولما تساءلنا هل هو منشد فحسب أم شاعر كذلك، اضطررنا إلى الاعتراف بأنه رجل عصره فقط وليس من الرجال الخالدين؛ فهو لا يبرز عن حدودنا الضيقة، كالشمبورازو الذي يعدو من المنطقة الحارة خلال جميع أجواء الكرة الأرضية، ويتمنطق بأعشاب كل خط من خطوط العرض حول جوانبه المرتفعة المرقشة. إنما هذا العبقري أشبه بالحديقة الجميلة في البيت الحديث، تجملها النافورات والتماثيل، ويرودها الرجال والنساء من الأسر الكريمة وقوفا وجلوسا في الممرات والشرفات؛ فنحن نسمع - خلال كل نغمات الموسيقى المتنوعة - النغمة السفلى للحياة التقليدية. إنما شعراؤنا رجال موهوبون ينشدون، وليس أبناء الموسيقى. الموضوع عندهم ثانوي، وصقل النظم أولي؛ لأن القصيدة لا تتألف من الوزن، وإنما تتألف من الفكرة الموزونة، الفكرة العاطفية الحية التي - كروح النبات أو الحيوان - لها هندستها الخاصة، والتي تزين الطبيعة زينة جديدة. الفكرة والصيغة متساويان من حيث القدم في الزمان، ولكن الفكرة - من حيث القدم في النوع - تسبق الصيغة. للشاعر فكرة جديدة، وله تجربة جديدة بأسرها يبسطها. إنه يخبرنا كيف مر بهذه التجربة، فيمسي كل امرئ أوفر ثروة مما كان؛ لأن تجربة كل عصر جديد تتطلب اعترافا جديدا، ويظهر أن الدنيا تنتظر شاعرها دائما. أذكر حينما كنت شابا كيف اهتزت مشاعري ذات صباح عندما نمى إلي أن العبقرية بدت على شاب كان يجلس إلى جواري على المائدة؛ لقد تخلى عن عمله وانطلق متجولا إلى حيث لا يدري أحد، وكتب مئات السطور، ولكنه لم يستطع أن يقول إذا كان قد ضمنها ما بنفسه. لم يستطع أن يقول أكثر من أن كل شيء قد تغير: الإنسان والحيوان والسماء والأرض والبحر. لشد ما ابتهجنا لما سمعنا! وما أسرع تصديقنا له! وكأن المجتمع قد رضي واطمأن. وجلسنا في ضوء الفجر عند مطلع الشمس حينما تنطفئ النجوم. وبدت بوسطن كأنها على ضعف البعد الذي كانت عليه في الليلة السابقة، أو لعلها كانت أبعد من ذلك. ثم روما، وما أدراك ما روما! وكأن فلوطارخس وشكسبير قد آلا إلى الذبول، ولم يعد أحد يسمع عن هومر. وكفانا أن نعرف أن الشعر قد كتب هذا اليوم نفسه، تحت هذا السقف نفسه، إلى جوارك. عجبا! إن ذلك الروح العجيب لم يمت! وهذه الآثار الحجرية ما زالت تتلألأ وتدب فيها الحياة! وكنت قد تصورت أن الكهان قد صمتوا، وأن الطبيعة قد خبت نارها، ثم أنظر! وسط هذا الليل الحالك، الذي يخيم في كل مكان، يبدو هذا الشفق الجميل. كل فرد يتشوق لظهور الشاعر، ولا يدري أحد إلى أي حد يهمه ذلك. إننا نعلم أن سر الدنيا عميق، ولكنا لا ندري من ذا أو ماذا سوف يكون مترجما لنا. إن جولة في الجبل، أو طرازا جديدا من الوجوه، أو شخصا جديدا يضع المفتاح بين أيدينا. وقيمة العبقرية لدينا هي بالطبع في صدق الرواية. الموهبة قد تلهي وقد تخدع، ولكن العبقرية تحقق وتزيد. وقد أدرك الإنسان الآن إدراكا جديا من دراسة نفسه وعمله أن من يسبق إلى القمة هو الذي يعبر عن رأيه، فتكون كلمته هي أصدق الكلمات التي نطق بها إنسان، وعبارته أنسب العبارات وأكثرها موسيقى، وهي في حينها صوت الدنيا الذي لا يخطئ.
كل ما نسميه التاريخ المقدس يدل على أن مولد الشاعر هو الحادث الأساسي في سير التاريخ؛ فالمرء - الذي غالبا لا يخدع قط - يرقب دائما وصول أخ يستطيع أن يوقفه في ثبات أمام حقيقة من الحقائق حتى يجعلها ملكا له. ما أشد سروري حينما أشرع في قراءة قصيدة أعتقد أنها من الوحي! والآن تتحطم أغلالي، فلسوف أعتلي هذه السحب وتلك الأجواء المعتمة التي أعيش فيها، فهي معتمة وإن بدت شفافة، ومن سماء الحقيقة سوف أشهد وأدرك علاقاتي. إن ذلك يجعل بيني وبين الحياة وفاقا، ويجدد الطبيعة، فأرى التوافه وقد اتجهت اتجاها يبعث فيها الحياة، وأدرك ما أنا صانع. إن الحياة لن تكون بعد الآن ضجيجا. والآن سوف أرى الرجال والنساء، وأدرك الدلائل التي يمكن أن يتميزوا بها عن الحمقى والشياطين. ولسوف يكون هذا اليوم خيرا من عيد ميلادي؛ إذ إني يوم ميلادي صرت حيوانا، أما الآن فإنني أدعى إلى علم الواقع. هذا هو الأمل، أما الثمرة فمؤجلة إلى حين. وكثيرا ما يحدث أن هذا الرجل ذا الأجنحة الذي سوف يحملني إلى السماء يهوي بي إلى الضباب، ثم يقفز ويطفر كأنه يثب من سحابة إلى أخرى، مؤكدا لي دائما أنه إنما يرتفع بي صوب السماء. ولما كنت مستجدا لا أدرك عاجلا أنه لا يعرف طريقه إلى السماء، وأنه لا يقصد إلا أن أعجب بمهارته في الصعود، كأنه طائر أو سمكة طائرة، يرتفع قليلا فوق الأرض أو الماء. ولكن جو السماء النافذ المشبع المبصر لا يسكنه مثل هذا الرجل. فسرعان ما أهوي ثانية إلى ركني القديم وأعيش عيش المبالغة كما كنت من قبل، وأفقد إيماني في إمكان وجود مرشد يستطيع أن يقودني إلى هناك، حيث أحب أن أكون.
ولكن دعنا نترك ضحايا الغرور هؤلاء، ونلاحظ بأمل جديد كيف أن الطبيعة - بدوافع أكثر من ذلك قيمة - قد وكلت إلى إخلاص الشاعر مهمة التعبير والتأكيد، وذلك بجمال الأشياء، الذي يصبح بالتعبير عنه جمالا جديدا أرقى؛ فالطبيعة تهب كل مخلوقاتها له، يتخذها لغة تصويرية. ولما كانت هذه المخلوقات تتمازج، فإنها تكتسب قيمة عجيبة أخرى، أكبر كثيرا من قيمتها الأولى، كمنشار النجار، إذا أنت أعرته أذنا مصغية، ألفيت لصوته في النسيم موسيقى. يقول جامبليكس: «إن الأشياء التي تفوق كل صورة يعبر عنها بالصور.» إن الأشياء تسمح باستعمالها رموزا؛ لأن الطبيعة رمز بكليتها وبكل جزء فيها. كل سطر يمكن أن نخطه في الرمال له تعبير، وليس هناك جسم بغير روح أو عبقرية. كل شكل أثر من آثار صفاته، وكل ظرف أثر من آثار صفة الحياة، وكل انسجام من آثار الصحة (ومن أجل هذا يجب أن ينطوي إدراك الجمال على العطف، وأن يختص بالخير فقط). الجمال يرتكز على أسس الضرورات. والروح تخلق الجسد، أو كما يعلمنا سبنسر الحكيم بقوله:
إن كل روح لأنها أطهر،
وفيها من ضوء السماء أكثر،
توجد الجسم الرقيق لتسكنه،
وتكتسي كساء جميلا،
فتبدو رشيقة جميلة،
منظرها محبب إلى النفوس؛
لأن الجسم يتخذ من الروح صورته،
فالروح صورة، وهي التي تخلق الجسد.
وعلى حين غرة لا نجد أنفسنا متأملين ناقدين، وإنما نحن في مكان مقدس، ويجب أن نسير في حذر شديد وفي وقار. إننا نقف أمام سر الدنيا ، حيث يتحول الوجود إلى مظاهر، والوحدة إلى تنوع.
الكون إخراج الروح إلى العالم الخارجي. وحيثما تكون الحياة فإنها تتفجر في مظاهر حولها. علمنا حسي ولذا فهو سطحي؛ فنحن نعالج الأرض والأجسام السماوية، وعلم الطبيعة، والكيمياء، علاجا حسيا، كأنها موجودة بذاتها. ولكن هذه الأشياء ليست سوى اتباع لذلك الوجود الذي نملكه. يقول بروكلس: «إن السماء العظيمة تعرض في أشكالها المتغيرة صورا واضحة لجلال الإدراك العقلي؛ لأنها تلازم في حركتها طبيعة التفكير التي لا تظهر.» ولذا فإن العلم يتقدم دائما مع ارتفاع الإنسان الحق، متمشيا مع الدين والميتافيزيقا. أو أن ما لدينا من علم دليل على علمنا بأنفسنا. كل شيء في الطبيعة يقابل قوى روحية، فإذا بقيت أية ظاهرة مجهولة مظلمة فإن ذلك يكون مرده إلى أن القوى التي تناظرها عند المشاهد، لم تفعل فعلها بعد.
فلا عجب إذن إذا بلغت هذه المياه من العمق ما يجعلنا نحلق فوقها بنظرة دينية. وجمال الأسطورة يدل على أهمية الحس، للشاعر وللآخرين جميعا. أو إن شئت فقل إن كل إنسان شاعر بمقدار ما يتأثر بسحر الطبيعة؛ لأن الناس جميعا لديهم الأفكار التي ليس الكون سوى احتفال بها. وقد وجدت أن الفتنة تكمن في الرمز. من يحب الطبيعة؟ ومن لا يحبها؟ هل هم الشعراء وحدهم، ورجال الفراغ والثقافة، الذين يعيشون معها؟ كلا. إنما هم كذلك الصيادون والمزارعون والسائسون والقصابون، وإن كانوا يعبرون عن حبهم باختيارهم الحياة دون الألفاظ. إن الكاتب ليعجب ما الذي يقدره سائق العربة أو الصائد في الركوب وفي الخيل وفي الكلاب. إنها ليست صفات سطحية. إنك حينما تتحدث إليه تجد أنه مثلك لا يقيم وزنا لهذه الصفات. إنما عبادته عاطفية. ليست لديه تعريفات، ولكنه مسير في الطبيعة بالقوة الحية التي يحس وجودها. إنه لا يقنع بتقليد هذه الأشياء أو باللعب بها. إنما هو يحب الجد في ريح الشمال، وفي المطر ، وفي الحجر، وفي الخشب والحديد. والجمال الذي لا يفسر أثمن من الجمال الذي ندرك الغرض منه. إنه يعبد الطبيعة التي ترمز، أو الطبيعة التي تدل على ما وراء الطبيعة، أو الجسم الذي تغمره الحياة، يعبد هذه الأشياء بطقوس لا تنم عن تهذيب ولكنها مشبعة بروح الإخلاص.
وعمق هذه العلاقة وما يكتنفها من غموض تدفع الناس من جميع الطبقات إلى استخدام الرموز. وليست مدارس الشعراء والفلاسفة أشد ثملا برموزها من عامة الناس. وتستطيع أن تحصر قوة الشارات والرموز في أحزابنا السياسية. انظر مثلا إلى الكرة الكبرى التي يدحرجونها من بلطيمور إلى تل بنكر! وفي المواكب السياسية ترى لول يسير في منسج، ولن في حذاء، وسالم في سفينة. وشاهد برميل شراب التفاح، والغرفة الخشبية في السفينة، وساق شجرة الجوز، والنخيل الهندي، وكل ما يميز الأحزاب. وانظر إلى قوة الرموز القومية؛ فإن بضعة أنجم، أو زهر الزنبق، والفهود، والهلال، والسبع، والنسر، وغير ذلك من الأشكال - التي لا يعلم إلا الله وحده كيف اكتسبت قيمتها - على خرقة قديمة نسميها العلم، ترفرف في الريح، فوق حصن، في أطراف الأرض، تجعل الدماء تفور بمظهرها البدائي التقليدي. يحسب الناس أنهم يمقتون الشعر، وهم جميعا شعراء متصوفون.
وعلاوة على شيوع هذه اللغة الرمزية في العالم بأسره، فإننا جميعا نعلم قدسية المنفعة العظيمة لهذه الأشياء؛ فهي تجعل من الدنيا معبدا، أسواره مغطاة بالرموز والصور والنواهي السماوية، مما يدل على أنه ليست في الطبيعة واقعة واحدة لا تحمل المعنى الكلي للطبيعة. والفروق التي نقيمها بين الحوادث، والأمور، سافلها وعاليها، خالصها ووضيعها، تختفي عندما نستخدم الطبيعة كرمز. إن الفكر يجعل كل شيء صالحا للاستعمال. والألفاظ التي يستعملها رجل عليم بكل شيء تشتمل على الكلمات والصور التي نستبعدها من الحديث المهذب. وما هو وضيع، أو بذيء، للبذيء، يخطف السمع إذا استخدم في الحديث عن علاقة فكرية جديدة. إن تقوى الأنبياء تطهرهم من خشونتهم، والختان مثال لقوة الشعر في رفع الوضيع والآثم. والأشياء الصغيرة والوضيعة تصلح رموزا كما تصلح الأشياء العظيمة. وكلما زادت بساطة النموذج الذي يعبر عن القانون العام قوي تعبيره واشتد ثبوته في ذاكرة الناس. كما نختار أصغر الصناديق أو الحقائب لنحمل فيها الأداة التي أشد ما نكون حاجة إليها. والقوائم المجردة للكلمات تلهم العقل للتخيل الحساس؛ فقد روي عن لورد تشاتهام أنه ألف الاطلاع على قاموس بيلي حينما كان يستعد للكلام في مجلس النواب. وأتفه التجارب تغني غناء كافيا لجميع أغراض التعبير عن الرأي. فلماذا نشتهي العلم بالحقائق الجديدة؟ إن الليل والنهار، والبيت والحديقة، وقليلا من الكتب، وقليلا من الأعمال، تؤدي أغراضنا كما تؤديها جميع الحرف والمشاهد. فما أبعدنا عن استنفاد ما تدل عليه الرموز القليلة التي نستخدمها! فإننا نستطيع أن نستعملها ببساطة عجيبة. ولا حاجة إلى أن تكون القصيدة طويلة؛ فكل كلمة كانت قصيدة في وقت ما. وكل علاقة جديدة كلمة جديدة. وكذلك نستخدم العيوب والنقائص لغرض مقدس، وبذا نعبر عن إحساسنا بأن شرور الدنيا ليست كذلك إلا للعين الشريرة. ويلاحظ علماء الأساطير أن النقائص - في الأساطير القديمة - تعزى إلى الطبائع المقدسة، كما يعزى العرج لفلكان، والعمى لكيوبد، وما إلى ذلك، للدلالة على القوة والغزارة.
فكما أن الانفصال، والبعد عن حياة الإله، هو الذي يجعل الأشياء قبيحة، فكذلك الشاعر، الذي يعيد وصل الأشياء بالطبيعة، و«بالكل»، الذي يعيد وصل حتى الأشياء الصناعية، وخوارق الطبيعة، بالطبيعة، بما لديه من عمق البصيرة، هذا الشاعر يتصرف في أبشع الحقائق في يسر شديد. يرى قراء الشعر القرى الصناعية والسكك الحديدية، ويتصورون أن شعر المناظر الطبيعية تهدمه هذه الأشياء؛ لأن هذه الأعمال الفنية لم تقدس بعد في قراءتهم. ولكن الشاعر يرى أنها تنخرط في سلك النظام الشامل كما تنخرط فيه خلية النحل أو نسيج العنكبوت الهندسي؛ فالطبيعة سرعان ما تضمها إلى دوائرها الحيوية، وتحب قطار العربات المنزلق كما تحب أشياءها. والعقل المركز - فوق ذلك - لا يهمه كم من المخترعات الآلية تعرض له. فلو أضفت إليها مليونا، مما يفوق في عجبه كل ما سبق، فإن حقيقة الآلية لا تكسب مثقال ذرة. وتبقى الحقيقة الروحية دون تغيير، كثرت الجزئيات أو قلت، كما أن الجبل مهما علا ارتفاعه لا يهدم تقوس الكرة الأرضية. يذهب الصبي القروي الذكي إلى المدينة لأول مرة، ولا يرتاح المدني الهمام لما يبدي هذا القروي من قلة الإعجاب. ولا يعود ذلك إلى أنه لا يرى كل المنازل البديعة، ويدرك أنه لم ير مثلها من قبل، وإنما ذلك لأنه يتصرف فيما يرى بالسهولة التي يجد بها الشاعر مكانا لسكة الحديد. إن القيمة الرئيسية للحقيقة الجديدة هي رفع قيمة حقيقة «الحياة» الدائمة الكبرى، التي تستطيع أن تصغر إلى جانبها أي ظرف وكل ظرف آخر، والتي لا ترى فارقا بين حزام الخرز وتجارة أمريكا.
ولما كانت الدنيا تخضع للعقل هكذا فعلا واسما، فإن الشاعر هو الذي يستطيع أن ينطق بها؛ لأن الحياة قد تكون عظيمة، فاتنة، أخاذة، والناس جميعا قد يدركون الرموز التي تسمى بها هذه الحياة، إلا أنهم لا يستطيعون أن يستخدموا هذه الرموز استخداما أصيلا. إنما نحن رموز، ونسكن الرموز. العمال والعمل والآلات والأشياء، والميلاد والموت، كل أولئك شارات. ولكننا نعطف على هذه الرموز. ولما كنا نفتتن بالمنافع الاقتصادية للأشياء، فنحن لا نعرف أنها آراء. أما الشاعر فإنه - بما لديه من إدراك عقلي سام - يكسبها قوة تجعلنا ننسى ما لها من فائدة قديمة ويضع أعينا ولسانا في كل شيء أبكم لا حياة فيه. إنه يدرك استقلال الفكرة عن الرمز، واستتباب الفكر، وما يتصف به الرمز من زوال وعرض. وكما أنهم يزعمون أن عيني لينسيس كانتا تخترقان الأرض بالنظر، فكذلك الشاعر يحيل الدنيا زجاجا، ويرينا الأشياء جميعا في تسلسلها ووضعها الصحيحين؛ لأنه - عن طريق هذا الإدراك الأقوى - يقترب خطوة نحو الأشياء، ويرى سير تقلباتها، ويدرك أن للفكر صورا عدة، وأن صورة كل مخلوق تنطوي على قوة تدفعه إلى الصعود إلى صورة أعلى، ويتبع بعينه الحياة، فيستخدم الصور التي تعبر عن هذه الحياة، وهكذا يتدفق حديثه مع تدفق الطبيعة. كل حقائق الاقتصاد المادي، والجنسي، والتغذية، والحمل، والميلاد، والنمو، إن هي إلا رموز لمرور الدنيا بروح الإنسان ، كي تتعرض فيها للتغير، وتعود إلى الظهور حقيقة جديدة أعلى مرتبة. إنه لا يستخدم الصور صورا، وإنما يستخدمها كرموز للحياة. وهذا هو العلم الحق. الشاعر وحده يعرف علم الفلك، والكيمياء، والنبات، والحيوان؛ لأنه لا يقف عند هذه الحقائق، ولكنه يستخدمها كشارات. إنه يعرف لماذا انتثرت هذه الأزهار التي نسميها الشموس والأقمار والنجوم فوق سهل الفضاء أو مرعاه، ولماذا يتجمل المحيط العظيم بالحيوان والإنسان والآلهة؛ لأنه في كل كلمة ينطق بها يركب متنها كأنها جياد الفكر.
وبفضل هذا العلم يكون الشعر هو المسمي أو صانع اللغة، يسمي الأشياء أحيانا وفق مظاهرها، ويسميها أحيانا وفق مغزاها، ويعطي كل شيء اسمه الخاص لا اسما آخر. وبذلك يدخل السرور إلى العقل الذي يبتهج بالانفصال أو التحديد. الشعراء هم الذين صنعوا جميع الكلمات، ولذا فاللغة هي سجل التاريخ، أو - إن صح هذا التعبير - هي نوع من المقبرة لآلهة الشعر. وقد ننسى أصول أكثر الكلمات، إلا أن كل كلمة كانت في أول أمرها لفتة من لفتات العبقرية، ثم اكتسبت المداولة؛ لأنها في حينها كانت ترمز إلى الدنيا للمتكلم الأول وللمستمع. إن عالم الاشتقاق يجد أن أشد الكلمات مواتا كان ذات يوم صورة لامعة. اللغة شعر متحجر. وكما أن الحجر الجيري في القارة يتألف من كتل لا نهاية لها من أصداف الحيوانات الميكروسكوبية، فكذلك اللغة تتألف من الصور والمجازات التي لم تعد - في استعمالها الثانوي - تذكرنا اليوم بمنشئها الشعري. ولكن الشاعر يسمي الشيء لأنه يراه، أو يخطو نحوه خطوة أقرب من أي شخص آخر. وهذا التعبير، أو هذه التسمية، ليس فنا، ولكنه طبيعة ثانية، تولدت عن الطبيعة الأولى، كما تتولد الورقة من الشجرة. إن ما نسميه الطبيعة ليس إلا تحولا أو حركة معينة تنظم نفسها. و«الطبيعة» تعمل كل شيء بيديها ولا تترك غيرها يعمدها، ولكنها تعمد نفسها. ويتم ذلك عن طريق التحول من صورة إلى أخرى مرة ثانية. أذكر أن شاعرا معينا وصف لي ذلك فقال:
العبقرية هي الحركة التي تعوض موت الأشياء، سواء كانت في كل حد أو إلى حد ما مادية محدودة. إن الطبيعة - خلال ممالكها كلها - تؤمن نفسها. إن أحدا لا يعبأ بزراعة الفطريات الحقيرة؛ ولذا فهي تساقط من سنابل الفطرية الواحدة بذورا لا عداد لها، كل واحدة منها - إن حفظت - تنقل ملايين جديدة من البذور غدا أو بعد غد. والفطرية الجديدة في هذه الساعة لديها فرصة ليست للفطرية القديمة. وهذه الذرة من البذور يلقى بها في مكان جديد، لا تخضع للأحداث التي أتلفت البذرة التي ولدتها والتي تقع منها على بعد بضعة أمتار. الطبيعة تخلق الإنسان، وعندما تبلغ به سن البلوغ، لا تخاطر حينئذ بفقدان هذه الأعجوبة بضربة واحدة، ولكنها تفصل منه نفسا جديدة، حتى يمسي النوع في أمن من الحوادث التي يتعرض لها الفرد؛ ولذا فإن روح الشاعر - عندما تبلغ نضوج الفكر - تفصل عنها القصائد والأناشيد وتنشرها، وتلك ذرية لا تخشى ولا تنام ولا تموت ولا تتعرض لحوادث دولة الزمان الكليلة: ذرية حية لا تخاف، تكتسي بالأجنحة (وتلك كانت ميزة الروح التي نشأت عنها الذرية) التي تحملها على عجل وإلى مدى بعيد، وتثبتها في قلوب الناس ثبوتا لا يتزعزع، تلك الأجنحة هي جمال روح الشاعر. والأغاني التي تنفصل عن مبدعها الفاني وتكتسب الخلود، تتبعها نزوات من النقد، تتجمع في حشد يفوقها عدا، وتهدد بالتهامها. ولكن هذه النزوات لا أجنحة لها. وفي نهاية وثبة قصيرة جدا تسقط هذه النزوات ثقيلة، وتفسد؛ لأنها لم تتلق من الأرواح التي صدرت عنها أجنحة جميلة. ولكن أناشيد الشاعر تصعد، وتثب، وتخترق أعماق الزمان الذي لا نهاية له.
هذا ما علمنيه الشاعر، وقد استخدم فيه كلاما حرا. بيد أن للطبيعة في إنتاجها أفرادا جددا، هدفا أعلى من الضمان، وذلك هو «الصعود»، أو انتقال الروح إلى صورة أرقى. عرفت في أيام حداثتي النحات الذي صنع تمثال الشباب الذي أقيم في الحديقة العامة. وكان - كما أذكر - عاجزا عن أن يقول مباشرة ما جعله سعيدا أو غير سعيد، ولكنه استطاع القول بطرق عجيبة غير مباشرة. نهض ذات يوم - كعادته - قبل الفجر، وشاهد مطلع الصباح، جليلا كالأبدية التي انشق منها، ولعدة أيام بعد ذلك حاول أن يعبر عن اطمئنانه، فكان أن شكل بإزميله من المرمر صورة شاب جميل، فسفورس، الذي يقال إن محياه يصيب بالصمت كل ناظر إليه، وكذلك الشاعر يستسلم لمزاجه، والفكرة التي تهز مشاعره يعبر عنها بأسلوب جديد كل الجدة. التعبير عضوي، أو هو الطراز الجديد الذي تتخذه الأشياء نفسها عندما تحرر. وكما أن الأشياء - في الشمس - تطبع صورها على شبكة العين، فهي كذلك - لأنها تشارك طموح العالم بأسره - تميل إلى أن تطبع في العقل صورة من جوهرها أرق منها بكثير. فالتحول إلى الأناشيد شبيه بتحول الأشياء إلى صور عضوية أرقى. إن لكل شيء شبحا أو روحا، وكما أن صورة الشيء تعكسها العين، فكذلك روح الشيء تعكسه الأنشودة. إن البحر، وحافة الجبل، ونياجارا، وكل حوض من حياض الزهر، سابق في وجوده. أو هو موجود وجودا أعلى، في أغان سابقة، تسبح كالعطور في الهواء، وكلما مر بها إنسان ذو أذن مرهفة إرهافا كافيا استمع إليها، وحاول أن يدون النغم دون أن يفسده أو يدنسه. ومن ثم يرى النقد - الذي يصدر عن العقل - أن القصائد ترجمة فاسدة لأصل من أصول الطبيعة، عليها أن تسجله. إن الوزن في أغنية من أغانينا يجب ألا يقل إمتاعا عن العقد المكررة في الصدفة البحرية، أو ما يشبه ذلك من فروق كائنة في مجموعة من الزهور. إن تزاوج الطيور قصيدة، ليست مملة كقصائدنا، والعاصفة أنشودة طبيعية، تخلو من الباطل واللغو. والصيف، بمحصول زرعه، الذي يجمع ويخزن، ملحمة غنائية، دونها كثير من إنتاج العقل مهما كان أداؤه داعيا للإعجاب. فلماذا لا ينساب في أرواحنا التوازن والصدق الذي يسري لحنه في هذه الأشياء، ولماذا لا نشاطر الطبيعة إبداعها؟
وهذه الفراسة، التي تعبر عن نفسها بما يسمى «الخيال» ضرب رفيع من ضروب النظر، لا يتأتى بالدرس، ولكن بالعقل، الذي يوجد حيث يرى ويصبح نفس ما يرى، والذي يشارك الأشياء تحولها إلى أشكال، فيجعلها تشف عن غيرها. إن تحول الأشياء صامت، فهل تحتمل أن يصاحبها متكلم؟ إنها لا تحتمل من يتجسس عليها. أما العاشق أو الشاعر، فهو إنسان يعلو على طبيعتها، فهي تحتمله . إن شرط التسمية الصحيحة - عند الشاعر - هو استسلامه للروح المقدسة التي تتنفس خلال الأشكال، ومصاحبته لها.
كل رجل عاقل سرعان ما يدرك هذا السر، وهو أن وراء طاقة عقله الواعي الذي يملكه، قدرة على طاقة أخرى (كأنها العقل يتضاعف)، يحسها إذا خلى بين نفسه وبين طبائع الأشياء. وفوق قدرته الخاصة كفرد قدرة عامة عظمى، يستطيع أن يستمد منها إذا هو خاطر بفتح مغاليق أبوابه الإنسانية، وتعرض للتيارات الأثيرية التي تدور وتتغلغل في نفسه. إنه عندئذ ينخرط في سلك حياة «الكون»، فيصبح كلامه رعدا، وفكره قانونا. ويفهم العالم كله كلماته كما يفهم النبات أو الحيوان. لا يدرك الشاعر أنه يحسن الكلام إلا حينما يصدر عنه الكلام على سجيته أو عندما يتكلم ب «زهرة العقل»، ولا يتكلم بالعقل كعضو، وإنما يتكلم به متحللا من كل غرض، ومتخذا وجهته من حياته السماوية، أو - كما اعتاد القدماء أن يعبروا عن أنفسهم - لا يتكلم بالعقل وحده، ولكن بالعقل أسكره شراب الآلهة. وكما أن المسافر الذي ضل طريقه يلقى الصرع على ظهر جواده، ويستسلم لغريزة الحيوان كي يجد طريقه، فكذلك ينبغي لنا أن نفعل مع الحيوان المقدس الذي ينطلق بنا خلال هذا العالم؛ لأننا إن استطعنا بأية وسيلة أن ننبه هذه الغريزة تفتحت لنا في الطبيعة طرق جديدة، وانطلق العقل في الأشياء وخلالها مهما شقت وعلت، وأصبح التحول من حال إلى حال ممكنا.
من أجل ذلك أحب الشعراء الخمر، والشراب المعتق، والمخدرات، والقهوة والشاي والأفيون، ودخان خشب الصندل، والتبغ، وكل ما يجلب البهجة والسرور. وكل إنسان ينتفع بمثل هذه الوسائل ما استطاع كي يضم إلى قدرته الطبيعية هذه القدرة الخالقة. ولتحقيق هذا الغرض تراهم ينشدون الحديث، والموسيقى، والصور، والتماثيل، والرقص، والتمثيل، والأسفار، والحرب، والجماهير، والنيران، والألعاب، والسياسة، والحب، والعلم، وما يسكر الجسم، وكلها أشياء مصطنعة آلية - غلظت أو رقت - نستعيض بها عن الشراب الإلهي الصادق، وهو فتنة العقل بزيادة القرب من الحقيقة. إنما هذه الأشياء مساعدة لما عند الإنسان من ميل شديد إلى الخروج عن نفسه ، وإلى انتقاله إلى الفضاء الحر الفسيح. وهي تعاونه على الفرار من سجن ذلك الجسد الذي يحتبس فيه، ومن سجن العلاقات الفردية الذي يضمه. ومن ثم كان عدد كبير ممن احترفوا التعبير عن الجمال، كالمصورين، والشعراء، والموسيقيين، والممثلين، يميلون أكثر من سواهم إلى أن يعيشوا عيشة المتعة والاستهتار. كلهم ما خلا القلة التي تناولت الشراب الإلهي الخالص. وحيث إن وسيلتهم كانت وسيلة زائفة لبلوغ الحرية، وحيث إن تحررهم لم يكن نحو السماء، وإنما حرية نحو الأماكن السفلى، فقد لاقوا عقوبتهم من أجل تلك الميزة التي ظفروا بها، وذلك بتشتيت أذهانهم وتأخرهم، ولكن الطبيعة لا يمكن أن تستل منها المنفعة بالعصا. إن روح الدنيا، وحضرة الخالق الهادئة الجليلة، لا تخرج إلى سحر الأفيون أو الخمر. إنما الرؤيا السامية تأتي إلى الروح الطاهرة الساذجة في الجسم الطاهر العفيف. وليس وحيا ما نستمده من المخدرات، وإنما هي إثارة حسية وفورة زائفة. يقول ملتن إن الشاعر الغنائي يستطيع أن يشرب الخمر ويعيش عيشا كريما، ولكن شاعر الملاحم، الذي ينشد نشيد الآلهة، ويغني قصة هبوطهم إلى الإنسان، يجب أن يشرب الماء من وعاء خشبي؛ لأن الشعر ليس «خمر الشيطان» ولكنه خمر الآلهة. وما أشبه ذلك بلعب الأطفال. إننا نملأ أيدي الأطفال ودور حضانتهم بكل أنواع العرائس، والطبول، والخيول، فنجذب أعينهم بعيدا عن وجه الطبيعة الصبوح وما فيها من أشياء تكتفي بذاتها، كالشمس والقمر، والحيوان والماء والحجر، التي ينبغي أن تكون اللعب التي بها يلهون. وكذلك عادات الشاعر في حياته ينبغي أن تتبسط حتى تبتهج نفسه لكل مؤثر عادي. يجب أن يكون ابتهاجه هبة الشمس المضيئة، ويجب أن يكفي الهواء لإلهامه، ويجب أن يسكره الماء. إن الشراب الذي يكفي القلوب الهادئة، والذي يبدو أنه يأتي إليها من كل رابية جافة من الحشائش الذابلة، ومن كل ساق مبتورة من سوق الصنوبر، ومن كل حجر نصف مطمور، تسطع عليه شمس مارس الفاترة، هذا الشراب يأتي إلى المسكين والجائع، وإلى أصحاب الأذواق الساذجة. وإذا أنت ملأت عقلك بشراب بوسطن ونيويورك ، وبالطرز الجديدة والشهوات، وآثرت حواسك المنهوكة بالنبيذ والقهوة الفرنسية، لما وجدت شعاعا من الحكمة في بيداء الغابات الصنوبرية المنعزلة.
وإذا كان الخيال يسكر الشاعر، فهو ليس عديم الأثر في غيره من الناس. إن التحول من صورة إلى أخرى يشيع السرور في نفس المشاهد، ولاستخدام الرموز قدرة خاصة على التحرير وعلى إدخال البهجة إلى قلوب الناس جميعا؛ فكأن عصا سحرية تمسنا، وهذه العصا تجعلنا نرقص ونعدو مرحين كالأطفال، ونكون كمن يخرج من كهف أو غار إلى الهواء الطلق. هذا هو أثر الاستعارات والأساطير والكهانة وكل الصور الشعرية فينا. ومن ثم فإن الشعراء آلهة تحررنا، فيتكون لدى الناس فعلا إحساس جديد، ويجدون داخل دنياهم دنيا أخرى أو مجموعة من الدنى؛ لأننا لمجرد رؤية التحول نتنبأ بأنه لن يقف عند حد. ولن أذكر الآن مقدار ما يخلفه ذلك من سحر في علم الجبر والرياضيات، التي لها كذلك مجازها، ولكننا نحسه في كل تعريف، نحسه مثلا عندما يعرف أرسطو «المكان» بأنه وعاء ثابت يحتوي الأشياء، أو حينما يعرف أفلاطون «الحظ» بأنه النقطة المتحركة، أو «الشكل» بأنه تحديد الجسم الصلب، وما إلى ذلك. ما أشد سرورنا بالإحساس بالحرية عندما يعلن فتروفيس رأي الفنانين القدامى بأن مهندس البناء لا يستطيع أن يجيد تشييد بيت من البيوت إذا لم يعرف شيئا عن علم التشريح. وعندما يخبرنا شارميديز أن الروح تشفى من أمراضها بتعاويذ خاصة، وأن هذه التعاويذ أسباب جميلة يتولد عنها الاعتدال في الأرواح، وحينما يسمي أفلاطون الدنيا حيوانا، ويؤكد تيميس أن النباتات كذلك حيوانات، أو يؤكد أن الإنسان شجرة سماوية، ينمو هو وجذره - وهو الرأس - إلى أعلى، أو كما يقلده جورج تشايمان فيقول:
كذلك في شجرتنا الإنسانية،
التي تظهر شعيرات جذورها أعلاها ...
وحينما يتحدث أورفيس عن بياض الشعر كأنه «تلك الزهرة البيضاء التي تتميز بها الشيخوخة»، أو حينما يسمي بروكلس الكون تمثال العقل ، أو حينما يقارن شوسر - في ثنائه على دماثة الأخلاق - الدم الطيب في الظروف السيئة بالنار التي - حتى إن انتقلت إلى أظلم بيت بين هذا المكان وجبال القوقاز - سوف تحتفظ دائما بوظيفتها الطبيعية، وتحترق لامعة كأن عشرين ألف رجل يشهدونها، أو حينما رأى حنا في سفر الرؤيا خراب الدنيا عن طريق الشر، والنجوم تهوي من السماء، كما تنبذ شجرة التين فاكهتها في غير إبانها، أو حينما يصور أيسوب العلاقات العادية اليومية كلها على لسان الطير والوحش. إننا نتلمس الدلائل البهيجة التي تنم عن جوهر الإنسان، كما تنم عن تشكل هذا الجوهر في أشكال مختلفة وتحوله من حال إلى حال، أو كما يقول الغجر عن أنفسهم: «من العبث أن تشنقهم، فإنهم لا يموتون.»
فالشعراء إذن آلهة للتحرير. وقد كان المنشدون البريطانيون القدامى يطلقون على طائفتهم «أولئك الأحرار في الدنيا بأسرها». إنهم أحرار، وهم كذلك محررون. والكتاب الخيالي يؤدي لنا خدمة أول الأمر - عن طريق إثارته لنا بما فيه من استعارات - أكثر بكثير مما يؤدي لنا فيما بعد حينما نصل إلى المغزى الحقيقي الذي هدف إليه المؤلف. ولا أحسب في الكتب شيئا قيما سوى ما تومئ إليه مما يفوق العقل ويخرج عن المألوف. فإذا ألهبت الفكرة إنسانا، وحلقت به، فنسي المؤلفين والجمهور، ولم يعبأ إلا بهذا الحلم الوحيد، الذي يستولي عليه كأنه الجنون، فدعني أقرأ صحيفته، وأتخلى لك عن كل البحوث والتواريخ والنقد. كل القيمة التي تعزى إلى فيثاغورس، وباراكلسس، وكورنيليس أجربا، وكاردان، وكبلر، وسودنبرج، وشلنج، وأوكن، أو غيرهم ممن يقحم في نظرياته وقائع تدعو إلى التساؤل، كذكر الملائكة، أو الشياطين، أو السحر، أو التنجيم، أو قراءة الكف، أو التنويم، أو ما إلى ذلك، هذه القيمة هي ما يشهد لنا على ابتعادهم عن المألوف، وعلى أن أمثال هؤلاء شهود جدد. وهذا كذلك هو خير ما يدعو إلى النجاح في الحديث، سحر الحرية، الذي يضع الدنيا في أيدينا كأنها كرة. ما أرخص ما تبدو الحرية نفسها عندئذ، وما أقل شأن الدراسة، حينما تمد عاطفة من العواطف العقل بالقدرة على خلخلة الطبيعة وقلبها. وما أعظم هذا المشهد! إن الأمم، والأزمان، والنظم، تدخل وتختفي، كالخيوط في بساط ذي رسم كبير وألوان عديدة. الحلم يسلمنا إلى حلم آخر، وما دامت حالة الثمل قائمة فإننا نبيع فراشنا، وفلسفتنا، وعقيدتنا، في سبيل هذا الثراء.
ولدينا سبب قوي لتقدير هذا التحرير. إن مصير الراعي الفقير، الذي يعمى ويضل طريقه في العاصفة الثلجية فيهلك في كومة من الثلج على بعد أقدام قليلة من باب كوخه، هذا المصير رمز لحالة الإنسان. إننا نموت موتا يائسا على حافة مياه الحياة والحق. إن استحالة بلوغنا أية فكرة سوى تلك التي تستولي علينا أمر عجيب. وماذا يحدث لو اقتربت منها؟ سوف تظل بعيدا عنها، وأنت أقرب ما تكون إليها بعدك عنها وأنت أقصى ما تكون منها. وكل فكرة هي كذلك سجن، وكل سماء هي كذلك سجن. ولذا فنحن نحب الشاعر، أو المخترع الذي يقدم لنا فكرة جديدة في أية صورة، سواء في أنشودة، أو في عمل، أو في مرآه ومسلكه؛ إنه يفك أغلالنا، ويطلعنا على منظر جديد.
هذا التحرير عزيز على الناس جميعا، والقدرة على منحه مقياس للعقل؛ لأنه يصدر عن عمق للفكر سحيق ومدى بعيد. ومن ثم فإن جميع كتب الخيال تبقى؛ لأنها جميعا تصعد إلى الحقيقة، فيرى الكاتب الطبيعة تحت ناظره، ويتخذها هاديا له ومرشدا. وكل بيت من الشعر، وكل عبارة، تتصف بهذه الميزة، تضمن لنفسها الخلود. إن ديانات العالم ليست إلا ما ينطق به رجال قلائل من أرباب الخيال.
ولكن صفة الخيال التدفق، لا التجمد. والشاعر لا يقف عند اللون أو الشكل، ولكنه يقرأ مغزاهما. ولا يقنع بهذا المغزى، ولكنه يجعل الأشياء ذاتها موضحة لفكره الجديد. وهنا تجد الفارق بين الشاعر والمتصوف، وهو أن المتصوف يعزو رمزا واحدا للمعنى الواحد، وهو معنى صادق في حينه، ولكنه سرعان ما يمسي عتيقا زائفا؛ لأن الرموز جميعا تتصف بالتحول المستمر. وكل اللغات وسائل متعدية، تصلح للنقل كما تصلح الخيل للسفر ولا تصلح للاستقرار كالمزارع والمنازل . ويتميز التصوف بأنه يحسب الرمز العرضي والفردي رمزا عالميا. فقد كانت حمرة الصباح الشهاب المفضل لعيني يعقوب بهمن، وتمثل له الحق والإيمان، ويعتقد أنها يجب أن تمثل هذه الوقائع لكل قارئ. ولكن القارئ الأول يفضل بطبيعته - مثلما يفضل هذه الحمرة - رمز الأم والطفل، أو البستاني وأبصاله، أو الجوهري بصقل جواهره. أي واحد من هؤلاء، أو من آلاف غيرها، يؤدي الغرض عينه للرجل الذي يرى فيه دلالة، وذلك على شريطة أن يتناولها بخفة، ويترجمها راغبا إلى نظائرها من المصطلحات التي يتخذها غيره. ويجب أن يقال للمتصوف في ثبات: إن كل ما تقول صادق بغير استخدام الرموز المحلي كما هو صادق به. ولنستبدل بهذه البلاغة الغثة قليلا من الجبر - لنتخذ الرموز العالمية بدلا من هذه الرموز القروية - وسوف يكون كلانا من الرابحين. ويبدو أن تاريخ السلطات الدينية يبين أن كل الخطأ الديني كان مرجعه إلى أنها جعلت الرمز صلبا لا يلين، حتى لم يعد هذا الرمز آخر الأمر سوى مبالغة في وسيلة اللغة.
ومن بين رجال العصر الحديث جميعا يبرز سودنبرج كمترجم للطبيعة إلى الفكر. ولست أعرف في التاريخ رجلا تمثلت له الأشياء بانتظام في كل كما تمثلت له. فتحول الأشياء من صورة إلى أخرى كان لديه مستمرا بغير انقطاع. كل ما تقع عليه عيناه يخضع لدوافع الطبيعة المعنوية فيصبح التين عنبا وهو يأكله. وعندما يؤكد له بعض ملائكته حقيقة ما، ترى كأن أغصان الغار التي يمسكون بها تزهر في أيديهم. والضجة التي تبدو على بعد كأنها صرير الأسنان أو التخبط، يتبين عند الاقتراب أنها صوت المجادلين. وفي إحدى رؤاه يظهر الناس له - إذا تسلط عليهم ضوء السماء - كالأفعوانات، وكأنهم في الظلام، ولكن هذه الأفعوانات كان يرى أحدها الآخر إنسانا، فإذا ما سطع على مخابئها نور السماء ضجت من الظلام، وأرغمته على إغلاق منافذها حتى تستطيع أن ترى.
كانت لديه هذه الصفة العقلية، التي تجعل الشاعر أو المتنبي شيئا مفزعا مريعا، أعني أن الرجل عينه، أو مجموعة الرجال، قد يتخذون لأنفسهم ولزملائهم صورة ما، ولكنهم يتخذون في أعين أصحاب العقول الراجحة صورة أخرى. إن بعض القسس الذين وصفهم كأنهم يتحدثون معا عن علم غزير، ظهروا للأطفال الذين كانوا على بعد ما كالجياد الميتة، ومن هذه المظاهر الكاذبة الكثير. ويتساءل العقل على الفور إن كانت هذه الأسماك تحت القنطرة، وتلك الثيران في المرعى، وأولئك الكلاب في الفناء، هي أسماك، وثيران، وكلاب لا تتغير، أم هل تبدو لي كذلك فقط، وربما بدت لنفسها أناسي كاملين، وهل أبدو أنا رجلا في كل عين؟ وقد طرح هذا السؤال عينه البراهمة وفيثاغورس، وليس من شك أن كل شاعر شاهد هذا التحول قد ألفاه متفقا مع مختلف التجارب. وقد رأينا جميعا التغير العظيم في نبات القمح ودود الفراش. إنما الشاعر هو الذي يرى من خلال الثوب الفضفاض الطبيعة الثابتة، ويستطيع أن يعبر عنها، وإنه ليجذبنا إليه بالحب والفزع.
إنني أبحث عبثا عن الشاعر الذي أصف. إننا لا نوجه كلامنا إلى الحياة، في وضوح كاف، أو في عمق كاف. ولا نجرؤ على التغني بأزماننا وظروفنا الاجتماعية. وإذا كنا نملأ النهار بالشجاعة فلا ينبغي أن نجفل من الاحتفال بها. إن الزمان والطبيعة يقدمان إلينا هبات كثيرة، ولكنهما لم يقدما إلينا بعد رجل الساعة، أو الدين الجديد، أو الرجل الذي يوفق بين مختلف الأمور، والذي تنتظره جميع الأشياء. إن دانتي يستحق الثناء لأنه جرؤ على أن يكتب سيرته في رمز عظيم، أو في صيغة عالمية. ولكننا لم نظفر بعد في أمريكا برجل نابغ، ذي عين نافذة، تعرف قيمة ما لدينا من مواد لا نظير لها، وترى في وحشية هذا العهد وماديته عيدا آخر للآلهة عينها التي يعجب أشد الإعجاب بصورها عند هومر، ثم في العصر الوسيط، ثم في مذهب كلفن. إن البنوك وقوائم الأسعار، والصحف واجتماعات الانتخابات، ومذهب النظامية ومذهب التوحيد، مملة سخيفة لقوم سخفاء، ولكنها ترتكز على نفس أسس التعجب التي ترتكز عليها مدينة طروادة ومعبد دلفس، وسوف تزول بنفس السرعة التي زالت بها. إننا لم نتفنن بعد بوسائلنا في قطع الأخشاب وجذوع الشجر، ومصائد أسماكنا، وعبيدنا وهنودنا، وسفننا وما ننكر من مذاهب، وغضب الرعاع وجبن الأمناء، وتجارة الشمال، وزراعة الجنوب، وتفريغ الغرب ، وأورجن وتكساس. ومع ذلك فأمريكا قصيدة في أعيننا، وتقويم بلدانها الفسيحة يبهر الخيال، ولن يطول انتظارها حتى يتغنى بها الشعراء. وإذا كنت لم أجد بعد ذلك المزيج المختار من الهبات الذي أبحث عنه في مواطني، فإني لن أستطيع كذلك أن أعين نفسي على تثبيت فكرة الشاعر بالاطلاع بين الحين والآخر على مجموعة تشالمر للشعراء الإنجليز في خمسة قرون. فلقد كان هؤلاء رجالا ذوي فطنة أكثر مما كانوا شعراء، وإن كان من بينهم شعراء. ولكننا عندما نتمسك بالمثل الأعلى للشاعر لا نخلو من المشكلات حتى مع ملتن وهومر. فلقد كان ملتن أديبا أكثر مما ينبغي، وكان هومر حرفيا وتاريخيا أكثر مما يلزم.
ولست أحسب أن لدي من الحكمة ما يكفي للنقد القومي، وينبغي لي أن ألجأ إلى التسامح القديم قليلا ما؛ كي أنقل رسالتي من إله الشعر إلى الشاعر فيما يتعلق بفنه.
الفن هو سبيل الخالق إلى عمله. والسبل أو الوسائل مثالية خالدة. وإن قل من الناس من يراها، ولا الفنان نفسه لبضع سنوات، أو مدى حياته ما لم تتهيأ له الظروف. إن المصور والنحات والملحن، وكاتب الملاحم، والخطيب، كل أولئك يشتركون في رغبة واحدة، وهي أن يعبروا عن أنفسهم تعبيرا متزنا غزيرا، لا تعبيرا ناقصا أو متقطعا. وقد وجدوا أنفسهم أو وضعوها في ظروف معينة، كما يفعل المصور أو النحات أمام صورة إنسانية ذات أثر، أو الخطيب في جماعة من الناس، والآخرون في المنظر الذي يجده كل منهم مثيرا لذهنه، فيحس كل منهم في الحال بالرغبة الجديدة؛ فقد يسمع صوتا أو يرى إشارة، فيعرف في عجب، أي قطعان من الجن تحاصره. فلا يستطيع الراحة بعد ذلك. ويقول مع المصور القديم: «تالله، إنها في نفسي، ويجب أن تخرج مني.» إنه يتابع جمالا يفر أمامه ولا يرى منه إلا نصفه. والشاعر يتدفق بالنظم في كل عزلة. وليس من شك في أن أكثر ما يقول مألوف، ولكنه بين الحين والحين يقول شيئا مبتكرا جميلا، وذلك يفتنه. وإنه ليود ألا يقول شيئا آخر غير هذه الأشياء. إننا في أسلوب كلامنا نقول: «هذا ملكك، وهذا ملكي.» بيد أن الشاعر يعرف جيدا أن هذا الشيء ليس ملكا له، وإنما هو غريب عنه وجميل في عينه كما هو غريب عنك جميل في عينيك. وإنه ليسره أن يسمع مثل هذه الفصاحة في النهاية. وما إن تذوق هذا الرحيق الخالد، حتى يزداد جشعا إليه. ولما كانت قدرة خالقة عجيبة تكمن وراء هذه المعقولات فإن التعبير عن هذه الأشياء لا يهم كثيرا بعد ذلك. ألا ما أقل ما يقال مما نعرف! وما أقل القطرات التي تنضج من بحر علومنا! وما أعجب المصادفات التي تدعو إلى عرض ما نعرف! وما أكثر الأسرار التي تكمن في الطبيعة! ومن ثم كانت ضرورة الحديث والغناء، ومن ثم كانت هذه النبضات وضربات القلب عند الخطيب، عند مدخل الاجتماع، كي يعبر عن الفكرة تعبيرا يشبه الكلمة المقدسة.
لا تشك أيها الشاعر، بل أيها القسيس، وقل: «إنه بنفسي، وسوف يصدر عني.» قف مكانك مكبوح الجماح، أبكم تتلعثم وتتردد في الكلام، تصفر وتنعق. قف وجاهد حتى يجتذب الغضب منك في النهاية تلك القوة الحالمة التي تظهرك كل مساء ملكا لنفسك. تلك القوة التي تتخطى كل الحدود وكل خلوة، والتي بفضلها يكون المرء سائق بحر الكهرباء كله. لا شيء يمشي أو يزحف أو ينمو أو يوجد إلا يتحتم بدوره أن ينهض ويسير أمامه ليوضح له معناه. وإذا ما بلغ هذه القوة فإن عبقريته لا تنفد بعد ذلك. كل المخلوقات، أزواجا وقبائل، تتدفق في عقله، كأنها تتدفق في سفينة نوح، كي تخرج للناس مرة أخرى عالما جديدا. وما أشبه ذلك بكمية الهواء التي نتنفسها، أو تحترق بها مدفئتنا. إنها لا تقاس بالميزان، ولكنها تشمل الجو كله إن أردنا. ولذا فإن الشعراء المجيدين، كهومر، وشوسر وشكسبير ورفائيل، ليس - من الواضح - لأعمالهم حد، اللهم إلا حد أعمارهم. وهم يشبهون المرآة تمر بالطريق، مستعدة لأن تكون صورة لكل شيء مخلوق.
أيها الشاعر، إن بالأحراش والمراعي شرفا جديدا، لا تجده بعد اليوم على القلاع ، أو على شفرات السيوف، والظروف قاسية، ولكنها متكافئة. ولسوف تترك الدنيا ولا تعرف سوى إله الشعر. لن تعرف بعد اليوم العهود، والعادات، والنعم، والسياسة، أو آراء الناس. ولكنك سوف تستمد كل شيء من آلهة الشعر؛ لأن عصر المدائن قد ولى من الدنيا ودق ناقوس نعيه وشيعت جنازته. ولكن الساعات العالمية تعد في الطبيعة بتوالي قطعان الحيوان وفصائل النبات وبتضاعف السرور فوق السرور. ويريد الله كذلك أن تتنازل عن حياة متعددة النواحي متنوعة، وأن تقنع بأن يتحدث نيابة عنك الآخرون. سيكون غيرك نيابة عنك الرجال المهذبين الذين يمثلون المجاملات والحياة الدنيوية. وكذلك سيقوم غيرك بالأعمال العظيمة ذات الرنين. أما أنت فسوف تستلقي في أحضان الطبيعة، لا تملك أن تنتمي إلى مجالس النواب أو دوائر المال. الدنيا مليئة بالمنبوذين والأتباع، وأنت من هؤلاء. يجب أن يحسبك الناس من الغافلين والحمقى دهرا طويلا. فذلك هو الستار والغمد الذي وقى فيه «بان» زهرته المحبوبة، ولن يعرفك إلا نفسك وحدها، وسوف يواسونك بالحب الرقيق. ولن تستطيع أن تردد أسماء أصدقائك في نظمك، فذلك عار كبير إزاء المثل الأعلى المقدس. وهذا جزاؤك: أن يكون المثالي حقيقيا لك، وأن تسقط على روحك التي لا تنثلم مؤثرات العالم الواقعي كما تسقط أمطار الصيف غزيرة ولكنها لا تؤذي. سوف تكون الأرض كلها حديقتك وموطنك، والبحر مغسلك ومجال ملاحتك، لا يفرض عليك ذلك ولا تحسد عليه. وسوف تكون لك الغابات والأنهار، وسوف تملك ما يقيم فيه غيرك مستأجرا عابرا. أنت مالك الأرض الحق، ومالك البحر، ومالك الهواء! وحيثما سقط الثلج، أو تدفق الماء، أو حلق الطير، وكلما التقى الليل بالنهار في الشفق، وكلما علت في السماء الزرقاء السحب، أو انتثرت فيها الكواكب، وحيثما كانت الصور ذات الحدود الشفافة، وحيثما وجدت المنافذ في الفضاء العلوي، وحيثما حل الخطر، والفزع، والحب، هنا يكون الجمال وافرا كالمطر، يهطل من أجلك ، ولو اخترقت العالم كله سيرا على قدميك، فلن تستطيع أن تجد ظرفا مشينا لا يليق.
الخبرة
سادة الحياة، وما أدراك من هم!
لقد رأيتهم يمرون
في أزيائهم الخاصة بهم
متشابهين وغير متشابهين،
على سيماهم الوقار والعبوس،
منهم من ينفع ومنهم من يثير الدهشة،
ومنهم من يظهر، ومن يختفي كالأحلام،
يتتابعون مسرعين، كاذبين كالأشباح،
طبائع بغير لسان،
ومخترع الألعاب
موجود في كل مكان، بغير عنوان.
ترى بعضهم، وتقدر الآخرين،
وهم يسيرون من شرق إلى غرب.
والرجل صغير الشأن،
بين سيقان ولاته الطويلة،
يسير في آخر الصفوف بنظرة حائرة،
فتأخذه الطبيعة العزيزة من يده.
ما أعز الطبيعة، وما أقواها وما أرحمها!
إنها تهمس وتقول: «عزيزي، لا تأبه!
غدا يبدلون وجوههم،
أنت المؤسس! وهؤلاء بنوك!»
أين نجد أنفسنا؟ في سلسلة لا نعرف لها طرفا، ونعتقد أن ليس لها. نستيقظ فنجد أنفسنا فوق درج، وتحتنا درج، يبدو أننا قد صعدناه، وفوقنا درج، خطواته كثيرة، يتجه إلى أعلى ثم يختفي عن الأنظار. ولكن العبقرية التي - بناء على العقيدة القديمة - تقف عند الباب الذي ندخل منه، وتقدم لنا ماء النسيان نشربه، حتى لا نقص القصص، قد مزجت الكأس مزجا قويا، ولا نستطيع أن ننفض عن أنفسنا السبات الآن في وضح النهار. إن النوم يطوف طوال حياتنا حول أعيننا، كما يحلق الليل طول النهار فوق أغصان شجر الشوح. كل شيء يعوم ويتلألأ. وليست حياتنا مهددة مثل إدراكنا. إننا ننزلق خلال الطبيعة كالأشباح، ولا ينبغي لنا أن نعرف مكاننا مرة أخرى. فهل حل موعدنا في لحظة من لحظات العوز والاقتصاد في الطبيعة، فقترت علينا في نارها، وجادت علينا بترابها، حتى إنه ليبدو لنا أننا نفتقر إلى مبدأ الإيجاب، وقد تتوفر لنا الصحة والعقل، ولكنا نفتقد فيض الروح لخلق جديد؟ لدينا ما يكفي أن نعيش وأن نقضي العام، ولكن ليست لدينا ذرة نقدمها أو نسهم بها. آه لو كانت عبقريتنا أكثر قدرة! ما أشبهنا بعمال الطواحين في المستويات الدنيا من تيار الماء حينما تكون المصانع العليا قد استنفدت كل ما هنالك من ماء؛ فنحن كذلك نتصور أن القوم في الطبقة العليا لا بد أن يكونوا قد رفعوا سدودهم.
لو عرف أحدنا ماذا نحن صانعون، أو إلى أين نحن ذاهبون، إذن لأجدنا المعرفة حينما نفكر! إننا لا نعرف اليوم هل نحن مشغولون أو خاملون؛ ففي أوقات حسبنا أنفسنا فيها خاملين تبين لنا فيما بعد أننا قد أنجزنا الكثير، وأن نفوسنا قد بدأ فيها الكثير. كل أيامنا عديمة الجدوى وهي تمضي، حتى إننا لنعجب أنى ومتى ظفرنا بشيء مما نسميه الحكمة أو الشعر أو الفضيلة. إننا لم نظفر بها في يوم مؤرخ من أيام التقويم. ولا بد وأن تكون بعض الأيام السماوية قد انضمت إلى التقويم العادي في وقت ما، كتلك الأيام التي ظفر بها هرمز من القمر بالنرد كي يولد أوزيريس. يقال إن كل استشهاد يبدو تافها عند تجربته. كل سفينة شيء خيالي، إلا حينما نقلع فيها. فإذا نحن أبحرنا، تخلى الخيال عن سفينتنا، وعلق بكل سفينة أخرى تبدو في الأفق. إن حياتنا تبدو تافهة فنتفادى تسجيلها. وكأن الناس تعلموا من الأفق فن التقهقر الدائم والتأجيل. يقول الفلاح المتذمر: «تلك الأراضي المرتفعة مرعى خصيب، ويملك جاري أرضا غنية، أما حقلي فيكاد لا يدر إلا ما يقيم أود العيش.»
إنني أروي قول غيري. ولسوء الحظ هذا الآخر يقوم بنفس التصرف ويروي عني. إنها حيلة الطبيعة أن تحط من شأن الحاضر هكذا. طنين شديد، ونتيجة تتم بطريقة سحرية في مكان ما. كل سقف محبب إلى العين، حتى يرتفع. حينئذ نجد المأساة والنساء اللائي يولولن، والأزواج ذوي العيون الجامدة، وطوفان النسيان، فيتساءل الناس: «أي شيء هناك جديد؟» كأن كل قديم خبيث. كم فرد نستطيع أن نعد في المجتمع؟ وكم عمل؟ وكم رأي؟ إن جزءا كبيرا من وقتنا تحضير، وجزء آخر كبير ينفق في العمل المألوف، وآخر في تدبر الماضي، حتى إن خلاصة عبقرية كل امرئ تتقلص إلى ساعات قلائل. إن تاريخ الأدب - إذا أخذنا النتيجة الصافية لترابوشي وورتن أو شلجل - مجموع أفكار قليلة جدا، وقصص مبتكرة قليلة كذلك، وكل ما عدا هذا تحوير في هذه الأفكار وتلك القصص. وكذلك في هذا المجتمع العظيم الذي ينبسط حولنا ، نجد بالتحليل الدقيق أن الأعمال التلقائية قليلة محدودة. وتكاد كل الأعمال أن تكون عادات وإحساسا مألوفا. بل إن الآراء ذاتها قليلة كذلك، وهذه الآراء تبدو من طبيعة المتكلمين، وكأنها لا تؤثر في الحياة العامة.
أي مخدر ينصب في كل كارثة! إنها تبدو مريعة حينما نقترب منها، غير أنه ليس هناك في آخر الأمر احتكاك مؤذ خشن، ولكنها سطوح زلقة منحدرة: إننا نعثر في يسر شديد على فكرة من الفكر، فيهون المصاب:
ويسير فوق رءوس الناس محلقا
بأقدام رقيقة خفيفة الوطء.
وإن الناس ليحزنون ويندبون على أنفسهم، ولكن الأمر لا يبلغ معهم كل هذا المبلغ من السوء كما يقولون. هناك من الحالات العقلية ما يجعلنا نرحب بالآلام أملا في أن نجد فيها الواقع على الأقل، وأطراف الحقيقة وقممها البارزة. ولكن الأمر ينتهي على أنه زور وتقليد لا أصالة فيه. إن الشيء الوحيد الذي علمنيه الأسى هو أن أعرف مقدار ضحولته. فإنه - كغيره من الأمور - يطفو على السطح، ولا يقدمني أبدا إلى الحقيقة، التي نود من أجل الاتصال بها لو دفعنا ثمنا غاليا، يكلفنا أبناءنا ومن نحب. هل هو بوسكوفتش الذي اكتشف أن الأجسام لا تتصل قط؟ إن الأرواح كذلك لا تبلغ أهدافها. إن بحرا لا يصلح للملاحة تتلاطم أمواجه الصامتة بيننا وبين الأشياء التي نهدف إليها ونتحدث إليها. والحزن كذلك يجعلنا مثاليين. عندما فقدت ولدي منذ أكثر من عامين، بدا لي كأني فقدت ضيعة جميلة، وليس أكثر من ذلك. لا أستطيع أن أقربها مني. ولو أخبرت في غدي عن إفلاس المدينين لي، فإن فقدان ملكي يسبب لي ضعفا شديدا، ربما لعدة سنوات. ولكنه يتركني كما وجدني، لا أحسن ولا أسوأ. وكذلك الحال في هذه المصيبة. إنها لا تمسني. إن شيئا تصورته جزءا مني، ولا يمكن أن ينتزع مني دون أن يمزقني، ولا يمكن أن يكبر دون أن يغنيني ، يسقط مني، ولا يترك أثرا. ولقد سقط قبل الأوان. إنما أحزن لأن الحزن لا يستطيع أن يعلمني شيئا، ولا يحملني خطوة واحدة نحو الطبيعة الحقة. إن الرجل الهندي الذي دعي إليه بألا تهب عليه ريح، وألا يتدفق إليه ماء، أو تحرقه نار، مثال منا جميعا. إن أعز الأحداث هي أمطار الصيف، ونحن معاطف البارا التي تنبذ كل قطرة. ولم يبق لنا الآن إلا الموت. ونحن نتوقعه مستسلمين متجهمين، ونقول: هنا على الأقل تكون الحقيقة التي لا تتحاشانا.
وصفة الانزلاق والزوال هذه التي تتصف بها جميع الأشياء، والتي تجعلها تفر من أيدينا كلما شددنا عليها القبض، هذه الصفة أسوأ جانب في ظروفنا. إن الطبيعة لا تحب أن تراقب، وتحب أن نكون سخريتها وألعوبة في يدها. وقد نتخذ الكرة الأرضية كرة للعب، ولكنا لا نستطيع أن نتخذ ثمرة من ثمار التوت لفلسفتنا. إنها لم تمدنا بالقوة التي نضرب بها الضربات المباشرة. كل ضرباتنا خاطفة، وكل خبطاتنا عارضة. وعلاقة أحدنا بالآخر عارضة لا تستقيم.
ويسلمنا حلم إلى حلم، وليس للوهم آخر. والحياة سلسلة من الحالات العقلية تشبه صفا من الخرز، عندما نمر بها يتبين لنا أنها عدسات متنوعة الألوان تلون العالم بلونها. وتبين كل منها ما يقع في بؤرتها فقط. من الجبل نشهد الجبل. ونبعث الحياة فيما نستطيع، ولا نرى إلا ما نبعث فيه الحياة. والطبيعة والكتب تتعلق بالأعين التي تراها. وعلى الحالة العقلية للمرء يتوقف إن كان يرى غروب الشمس أو القصيدة الرائعة. وهناك دائما غروب للشمس، وهناك دائما عبقريات. ولكن قل من الساعات الهادئة ما نستسيغ فيها الطبيعة أو النقد. إن ذلك يتوقف إلى حد كبير على التكوين أو المزاج. والمزاج هو السلك الحديدي الذي ينخرط فيه الخرز. وما فائدة الحظ أو الموهبة لطبيعة باردة معيبة؟ ومن ذا الذي يأبه بما يبديه في وقت ما من إحساس أو تمييز، إذا أغرق في النوم فوق كرسيه؟ أو إن هو ضحك أو سخر؟ أو إن اعتذر؟ أو أصيب بالأنانية؟ أو فكر في ماله ؟ أو لم يكفه طعامه؟ أو ظل طفلا في صباه؟ وما فائدة العبقرية إن كان العضو شديد التقعر أو شديد الاحديداب، ولا يستطيع أن يجد مسافة بؤرية في حدود الأفق الحقيقي للحياة الإنسانية؟ ما الفائدة إذا كان الذهن شديد البرودة أو شديد الحرارة، وإذا لم يعبأ المرء كثيرا بالنتائج، فلا يحثه ذهنه على التجربة، ويدفعه إليها؟ أو إذا كان النسيج رقيقا جدا، شديد الحساسية للذة والألم، حتى إن الحياة لتركد من كثرة ما تستقبل دون أن تجد لها مخرجا كافيا؟ وما جدوى العهود الوثيقة بالاستقامة إذا كان الخارج على القانون فيما سبق هو عينه الذي يتعهد بها؟ أي سرور تبعثه فينا العاطفة الدينية، إذا كنا نلمس أن هذا السرور يتوقف في الخفاء على فصول العام، وعلى المزاج الخاص؟ عرفت طبيبا فطنا وجد عقيدته في القناة الصفراوية، ولم يفتأ يؤكد أنه إذا كانت بالكبد علة أصبح الرجل كلفنيا، وإن صح هذا العضو منه صار موحدا. من المؤلم جدا أن يدرك المرء - كارها - أن الإفراط الزائد أو البلاهة تحد مما تبشر به العبقرية. إننا نرى شبانا يدينون لنا بعالم جديد، ونأمل من ورائهم خيرا جزيلا عاجلا، ولكنهم لا يؤدون الدين قط. إنهم يموتون صغارا ويتفادون الحساب، وإن عاشوا ضلوا وسط الزحام.
وللمزاج كذلك أثره الشديد فيما لدينا من أوهام، وهو يحبسنا في سجن من الزجاج لا نراه. فحول كل شخص نلاقيه وهم نظري. ولكل فرد في الواقع مزاج خاص يظهر في شخصيته خاصة، لا يتخطى حدودها، بيد أننا ننظر إليه، فيبدو لنا حيا، ونتوهم أن لديه قوة دافعة، إنها تبدو في تلك الخطة قوة دافعة، ولكنها بعد عام، وبعد العمر، يظهر أنها نغمة مطردة معينة، لا بد أن تعزفها الأسطوانة التي تدور في صندوق الموسيقى. إن الناس يعارضون في الصباح الفكرة التي تقول بأن المزاج يسود كل شيء زمني أو مكاني أو ظرفي، ولا يتلاشى في نيران العقيدة الدينية، فإذا ما أقبل الليل آمنوا بها. وقد ينجح الإحساس الخلقي في إدخال شيء من التعديل، غير أن نسيج كل فرد يبقى على طبيعته، فإذا لم يستمل إليه الأحكام الخلقية، فإنه يحدد مدى النشاط والمتعة.
إنني بهذا أعبر عن القانون كما يسن فوق منصة الحياة العادية، ولكن لا ينبغي أن أتركه دون أن أشير إلى الاستثناء الأساسي؛ لأن المزاج قوة لا يستمع المرء راغبا إلى أحد يثني عليها سوى نفسه. إننا فوق منصة علم الطبيعة لا نستطيع أن نقاوم المؤثرات التي لا مفر منها لما نسميه العلم. والمزاج يهزم كل ما هو مقدس. وأنا أعرف الميل العقلي للأطباء، وأسمع ضحكات علماء فراسة الدماغ. وخطاف الرقيق وتجاره يحسبون كل امرئ فريسة للآخر، يقلبه بين أنامله؛ لأنه يعرف قانون بقائه، ويعرف كل شيء عن نصيبه من الدنيا وعن صفاته من دلائل بسيطة كلون لحيته، أو ميل قذاله. إن أشد جهالة لا تنفر كما تنفر هذه المعرفة السليطة. يقول الأطباء إنهم ليسوا ماديين، ولكنهم كذلك، فإن الروح مادة تحولت إلى رقة بالغة، يا لها من رقة! بيد أن تعريف «الروحاني» يجب أن يكون «ذلك الذي يدل على نفسه.» أي آراء ينسبونها للحب؟! وأي آراء ينسبونها للدين؟! إن المرء لا يحب طوعا أن ينطق بهذه الكلمات في أسماعهم، ويعطيهم الفرصة لتدنيسها. رأيت رجلا وقورا مهذبا يشكل حديثه على هيئة رأس الرجل الذي يوجه إليه الحديث! وكنت أتصور أن قيمة الحياة في إمكانياتها التي لا يسبر غورها، وفي كوني لا أعرف قط ما قد يقع لي حينما أوجه حديثي إلى فرد جديد. إني أحمل مفاتيح قلعتي في يدي، مستعدا لإلقائه عند قدمي سيدي كلما بدا لي وعلى أية صورة تنكر. وأنا أعلم أنه إلى جواري مختبئ بين المتشردين. فهل أقف في سبيل نفسي باتخاذي مقعدا مرتفعا، وتشكيل حديثي في رفق على صورة الرءوس؟ فإن فعلت ذلك اشتراني الأطباء ببضعة دريهمات. «ولكن التاريخ الطبي يا سيدي، والتقرير المقدم للمعهد، والحقائق الثابتة!» إنني لا أثق في الحقائق وما يترتب عليها. المزاج هو الفيتو أو قوة الكبح في تكوين الأشياء، يحسن استعماله إذا استخدم في كبح الإفراط في الناحية الأخرى من التكوين، ولكنه لا يجدي نفعا إذا حسبته قوة تكافئ الاعتدال الأصيل. إذا حضرت الفضيلة نامت كل القوى الثانوية. المزاج نهائي في مستواه أو بالنسبة إلى الطبيعة. ولست أرى - إن وقع الإنسان في هذه المصيدة التي يسمونها العلوم - أي مفر له من حلقات سلسلة الضرورة الطبيعية. إنك إن أعطيت مثل هذا الجنين، فإن مثل هذا التاريخ لا بد أن يتلو. فوق هذه المنصة يعيش المرء في دائرة حسية، وسرعان ما يبلغ الانتحار. ولكن يستحيل على القوة الخالقة أن تستبعد نفسها؛ ففي كل ذكاء منفذ لا ينسد ينفذ منه الخالق. إن العقل وهو الذي يبحث عن الحق المطلق، أو القلب وهو الذي يعشق الخير المطلق، يتدخل لإنقاذنا، وعندما تصغر إحدى هذه القوى العليا نستيقظ من نضال لا يجدي مع هذا الكابوس، فنقذف به في جحيمه الخاص ولا نستطيع أن نعيد أنفسنا مرة أخرى إلى مثل هذه الحالة الوضيعة.
وسر خديعتنا ينحصر في أننا نعتقد في ضرورة تتابع الأحوال العقلية أو الموضوعات. إننا نحب أن نرسو بسرور، غير أن المرسى أرض غير ثابتة. وهذه الحيلة البادية من الطبيعة أقوى مما نحتمل. حينما أنظر في المساء إلى القمر والنجوم أبدو ساكنا، وتبدو مسرعة. إن حبنا لما هو واقعي يجذبنا إلى الثبات، ولكن صحة البدن لا تتوفر إلا مع الحركة، وصحة العقل لا تتوفر إلا في التنوع أو في سهولة الربط بين الأشياء. إننا نحتاج إلى تغير الأشياء. وإذا وهبنا أنفسنا لفكرة واحدة فسرعان ما يدب الملل في نفوسنا. إننا قد نساكن المجانين، ويتحتم علينا أن نمازجهم، حينئذ يقتل الحديث. اشتد إعجابي مرة بمونتيني حتى حسبت أني لن أحتاج إلى كتاب آخر، وقبل ذلك بشكسبير، ثم بفلوطارخس، ثم بأفلوطين. ومرة بالفيلسوف بيكون، وبعدئذ بجيته، بل وببتين، ولكني الآن أقلب صحف أي منهم بفتور، وإن كنت ما زلت أقدر لهم عبقرياتهم. وكذلك الحال في الصور. كل منها تجتذب الانتباه بشدة في وقت ما، بيد أنها لا تستطيع أن تحتفظ بهذه الجاذبية، وإن كنا نود لو لبثنا مستمتعين على هذا الوجه. ما أقوى شعوري نحو الصور، حتى إنك لو أنعمت النظر في واحدة منها لا بد أن تستأذنها في الانصراف؛ لأنك لن تراها مرة أخرى. تعلمت دروسا طيبة من الصور التي أصبحت من ذلك الحين أشاهدها دون عاطفة أو ملحوظة. يجب أن يستنتج المرء شيئا من الرأي الذي يعبر عنه حتى الحكماء بشأن كتاب أو حادث جديد. إن آراءهم تعطيني أنباء عن حالاتهم العقلية، وحدسا غامضا بعض الشيء عن الحقيقة الجديدة. ولكن لا ينبغي لي أن أثق فيها باعتبارها العلاقة الدائمة بين تلك العقلية وذلك الشيء. يسأل الطفل أمه قائلا: «لماذا لا أحب القصة يا أماه كما أحببتها حينما قصصتها لي بالأمس؟» وا أسفاه يا بني، إن الأمر كذلك حتى مع أقدم ملائكة المعرفة. ولكن هل يجيب سؤالك أن نقول: ذلك لأنك ولدت للكل، وهذه القصة مسألة فردية؟ إن سبب الألم الذي يسببه لنا هذا الكشف (وهو كشف لا يتم إلا متأخرا فيما يتعلق بأعمال الفن والفكر) هو عينه المأساة التي تنجم عنه فيما يتعلق بالأشخاص والصداقة والمحبة.
هذا الجمود وانعدام المرونة الذي نجده في الفنون، نجده كذلك عند الفنان، وهو عندئذ أشد إيلاما. ليست في الناس قدرة على التوسع. يبدو أصدقاؤنا لنا أول الأمر كممثلين لآراء معينة، ولكنهم لا يتخطونها أو يتجاوزونها قط. إنهم يقفون على حافة محيط الفكر والقوة، ولكنهم لا يتقدمون قط تلك الخطوة الوحيدة التي تأتي بهم إلى هناك.
ما أشبه المرء بقطعة من سارية لبرادور، لا تجد لها بريقا إذا قلبتها بين يديك، حتى تبلغ زاوية معينة. حينئذ تجد لها ألوانا غزيرة جميلة. ليس بين الناس اتفاق أو قاعدة عامة. وإنما لكل امرئ موهبته الخاصة، وإنما تفوق الرجال الناجحون؛ لأنهم يحذقون الوقوف حيثما وحينما يغلب استخدام هذه الموهبة. إننا نفعل ما ينبغي لنا أن نفعله، ونطلق عليه أحسن ما نستطيع من أسماء، ونود أن نظفر بالثناء على أننا كنا نرمي إلى النتيجة التي ترتبت . لا أستطيع أن أذكر أية صورة لإنسان لم يكن زائدا عن الحاجة في وقت ما. ولكن، أليس هذا مما يدعو إلى الحسرة؟ إن الحياة لا تستحق أن تنال، إذا كنا نعبث بها.
إن الاتزان الذي ننشده يحتاج بالطبع إلى المجتمع بأسره. إن العجلة ذات الألوان المتعددة يجب أن تدور بسرعة زائدة كي تبدو بيضاء. إننا نتعلم شيئا ما حينما نتحدث في حماقة شديدة أو نقص معيب. وموجز الكلام أننا مهما فقدنا في ناحية ما فنحن دائما من فريق الفائزين. والقداسة تقع كذلك خلف فشلنا وحماقاتنا. إن ألعاب الأطفال عبث لا معنى له، ولكن هذا العبث له قيمة تربوية كبرى. وكذلك الحال في أضخم الأشياء وأكثرها جدا، في التجارة، والحكومة، والكنيسة، والزواج، وكذلك في تاريخ خبز كل إنسان، والطرق التي يحصله بها. إن القوة التي لا تسكن في رجل أو امرأة، ولكنها تصدر في لحظة من هذا، وفي لحظة أخرى من ذاك، أشبه ما تكون بالطائر الذي لا يستقر في مكان، ولكنه يثب دائما من غصن إلى غصن.
ولكن أي عون لنا من هذه الزخرفة في الكلام وهذه الحذلقة؟ أي عون لنا من الفكر؟ ليست الحياة جدلا. وقد تلقينا - فيما أحسب - في هذه الأيام دروسا كافية عن سخافة النقد. ما أكثر ما فكر وكتب شبابنا في العمل والإصلاح، وبرغم كل ما كتبوا، فإن العالم - وهم أنفسهم - لم يتقدم خطوة إلى الأمام. إن تذوق الحياة تذوقا فكريا لن يحل محل النشاط العضلي. إن المرء إذا فكر في سهولة انزلاق كسرة الخبز في حلقه، مات جوعا. في «ميدان التربية» احتلت أنبل نظرية عن الحياة أجمل أجسام الشبان والعذارى، فكانت عاجزة كل العجز، مكتئبة حزينة. إنها لا تجمع ولا تفرق طنا واحدا من الحشائش الجافة، ولا تجهز جوادا، ثم إنها تترك الرجال والعذارى شاحبي اللون جياعا. ما أفكه المقارنة التي عقدها أحد الخطباء السياسيين بين وعود أحزابنا وطرق الغرب، التي تبدأ فخمة، تنبت على جوانبها الأشجار، كي تغري المسافر، ولكنها سرعان ما تضيق ثم تضيق، حتى تنتهي بآثار أقدام السنجاب، وتتسلق إحدى الأشجار. وهذا شأن الثقافة معنا. إنها تنتهي بدوار الرأس.
ما أشد كآبة الحياة وما أشد عقمها عند أولئك الذين كان بريق الوعود في إبانهم يبهر عيونهم منذ أشهر قلائل. «لم يعد الآن هناك طريق مستقيم للعمل، ولم يبق بين أهل أيرانس أي ثقة في النفس.» لقد شبعنا من الاعتراضات والنقد. لكل طريق من طرق الحياة ما يعترضه، والحكمة العملية تتخذ لها وسط الاعتراضات التي تتحوطها من كل جانب طريقا لا يعبأ بشيء. إن هيكل الأشياء كله يعلمنا ألا نأبه بشيء. لا تربك نفسك بالتفكير، واشرع في أداء عملك في أي مكان. ليست الحياة ذهنية أو نقدية، ولكنها صلبة شديدة. خيرها الأكبر يناله قوم اعتدل مزاجهم فاستطاعوا أن يستمتعوا بما وجدوا، بغير سؤال. إن الطبيعة تمقت التطلع، وتعبر أمهاتنا عن حكمتها حينما يقلن لأطفالهن: «كلوا طعامكم، ولا تتحدثوا عنه.» السعادة أن تملأ ساعتك، تملأها فلا تترك فيها ثغرة لندم أو رضى. إننا نعيش بين السطوح، وفن الحياة الحق هو أن نحسن الانزلاق عليها. في ظل أعتق التقاليد وأشدها قدما يفلح المرء ذو القدرة الطبيعية كما يفلح في أحدث عالم، وذلك بمهارته في تناول الأشياء وعلاجها. إنه يستطيع أن يقف ثابتا في أي مكان. والحياة نفسها مزيج من القوة والصورة، ولا تحتمل أية زيادة في أحدهما. والحكمة في أن تقضي لحظتك، وأن تجد نهاية الرحلة في كل خطوة من خطوات الطريق، وأن تعيش أكبر عدد من الساعات الطيبة: ليس من شأن الناس، ولكنه من شأن المتعصبين. أو قل - إن شئت - إنه من شأن علماء الرياضة، أن يقولوا إننا إذا نظرنا إلى قصر الحياة، لم نأبه في هذا الأمد القصير أن نهبط إلى ذل الحاجة أو نعلو عن الأنظار. وما دام شأننا باللحظات، فلنحسن تدبيرها. إن خمس دقائق اليوم توازي عندي خمس دقائق في العصر الذهبي المرتقب. لنكن اليوم متزنين حكماء مالكين لأنفسنا. ولنحسن معاملة الرجال والنساء، نعاملهم كأنهم حقائق، وربما كانوا كذلك. يعيش الناس في الأوهام، كأنهم سكارى، أيديهم مرتخية مرتجفة لا تقوى على عمل ناجح. إنها عاصفة من الأوهام، والثقل الوحيد الذي أعرف أنه يوازنها هو تقدير الساعة الراهنة. وبغير أي ظل من ظلال الشك، ووسط هذا الدوار من المظاهر وشئون السياسة، يزداد يقيني بأنه لا ينبغي لنا أن نؤجل أو نهمل أو نؤمل، بل يجب علينا أن نعدل في أحكامنا حيث نحن، ومع أي ممن نعامل، فنقبل ظروفنا كما هي ورفاقنا كما هم، مهما كانوا متواضعين أو منفرين؛ فهم الوسطاء المجهولون الذين وكلت إليهم الدنيا إبلاغ كل مسراتها لنا. فإن كان هؤلاء على ضعة وخبث، كان لإسعادهم - وهو آخر ما تصبو إليه العدالة - صدى في القلب أوقع من صوت الشعراء ومن العطف العابر الذي يبديه الأشخاص الذين نرمق إليهم بإعجاب. وأعتقد أنهم مهما احتمل الرجل المفكر من عيوب رفقائه وسخافاتهم، فإنه لا يستطيع - دون تكلف - أن ينكر على أية جماعة من الرجال والنساء نوعا من الإحساس له قيمته الكبرى. إن الأجلاف والمستهترين لديهم شعور بالسمو، إن لم يكن لديهم عطف، وإنهم ليمجدون هذا الشعور بطريقتهم الهوائية العمياء، ويخلصون له الولاء.
إن الشباب الرقيق يحتقر الحياة، ولكني وأمثالي ممن لا يشكون التخمة، وممن يحسبون يومهم خيرا خالصا محسوسا، ترى أنه من فرط الأدب أن يبدو المرء مستخفا وأن يطلب الرفاق. إن العطف يبعث في شيئا من القلق ورقة الإحساس، ولكنك إن تركتني وحيدا، استمتعت بكل ساعة وما تجلبه لي، واستمرأت ما أجد من طعام، كما أستمرئ الأحاديث العتيقة في الحان. وإني لشكور للقليل من الرحمة يصيبني. إنني وازنت بيني وبين أحد أصدقائي الذي يتوقع من الدنيا كل شيء، ويخيب رجاؤه إذا قصر أي شيء عن خير ما يكون عليه، فألفيتني أبدأ عند الطرف الآخر، لا أتوقع شيئا، وأنا دائما شاكر جدا لقدر معتدل من الطيبات. أنا أقبل طنين الاتجاهات التي تعترضني ورنينها. وأستطيع أن أحتمل مدمني الخمور وثقال الظل. إنهم يضفون ظلا من الواقع على الصورة المجاورة التي لا يستغني عنها المظهر الذي سرعان ما يختفي كالشهاب. أستيقظ في الصباح، وأجد الدنيا القديمة، والزوجة، والأطفال، والأم، وكنكورد وبوسطن، والعالم الروحي العزيز الحبيب، بل والشيطان العزيز الحبيب على مقربة مني. إذا نحن أخذنا ما وجدنا من الطيبات، دون سؤال، فسوف نجد الكثير المتراكم. إن الهدايا العظيمة لا تنال بالتحليل. كل شيء طيب في الطريق العام. والمنطقة الوسطى من الكون هي المنطقة المعتدلة. نستطيع أن نتسنم الذروة الرقيقة الباردة، ذروة الهندسة البحتة والعلم لا حياة فيه، كما نستطيع أن نستغرق في الحياة الحسية. وبين هذين النقيضين خط استواء الحياة، والفكر، والروح، والشعر، وهو نطاق ضيق. ثم إن كل شيء طيب - في الحياة العملية العامة - تجده في الطريق العام. إن جامع الصور يتطلع في جميع محلات الصور في أوروبا، باحثا عن منظر طبيعي لبوسان، أو عن رسم بالرصاص لسلفاتور، في حين أن «التحول» و«الحكم الأخير» و«تناول القديس جيروم» وما شابه ذلك من صور لما وراء العقل، تجدها على حوائط الفاتيكان وأوفيزي واللوفر حيث يستطيع كل عابر أن يشاهدها. ولا أذكر بالطبع صور الطبيعة في كل طريق، أو مغرب الشمس أو مشرقها كل يوم، والتماثيل الطبيعية لجسم الإنسان الذي لا يغيب عن أنظارنا قط.
في مزاد عام في لندن اشترى حديثا أحد الهاوين كلمة بخط شكسبير بمبلغ مائة وسبعة وخمسين جنيها، في حين أن التلميذ في المدرسة يستطيع أن يقرأ «هاملت» دون مقابل، ويستطيع أن يكتشف أسرارا لها أهميتها القصوى في هذه المسرحية لم تنشر بعد. أظن أنني لن أقرأ سوى أشد الكتب ألفة للناس: الإنجيل وهومر ودانتي وشكسبير وملتن. فلماذا إذن نعدو هنا وهناك باحثين عن الأركان والخفايا؟ إن الخيال يستمتع بالصناعات الهندية الخشبية، وبمن يتصيدون النحل والحيوانات ذات الفراء. إننا نتوهم أننا غرباء. ولسنا مستأنسين استئناسا صميما فوق هذا الكوكب كالرجل الهمجي والوحش الكاسر والطير، ولكنا نستبعد هؤلاء كذلك، نستبعد كل مخلوق متسلق أو طائر أو زاحف أو مريش أو يمشي على أربع. إنك إن شاهدت الثعلب والفأر الجبلي والصقر والشنقب والعجاج عن كثب لم تجد لها جذورا في الأرض أعمق من جذور الإنسان، وألفيتها مجرد مخلوقات ساكنة عابرة فوق هذه الأرض. ثم تأتي الفلسفة الذرية الجديدة فتظهر فجوات سحيقة بين ذرة وأخرى، وتبين أن الدنيا كلها في الخارج، وليس لها داخل.
الحياة الوسطى خير حياة. الطبيعة كما نعرفها ليست قديسا. وهي لا تؤثر بالفضل أضواء الكنيسة، أو الزاهدين، أو الجنتو، أو آكلي الحنطة؛ فهي تأتي آكلة شاربة آثمة. وأعزاؤها العظماء والأقوياء والجمال، ليسوا أبناء سنتنا، ولم يتخرجوا في مدرسة الأحد، ولا يزنون طعامهم، ولا يستمعون إلى الوصايا في كل حين. فإن أردنا أن نكون أقوياء مع قوتها، فلا ينبغي لنا أن نخفي ضمائر مكتئبة، نستعيرها كذلك من ضمائر الأمم الأخرى. يجب أن نقيم الفعل الحاضر القوي في وجه كل إشاعات الغضب، ماضيها ومستقبلها.
هناك أشياء كثيرة لم تستقر بعد، ومن المهم جدا أن تستقر، وإلى أن تستقر يجب أن نفعل كما نفعل. وبينما يستمر الجدل على موازنة التجارة، ولا ينتهي قبل انقضاء قرن أو قرنين، تستطيع «نيو إنجلند» وإنجلترا القديمة أن تفتح محلها التجاري. وقد نناقش قانون حق التأليف، وحق التأليف الدولي، وفي خلال ذلك نبيع كتبنا بقدر ما نستطيع. وقد نبحث في ضرورة الأدب، وفيما يبرره، وفي قانونية تسجيل فكرة من الأفكار. وقد يحتدم الجدال في موضوع ما، وبينما تستعر المعركة فعليك أيها الباحث العزيز أن تنكب على عملك السخيف، وأن تضم سطرا في كل ساعة، وتضيف سطرا بين الحين والحين. وقد يدور النزاع حول امتلاك الأرض، وحق الملكية، وقد نبحث في التقاليد، وقبل أن نستقر على رأي عليك أن تحرث بستانك، وأن تنفق ما تكسب هبات وعطايا في كل غرض جدي جميل. الحياة نفسها فقاعة وشك وسبات في سبات. هبها، بل وهب أكثر مما تريد. أما أنت يا حبيب الله، فعليك أن تهتم بحلمك الخاص، ولا تضل طريقك وسط من يزدرون الدنيا أو يشكون فيها. ومهما يكن من أمر، فلتلتزم غرفتك، ولتعمل حتى يتفق الآخرون عما نعمل بحياتنا. يقولون إن مرضك وعاداتك التافهة تتطلب منك أن تعمل هذا أو تتجنب ذاك، ولكن اعلم أن حياتك حالة عابرة، أو هي قباء تقضي فيه الليل ، وعليك - مريضا أو معافى - أن تتخطى هذه الحدود. إنك مريض، ولكن حالتك لن تسوء، والدنيا التي تعزك سوف تتحسن.
الحياة الإنسانية تتألف من عنصرين: القوة والصورة، ويجب أن نحتفظ بالتناسب بينهما دائما، إن أردناها حلوة سليمة. كل واحد من هذين العنصرين إن زاد نجم عنه أذى يضر كما يضر نقصانه. كل شيء يسير نحو الزيادة، كل صفة طيبة بغيضة، إذا هي لم تختلط بضدها. والطبيعة تجعل كل صفة خاصة عند المرء طاغية كي تبلغ بالخطر حافة الدمار. وهنا بين الحقول نسوق العلماء أمثلة لهذه الحقيقة المرة. إنهم ضحايا التعبير في هذه الطبيعة. وأنت يا من ترى الفنان والخطيب والشاعر عن كثب، وتجد أن حياتهم لا تفوق حياة الصناع والمزارعين، وتجدهم ضحايا التشيع لفكرة واحدة، أجوافا أعجافا، وتحكم عليهم بالفشل وتصمهم بالدجل لا بالبطولة، تستنتج بحق أن هذه الفنون ليست للإنسان ولكنها مرض من الأمراض. ومع ذلك فالطبيعة لن تسندك. الطبيعة التي لا تقاوم خلقت الناس على هذه الصورة، وتخلق ألوفا منهم كل يوم على ما هو أكثر من هذه الصورة. إنك قد تحب الصبي يقرأ في كتاب أو يتأمل في صورة، أو تمثال، ومع ذلك فماذا عسى أن تكون هذه الملايين التي تقرأ وتشاهد سوى كتاب أو نحاتين مبتدئين؟ وإذا ما زادت قليلا هذه الصفة التي تطالع الآن وتشاهد، أمسكوا بالقلم والإزميل. وإذا تذكر المرء كيف بدأ في بساطة أن يكون فنانا، أدرك أن الطبيعة انضمت إلى خصومه. الإنسان استحالة ذهبية، والطريق الذي ينبغي له أن يسلكه في دقة الشعرة. والحكيم يصاب بالغفلة إذا أمعن في حكمته.
وما أيسر - إن شاءت الأقدار - أن نلتزم دائما هذه الحدود الجميلة، وأن نخضع أنفسنا، للمرة الأولى والأخيرة، للحساب الدقيق، حساب دولة الأسباب والمسببات المعروفة. وفي الطريق وفي الصحيفة تبدو الحياة أمرا واضحا بحيث يكفل للمرء النجاح أن يعتزم التزام جدول الضرب في جميع الأجواء. ولكن سرعان ما يأتي اليوم، أو لعله نصف ساعة، الذي يهمس في آذاننا همس الملائكة، ويحبط ما وصلت إليه الأمم والسنون من عبر! وفي الغد مرة أخرى يبدو كل شيء حقيقيا ومحددا، وتعود المعايير المألوفة، ويندر الإدراك السليم ندرة العبقرية، بل هو أساس العبقرية، والخبرة بالنسبة إلى كل رأي جديد هي الأيدي والأرجل، وبرغم ذلك فإن ما يؤدي عمله على أساس هذا الفهم سرعان ما يفلس. إن القوة تسير في طريق آخر لا تقف في سبيله حواجز الاختيار والإرادة، وأقصد به نفق الحياة وقنواتها التي تختفي في طبقات سحيقة الغور. ومما يبعث على الضحك أننا رجال سياسة وأطباء وقوم عقلاء، ليس هناك من يفوق هؤلاء غفلة. الحياة سلسلة من المباغتات، ولولا ذلك ما استحقت أن نحصل عليها أو نظفر بها. إن الله يسره أن يعزلنا كل يوم، ويخفي عنا الماضي والمستقبل. وإننا نود لو تلفتنا حولنا، ولكنه بأدب جم يسدل أمامنا ستارا لا يخترق من السماء الصافية، ويسدل خلفنا ستارا آخر من السماء الصافية. وكأنه يقول لنا: «لن تذكروا ولن تتوقعوا شيئا.» كل حديث طيب، وأدب، وعمل، يصدر عن حالة تلقائية تتغافل المألوف، وتجعل اللحظة الراهنة لحظة عظمى. الطبيعة تمقت الحاسبين، ووسائلها وثابة مندفعة. يعيش المرء بالنبض، وحركاتنا العضوية كذلك، والعوامل الكيمائية والأثيرية متموجة متناوبة، ويسير العقل إلى الأمام معاديا، ولا يفلح قط إلا في نوبات مفاجئة. إن نجاحنا يأتي طارئا. وأهم ما جمعنا من تجارب إنما جاء عرضا. وأشد طبقات الناس جاذبية أولئك الذين تأتيهم القوة منحرفة ولا تأتيهم مستقيمة، هؤلاء عباقرة لم يعترف بهم بعد، يظفر المرء بسنا ضيائهم، دون أن يدفع في ذلك ثمنا غاليا. جمالهم جمال الطير، أو إشراق الصباح، وليس جمال الفن. في فكرة النبوغ تكمن المفاجأة دائما. والإحساس الخلفي يصح أن يسمى «الجدة»؛ لأنه لا يكون غير ذلك، جديد على أقدم العقول جدته على الطفل الصغير، «المملكة التي تأتي بغير ملاحظة». وكذلك النجاح العملي لا يأتي مع التصميم الدقيق. إن المرء لا يلاحظ وهو يؤدي أحسن ما يستطيع أداءه. إن حول أصح أعماله سحر خاص، يذهل قوي الملاحظة، حتى إنك لا تلقي إليه بالا برغم أنه يؤدى أمام ناظريك. إن لفن الحياة خفرا يأبى عليه الظهور. كل امرئ أمر مستحيل حتى يولد، وكل شيء مستحيل حتى نشهد نجاحا. والمتحمسون للدين يتفقون في نهاية الأمر مع أشد المتشككين برودة، على أنه ليس هناك شيء منا أو من عملنا، إنما كل شيء من الله. إن الطبيعة لا تستغني لنا عن أدق أوراق شجر الغار. كل كتابة تهبط علينا بفضل من الله، وكذلك كل عمل وكل امتلاك. وإنه ليسرني أن أكون أخلاقيا، وأحافظ على الحدود والتخوم الصحيحة، التي أحبها وأعزها، وأعزو الكثير إلى إرادة الإنسان، ولكني آثرت لنفسي الإخلاص في هذا الفصل من الكتاب، ولا أستطيع أخيرا أن أرى شيئا، من نجاح أو فشل، إلا ما ينبعث إلى حد كبير عن القوى الحيوية التي يمدنا بها الخلود. إن نتائج الحياة لم تحسب ولا يمكن حسابها. والسنون تعلم الكثير مما لا تعرفه قط الأيام. والأشخاص الذين تتألف منهم صحبتنا، يتحدثون ويجيئون ويذهبون، ويصممون وينفذون الكثير، وينجم عن كل هذا أي شيء إلا ما نتوقع من نتائج. إن الفرد دائما على خطأ. إنه يصمم الكثير، ويجذب إليه الأعوان، ويتشاجر مع بعضهم أو كلهم، ويرتكب الأخطاء الجسيمة، وينتهي إلى شيء ما، وكل أمر يتقدم قليلا، ولكن الفرد دائما على خطأ. ويخرج شيء جديد، ولكنه يختلف كل الاختلاف عما وعد به نفسه.
وقد أذهل القدماء عدم خضوع عناصر الحياة البشرية للحساب كما ذكرنا؛ فألهوا المصادفة. بيد أن هذا بمثابة من يطيل الوقوف عند الشرارة - التي يتلألأ بريقها في نقطة واحدة - في حين أن الكون يدفأ بحرارة النار عينها التي تكمن فيها. إن معجزة الحياة التي لا يمكن تفسيرها، والتي سوف يبقى إعجازها أبدا، تدخل عنصرا جديدا. وأظن أن سير إفرارد هوم قد لاحظ في نمو الجنين أن التطور لم يكن من نقطة مركزية واحدة، ولكنه كان فعالا في نقط ثلاث أو أربع في وقت واحد. إن الحياة ليست لها ذاكرة؛ لأن ما يتتابع في سيره قد يذكر، أما ما يوجد مع غيره في وقت واحد، أو ما يصدر عن سبب أعمق، بعيد عن الوعي، فإنه لا يعرف لنفسه اتجاها. وكذلك حالنا، نكون مرة في ريبة من أمرنا، أو على غير اتحاد، لأننا غارقون في الصور والمسببات، وكلها يبدو ذا قيم متساوية متعادية، ومرة نكون متدينين، حينما نستقبل قانون الروح. وبرغم هذا التشتيت، وهذا النمو للأجزاء في وقت واحد، فإنها سوف تصبح «أعضاء» ذات يوم، وتخضع لإرادة واحدة. وإلى هذه الإرادة الواحدة، وهذا السبب الخفي، توجه انتباهنا وأملنا. إن الحياة بذلك تنصهر في أمل أو في عقيدة. وخلف التفصيلات التافهة التي ليس بينها انسجام كمال موسيقي، و«المثل الأعلى» يلازمنا دائما، والسماء بغير شقوق أو ندوب. وما عليك إلا أن تراقب أسلوب استنارتنا. حينما أتحدث إلى عقل عميق، أو إذا كانت لدي أفكار طيبة عندما أكون وحيدا في أي وقت من الأوقات، لا أبلغ حد الرضى دفعة واحدة، مثلما أشرب الماء وأنا صاد، أو أقرب النار وأنا مقشعر. كلا، بل إني أول الأمر أدرك اقترابي من منطقة من مناطق الحياة جديدة رائعة. وبإصراري على القراءة أو التفكير تزيد هذه المنطقة دلالة على نفسها، كأنها قبس من نور، ويتكشف لي فجأة جمالها واطمئنانها، وكأن السحب التي تغطيها تنقشع في فترات، وتبدي للرحالة المقترب الجبال الداخلية، تنتشر عند سفوحها المراعي الهادئة الخالدة، حيث ترعى القطعان، ويزمر الرعاة ويرقصون، غير أن كل تبصر من جانب هذه المملكة الفكرية يبدو كأنه مبتكر جديد، ويبشر بما يتلوه. إنني لا أخلقه، وإنما أبلغه، وأشاهد ما كان كائنا هناك من قبل. كلا، لست بالخالق! إنني أصفق براحتي في دهشة الأطفال وسرورهم، إزاء الفتح الأول الذي يتبدى لي في هذه العظمة الشاهقة، العتيقة بما حبتها به العصور العديدة من حب وولاء، الحديثة بما يدب فيها من حياة الحياة، وكأنها مكة المشرقة وسط الصحراء. وأي مستقبل تفتحه لي! إنني أحس قلبا جديدا ينبض بحب الجمال الجديد. إنني مستعد لأن أموت من أثر الطبيعة، وأولد مرة أخرى في هذه القارة الأمريكية الجديدة التي لم يقربها أحد من قبل، والتي وجدتها في الغرب.
فلا اليوم ولا الأمس بداية هذه الأفكار،
التي كانت منذ الأزل، بل ولا يمكن أن يوجد الإنسان،
الذي عرف أول دخولها.
وإذا كنت قد وصفت الحياة بأنها سلسلة من الحالات العقلية، فلا بد لي أن أضيف إلى ذلك أن فينا شيئا لا يتغير، تنخرط تحته جميع الإحساسات وحالات العقل. إن الوعي عند كل إنسان مقياس متحرك يجعله مرة شيئا واحدا مع «السبب الأول»، ومرة مع لحم جسمه، حياة فوق حياة، في درجات لا نهاية لها. والعاطفة التي صدر هذا الوعي عنها تعين قيمة أي فعل. والمسألة دائما ليست هي ما فعلت أو ما تجنبت، وإنما هي بأمر من تفعل أو تجتنب.
إن «الحظ» و«منرفا» و«آلهة الفن» و«الروح القدس» إن هي إلا أسماء عجيبة أضيق من أن تشمل هذه المادة التي لا تحد. والعقل المتحير يجب أن يخضع لهذا المسبب، الذي لا يقبل التسمية، هذا المسبب الذي يفوق الوصف، والذي حاولت كل عبقرية رقيقة أن تمثله برمز مؤكد، فمثله طاليس بالماء، وأنكسمانيس بالهواء، وأناكساجوراس بالفكر، وزرادشت بالنار، ويسوع والمحدثون بالمحبة. والاستعارة التي استخدمها كل منهم أصبحت دينا قوميا. ولم يكن منكيس الصيني بأقل من ذلك نجاحا في تعميمه؛ فلقد قال: «إنني أفهم اللغة تمام الفهم، وأحسن تغذية ما عندي من قدرة عظيمة.» فسأله رفيقه عما يسميه القدرة العظيمة، فأجاب منكيس: «التفسير عسير، هذه القدرة عظيمة جدا، لا تلين بتاتا. إن أنت غذيتها غذاء صحيحا، ولم تصبها بأذى، ملأت ما بين السماء والأرض من فراغ. هذه القدرة تسير مع العدالة والعقل، وتعاونهما ولا تسمح بالجوع.» وفي تعبيرنا الأصح نسمي هذا التعميم باسم «الوجود»، وبذلك نعترف بأنا قد بلغنا إلى أقصى ما نستطيع الذهاب إليه. ويكفي لابتهاج الكون أنا لم نبلغ سدا، وإنما وصلنا إلى محيطات لا تحد.
إن حياتنا لا تبدو حاضرة بمقدار ما تبدو مستقبلة، لا في الشئون التي تنفق فيها هذه الحياة، ولكن كإشارة إلى هذه القدرة العظيمة. إن أكثر الحياة يظهر أنه مجرد إعلان عن القدرة العقلية. إن المعرفة لا تعطى لنا لكي نبيع أنفسنا بثمن بخس. إنما نحن في قمة العظمة. وكذلك في التفصيلات، تكون عظمتنا دائما ميلا أو اتجاها ولا تكون في العمل. علينا أن نعتقد في القاعدة لا في الاستثناء. وهكذا يعرف النبيل من الحقير. وكذلك عند إحساسنا بالعاطفة الدينية، لا تكون الأهمية القصوى، أو الحقيقة الأساسية في تاريخ الأرض، فيما نعتقد بشأن خلود الروح أو ما إلى ذلك، وإنما في «الدافع العام إلى الاعتقاد». فهل نصف هذا المسبب بأنه ذلك الذي يؤثر تأثيرا مباشرا؟ إن الروح ليست عاجزة أو بحاجة إلى أعضاء وسيطة. إن لها قوى وافرة وآثارا مباشرة؛ فأنا مفهوم بغير تفهيم، ومحسوس بغير عمل، وحيث لا أكون. ومن ثم فإن كل امرئ عادل يقنع بثناء نفسه على نفسه، ويرفض أن يشرح نفسه، ويقنع بأن تقوم له بهذه المهمة أعمال جديدة. إنه يعتقد أننا نتصل بغير كلام، وبما فوق الكلام، وأن ليس من أعمالنا الصميمة ما ينعدم تأثيره بتاتا على رفاقنا، مهما بعدت الشقة؛ لأن أثر العمل لا يقاس بالأميال. لماذا أغضب نفسي لأن حادثا وقع فحال دون وجودي حيث كان ينبغي أن أكون؟ إذا لم أشهد الاجتماع، فإن وجودي حيث أنا يجب أن يكون في منفعة الحكمة والصداقة المشتركة كما يكون وجودي في ذلك المكان؛ فإني أبذل القوة عينها في كل مكان. هكذا يسير «المثل الأعلى» العظيم أمامنا. فإنه لم يعرف عنه قط أنه تخلف إلى الوراء. ولم يحصل أحد على خبرة مشبعة، ولكن صالحه ينبئ بخبرة أوسع. فإلى الأمام دائما! في لحظات التحرير، نعلم أن صورة جديدة من صور الحياة والواجب كانت ممكنة، فإن في كثير من العقول التي حولنا توجد بالفعل عناصر عقيدة في حياة سوف تتخطى حدود أي سجل مكتوب لدينا. وهذه الصورة الجديدة سوف تشتمل على ما يشك فيه المجتمع، كما تشتمل على ما يؤمن به، فيتكون من انعدام العقيدة مذهب جديد؛ لأن الشكوك ليست اعتباطية أو متمردة، وإنما هي حدود للعقيدة الإيجابية، ويجب على الفلسفة الجديدة أن تتقبلها، وأن تستوحيها الآراء الموجبة، كما ينبغي لها أن تشتمل على أقدم العقائد.
عندما اكتشف الإنسان أنه موجود جلب على نفسه الشقاء، ولم يعد له من هذا الشقاء منفذ. هذا الاكتشاف هو ما نسميه «سقوط الإنسان». إننا منذ ذلك الحين نرتاب فيما لدينا من قدرات.
لقد تعلمنا أننا لا نرى رؤية مباشرة، ولكنا نرى بالوساطة، وأنه ليست لدينا وسيلة نصلح بها هذه العدسات. ربما كانت لهذه العدسات الإنسانية قوة خالقة، وربما لم تكن هناك مرئيات، ولكنا عشنا ذات يوم فيما رأينا. أما الآن فإن ضراوة هذه القدرة الجديدة التي تهدد بالاستيلاء على كل شيء، تشغلنا؛ فالطبيعة، والفن، والأشخاص، والآداب، والديانات، وغير ذلك من أشياء، يتلاشى على التتابع، وليس الإله إلا فكرة من أفكارها. وتكون الطبيعة والأدب ظواهر ذاتية. وكل شر وكل خير ظل نلقيه. إن الطريق مليء بمظاهر الإذلال للمتكبرين. وكما أن المتحذلق قد حاول أن يكسو خدمه في زيه ويجعلهم يخدمون ضيوفه على المائدة، فكذلك الكروب التي تصدر عن القلب السيئ كفقاعات، تتخذ في الحال أشكال السيدات والسادة في الطريق، وأصحاب الحوانيت والحانات في الفنادق، وتهدد أو تهين كل ما يقبل التهديد أو الإهانة فينا. وكذلك الحال مع الأوثان التي نولع بها. إن الناس ينسون أن العين هي التي تخلق الأفق، وعين العقل الباحثة هي التي تجعل من هذا الرجل أو ذاك طرازا أو ممثلا للإنسانية باسم البطل أو القديس. إن يسوع «الإنسان المؤله» رجل طيب، اتفق كثير من الناس على أن هذه القوانين البصرية تنطبق عليه. وبالمحبة من جانب، وبالإمساك عن الاعتراض من جانب آخر، استقر الأمر مؤقتا على أن ننظر إليه وسط الأفق، ونعزو إليه الخواص التي يتصف بها أي امرئ ننظر إليه هذه النظرة. غير أن الحب أو الكراهية مهما طال أمده له نهاية سريعة. إن النفس العظيمة الوهاجة التي تمتد جذورها إلى الطبيعة المطلقة، تقتلع كل الوجود النسبي وتدمر مملكة المحبة والصداقة الفانية. إن الزواج (فيما يسمى العالم الروحي) أمر مستحيل، بسبب المفارقة بين كل ذات وكل موضوع؛ فالذات تستقبل الألوهية، ولا بد أنها تحس عند كل موازنة أنها تعظم بتلك القوى الخفية. ولا بد من الإحساس بأثر المادة، بوجودها إن لم يكن بطاقتها، ولا يمكن لأية قوة من قوى العقل أن تنسب إلى الموضوع الألوهية الصحيحة التي تغفو أو تتيقظ دائما في كل ذات. ولا تستطيع المحبة قط أن تسوي بين قوة الوعي وقوة حلوله في الأشياء. وسوف توجد دائما الفجوة بين كل «أنا» و«أنت»، كما توجد بين الأصل والصورة. إن الكون هو عروس الروح. وعطف الفرد عطف من جانب واحد. الكائنان البشريان كالكرتين لا يتماسكان إلا في نقطة واحدة. وطالما هما على اتصال فإن جميع النقاط الأخرى في كل من الكرتين تكون في حالة سكون. لا بد أن يأتي دورها كذلك، وكلما طال بقاء نوع من أنواع الاتحاد، زاد ما تحصل عليه الأجزاء التي لم تتحد من شدة الشوق.
للحياة أن تتخذ لنفسها صورة، ولكنها لا يمكن أن تتجزأ أو تتضاعف. وأي غزو لوحدتها يكون مدعاة للفوضى. إن الروح ليست توءما، ولكنها فريدة، وهي - وإن تكشفت كطفل في الزمان، وطفل في المظهر - ذات قوى فاصلة عالمية، ولا تسمح بحياة أخرى إلى جانبها. إن كل يوم، وكل عمل يكشف عن الألوهية التي ساء اختفاؤها. إننا نعتقد في أنفسنا بما لا نعتقد في غيرنا. ونسمح بكل شيء لأنفسنا، وما نسميه إثما عند الآخرين هو بالنسبة إلينا تجربة. ومن أمثلة إيماننا بأنفسنا أن الناس لا يتحدثون قط عن الجريمة باستخفاف كما يظنون. أو أن كل امرئ يفسح لنفسه في مجال الأمن، بدرجة لا يسمح لغيره بها. إن العمل يبدو مختلفا كل الاختلاف في داخله عن خارجه، وفي نوعه عن عواقبه. إن القتل عند القاتل ليس من الأفكار المخربة كما هو عند الشعراء وأصحاب الخيال. إنه لا يزعزعه، ولا يصرفه عن ملاحظته العادية للتوافه. إنه عمل من اليسير جدا تأمله، ولكنه يدل في عاقبته على أنه ضجيج مزعج، وأنه يدعو إلى اضطراب جميع العلاقات. والجرائم التي تصدر عن الحب خاصة تظهر عدلا وحلالا في عين مرتكبيها، ولكنها - بعد ارتكابها - تبدو مدمرة للمجتمع. وفي النهاية لا يعتقد إنسان أنه يمكن أن يضل، أو أن الجريمة سوداء كما هي عند الأثيم؛ لأن العقل في حالتنا الخاصة يشكل الأحكام الخلقية؛ إذ إنه ليست هناك جريمة للعقل؛ فهو مناقض للشرائع أو فوقها، ويحكم على القانون كما يحكم على الحقيقة. يقول نابليون معبرا بلغة العقل: «إن ذلك أسوأ من الجريمة، إنه خطأ فاحش.» الدنيا لدى العقل مشكلة في الرياضة أو في علم العدد، وليس له شأن بالثناء أو الهجاء وبكل العواطف الضعيفة. كل سرقة أمر نسبي. فإن تعرضت للمطلق، فبربك من ذا الذي لا يسرق؟ إن القديسين يحزنون لأنهم ينظرون إلى الإثم (حتى حينما يتأملون) من وجهة نظر الضمير، ولا ينظرون إليه من وجهة نظر العقل، وهو اضطراب في الفكر. إنك إن نظرت إلى الإثم بالفكر وجدته شيئا صغيرا أو قليل الشأن، وإن نظرت إليه بالضمير أو الإرادة، ألفيته فسادا أو سوءا. العقل يسميه ظلا، أو انعداما للضوء، ولا يراه جوهرا. أما الضمير فيحسه جوهرا، أو شرا لا بد منه. إنه ليس كذلك: له وجود موضوعي، وليس له وجود ذاتي.
وهكذا فلا بد للكون من أن يتلون بلوننا، ولكل شيء أن يخضع بدوره للذات. والذات موجودة، وهي تتضخم. وكل شيء يتخذ مكانه إن عاجلا أو آجلا. أنا كائن، ولذا فإني أرى. وأيا كانت اللغة التي نستخدمها، فإننا لا نستطيع أن نقول شيئا إلا ما نحن عليه.
كان هرميز وكادمس وكولمبس ونيوتن وبونابرت وزراء عقولهم. وبدلا من أن نحس الفقر عندما نلتقي برجل عظيم، دعنا نعامل القادم الجديد كأنه عالم بطبقات الأرض عابر، يمر بضيعتنا، ويطلعنا على نوع جيد من الأردواز أو حجر الجير أو فحم الأنثرسيت في أحراشنا ومراعينا. والعمل الجزئي لكل عقل جبار في اتجاه ما عبارة عن منظار مقرب للأشياء التي يتسلط عليها. وكل جانب آخر من جوانب المعرفة لا بد أن يصل إلى المبالغة عينها قبل أن تكمل استدارة الروح.
هل تشهد تلك القطيطة تتابع ذيلها في حركة رشيقة؟ إن استطعت أن تنظر بعينيها ربما رأيتها محاطة بمئات الأشخاص الذين يمثلون مسرحيات معقدة، من مهازل ومآسي، فيها أحاديث مطولة، وشخصيات عديدة، وكثير من تقلبات القدر، وفي الوقت ذاته ليست سوى قطيطة وذيلها. متى يسقط عنا القناع، فيتلاشى صوت الدفوف والضحكات والصياح، فنتبين أنا كنا نمثل وحدنا؟ ذات وموضوع؛ ما أروع أن تتم الدورة الكهربية، ولكن الجسامة لا تزيدها شيئا. فماذا يهم لو كان الموضوع عن كبلر والكرة، أو كولمبس وأمريكا، أو عن قارئ وكتابه، أو القطيطة وذيلها؟
حقا أن إلهة الفنون جميعا والحب والدين تمقت هذه التطورات، وإنها تحاول أن تجازي الكيمائي الذي ينشر في الصالون أسرار المعمل. ولا نستطيع أن نقلل من شأن الضرورة التي يحتمها تكويننا لرؤية الأشياء على أوجه شخصية أو ملونة بلون مزاجنا. ومع ذلك فإن الله يستوطن هذه الصخور الجرداء. وهذه الحاجة هي التي تودع في الأخلاق الفضيلة الكبرى، فضيلة الثقة بالنفس. يجب أن نستمسك بهذا العيب، مهما جلب علينا من عار، وأن يشتد استمساكنا بمحورنا بعودتنا إلى أنفسنا في قوة وعزم بعد اندفاعنا إلى العمل. إن حياة الحق باردة، وهي حتى الآن مفجعة، ولكنها لا تخضع للدموع والندم والاضطراب. إنها لا تحاول أن تعمل عمل شخص آخر، وأن تتخذ لنفسها حقائق فرد آخر. ومن دروس الحكمة الأساسية أن تميز ما لك مما لغيرك. تعلمت أني لا أستطيع أن أتصرف في حقائق الآخرين. ولكني أملك لحقائقي المفتاح الذي يشجعني ضد كل ما ينكرون، وتعلمت كذلك أنهم يملكون المفاتيح لحقائقهم. إن الشخص العطوف يقع في ورطة السابح بين جماعة من الغرقى. كلهم يتشبثون به، فإن هو قدم ساقا أو إصبعا أغرقوه. إنهم يرغبون في النجاة من أضرار رذائلهم ، لا من رذائلهم أنفسها. إن البر يضيع هباء إذا نحن بذلناه في سبيل هذه الأعراض الضعيفة. والطيب الحكيم المتمكن يقول: «اخرج من هذا .» كأول شرط من شروط النصيحة.
وفي بلادنا هذه أمريكا التي يكثر فيها الكلام تفسدنا طبيعتنا الطيبة واستماعنا إلى كل جانب. وهذا الإذعان يزيل القدرة على أن يكون المرء عظيم الفائدة. لا ينبغي للمرء أن يتمكن من النظر إلا رأسا وإلى الأمام. وانصراف الانتباه هو الرد الوحيد على إصرار الآخرين على الاستهتار. وقد نعير هؤلاء آذاننا، ولكن لكي نستخف بما يطلبون. هذا رد مقدس، ولا يترك مجالا للعدول عنه أو لجمود التفكير. ترى في تصوير فلاكسمان ليومنديز، الذي ذكره أيسكلس، أن أورستيز يتضرع إلى أبولو بينما تنام آلهة الغضب عند الأعتاب. إن وجه الآلهة يعبر عن شيء من الندم والرأفة، ولكنه هادئ لاعتقاده في عدم إمكان التوفيق بين الاتجاهين. لقد ولد في ظروف سياسية أخرى، في عالم الخلود والجمال. والرجل الذي عند قدميه يطلب إليه أن يهتم باضطراب الدنيا، وهو ما لا تستطيعه طبيعته. ويومنديز يعبر باستلقائه عن هذا الفارق تعبيرا قويا. إن الإله مثقل بمصيره المقدس.
الوهم، والمزاج، والتتابع، والظاهر، والمباغتة، والواقعية، والذاتية، هذه كلها خيوط في نسيج الزمن، وهي سادة الحياة. ولا أجرؤ على التفكير في ترتيبها، ولكني أذكرها كما تخطر لي. وأنا أعلم من أن أزعم الكمال لصورتي، إنما أنا جزء، وهذا جزء مني. وأستطيع في ثقة كبرى أن أعلن قانونا من القوانين، يتخذ لنفسه صورة وهيئة، ولكني ما زلت أصغر بقرون من أن أضع دستورا. إنني ألغط لساعتي فيما يتعلق بالسياسة الأبدية. ولم يكن عبثا ما رأيت من صور كثيرة جميلة. ولقد عشت في زمن عجيب، ولست كما كنت ناشئا في سن الرابعة عشرة، بل ولست كما كنت منذ سبع سنوات. ولست أعبأ بمن يسأل وأين الثمرة؟ إنني أكتفي بالثمرة الخاصة. هذه ثمرة من الثمار، وهي أني لا أتوقع نتيجة كبرى من التأملات والمشورات وجمع الحقائق. وإني لأشعر بالحسرة لو توقعت نتيجة لهذا البلد ولهذه المقاطعة، أو أثرا واضحا في الشهر الحالي والسنة الراهنة. إنما الأثر عميق عالمي كالسبب نفسه. إنه يفعل فعله في عصور لا تكون فيها الفترة القصيرة من حياة المرء شيئا يذكر. كل ما أعرف هو الاستقبال. أنا كائن وأنا مالك، ولكني لا أحصل على شيء، وحينما أتصور أني ظفرت بشيء أجد أني لم أظفر به. إنني أعبد «الحظ» الأعظم معجبا به. وما أكثر ما استقبلت، حتى أصبحت لا أضيق باستقبال هذا أو ذاك من الأمور مهما تكن غزارته. وإني لأقول للعقل العبقري هذا المثل بعد استئذانه: «ما يدخل الطاحون يستحيل إلى ملايين الأجزاء.» وعندما أتلقى هبة جديدة لا أميت شهوة جسدي بالتقشف لكي يحصل التعادل؛ لأنني إن مت لا أستطيع هذا التعادل. لقد جاوزت المنفعة القيمة في اليوم الأول، وظلت تجاوزها منذ ذلك الحين. وما أحسب هذه القيمة عينها إلا جزءا مما أتلقاه.
وكذلك يبدو لي أن التلهف على أثر ملموس أو عملي ضرب من ضروب الكفران. وأنا جاد جدا في رغبتي في الاستغناء عن هذا الأثر الذي لا ضرورة له. إنما تظهر لي الحياة خيالا لا أثر له. إن أشق عمل وأشده خشونة خيالي كذلك، والأمر كله اختيار بين أحلام هادئة وأحلام مزعجة. إن الناس يحطون من قدر المعرفة والحياة العقلية ويحثون على العمل. وأنا قانع جدا بالمعرفة لو استطعت أن أعرف. وتلك تسلية عظمى، وتكفيني أمدا طويلا.
إن قليلا من المعرفة يساوي قيمة هذه الدنيا. إنني أستمع دائما إلى قانون «أدراستيا» الذي يقول بأن «كل روح حصلت على حقيقة ما، يجب أن تكون في مأمن من الأذى حتى فترة أخرى.»
أنا أعلم أن العالم الذي اضطرب فيه في المدينة وفي المزرعة ليس هو العالم الذي «أفكر» فيه. ولسوف أعرف ذات يوم قيمة هذه المفارقة وناموسها. ولكني لم أجد أني أفدت كثيرا من محاولاتي العملية لتحقيق عالم الفكر. كثير من الأشخاص المتحمسين يقومون بالتجارب المتوالية في هذا السبيل، فيضعون أنفسهم في مكانة تبعث على الضحك والسخرية. إنهم يكتسبون عادات شعبية، ويرغون في أفواههم، ويكرهون وينكرون. وأسوأ من ذلك أني ألاحظ أن ليس في تاريخ البشر مثل فريد للنجاح، إذا اتخذنا مقاييسهم للنجاح . وإني أذكر ذلك جدلا، أو إجابة على هذا السؤال: لماذا لا تحقق عالمك؟ ولكن ما أبعدني عن اليأس الذي يتعجل الحكم على القانون العام بتجربة تافهة؛ لأن كل محاولة صحيحة لا بد أن تنجح. صبرا، صبرا، وسوف تكسب في النهاية. يجب أن نرتاب أشد الريبة في خداع عامل الوقت. فالأكل، أو النوم، أو اكتساب مائة دولار، يستنفد وقتا طويلا، في حين أن الترحيب بالأمل وبالبصيرة التي تضيء حياتنا لا يتطلب إلا وقتا وجيزا. إننا نهذب بستاننا، ونتناول غذاءنا، ونناقش شئون المنزل مع زوجاتنا، بيد أن هذه الأمور لا تترك أثرا، وتنسى في الأسبوع التالي. أما في العزلة التي يأوي إليها كل إنسان دائما، فإنه يجد فيها صحة العقل والإلهام الذي يحمله معه في رحلته إلى عوالم جديدة. وكأنها تقول: «انهض مرة أخرى أيها القلب العجوز ولا تعبأ بالسخرية، ولا تعبأ بالهزيمة! فالنصر آت تحقيقا للعدالة.» والقصة الخيالية التي توجد الدنيا لتحقيقها، هي تحول العقل العبقري إلى قوى عملية.
الشخصية
غربت الشمس، ولكن أمله لم يغرب،
وأشرقت النجوم، وسبقها إلى الإشراق إيمانه،
وحدق في المجرة العظمى،
فبدت عينه أشد عمقا وأطول عمرا.
إن آلامه العظمى تعادل صموت الزمن.
ثم تكلم، فعادت كلماته، وهي أشد رطوبة من قطرات المطر،
بعصر الذهب مرة أخرى:
واكتسبت أعماله عذوبة وجلالا،
كسفا إلى جوارهما قيمة كل عمل عظيم. •••
إنه لا يثني ولا يحزن
على ما قدمت يداه؛
لأن الحقيقة تدافع عن نفسها،
كما تترك الطبيعة كل عمل لها
غير نادمة.
قرأت أن أولئك الذين استمعوا إلى لورد تشاتهام أحسوا أن هناك شيئا في الرجل أرق من كل ما ذكر. وقد شكا بعض القراء مؤرخنا الإنجليزي النابه للثورة الفرنسية قائلين إن كل الحقائق التي ذكرها عن ميرابو لم تبرر تقديره لعبقريته. إن الحقائق التي رويت عن جراتشي، وآجس، وكليومينس وغيرهم من أبطال فلوطارخس، لا توازي شهرتهم. ولقد كان سير فيليب سدني إيرل أسكس، وسير والتر رالي، رجلين ذوي شخصية كبرى وأعمال قليلة. إننا لا نستطيع أن نجد أدنى جزء من الوزن الشخصي لواشنطن إذا روينا أعماله الباهرة. كما أن سلطان اسم شلر أعظم من كتبه. وهذه المفارقة بين السمعة والأعمال أو القصص التي تروى لا يبررها القول بأن صدى الشيء أقوى من وقعه. ولكن شيئا يكمن في هؤلاء الرجال ويبعث فينا أملا أعظم من كل ما قاموا به من أعمال. إن الجانب الأعظم من قوتهم كان خفيا. وهذا هو ما نسميه الشخصية، قوة حبيسة تعمل مباشرة بوجودها وبغير وسيط، وهي قوة لا نتصور ظهورها، هي شيء مألوف أو ضرب من العبقرية ترشد دوافعه صاحبها، ولكنه لا يستطيع أن ينقله إلى غيره. وهي رفيقه حتى إن أمثال هؤلاء الرجال كثيرا ما يحبون العزلة، فإن كان من بينهم رجل اجتماعي، رأيته في غنى عن المجتمع، ويمكنه أن يجد أحسن السلوى وهو فريد. إن أخلص المواهب الأدبية قد يبدو عظيما في وقت ما، صغيرا في وقت آخر، ولكن الشخصية لها عظمة كوكبية لا تتضاءل. وما ينجزه الآخرون بالموهبة أو بالفصاحة، ينجزه هذا الرجل بنوع من المغناطيسية. «إنه لا يستغل نصف قواه.» ويخونه النصر بإظهار تفوقه، ولا يحرزه بقراع السيوف. وهو يهزم غيره لأن وصوله يغير وجه الأمور. («أي أيول! كيف عرفت أن هركيوليز إله؟» فأجاب أيول: «عرفت ذلك؛ لأني اقتنعت في اللحظة التي وقعت عليه فيها عيناي. عندما شهدت ثيسيس، تمنيت أن أراه يتطوع للقتال أو على الأقل يقود خيله في سباق العربات. ولكن هركيوليز لم ينتظر نضالا، إنه كان يهزم غيره سواء وقف أو سار أو جلس أو أيا كان ما يعمل.»)
إن الإنسان عادة يتعلق بالحوادث، ويرتبط بالعالم الذي يعيش فيه نصف ارتباط، وذلك في غير لباقة، ولكنه في هذه الأمثلة يبدو كأنه يقاسم الأشياء حياتها، ويكون تعبيرا لنفس القوانين التي تسير البحر والشمس، والأعداد والكميات.
ولأضرب مثلا آخر أشد تواضعا وأقرب إلى الأفهام: إنني ألاحظ أننا في انتخاباتنا السياسية، حيث لا يظهر هذا العنصر - إن ظهر بتاتا - إلا في صورة ساذجة، ألاحظ أننا ندرك أثره الذي لا يبارى إدراكا كافيا؛ فالناس يعرفون أنهم يطلبون فيمن يمثلهم شيئا أعظم بكثير من المواهب العقلية، إنهم يطلبون فيه القدرة على أن يجعل مواهبه موضع الثقة. إنهم لا يحققون أغراضهم إذا هم بعثوا إلى الكنجرس خطيبا عالما ذرب اللسان طلق الحديث، إذا لم يكن رجلا قبل أن يعينه الناس ليمثلهم قد عينه الله - جل جلاله - كي يمثل حقيقة من الحقائق، حقيقة يؤمن بها في نفسه إيمانا لا يقهر، حتى يعلم أشد الناس ثقة وأشدهم عنفا أن في شخصه مقاومة تذهب معها هباء كل جرأة وكل فزع، وأعني بها الإيمان بحقيقة ما.
إن الرجال الذين ينجحون ليسوا بحاجة إلى أن يستفسروا من ناخبيهم عما يقولون، إنما هم أنفسهم البلد الذي يمثلون. وليست عواطف هذا البلد أو آراؤه أشد تأهبا أو صدقا في أي مكان منها لديهم، وليست في أي موضع آخر غيرهم في مثل ما هي لديهم من صفاء من تلويث الأنانية. إن الناخبين في موطنهم يصغون إلى كلماتهم، ويرقبون لون خدودهم، وعلى هذه الصورة - كأنها المرآة - يكيفون أنفسهم. إن مجتمعاتنا العامة مقاييس طيبة جدا لقوى الرجولة. إن مواطنينا المخلصين من أهل الغرب والجنوب يتذوقون الشخصية، ويحبون أن يعرفوا إن كان الرجل من أهل «نيو إنجلند» متين البناء، أم تستطيع الأيدي أن تخترقه.
وهذه القوى الدافعة عينها تظهر في التجارة. في التجارة نوابغ، كما في الحرب، والسياسة، والآداب. ولا نذكر السبب لماذا يكون هذا الرجل أو ذاك سعيد الحظ. إنما يرجع السبب إلى الرجل نفسه. هذا ما يستطيع أن ينبئك به أي إنسان. راقبه وسوف تعرف في سهولة لماذا نجح، كما تعرف حينما تراقب نابليون علة ما أصاب من حظ. إننا نلمس في الأشياء الجديدة الميزة القديمة، وهي اعتياد مجابهة الحقيقة، دون النظر إليها بعد ابتذالها، أي عن طريق إدراك شخص آخر. والظاهر أن الطبيعة تعزز التجارة، عندما ترى التاجر الطبيعي، الذي لا يبدو كأنه وكيل خاص، بمقدار ما يبدو كأنه عاملها ووزيرها. إن أمانته الطبيعية تتحد مع إدراكه كنه تكوين المجتمع كي تضعه فوق الجبل، وهو يقنع الناس جميعا بعقيدته الخاصة، وبأن العقود لا يختلف معناها من فرد إلى فرد. إن عادة عقله تشير إلى قيم الإنصاف الطبيعية والمنفعة العامة، وهو يوحي بالاحترام، وبالرغبة في التعامل معه، لروح النبل الهادئة التي تحوطه، وللمتعة الذهنية التي يبعثها منظر هذه القدرة العظيمة. هذه التجارة بعيدة المدى التي تجعل رءوس المحيط الجنوبي مرافئ له، والمحيط الأطلنطي ميناءه المألوف، تتركز في ذهنه وحده، ولا يستطيع أحد في الكون أن يحسن القيام بعمله. وفي صالونه أشاهد جيدا أنه كان مجهدا بالعمل في الصباح، من جبينه المقطب وفكاهته الفاترة، التي لا تستطيع كل رغبة في المجاملة أن تزيلها. إنني أرى بوضوح كم عمل حازم أدى، وكم «لا» نطق بها في يومه هذا، في حين كان غيره لا ينطق إلا ب «نعم» التي تحطم وتهدم.
إنني أرى بفخر الفن ومهارة الرياضة العليا وقوة الربط البعيدة، إحساسه بأنه ممثل لقوانين العالم الأصيلة ولاعب بها. وهو كذلك يعتقد أن أحدا لا يستطيع أن يمده بشيء، وأن الرجل ينبغي أن يولد تاجرا، وإلا فإنه لا يستطيع أن يتعلم التجارة.
وهذه الميزة تكون أشد اجتذابا للعقل حينما تظهر في عمل يهدف إلى أغراض أشد من هذه صفاء ونقاء. إنها تعمل بنشاط وافر في أصغر الجماعات وفي العلاقات الخاصة. وهي في جميع الأحوال عامل غير عادي ولا يمكن حسابه. وهي تشل القوة البدنية الفائضة.
إن الطبائع العليا تتسلط على الطبائع الدنيا بتأثيرها فيها بضرب من ضروب النوم، فترى القدرات العقلية مغلقة لا تستطيع المقاومة، وربما كان هذا هو القانون العام. وإذا ما عجز العلوي عن جذب السفلي إليه فإنه يخدره، كما يشل الإنسان مقاومة الحيوانات الدنيا. وكذلك الناس يفرض بعضهم على بعض مثل هذه القوى الخفية. ما أكثر ما حقق الأستاذ الحق بنفوذه كل أقاصيص السحر! وكأن نهرا من التسلط يتدفق من عينيه نحو كل من ينظر إليه، أو فيضا من الضوء القوي الحزين، كأنه الأوهايو أو الدانوب، يغمرهم بفكره، ويلون الحوادث كلها بلون عقله. سئلت زوجة كونسيني فيما يتعلق بمعاملتها لماري مدايسي: «أية وسيلة اتخذت؟» فأجابت: «ذلك النفوذ الذي يملكه كل عقل قوي ويتسلط به على العقل الضعيف.» ألا يستطيع قيصر المكبل بالحديد أن ينزع الحديد من يديه لينقله إلى شخص هبو أو ثراسو السجان؟ وهل الأصفاد الحديدية قيد ثابت لا ينحل؟ هب أن تاجرا من تجار الرقيق على ساحل غينا استصحب على ظهر السفينة عصابة من الزنوج تتضمن أشخاصا من طراز توسان لوفريتر، أو دعنا نتخيل أنه تحت هذه الأقنعة القاتمة يأتي بعصابة من أمثال واشنطن في السلاسل. فهل عندما يبلغون كوبا يكون نظام رفاق السفينة كما هو؟ أليس هناك غير الحبال والحديد؟ أليس هناك حب واحترام؟ أليس هناك قبس من الحق في عقل قائد الرقيق وإن ضعف هذا العقل. وهلا يمكن أن نفترض أن هذه القوى يمكنها أن تفلت أو تنطلق، أو أن تتغلب بأية صورة على جذب بوصة أو بوصتين من حلق الحديد؟
هذه قوة طبيعية، كالضوء والحرارة، والطبيعة كلها تتعاون معها. والسبب في أننا نحس وجود إنسان ما ولا نحس وجود الآخر يسير كسبب الجاذبية. إن الحقيقة هي قمة الوجود، والعدالة تطبيقها على الأمور. وإرادة الأصفياء تتدفق منهم نحو الطبائع الأخرى، كما يتدفق الماء من الإناء الأعلى إلى الإناء الأسفل. وهذه القوى الطبيعية لا يمكن أن تقاوم، شأنها في ذلك شأن القوى الطبيعية الأخرى. إننا نستطيع أن نقذف بالحجر إلى أعلى لحظة في الهواء، ولكن من الحق أن الأحجار كلها سوف تسقط دائما. ومهما ذكرنا من أمثلة السرقات التي لم تلق جزاءها، أو الأكاذيب التي استند إليها إنسان ما، فإن العدالة لا بد أن تسود، ومن مزايا الحق أن يجعل نفسه مصدقا. والشخصية هي هذا القانون الخلقي مشاهدا خلال طبيعة فرد واحد؛ فالفرد بمثابة الحظيرة المسورة. والزمان والمكان، والحرية والضرورة، والحق والفكر، لا تخرج عن نطاقها. وكذلك الكون حظيرة أو فناء محجوز. وكل شيء يوجد في المرء مصبوغا بصبغة روحه، ووفقا لصفاته تراه يلون كل ما تصل إليه يداه من الطبيعة، وهو كذلك لا يميل إلى أن يضل في الفضاء، ولكن نظراته تعود في النهاية إلى مصلحته، مهما طال مداها. إنه يبعث الروح في كل ما يستطيع، وهو لا يرى إلا ما يبعث فيه الروح. إنه يجعل العالم أساسا ماديا لشخصيته ومسرحا لنشاطه، كما يجعل المحب لوطنه بلاده مجال نشاطه.
إن النفس السليمة تتحد مع كل ما هو عادل وصادق، كما يتصل المغناطيس بالقطب، فتراها تبدو لكل من يشاهدها كالجسم الشفاف بينه وبين الشمس، ومن يتجه إلى الشمس يتجه صوب ذلك الشخص. ولذا فهو الوسيط ذو الأثر الأكبر لكل من ليس في مستواه. إن الرجال ذوي الشخصيات هم ضمير المجتمع الذي ينتمون إليه.
والمقياس الطبيعي لهذه القوة هو مقاومة الظروف. والرجال الناقصون ينظرون إلى الحياة كما تتمثل في الآراء والحوادث والأشخاص، ولا يستطيعون أن يروا العمل حتى يتم. ومع ذلك فإن العنصر المعنوي لهذا العمل كان موجودا من قبل، وصفته من حيث الصواب والخطأ كان من اليسير التنبؤ بها. كل شيء في الطبيعة له طرفان: أحدهما إيجابي والآخر سلبي؛ فهناك الذكر والأنثى، والروح والأمر الواقع، والشمال والجنوب. والروح هي الموجب، والحادث هو السالب. الإرادة هي القطب الشمالي، والعمل هو القطب الجنوبي. ويمكن أن تتخذ الشخصية مكانتها الطبيعية في الشمال. إنها تشارك هذا النظام تياراته المغناطيسية. أما الأرواح الضعيفة فتنجذب نحو القطب الجنوبي أو السلبي. إنها تنظر إلى العمل من حيث منفعته أو ضرره، وهي لا ترى المبدأ حتى يتمثل في إنسان. وهي لا تحب أن تكون فاتنة، ولكنها تحب أن تعشق.
إن أصحاب الشخصيات يحبون أن يسمعوا عن أخطائهم، أما الفئة الأخرى فلا تحب أن تسمع عن أخطائها. إنهم يعبدون الحوادث، وينسبون إليها الحقائق، والروابط، وسلسلة الظروف. ولا يطلبون أكثر من ذلك. أما البطل فيرى الحادث أمرا ثانويا، لا بد أن يكون تابعا له. وليس لنظام معين من الحوادث قوة تجلب إليه الرضا الذي ينسبه إليه خياله. إن روح الخير تفر من كل مجموعة منظمة من الظروف، في حين أن السعادة تتعلق بعقل معين، وتدخل في أي نظام من نظم الحوادث تلك القوة وذلك النصر؛ لأنهما من ثمارها الطبيعية. إن تغير الظروف لا يمكن أن يصلح عيبا من عيوب الشخصية. إننا نفخر بتحررنا من كثير من الخرافات، بيد أنا إذا كنا قد حطمنا صنما من الأصنام، فإن ذلك إنما كان لانتقالنا إلى عبادة صنم آخر. إذا كنت لا أضحي اليوم بعجل لجوف، أو لنبتيون، أو بفأر لهكيت، أو لا أرتعد أمام يومنديز، أو المطهر الكاثوليكي، أو يوم الحساب عند كلفن، فما جدواي من ذلك إذا كنت أتزلزل للرأي، أو الرأي العام كما نسميه، أو أخشى التهديد بالهجوم، أو التعيير، أو جيران السوء، أو الفقر، أو التشويه، أو إشاعة الثورة، أو القتل؟ إذا كنت أتزلزل، فليس يهم ما أتزلزل له. إن رذيلتنا الأصيلة تتشكل على صورة ما، وفقا للجنس أو السن أو المزاج الشخصي، وإذا كان لدينا استعداد للخوف، فإنا سرعان ما نجد ما يفزعنا. إن الشهوة أو العداوة التي تحزنني هي من نفسي، حتى إن عزوتها إلى المجتمع. إنني دائما محاط بنفسي. والاستقامة من ناحية أخرى نصر دائم، لا نحفل بها بصيحات السرور، ولكن بالرصانة، وهي سرور ثابت أو مألوف. ومن العار أن نطير إلى الحوادث لكي نعزز صدقنا وقيمتنا. إن صاحب رأس المال لا يهرع كل ساعة إلى سمسار لكي يحول أرباحه إلى العملة السائدة في البلاد، وإنما يكفيه أن يقرأ في أنباء السوق أن بضاعته قد ارتفعت أثمانها. والطرب عينه الذي يدخله في نفسي وقوع خير الحوادث في خير نظام، يجب أن أتعلم كيف أتذوقه أشد صفاء بإدراكي أن مركزي يتحسن كل ساعة، ويسيطر بالفعل على تلك الحوادث التي أشتهي. ولا يفل من هذا الجذل إلا أن نتوقع للأشياء نظاما يبلغ من الامتياز حدا يجعله يلقي كل أسباب سعادتنا في أعمق الظلال.
وعندي أن الوجه الذي تبدو فيه الشخصية هو الاكتفاء الذاتي. إنني أحترم الرجل الثري، فلا أتصوره وحيدا، أو فقيرا، أو منفيا، أو شقيا، أو طالبا، ولكني أتصوره نصيرا لغيره دائما، نافعا، موفقا في حياته. الشخصية تركيز، ويستحيل عليها أن تتزحزح ليحل محلها شيء آخر أو أن تنقلب. ينبغي أن يعطينا الرجل الإحساس بأنه كتلة ثقيلة.
الجماعة طائشة مستهترة، وتمزق يومها إربا إربا، وتنفق حديثها في ذكر الحفلات وأسباب الهروب من النفس. ولكني إن توجهت لمقابلة رجل عبقري، فإني أحسب لقائي فاترا إذا هو قدم إلي ألوانا من العطف الرقيق والمجاملة. وخير لي أن أراه واقفا في مكانه راسخا كالطود، ويثير في الرعب، على الأقل من مقاومته. وأحب أن أعلم أني التقيت برجل ذي صفة فريدة موجبة. إن في ذلك إنعاشا عظيما لي وله، وليس قليلا أنه لا يقبل الآراء والعادات التقليدية. إن هذا التفرد في شخصه سيبقى دائما حافزا ومذكرا، وعلى كل سائل أن يعرف كيف يتصرف معه أولا. كل أمر واقعي أو نافع فيه مجال للنضال. إن بيوتنا ترن بالضحك، ويتردد فيها اللغط بالحديث الشخصي والنقدي، وليس في ذلك ما يعين إلا القليل. أما الرجل المستوحش الذي لا يتيسر بلوغه، الذي يعد في المجتمع مشكلة وتهديدا، والذي لا يسع المجتمع أن يجعله يمر وهو صامت، وإنما لا بد له من أحد أمرين، فإما أن يقدسه أو يمقته، الرجل الذي تحس الأحزاب كلها أنها تنتمي إليه، سواء في ذلك قادة الرأي والرعاع والشواذ، هذا الرجل يصدر عنه العون. إنه ينسب الخطأ إلى أوروبا وأمريكا، ويهدم رأي المتشككين الذي يزعم «أن الرجل دمية، فلنتناول طعامنا وشرابنا، فهو خير ما نستطيع أن نفعله»، وذلك بإلقائه الضوء على غير المطروق والمجهول. إن الخضوع للأمر القائم، والرجوع إلى الجمهور، إنما يدل على إيمان ضعيف، وعلى رءوس غير صافية، رءوس لا بد لها أن تشهد البيت قائما قبل أن تستطيع إدراك تصميمه. إن الرجل الحكيم لا يبعد عن ذهنه الكثرة فحسب، ولكنه يبعد عنه القلة كذلك . إن الينابيع، وكل من يتحرك من نفسه، ويستغرق في ذاته، ويأمر لأنه يأتمر، والواثق من نفسه، والمبتدع، كل أولئك خير؛ لأنهم يدلون لتوهم على وجود قوة عليا.
إن أعمالنا يجب أن تقوم على أساس مادتنا بحساب رياضي دقيق، فإن الطبيعة ليس فيها تقديرات خاطئة، وليس في رطل من الماء المحيط الخضم من الجاذبية أكثر مما في هذا الوزن من الماء في بركة من الماء في منتصف فصل الصيف. كل شيء يسير وفقا لطبيعته وكميته تماما، ولا يحاول شيئا لا يستطيعه، اللهم إلا الإنسان وحده. إنه مدع، يريد أمورا فوق طاقته ويحاولها. قرأت في كتاب يحوي مذكرات إنجليزية: «قال مستر فوكس (لورد هولاند فيما بعد): يجب أن أحصل على الكنز؛ فقد جاهدت في سبيل الحصول عليه، ولا بد لي من الظفر به.» إن زينفون ورجاله العشرة آلاف كانوا متكافئين تماما مع ما حاولوا، فقاموا بأدائه. كانوا جد متكافئين معه، فلم يحسب أحد أنه عمل جليل أو لا يبارى. ومع ذلك فإن هذه الحقيقة لم يتكرر حدوثها، وهي نقطة بارزة في التاريخ الحربي. وكم من الناس حاول هذا العمل بعدئذ، ولم يكن له كفئا. إن قوة العمل لا يمكن أن تستند إلا على الأمر الواقع. إن المؤسسة لا يمكن أن تكون خيرا من مؤسسها.
عرفت رجلا محببا مهذبا تعهد بإصلاح عملي، ولكني مع ذلك لم أستطع قط أن ألمس في شخصه مشروع الإصلاح الذي تناوله. إنه اتخذه بالسماع وبتفهمه من الكتب التي كان يطالعها. كل عمل قام به كان تجريبيا، أو قطعة من المدينة سيقت إلى المزارع، ولكنها ما برحت مدينة، ولم تنقلب حقيقة أخرى، ولم تستطع أن توحي بالحماسة. ولو كان عند الرجل شيء كامن، لو كانت لديه عبقرية رائعة لم يبدها، تؤثر في سلوكه وتوجهه، لترقبنا ظهورها. وليس يكفي أن يرى العقل الشرور وعلاجها. إننا بذلك لا نزال نرجئ وجودنا، ولا نقف على الأرض التي يحق لنا أن نستقر فوقها، ما دامت الفكرة - دون الروح - هي التي تسيرنا. إننا لم نعمل بعد وفقا لوحيها.
هذه الصفات من خواص الحياة. ومن الخواص الأخرى ملاحظة النمو المطرد. يجب أن يكون الناس أذكياء جادين. ويجب عليهم كذلك أن يجعلونا نحس أن لديهم مستقبلا سعيدا ذا نفوذ، ينبسط أمامهم، وتضيء بالفعل تباشير نوره في الساعة الراهنة. إن البطل يساء فهمه وتساء رواية حديثه؛ ولذا فإنه لا يستطيع أن ينتظر لكي يكشف عن أخطاء أي إنسان، إنه في طريقه مرة أخرى، يضيف قوى جديدة وتكريما جديدا للمجال الذي يصول فيه، ويكلفك إزاءه واجبات جديدة، تفلس نفسك، إذا أنت تلكأت عند الأشياء العتيقة، ولم تحافظ على صلتك به، باستزادتك لثروتك. إن الأعمال الجديدة هي وحدها التي تبرر وتفسر الأعمال البالية، التي يطيق النبلاء القيام أو التأثر بها. إذا أساء إليك صديق، فإنك لا تجلس لكي تتدبر الأمر؛ لأنه ينسى ذكر ما حدث ويضاعف قوته لخدمتك، وقبل أن تنهض ثانية تراه يثقل كاهلك بخيراته.
لا يسر المرء أن يفكر في الخير الذي لا يقاس إلا بأعماله. إن الحب لا ينفد، وإذا ما تلاشت ضيعته، وفرغت مخازن غلاله، فإنه برغم ذلك يدخل على النفوس البهجة والغنى، والرجل - وإن استغرق في النوم - يظهر كأنه ينقي الهواء، وكأن بيته يجمل مناظر الطبيعة ويقوي قانونها، والناس دائما يدركون هذه المفارقة. إننا نعرف رجل الخير بوسيلة تختلف جد الاختلاف عن مقدار ما يتبرع به لجمعيات البر. إنما المزايا الوضيعة هي التي يمكن تعدادها. ولتخش حينما يذكر لك أصدقاؤك ما أحسن صنعه، ويذكرون كل شيء. ولكنهم حينما يقفون وعليهم سيما الانكماش والتردد في التقدير وشيء من الكراهية، وحينما يرجئون حكمهم لعدة سنوات مقبلة، حينئذ تستطيع أن تشرع في الأمل.
إن أولئك الذين يعيشون للمستقبل لا بد أن يظهروا دائما محبين لأنفسهم في أعين أولئك الذين يعيشون للحاضر؛ ولذا فإنه مما يبعث على الضحك في الرجل الطيب «ريمر» الذي كتب مذكرات جيته أن يعد قائمة بعطاياه وأعماله الطيبة، كذكره أن مئات من الدراهم قد وهبت لستلنج وهجل وتشبين، وإن عملا مدرارا قد عهد به إلى الأستاذ فوس، وأنه أوجد وظيفة لنهردر عند الدوق العظيم، ومعاشا لماير، وأنه رشح أستاذين للجامعات الأجنبية، إلى غير ذلك. إن أطول قائمة من المنافع المخصصة تبدو قصيرة جدا. وما أفقر الإنسان من مخلوق، إذا قيس كذلك؛ لأن هذه كلها بالطبع أمور استثنائية، والقاعدة في حياة الرجل الطيب والمألوف فيها هي فعل الخير. والبر الصادق من جيته يعرف من القصة التي أملاها الدكتور أكرمان، عن الطريقة التي أنفق بها ثروته: «كل عبارة طريفة مني كلفتني كيسا من الذهب. إن نصف مليون من مالي، والثروة التي ورثت، وراتبي، والدخل الكبير الذي ربحته من مؤلفاتي لخمسين عاما خلت، كل ذلك قد أنفق في سبيل معرفتي ما أنا اليوم عالم به. وقد رأيت غير ذلك ... إلخ.»
وإني أقر أنه من لغط القول والحديث أن أعدد صفات هذه القوة الساذجة الخاطفة، فإنا بذلك نكون كمن يصور البرق بالفحم. ولكني أحب أن أتسلى بهذه الطريقة في هذه الليالي المحلولكة وهذه الأيام الفارغة. ليس هناك ما يمكنه أن يحاكي هذه القوة. إن كلمة حارة تصدر عن القلب تغنيني. وإني أستسلم لها بمشيئتي، والعبقرية الأدبية إزاء نار الحياة هذه باردة كالموت، وهناك من اللمسات ما يبعث الحياة في روحي الثقيلة، ويمنحها الأعين التي تخترق ظلمات الطبيعة. وإني لأجد أني في غاية الثراء حيثما كنت أحسبني فقيرا. ويترتب على ذلك سمو عقلي، يقلل من شأنه في فترة أخرى وجه جديد من أوجه الشخصية. ما أعجب هذا التبادل بين الجذب والتنافر! إن الشخصية تنبذ العقل، ولكنها تثيره، وهي كذلك تتحول إلى فكر، وتبدو في صورته، ثم ينطفئ نورها أمام الوميض الجديد للقيمة الخلقية.
الشخصية هي الطبيعة في أعلى صورها، ومن العبث أن يقلدها أو أن ينازعها أحد؛ فهي قوة لديها شيء من المقاومة، ومن الإصرار، ومن القدرة على الإبداع، مما يحبط كل محاولة لمحاكاتها.
هذه التحفة النادرة تكون على خير صورة حينما لا تمسها يد غير الطبيعة. ويراعى أن أصحاب المصائر العظمية ينسلون إلى الحياة في الظلال، فلا ترقب ولا تهلل أثينا ذات الأعين الألف لكل فكرة جديدة ولكل عاطفة ملتهبة من عواطف الشباب النابغ. أتاح لي فرصة التفكير أخيرا شخصان، وكلاهما من أيفاع الإله العلي القدير. ولما اكتشفت مصدر قداستهما، وسحر ما أوحيا من خيال، بدا لي كأن كلا منهما أجاب بقوله: «ذلك من نشازي؛ فإني لم أستمع قط إلى ناموس قومكم، أو لما يسمونه إنجيلهم، فأضيع بذلك وقتي، ولكني قنعت بفقري الساذج الريفي الخاص. ومن ثم كانت هذه العذوبة. إن عملي لا يذكرك بذلك قط، إنه خلو من ذلك.» وتعلن لي الطبيعة في شخص هذين الرجلين أنها لن تتصف بالديمقراطية في أمريكا الديمقراطية. ما أبعد تكوينهما - وما أشد عزلتهما - عن اضطراب السوق وعن الفضيحة! وفي هذا الصباح فقط بعثت ببضع زهور حوشية من آلهة الغابات هؤلاء. إن فيهم ترفيها عن الأدب، هذه الجرعات السائغات من ينابيع الفكر والعاطفة، فكأننا نقرأ في عصر الصقل والنقد الأسطر الأولى من النثر والنظم المكتوب لأمة من الأمم. ما أشد ما يفتن المرء في إخلاصهم للكتب التي يؤثرون، سواء كانت لإيسكلس أو دانتي أو شكسبير أو سكت، فهم يشعرون أن لهم في هذا الكتاب أو ذاك ضلعا؛ فمن يمس الكتاب يمسهم، وبخاصة العزلة التامة للناقد، أو برج الفكر الذي يكتب منه، لا يحس بالعيون التي قد تقرأ هذه الكتابة. هل يستطيعون بعد ذلك أن يحلموا كالملائكة ولا يتيقظون للموازنات، ولما يقوله المنافقون لهم! ومع ذلك فإن من الطبائع ما يطيب فلا يفسدها الثناء، وكلما بلغ وتر التفكير الأعماق، فليس ثمت خطر من الغرور. إن الأصدقاء الموقرين يحذرونهم من خطر انقلاب الرأس من أثر دق الطبول، بيد أنهم يستطيعون الابتسام.
أذكر سخط رجل فصيح من طائفة «النظاميين» من التحذير الرقيق الذي ألقاه دكتور في اللاهوت، وذلك حينما قال الرجل: «إن الرجل - يا صاح - لا يمكن أن يثنى عليه أو يساء إليه.» ولكن علينا أن نتسامح في النصائح، فهي طبيعية جدا. وأذكر أن الفكرة التي طرأت لي حينما أتى إلى أمريكا رجال غرباء عنها عباقرة روحانيون، أذكر أن تلك الفكرة كانت: هل وقعتم فريسة بحضوركم إلى هنا؟ بل - وقبل هذا - أجيبوني عن هذا السؤال: «هل يمكن لأحد أن يفترسكم؟»
وكما قلت من قبل إن الطبيعة تحتفظ بين يديها بهذه الميزات الكبرى، ومهما زعمت خطتنا الدينية وتربيتنا أن لها نصيبا من الفضل، ومهما علمتنا أن النواميس تشكل المواطن، فإن الطبيعة تسير سيرتها، وتخطئ أحكم الحكماء. إنها تستخف بالأناجيل والأنبياء، كرجل لديه الكثير مما يستطيع أن ينتج، وليس لديه من الوقت فسحة لشيء منه.
هناك طائفة من الناس، يظهر منها أفراد في فترات متباعدة، وهبوا بدرجة عظيمة البصيرة والفضيلة، فأجمع الناس على تلقيبهم ب «المقدسين»، وهم يبدون كأنهم تجمع لهذه القوة التي ذكرناها. إن الأشخاص المقدسين يولدون شخصيات ممتازة، أو إذا استعرنا تعبير نابليون قلنا إنهم النصر المنظم. والناس يستقبلونهم عادة بنية سيئة، لجدتهم، ولأنهم يضعون حدا للمبالغة التي أحاطت بشخصية الرجل المقدس الذي سبقهم. إن الطبيعة لا تخلق أبناءها على غرار واحد، ولا تشابه قط بين رجلين. إننا حينما ننظر إلى رجل عظيم نتصور شبها بينه وبين شخصية تاريخية أخرى، ونتنبأ بما يصدر عن شخصه وما أصابه، بيد أن النتيجة حتما تخيب آمالنا. ولا يستطيع أحد البتة أن يحل مشكلة شخصية وفقا لأهوائنا، إلا بأسلوبه العالي الذي لم يسبقه إليه أحد. إن الشخصية تحتاج إلى فسحة من المكان، ولا ينبغي أن يزاحمها آخرون، أو أن يحكم عليها بنظرات خاطفة نرسلها ونحن تحت تأثير ما نضطرب فيه من أعمال أو في مناسبات قليلة. إنها تحتاج في الحكم عليها إلى الابتعاد عنها، كأنها البناء الشامخ، وهي ربما لا تسارع في إنشاء الصلات بينها وبين غيرها، والأرجح ألا تفعل ذلك. ويجب علينا ألا نتطلب لأعمالها تفسيرا عاجلا، وفقا لمعاييرنا الخلقية، أو للقواعد الخلقية الشائعة.
إنني أنظر إلى التماثيل المنحوتة باعتبارها من التاريخ، ولا أحسب أن تمثال أبولو وجوف يستحيل أن يكونا لحما ودما. كل صفة سجلها الفنان في الحجر سبق له مشاهدتها في الحياة، وهي في الأصل خير منها في محاكاته. رأينا كثيرا من الزيف، ولكنا ولدنا مؤمنين بعظماء الرجال. وما أسهل ما نقرأ في الكتب القديمة - حينما كان الرجال قلائل - عن أدنى أعمال الآباء الأولين. إننا نتطلب في الرجل أن يكون ضخما بارزا في هيئته حتى يستحق أن نذكر عنه أنه نهض وتمنطق وارتفع إلى مكانته. إن أقرب الصور إلى التصديق هي صور الرجال الأجلاء الذين ساروا عند مدخلهم وأشبعوا حواس غيرهم، كما حدث للمجوسي الشرقي الذي بعث لكي يختبر مزايا زرادشت، ولما وصل الحكيم اليوناني إلى بلخ - كما يحدثنا الفرس - عين جشتاسب يوما يجتمع فيه «الموبد» من كل بلد، وقد أعد مقعد ذهبي للحكيم اليوناني، ثم تقدم حبيب يزدام، النبي زرادشت، وسط الاجتماع. ولما رأى الحكيم اليوناني هذا السيد قال: «إن صاحب هذه الصورة وهذه المشية لا يمكن أن يكذب، ولا يمكن أن يصدر عنه إلا الصدق.» وقال أفلاطون: من المستحيل ألا نؤمن بأنباء الآلهة، حتى إن تكلموا بمنطق غير محتمل وغير ضروري. وإني أعد نفسي شقيا جدا بين رفاقي إذا لم أستطع أن أقدر خير ما في التاريخ. يقول ملتن: «إن جون برادشو يبدو كالقنصل الذي لا يتخلى عن عصا الحكم بانقضاء العام؛ ولذا فإنك تنظر إليه وكأنه قائم على حكم الملوك، لا في يوم الحكم وحده، ولكن خلال حياته كلها.» وإنه لأقرب إلى الصدق عندي أن يعرف الرجل الواحد السماء - كما يقول الصينيون - ما دامت هذه المعرفة سابقة، من أن يعرف الدنيا عدد من الرجال عديد. إن الأمير الفاضل يجابه الآلهة دون أن تخامره الشكوك، وهو ينتظر مائة جيل حتى يأتي حكيم، دون أن يشك. ومن يجابه الآلهة دون ارتياب يعرف السماء، ومن ينتظر مائة جيل حتى يأتي حكيم، دون أن يشك، يعرف الناس. ومن ثم فإن الأمير الفاضل يسير، ويدل دولته على الطريق عدة أجيال. ولكن ليست بنا حاجة إلى التماس الأمثلة البعيدة. والرجل الذي لا تعلمه تجاربه حقيقة السحر وقوته كما تعلمه حقيقة الكيمياء وقوتها أعمى البصيرة. إن أشد الحنابلة تزمتا لا يستطيع أن يرحل إلى الخارج دون أن يقابل مؤثرات لا يستطيع تفسيرها؛ فقد يحدق فيه إنسان فتخرج مقابر ذاكرته موتاها، ولا مناص له من أن يفشو الأسرار التي تسبب له الشقاء إما بكتمانها أو إفشائها. ثم يلتقي بآخر، فيرتج عليه، وكأن عظامه تفقد غضاريفها. إن دخول صديق يزيده جلالا وجرأة وفصاحة، ولا يسعه إلا أن يذكر أن هناك أشخاصا وسعوا من فكره سعة لا يتصورها العقل، وأشعلوا في صدره حياة أخرى.
وهل هناك ما يبلغ في الروعة علاقات المودة حينما تصدر عن هذا المنبع العميق؟ إن الإجابة الكافية للمتشكك الذي يرتاب في قدرة الإنسان وإعداده هي في إمكان هذا الاتصال السار مع الناس، وهو ما يخلق الإيمان ومجال العمل عند كل إنسان عاقل. ولست أعرف شيئا مما تمنحه الحياة فيرضي النفس مثل التفاهم الحسن العميق، الذي يمكن أن يقوم بعد كثير من تبادل الخدمات الطيبة، بين رجلين فاضلين، كل منهما واثق من نفسه وواثق من صاحبه. إنها سعادة تفوق كل سبب آخر من أسباب رضى النفس، وتقلل من شأن السياسة والتجارة والكنائس؛ لأن الناس عندما يتقابلون كما ينبغي لهم، كل منهم فاعل خير، وكأنهم ثريات من الفكر والعمل والتهذيب، يكون ذلك عيدا للطبيعة يعلنه كل شيء. والحب الجنسي في مثل هذه الصداقة هو الدليل الأول، كما أن الأشياء الأخرى جميعا دلائل حب، وهذه الصلات بخيار الناس التي حسبناها في وقت ما قصص الشباب الخيالية، تصبح بتطور الشخصية أقوى المتع.
آه لو أمكن أن يعيش المرء على صلات صحيحة بالناس! وآه لو استطعنا أن نمتنع عن أن نطلب أي شيء منهم، أو أن نطلب ثناءهم، أو معونتهم، أو شفقتهم، ونقنع بإرغامهم بفضل ما في أقدم القوانين من مزايا! هلا نستطيع أن نتعامل مع أفراد قلائل - بل مع فرد واحد - طبقا للسنن غير المكتوبة، ونختبر تأثيرهم؟ هلا نستطيع أن نقدم لصاحبنا تحية الصدق والصمت والاحتمال؟ وهل لا بد لنا من التحمس للبحث عنه؟ إذا كانت بيننا صلة فسوف نلتقي. كان من تقاليد العالم القديم أن تطور الظروف لا يمكن أن يخفي إلها عن إله، وهناك بيت من الشعر الإغريقي يقول:
لا يجهل الآلهة بعضهم بعضا .
والأصدقاء يتبعون كذلك قوانين الضرورة الإلهية، يجذب أحدهم الآخر، ولا يسعهم إلا هذا:
إذا اجتنب الناس بعضهم بعضا
استمتع كل امرئ بأخيه.
إن الصلة بين الصديق والصديق لا تخلق، ولكنها تيسر. يجب على الآلهة أن يأخذوا مقاعدهم بغير وسيط فوق الأولمب، وأن يضعوا أنفسهم ما استطاعوا وفقا لدرجاتهم في التقديس. إن المجتمع يفسد إذا تكلفنا أو إذ التقى الرفاق على بعد ميل بينهما. وإذا لم يكن مجتمعا فهو ضجيج خبيث وضيع منحط، حتى إن كان من خيار الناس. إن عظمة كل منهم كلها تحتبس، وتنشط كل نقيصة بدرجة مؤذية، كأن أهل الأولمب يلتقون لتبادل النشوق.
إن الحياة تسير قدما، ونحن نطارد فكرة عابرة، أو يطاردنا خوف أو أمر من ورائنا. أما إذا التقينا فجأة بصديق فإننا نقف، ويبدو لنا سخف حرارتنا وتعجلنا، فالآن نحتاج إلى الوقوف، وإلى التملك، وكذلك إلى القدرة على الإفادة في اللحظة الراهنة مما يكنه القلب من مصادر الثروة. إن اللحظة الراهنة هي كل شيء، في جميع العلاقات النبيلة.
الرجل المقدس نبوءة العقل، والصديق أمل القلب. وإنما يبلغ المرء منتهى الغبطة إذا تحقق هذان في رجل واحد. والعصور تفتح هذه القوة المعنوية. وكل قوة ظل أو رمز لها. والشعر بهيج قوي؛ لأنه يستمد وحيه منها. ويكتب الناس أسماءهم في الدنيا بمقدار ما لديهم منها. كان التاريخ شحيحا، وأممنا جماهير، ولم نر قط رجلا: تلك الصورة المقدسة لم نعرفها بعد، وإنما نعرف حلما منها أو نبوءة. إننا لا نعرف الصفات الجليلة التي تتصف بها، التي تهدئ الرائي وتسمو به. ولسوف نرى يوما أن أخص الطاقات أعمها، وأن النوع يكفر عن الكم، وأن جلال الشخصية يعمل في الظلام، ويعين من لم يره قط. وما ظهر حتى الآن من عظمة إنما هو بداية وتشجيع لنا في هذا الاتجاه.
إن تاريخ أولئك الآلهة والقديسين الذي دونه العالم، ثم عبده، إنما هو وثائق تدل على الشخصية. لقد ابتهجت العصور بآداب شاب لم ينل من الحظ شيئا، وقد شنق تحت مقصلة بلاده، شاب ألقى بمجرد نوع طبيعته جلالا مسرحيا حول وقائع موته التي حولت كل دقيقة إلى رمز عالمي أمام أعين البشر. هذه الهزيمة الكبرى هي أعظم الوقائع لدينا حتى اليوم. بيد أن العقل يتطلب نصرا للحواس، أو قوة شخصية تحول القاضي والمحكم والجندي والملك، قوة تتحكم في خواص الحيوان والمعادن، وتختلط بمسير عصارة النبات، والأنهار، والرياح والنجوم، والقوى المعنوية.
وإذا لم نستطع أن نبلغ طرفا من هذا الجلال، فدعنا على الأقل ندين له بالولاء.
إن المزايا العظمى - في المجتمع - تحسب على صاحبها مثالب. ويتطلب الأمر منا عناية كبرى في تقديرنا الخاص. وأنا لا أعفو عن أصدقائي إذا هم فشلوا في معرفة الشخصية الرقيقة، وفي تحيتها بالكرم وعرفان الجميل. إننا إذا جاءنا في النهاية ما كنا نتمنى دائما، وأشرق علينا بأشعة بهيجة من تلك البقعة السماوية البعيدة، إننا إذا جاءنا ذلك وكنا بعدئذ جافين أو ناقدين، وعاملنا هذا الزائر بثرثرة الطرقات وريبتها، برهنا على سوقية تكاد تغلق أبواب السماء. إنما هذا خلط، وجنون تام، إذا كانت الروح لا تعرف قدرها. ولا تعرف من هو الجدير بولائها وإيمانها. وهل هناك دين غير أن يعرف المرء أن العاطفة المقدسة التي يعزها حينما تفتحت زهرتها في بيداء الوجود إنما تتفتح له؟ إذا كان لا يراها أحد، فهو يراها. وهو يدرك عظمة هذه الحقيقة، حتى إن كان في ذلك وحيدا. وطالما تكون الزهرة يانعة فإنه يجعل أيامه دينية وزمانه مقدسا. ويرجئ كآبته وحماقته وهزله. إن الطبيعة تنهمك في وجود هذا الضيف. وهناك أعين كثيرة تستطيع أن تتبين الفضائل الحكيمة المألوفة وتكرمها. وهناك كثيرون يستطيعون أن يفطنوا إلى العبقري وهو يسير في طريقه المرصع بالنجوم، حتى إن عجزت عن ذلك الجماهير، ولكن عندما تأتي إلى طرقاتنا وبيوتنا تلك المحبة التي تتحمل العناء، وتنكر الذات وتسمو في الطموح، وتؤثر لنفسها الشقاء والحماقة في هذه الدنيا، على أن تلوث يديها البيضاوين بالإذعان والخضوع، حينئذ لا يعرف وجهها إلا الأصفياء الطموحون، والتحية الوحيدة التي يستطيعون تقديمها هي الاعتراف بها.
الآداب
ما أقرب الجمال من الخير!
إنا لا نكاد نراه
حتى تذهل حواسنا
بتخطيطه وصورته الظاهرة. •••
أصلحوا أنفسكم،
واكتسوا بكل جمال
يستطيع اللون أو التناسب
أن يضفيه على أجسامكم.
فإن فقدتم هذه الفنون الصامتة
من رسوم وصور
فقد تحتاجون إلى صفات أخرى
يميزها سمو الإحساس باحترام النفس والكرامة
اللذين تلقاهما في الحركات الصادقة.
بن جونسن
يقال إن نصف العالم لا يعرف كيف يعيش النصف الآخر، ولقد رأى رجال حملتنا الكشفية أهل جزيرة فيجي يتناولون عشاءهم من العظام البشرية، وقيل إنهم يأكلون زوجاتهم وأطفالهم. والاقتصاد المنزلي عند سكان جورنو المحدثين (غربي طيبة القديمة) فيه فلسفة خاطئة. إعداد المنزل عندهم لا يتطلب سوى إناءين أو ثلاثة من الخزف، وحجر لطحن الطعام، وحصيرة هي الفراش. والبيت وهو المقبرة، مستعد، لا يدفع عنه صاحبه أجرا أو ضريبة. لا تتسرب إليه مياه الأمطار من السقف، وليس له باب؛ إذ ليست إليه حاجة، فليس هناك ما يخشى ضياعه، فإذا ضاقوا ذرعا ببيوتهم خرجوا منها ودخلوا غيرها؛ إذ إن تحت تصرفهم مئات عديدة. ويضيف إلى ذلك بلزوني الذي ندين له بهذا الوصف: «إن الكلام عن السعادة فيه شيء من الغرابة بين قوم يعيشون في القبور بين الجثث والخرق التي خلفتها أمة قديمة لا يعلمون عنها شيئا.» وفي صحاري بورجو لا يزال قوم «تبو» الجبليون يعيشون في الكهوف كالسنونو الجبلي، ولغة هؤلاء الزنوج يشبهها جيرانهم بصراخ الوطاويط وشقشقة العصافير، ثم إن أهل برنو لا يتسمون بأسماء الأعلام، إنما يسمى الأفراد بارتفاعهم أو بدانتهم أو أية صفة عارضة أخرى، وليست لهم إلا أسماء مستعارة. غير أن الملح والبلح والعاج والذهب التي من أجلها يرتاد الرحالة هذه المناطق المرعبة تجد سبيلها إلى بلاد من العسير أن تسوي المشتري والمستهلك فيها بهذا الجنس الذي يأكل لحوم البشر ويسرق الآدميين، بلاد يخدم الناس فيها أنفسهم بالمعادن والأخشاب والحجر والزجاج والصمغ والقطن والحرير والصوف، ويكرم الناس فيها أنفسهم بفن البناء، ويسنون القوانين، ويحاولون تنفيذ إرادتهم بأيدي أمم كثيرة، وهم ينشئون - بنوع خاص - طبقة ممتازة، تجدها شائعة في كل بلد به رجال أذكياء، وهي أرستقراطية قائمة بذاتها، أو أخوة بين الخيار، تخلد نفسها بغير قانون مدون أو عادة محكمة من أي نوع، وتستعمر كل جزيرة حديثة الزراعة، وتتخذ لنفسها - وتصنع - أي ضرب من ضروب الجمال أو أية صفة عجيبة قومية ممتازة حيثما ظهرت.
أية حقيقة في التاريخ الحديث أشد بروزا من خلق الرجل المهذب؟ إن الفروسية هي ذاك، والإخلاص هو ذاك. ونصف المسرحيات وكل الروايات في الأدب الإنجليزي من سر فيليب سدني إلى سر والتر سكت يصور هذه الشخصية. إن لفظة الرجل المهذب «الجنتلمان» التي ينبغي منذ اليوم - كلفظ المسيحية - أن تميز هذا القرن والقرون القليلة القادمة، نظرا للأهمية التي تعزى إليها، هذه اللفظة تشير إلى بعض الخصائص الشخصية التي لا يمكن انتقالها. لقد ارتبطت بهذه الكلمات صفات طائشة خيالية، إلا أن اهتمام الناس الثابت به يجب أن يرد إلى الخواص القيمة التي تتضمنها. إن العنصر الذي يوحد بين جميع الأشخاص الأقوياء في كل البلدان، ويجعلهم متفاهمين على وفاق، عنصر محدد، يحس المرء لأول وهلة إذا كان الفرد لا يتسم بميسمه الذي يشبه الأخوية الماسونية. هذا العنصر لا يمكن أن يكون ثمرة عرضية، ولكنه لا بد أن يكون نتيجة مستخلصة من مميزات الشخصية والصفات التي تتوفر في الرجال. ويبدو أن هذه النتيجة ثابتة معينة، كما أن الجو مركب ثابت، في حين أن كثيرا من الغازات لا تتحد إلا لكي تتحلل. يصف الرجل الفرنسي المجتمع الطيب بأنه «ما ينبغي أن يكون»، إنها ثمرة تلقائية للمواهب والمشاعر التي تتصف بها تلك الطبقة عينها التي يتوفر لديها أكبر قسط من النشاط، وتتزعم العالم في هذه الساعة، وربما كانت هذه الخلاصة بعيدة عن الطهارة، بعيدة عن أن تؤلف أبهج أنغام المشاعر الإنسانية وأعلاها، ولكنها خلاصة طيبة بالمقدار الذي يسمح به المجتمع بأسره. إنها تتألف من الروح أكثر مما تتألف من مواهب الناس، وهي نتيجة مركبة يدخل في تركيبها كل قوة عظمى، كالفضيلة، والفطنة، والجمال، والثراء، والنفوذ.
في كل الكلمات التي تستعمل في التعبير عن الآداب الممتازة والتهذيب الاجتماعي شيء من الإبهام؛ لأن الكميات دائمة التغير، وتفترض الحواس أن الأثر الأخير هو الباعث الأول، ولفظة «جنتلمان» ليس لها معنى يناظرها ويعبر عما تقصد من صفات، وكلمة «جنتلتي» أو الكياسة لفظة وضيعة، كما أن كلمة «جنتلس» أو الرقة لفظة بائدة. غير أنا يجب أن نؤكد الفرق في لغتنا العامية بين «الطراز الجديد» وهي عبارة كثيرا ما يكون معناها ضيقا بغيضا، وبين صفة البطولة التي يعنيها الجنتلمان. ومهما يكن من أمر فإن الكلمات المألوفة يجب أن تحترم؛ فسوف تجد أنها تحتوي على جذور الموضوع. والنقطة البارزة في كل هذه الطائفة من الكلمات، كالمجاملة، والفروسية، والطراز الجديد، وما إليها، هي أننا نتدبر الزهرة والثمرة، دون بذرة الشجرة. إنما هدفنا هذه المرة هو الجمال دون القيمة. وموضع السؤال الآن هو النتيجة، وإن كانت ألفاظنا تشير إشارة كافية إلى الإحساس العام بأن المظهر يفرض وجود المادة.
الجنتلمان رجل صادق، سيد أعماله، ويعبر بمسلكه عن تلك السيادة، بطريقة لا تتوقف البتة على الأشخاص أو الآراء أو الملك، ولا تسير في أثرها. وفوق هذه الصفة - صفة الصدق والقوى الحقيقية - تدل كلمة الجنتلمان على الطبيعة الطيبة والخير، والرجولة أولا ثم الرقة. ومن المؤكد أن الفكرة العامة تضيف إلى ذلك شرط اليسر والثراء، غير أن ذلك نتيجة طبيعية للقوة والمحبة الشخصية، فترى الرجال المهذبين يمتلكون ما في العالم من خير ويتصرفون فيه. كل شخص بارز يجب في أوقات الشدة أن ينتهز كثيرا من الفرص كي يدل على ضخامته وقيمته. ومن ثم فإن كل اسم من أسماء الرجال برز من بين الجماهير في عهود الإقطاع يرن في آذاننا كدق الطبول. ولا يزال هذا سائدا اليوم، وفي الزحام الزاحف من المجتمع الكريم يعرف الرجال البواسل الصادقون، ويرتفعون إلى مكانتهم الطبيعية. وقد تنتقل المنافسة من الحرب إلى السياسة والتجارة، غير أن القوة الشخصية سرعان ما تظهر في هذه الميادين الجديدة.
القوة أولا أو تنعدم الطبقة المتزعمة. وفي السياسة والتجارة نجد أن المقاتلين من أجل الجوائز والقراصنة أشد تبشيرا بالنجاح من المتحدثين والكتاب. ويعلم الله أن كل صنوف الرجال المهذبين يقرعون الباب، ولكن لفظة «الرجل المهذب» إذا استعملت بدقة وجدنا أنها تشير إلى الطاقة الأصيلة. إنها تصف الرجل متمسكا بالحق، ويعمل بوسائل لم يلقنه إياها أحد. إن السيد الكريم يجب أن ينطوي على حيوان كريم، على الأقل إلى الحد الذي يجعله يسفر عن مزايا الروح الحيوانية التي لا تبارى. أما الطبقة الحاكمة فيجب أن تتصف بأكثر من ذلك، ولكنها يجب أن تكون لها هذه الصفات، فيشيعون في كل جماعة الإحساس بالنفوذ، الذي ييسر أداء الأشياء التي تفزع الحكماء. إن مجتمع الطبقة قوية العزم في اجتماعاتها الودية البهيجة، مجتمع مليء بالشجاعة والمحاولات التي يجبن أمامها العالم الشاحب. إن الشجاعة التي تبديها البنات أشبه بمعركة لنديزلين أو بمعركة بحرية. إن العقل يعتمد على الذاكرة يستمد منها ما يواجه به هذه الفرق البحرية المرتجلة. غير أن الذاكرة كالمتسول الوضيع الذي يحمل السلة والشارة في حضرة هؤلاء السادة المفاجئين.
إن حكام المجتمع يجب أن يكونوا أكفاء لعمل الدنيا، ونظراء لواجباتهم المتنوعة: رجالا من الطراز القيصري الصحيح، لهم علاقات بعيدة المدى. وما أبعدني عن الاعتقاد في المبدأ المتخاذل الذي يقول به لورد فوكلند، وهو: «إن الحفل يجب أن يذهب إليه اثنان؛ لأن الرجل الجريء سوف يجتاز أدق امتحان.» ومن رأيي أن الجنتلمان هو الرجل الجريء الذي لا يهزم، ولا يسود حقا إلا تلك الطبيعة الغزيرة التي تتمم أي شخص تتحدث إليه. الرجل المهذب عندي يصدر القانون الذي يسير عليه. إنه يفوق القديسين صلاة في الكنائس، وقواد الجيش المستميتين في الميدان، وهو أشد إشراقا من المتظرفين في القاعات. إنه رفيق طيب للقرصان، وهو يساير رجال العلوم، ولذا فمن العبث أن تحصن نفسك ضده. إنه يملك المدخل الخاص لكل العقول، وإن استطعت أن أفر من نفسي استطعت أن أفر منه.
كان الرجال المهذبون المعروفون في آسيا وأوروبا من هذا الطراز القوي: صلاح الدين وسابور وسيد ويوليوس قيصر وسبيو والإسكندر وبركليز وأعظم الشخصيات سلطانا ونفوذا، كانوا يجلسون في مقاعدهم بإهمال شديد، وكانوا في أنفسهم أعلى من أن يقيموا وزنا لأي موقف من المواقف.
ويحسب الناس في حكمهم العام أن الثراء الطائل أمر لازم لكمال رجل الدنيا هذا، ولكنه تابع مادي يسير في حلبة الرقص التي بدأها الأول؛ فالمال ليس ضروريا، ولكن هذه الصلات الواسعة لازمة، وهي صلات تتخطى العادات الطائفية والمذهبية، وترغم الناس من جميع الطبقات على الإحساس بها. وإذا كان الرجل الأرستقراطي صالحا في الدوائر العصرية فقط، وليس صالحا في الأوساط العادية، فلن يكون زعيما من الطراز الجديد. وإذا كان الرجل من عامة الناس لا يستطيع أن يتحدث إلى «الرجل المهذب» حديث الند للند، حتى يدرك هذا الرجل المهذب أنه فعلا من درجته، فإن هذا الأخير لن يخشى له بأس.
كان ديوجنيس وسقراط وأبا منداس رجالا مهذبين تجري في عروقهم أطهر الدماء، وقد آثروا حالة الفقر، في حين أن حالة الثراء كانت ميسورة لهم كذلك. إنني أستخدم هذه الأسماء العتيقة، ولكن الرجال الذين أتحدث عنهم معاصرون لي. إن القدر لا يمن على كل جيل بواحد من هؤلاء الفرسان المبرزين، غير أن كل جماعة من الناس تقدم مثالا من طبقتها؛ وسياسة هذا البلد، وتجارة كل مدينة، يوجهها هؤلاء العاملون الأشداء الذين لا يعبئون بالتبعات، الذين لديهم من قوة الابتكار ما يؤهلهم للقيادة، ومن سعة العطف ما يجعلهم يزاملون الجماهير، ويحبب أعمالهم إليهم.
إن أصحاب الذوق السليم يراعون ما تتجمل به هذه الطبقة من آداب، ويتمسكون بها مخلصين. واجتماع هؤلاء السادة بعضهم ببعض واجتماعهم بأناس يدركون مزاياهم محبب إلى الفريقين وحافز لهما. والصورة الرائعة والعبارات السعيدة التي تصدر عن كل منهم يكررها الآخرون ويحاكونها. وفي رضى خاطف تتلاشى النوافل وتتجدد الجلائل.
إن الآداب الرفيعة تبدو مريعة للرجل الذي لم ينل شيئا من التهذيب. إنها علم رقيق بوسائل الدفاع لكي يدرأ المرء عن نفسه الشرور ويدخل في روع غيره الفزع. فإذا قابلها الطرف الآخر بما يناظرها من مهارة فإنها تفقد حدة سلاحها، فلا تكون هناك مبارزة أو لعب بالسيوف، ويجد الشاب نفسه في وسط شفاف، تكون فيه الحياة لعبة هينة، ولا ينشأ بين اللاعبين أي ضرب من ضروب سوء التفاهم.
إن الآداب تهدف إلى تيسير الحياة، وإلى الخلاص من العقبات، وإلى تمهيد السبيل أمام المرء لكي يبذل نشاطه خالصا من كل شائبة. إنها تعين على ما بيننا من تعامل وحديث، كما تعين السكك الحديدية على السفر، وذلك بالتخلص من كل عقبات الطريق التي يمكن تفاديها، بحيث لا تترك لنا شيئا نتغلب عليه سوى الفضاء المطلق. وسرعان ما تثبت هذه الصيغ، ويزداد الناس اهتماما بالتعود على دقة الإحساس بالصواب، حتى تصبح هذه الدقة وساما مميزا اجتماعيا وقوميا. وهكذا ينشأ «الطراز الجديد»، صورة مبهمة، قوية التأثير، عجيبة، لا تأبه بشيء، يخشاها الناس ويتبعونها، وعبثا ما تحاول الأخلاق أو العنف أن تهاجمها.
وهناك علاقة وطيدة بين طبقة المقتدرين، والفئة المصقولة المنتقاة من الناس، هذه الفئة التي تستمد من تلك الطبقة دائما أو تمدها. إن أقوياء الرجال عادة يتسامحون بعض الشيء حتى فيما يجدونه في الطراز الجديد من نزق، نظرا لهذه العلاقة التي يلمسونها فيها. إن نابليون، ابن الثورة، ومحطم طبقة النبلاء القديمة، لم يكف قط عن التودد إلى فوبور سنت جرمان، وهو يحس من غير شك أن الرجال العصريين مدينون لأمثاله من الرجال. إن طراز العصر يمثل كل فضائل الرجولة، ولو بطريقة عجيبة، وهو ثمار الفضيلة، أو هو شرف يناله صاحبه بعد الموت. إنه في كثير من الأحيان ليس من صفات العظماء، ولكنه من صفات أبنائهم، هو موئل للماضي، وهو عادة يعترض عظماء هذه الساعة. ولا يرود عظماء الرجال عادة قاعاته، بل يتخلفون في الميدان؛ فهم ما زالوا يعملون ولم يجنوا بعد ثمار أعمالهم. الطراز الجديد يتألف من أبنائهم، من أولئك الذين يحصلون - عن طريق ما لشخص آخر من قيمة أو فضيلة - على بريق لأسمائهم، وعلى شارات مميزة، ووسائل للتهذيب والكرم، وعلى شيء من الصحة والوجاهة في تكوينهم الجثماني، مما يكفل لهم نفوذا كبيرا يستمتعون به، إن لم يكن أعظم نفوذ يعملون به. أما طبقة الأقوياء، أما الأبطال العاملون من أمثال كورتز ونلسن ونابليون، فإنهم يرون أن هذا هو الابتهاج أو الاحتفال الدائم بما هم عليه من صفات، ويرون أن الطراز الجديد هو ثمار المواهب، هو المكسيك ومارنجو والطرف الأغر مهزومة هزيمة منكرة، وأن الأسماء العصرية اللامعة إنما ترجع إلى أسماء عامة كأسمائهم، ظهرت منذ خمسين أو ستين عاما. هم الزارعون، وأبناؤهم الحاصدون، وأبناؤهم - كما هو معهود - لا بد أن يسلموا ما يملكون من محصول لمنافسين جدد ذوي أعين أشد حدة وأجسام أقوى بناء.
إن المدينة تستمد أبناءها من الريف. ويقال إن كل ملك شرعي في أوروبا في عام 1805م كان معتوها، ولولا أن المدينة كانت تتلقى المدد من الحقول لفنيت من عهد بعيد وفسدت وتفجرت. إنما هو الريف الذي قصد الحضر أول من أمس، فأصبح اليوم المدينة والبلاط.
إن الأرستقراطية والعصرية نتائج معينة لا مفر منها. وهاتان الفئتان المتبادلتان لا ينهدمان. إذا أثارا الغضب بين أفراد أقل الطبقات امتيازا، وانتقمت الأكثرية المبعدة لنفسها من الأقلية المستبدة، بقوة اليد، ثم قتلتها، صعدت فوق القمة في الحال طبقة جديدة، كما يطفو الزبد في إناء اللبن. وإذا هدم الناس طبقة بعد طبقة، حتى يبقى رجلان اثنان، أمسى أحدهما زعيما، وقام الآخر بخدمته ومحاكاته على غير إرادته. وقد تبعد هذه الأقلية عن الأنظار وعن العقل، ولكنها تمسك بزمام الحياة، وهي إحدى ضياع المملكة. وأنا أشد ما أكون دهشة لإمساكها بالزمام عندما أرى عملها. إنها تقدر إدارة صغائر الأمور حتى أنا لا نتوقع لحكمها بقاء ونحن أحيانا نقابل رجالا متأثرين بفكرة معنوية قوية، كحركة وطنية، أو أدبية، أو دينية، ونحس أن الإحساس الخلقي يتحكم في الإنسان والطبيعة. ونحسب أن كل ميزة وكل رابطة أخرى تافهة عرضية، كالطبقة الممتازة أو الطراز الجديد مثلا. ولكن تعال من عام إلى آخر ، وانظر إلى ثبات ذلك في حياة المرء في بوسطن أو نيويورك، حيث لا يكون له، كذلك، أدنى طابع من قانون البلاد. إنك لن تجد في مصر أو في الهند خطا أثبت منه أو أشد مناعة. هنا تجد جماعات تنعقد أواصرها فوق هذا الحاجز أو تحته أو خلاله، كجمعية من التجار، أو فرقة حربية، أو فصل في الجامعة، أو معسكر حول النار، أو جماعة مهنية، أو حزب سياسي أو ديني. الأشخاص هنا يبدو كأنهم يقتربون بعضهم من بعض اقترابا لا ينفصم. ولكن إذ ما انفض هذا الجمع، فإن أعضاءه لن يتقابلوا أثناء العام مرة أخرى. ويرجع كل منهم إلى درجته في سلم المجتمع الصحيح، فيبقى الخزف خزفا والفخار فخارا. إن أهداف العصرية قد تكون تافهة، أو قد تكون العصرية بغير هدف، ولكن طبيعة هذا الاتحاد وهذا الامتياز لا يمكن أن تكون تافهة أو عارضة. إن مرتبة كل فرد في ذلك التدريج الكامل تتوقف على شيء من التوازن في بنائه، أو على شيء من الاتفاق بين بنائه وتوازن المجتمع. وإن أبواب المرتبة العليا لتفض قضبانها لتوها إذا أقبل عليها طالب طبيعي من نوع أبنائها. يجد الجنتلمان الطبيعي طريقه إلى الداخل، ويترك وراءه أقدم النبلاء في الخارج، ما دام قد فقد مرتبته الذاتية. إن الرجال العصريين يعرف بعضهم بعضا. وكرام الأصل وأصحاب التفوق الشخصي من أي بلد سرعان ما يتآخون مع أمثالهم في أي بلد آخر. وقد ميز زعماء القبائل المتوحشة أنفسهم في لندن وباريس بطهارة أذيالهم.
وإذا ذكرنا محاسن العصرية بقدر ما نستطيع قلنا إنها تقوم على الحقائق ولا تمقت شيئا مثلما تمقت الأدعياء. إنها تبتهج لإبعاد المدعين ونعتهم بالإبهام وتفادي الاختلاط بهم إلى الأبد. ونحن بدورنا نزدري كل موهبة أخرى من مواهب رجال الدنيا هؤلاء، ولكن عادة الاعتماد في كل شيء - حتى في أصغر الأمور وأقلها شأنا - على إحساسنا بصحة نفوسنا وحده، هو أساس الفروسية كلها. لا يكاد يكون هناك ضرب من ضروب الاعتماد على النفس، ما دام معقولا متناسبا، لا تتخذه العصرية من حين إلى حين، وتعطيه حرية صالوناتها.
إن الروح المقدسة رشيقة دائما، وإن شاءت، انضمت دون احتكاك إلى أقوى الحلقات سياجا. ولكن جوك راعي الماشية كذلك يمكن أن ينضم، في أزمة تأتي به إلى هذا المكان، فيلقى قبولا حسنا، ما دام رأسه لا يصاب بالدوار ومن الظروف الجديدة. ولا يميل الحذاء الحديدي إلى رقص الوالتز والكوتلون؛ لأن الآداب ليس فيها شيء ثابت، وإنما يخضع قانون السلوك لنشاط الفرد. وتعتقد الفتاة عند أول ظهورها في قاعات الرقص، والفلاح عندما يتناول الغداء في المدينة، أن هناك طقوسا ينبغي أن تراعى عند أداء كل عمل أو النطق بأية عبارة من عبارات الثناء، وإلا أبعد الفاشل عن مكان الاجتماع. ولكنهما يتعلمان فيما بعد أن الشخصية، وحسن الإدراك، تتخذ صورتها الخاصة في كل لحظة، فتتكلم أو تكف عن الكلام، وتتناول النبيذ أو ترفضه، وتلبث أو تنصرف، وتجلس فوق المقعد أو تتمرغ مع الأطفال فوق الأرض، أو تقف على رأسها، أو تفعل شيئا آخر، بطريقة جديدة أصيلة، وتلك الإرادة القوية هي الطراز الجديد دائما، وليكن من شاء غير عصري. كل ما تتطلبه العصرية رباطة الجأش، ورضى النفس. إن جماعة من الرجال كاملة التربية تكون جماعة من الأشخاص العاقلين، تظهر فيها شخصية كل فرد وآدابه الطبيعية. وإذا كان العصري يعدم هذه الصفة فإنه لا يساوي شيئا. إننا نحب الاعتماد على النفس إلى حد يجعلنا نتسامح في كثير من الخطايا عند الفرد إذا أظهر لنا رضاه التام عن موقفه، فلا يطلب حسن ظني أو ظن أي إنسان آخر فيه. في حين أن أي انقياد لرجل بارز أو امرأة نابهة في هذه الدنيا يضيع كل ميزة من مزايا النبل. إن المرء يكون حينئذ تابعا، ليس لي به شأن، فسوف أتحدث إلى سيده. لا ينبغي للمرء أن يذهب إلى حيث لا يستطيع أن يصطحب دائرته أو جماعته كلها معه، يصطحب جماعة أصدقائه كلها، لا بأجسادهم ولكن بجوهم. يجب أن يحتفظ في الجماعة الجديدة بحالته العقلية وحقيقة صلاته عينها التي يعرضها عليه رفاقه كل يوم، وإلا حرم خير ما لديه من دعائم، وبدا يتيما في أشد المجتمعات مرحا. «لو استطعت أن ترى فش إيان فوهر بذيله!» ولكن فش إيان فوهر لا بد أن يحمل خصائصه على صورة ما، فإذا لم تكن شرفا يكسبه، فهي عار يتخلص منه.
في المجتمع دائما أشخاص معينون هم كالكواكب المرموقة، تحدد لفتاتهم في كل لحظة لكل متطلع مراكزهم في الدنيا. هؤلاء هم أتباع صغار الآلهة. وعليك أن تقبل برودتهم دليلا على قربهم من عظماء الآلهة، واعترف لهم بكل مزاياهم. إنهم واضحو الأهداف، ولا يمكن أن يكونوا على هذه الرهبة دون أن تكون لهم مزاياهم الخاصة. ولكن لا تقس أهمية هذه الفئة بما تزعم لنفسها، أو تتوهم أن المتحذلق يمكن أن يتصرف في الشرف والعار. إنما هؤلاء يقدرون قدرهم الصحيح. وهل يمكن أن يكونوا غير ذلك في جماعات كأنها مكاتب أقيمت لفحص الشخصيات فحصا دقيقا؟
وبما أن أول ما يتطلبه المرء من الإنسان هو الحقيقة، فإنها تظهر في كل صورة من صور المجتمع. إننا نقدم أحد الفريقين إلى الآخر في دقة وبالاسم. وكأننا نقول: اعلم أمام الأرض والسماء جميعا أن هذا هو أندرو وذاك هو جريجوري. إن كلا منهما ينظر إلى أخيه في عينيه، ويقبض على يديه، كي يعرف كل منهما الآخر ويميزه. وإن ذلك لرضى عظيم. والرجل المهذب لا يتنصل أبدا. إن عينيه تنظران أمامهما على خط مستقيم، وهو يؤكد للجانب الآخر - قبل كل شيء - أنه قد يستقبله؛ إذ ما الذي نبحث عنه في كثير من الزيارات وحسن الضيافة؟ هل نسأل عن ملبسك، أو صورك، أو زينتك؟ ألسنا نسأل أولا: هل كان في البيت إنسان؟ قد أستطيع أن ألج بسهولة بيتا فخما، فيه كثير من المواد، ومدد فاخر للراحة والترف وحسن الذوق، ولكني برغم ذلك لا ألاقي هناك أي مضيف يجعل هذه النوافل أمورا ثانوية. وقد ألج كوخا وأجد فلاحا يحس أنه الرجل الذي أتيت لأراه، ويجابهني طبقا لذلك. ومن ثم كان من الطبيعي جدا في المجاملات الإقطاعية العتيقة أن الرجل المهذب الذي يستقبل زائرا - حتى إن كان مليكه - لا يترك مسكنه، بل ينتظر ضيفه عند باب بيته . إن البيت - حتى إن كان التويلري أو الأسكوريال - لا يساوي شيئا إن خلا من سيده. ولكنا مع ذلك كثيرا ما لا نقنع بهذه الضيافة. إن كل من نعرف يحيط نفسه ببيت جميل، وكتب قيمة، وبيوت من الزجاج للنبات، وحدائق، ومعدات، وبكل صنوف اللعب، وكلها حجب تحول بينه وبين ضيفه. ألا يبدو ذلك كأن المرء ذو طبيعة ماكرة مراوغة، ولا يخشى شيئا مثلما يخشى لقاء تاما لزميله وجها لوجه؟ وأنا أعلم أنه من القسوة الشديدة أن يزيل المرء بتاتا استخدام هذه الحجب، التي تمد صاحبها بالراحة القصوى، سواء كان الضيف عظيما جدا أو حقيرا جدا. إننا ندعو كثيرا من الأصدقاء الذين يشغل أحدهم الآخر باللعب، أو نعمد إلى تسلية الشباب بأسباب الترف والزينة، ونحافظ على الاعتزال. إذا أتى إلى بابنا مصادفة رجل واقعي باحث، لا يهمنا أن يرمقنا بنظراته، اندفعنا ثانية إلى الاحتجاب، وأخفينا أنفسنا كما فعل آدم عندما سمع صوت ربه في الفردوس.
كان الكردنال كابرارا، مبعوث البابا في باريس، يحمي نفسه من نظرات نابليون بنظارة ضخمة خضراء. وقد التفت إليها نابليون، وسرعان ما استطاع أن يعمل على إزالتها، ومع ذلك فإن نابليون بدوره لم تبلغ عظمته - برغم ثمانمائة ألف جندي وراءه - حدا يمكنه من مجابهة عينين متحررتين منذ ولدتا، بل كان يقي نفسه بالمجاملات، وفي حواجز مثلثة من التحفظ، وقد تعود - كما يعرف العالم كله من مدام دي ستيل - حينما كان يجد نفسه ملحوظا أن يعفي وجهه من كل تعبير. غير أن الأباطرة والأثرياء ليسوا بأية حالة أمهر أساتذة الآداب الطيبة.
إن قوائم الإيجار ومراتب الجيش لا تبعث الكرامة في رجل يواري ويتوارى. وأهم وجه من وجوه المجاملة يجب أن يكون الصدق دائما كما تشير إلى ذلك حقا كل صورة من صور التربية الصحيحة.
كنت أقرأ منذ عهد قريب، في ترجمة المستر هازلت، قصة مونتيني لرحلته في إيطاليا، ولم أعجب لشيء قط عجبي لطرز ذلك العصر التي تحترم ذاتها. كان وصوله إلى كل مكان، وصول الرجل المهذب الفرنسي، حدثا له نتائجه؛ فقد كان حيثما حل يقوم بزيارة لأي أمير أو رجل مهذب له وجاهته يقطن في طريقه، كواجب نحو نفسه ونحو المدينة. وعندما يترك بيتا أقام فيه بضعة أسابيع كان يطلب أن تطلى أسلحته وتعلق كعلامة دائمة لهذا البيت، كما كانت عادة الرجال المهذبين.
وإنما تتمم الكرامة هذا الاحترام الجليل للنفس، وهو أشد ما أتطلب وأصر عليه من بين جميع صفات التربية الحسنة. وإني لأحب أن يكون كل كرسي عرشا فوقه ملك، وأوثر الميل إلى العظمة على المبالغة في الزمالة. وليعلمنا الاستقلال ما في الطبيعة من أشياء لا يمكن بلوغها وما لدى الإنسان من عزلة ميتافيزيقية. لا أحب أن يعرف الواحد منا معرفة وثيقة.
وخير للرجل عندي أن يدخل بيته خلال قاعة مليئة بتماثيل الأبطال والقديسين، كي لا تنقصه لمحة من رباطة الجأش واتزان النفس.
يجب أن نلتقي كل صباح كأن كلا منا من بلد أجنبي، وبعدما نقضي نهارنا معا، نفترق في المساء كأن كلا منا راحل إلى بلد غريب. أحب ألا تغزى جزيرة المرء من أية ناحية من النواحي. ولنجلس متباعدين كالآلهة، يتكلم كل منا من فوق قمته، وكلنا حول أولمب. ولا ينبغي أن تضعف هذه السنة أية درجة من درجات المحبة. إنما ذلك هو المر وحصا البان الذي يحفظ غيره حلوا. وعلى العاشق أن يحتفظ بغرابته. فإذا ما بالغ العشاق في التهاون، انزلق كل شيء نحو الاضطراب والوضاعة. ومن اليسير أن ندفع هذه الكرامة إلى حد المجاملات الصينية، بيد أن البرودة وانعدام الحرارة والعجلة كلها من دلائل الصفات الطيبة. إن الرجل المهذب لا يحدث ضجة، والسيدة الكريمة تتصف بالرزانة. إن أولئك الغزاة الذين يملئون البيت المنهمك في العمل بالصياح والعدو كي يظفروا بالقليل التافه من أسباب الراحة إنما يقابلون منا بما يلائم مسلكهم من تأفف. ولست أقل كرها للعطف الشديد الذي يبديه الجار إزاء حاجات جاره. هل لا بد لكل منا أن يدرك ذوق صاحبه تمام الإدراك؟ كما يدرك الغافلون الذين طالت عشرة بعضهم لبعض متى يريد كل منهم السكر أو الملح. وإني لأرجو رفيقي إن أراد خبزا، وإن أراد نبات الغار أو الزرنيخ أن يطلبهما مني، ولا يمد طبقه إلي كأني أعرف من قبل ما يطلب. كل عمل طبيعي يمكن بالتروي والعزلة أن يكون كريما. ولنتخل عن العجلة للعبيد. إن مزايا تربيتنا وقيمتنا، تستدعي عظمة مصيرنا مهما بعد هذا المصير!
إن زهرة المجاملة لا تحتمل كثرة التقليب بين أيدينا. ولكنا إذا جرؤنا على فتح ورقة أخرى واكتشفنا من أي الأجزاء تتألف وجدنا كذلك صفة ذهنية. إن الذهن - كاللحم والقلب - لا بد أن يكون جانبا من جوانب قادة الرجال. والنقص في الآداب هو عادة نقص في دقة الإدراك، والناس في تكوينهم أشد غلظة من رقة السلوك والعادات الجميلة. إن اتحاد الشفقة بالاستقلال لا يكفي التربية الصحيحة تماما. إنما نحن نتطلب حتما إدراكا للجمال في رفاقنا وولاء له. إن الفضائل الأخرى مطلوبة في الحقل وفي ميدان العمل، ولكن درجة معينة من الذوق لا يستغنى عنها عند أولئك الذين يجالسوننا. وإني لأوثر أن أتناول طعامي مع رجل لا يحترم الحق أو القانون على أن أتناوله مع شخص سيئ البزة قبيح الهندام. إن الصفات المعنوية تحكم العالم، ولكن الحواس تستبد بنا في المسافات القصيرة. وإنك لتجد في جميع نواحي الحياة هذا التمييز عينه لكل ما هو لائق وجميل، وإن يكن أقل عنفا وشدة. إن الروح العامة بين أفراد الطبقة الناشطة هي الحس المرهف الذي يتأثر بحدود معينة ويهدف إلى أغراض معينة. وهو يضم كل موهبة طبيعية. ولما كان هذا الحس اجتماعيا في طبيعته فإنه يقدر كل ما يؤدي إلى الوحدة بين الناس، وهو يبتهج للقياس الصحيح. وليس حب الجمال في أساسه سوى حب القياس أو التناسب الصحيح. إن الشخص الذي يصيح، أو الذي يستعمل صيغة المبالغة، أو يتحدث في حرارة، ينفر منه رواد الصالونات جميعا. إن أردت أن تحب أحب القياس الصحيح. وإن أردت أن تخفي عجزك عن القياس الصحيح فلا بد أن تكون نابغا أو ذا نفع عظيم. إن هذا الإدراك إنما يصقل أجزاء الأداة الاجتماعية ويؤدي بها إلى الكمال. إن الجماعة تتسامح كثيرا مع النابغين وأصحاب المواهب الخاصة. ولكن لما كانت بطبيعتها تقليدية فإنها تحب التقليد، أو ما يتعلق بالتضامن. وذلك هو ما يخلق الطيب والخبيث من الآداب، أعني ما يعين على الزمالة أو يعوقها؛ لأن النمط الجديد ليس هو الحس المرهف مطلقا، ولكنه حس نسبي، ليس حسا مرهفا خاصا، ولكنه حس مرهف يدخل في حسابه الرفاق. إنه يمقت الزوايا وصفات الشخصية البارزة، يمقت الأشخاص المشاغبين المحبين لأنفسهم المنعزلين المكتئبين، يمقت كل ما يعوق الامتزاج الشامل بين فريق وآخر، في حين أنه يعتبر كل الصفات التي تتفق والزمالة الصحيحة صفات يانعة إلى أقصى الحدود. وإلى جانب شيوع النكتة في الحديث لتوكيد المجاملة، فإن السناء المباشر يشع من القوى الذهنية أمر يرحب به المجتمع الرقيق ويعده أغلى صفة من صفات سلطانه وامتيازه.
يجب أن يشرق في حفلنا الضوء الجاف لكي يجمله، ولكنه يجب أن يخفف وأن يظلل، وإلا أساء إلينا. الدقة لازمة للجمال، والإدراك السريع لازم للأدب، ولكنه لا ينبغي أن يكون سريعا جدا؛ فالمرء قد يكون مواظبا ودقيقا أكثر مما ينبغي. ويجب عليه عندما يقبل على قصر الجمال أن يتخلى عند مدخله عن العلم التام بالأعمال.
إن المجتمع يحب الطبائع المهجنة، والآداب الناعسة المتراخية، بحيث تنطوي على الإحساس، والجلال، والنية الحسنة: جو القوة المسترخية التي تنزع عن النقد السلاح، وربما كان ذلك؛ لأن مثل هذا الشخص يبدو كأنه يحتفظ بنفسه لخير أدوار المباراة، ولا يبذل ذاته فوق السطوح، إنه كالعين المتغافلة، التي لا ترى أسباب الضيق، والحيل، والقلق، مما يجلب الغم، ويكبت صوت كل امرئ حساس.
ولذا فإن المجتمع - فوق القوة الشخصية وقدر من الإدراك يكفي لخلق الذوق الذي لا يخطئ - يتطلب في الطبقة الأصيلة عنصرا آخر أشرنا إليه من قبل، عنصرا تطلق عليه «الطبيعة الطيبة» وهي تسمية لها دلالتها، وهي تعبر عن كل درجة من درجات الكرم، من أدنى رغبة وقدرة على صنع الجميل، إلى قمم النخوة والمحبة. ولا بد أن تتوفر لدينا البصيرة، وإلا عارض أحدنا الآخر، وضللنا الطريق إلى طعامنا، ولكن الذهن ضحل محب لذاته.
إن سر النجاح في المجتمع إحساس قلبي معين ونوع من العطف. إن الرجل الذي لا يسعد بالرفاق لا يستطيع أن يجد كلمة في ذاكرته تلائم المناسبة. كل ما لديه من معرفة فيه شيء من الفظاظة. أما الرجل الذي يسعد في الجماعة فإنه يجد في كل لون من ألوان الحديث فرصا طيبة متكافئة تقدم لما يريد أن يقول. إن المفضلين في المجتمع ومن يسميهم المجتمع «النفوس الكاملة» رجال قادرون، لديهم من الروح أكثر مما لديهم من الفطنة، تعوزهم الأنانية البغيضة، ولكنهم يملئون الساعة والجماعة تماما، قانعين مقنعين، سواء في زفاف أو مأتم، في مرقص أو محكمة، في رحلة مائية أو مباراة في الصيد. وقد أخرجت إنجلترا، الغنية بالرجال المهذبين، في بداية هذا القرن، مثالا طيبا لهذا النبوغ الذي تحبه الدنيا، وذلك في شخص المستر فوكس، الذي ضم إلى جانب قدراته الفائقة ميلا اجتماعيا شديدا، ومحبة حقيقية للناس. وليس في تاريخ المجالس النيابية أقوال أروع مما جاء في المناقشة التي افترق فيها برك عن فوكس في مجلس العموم، حينما ناشد فوكس صديقه القديم حق الصداقة القديمة في شيء من اللطف استدر دموع النواب جميعا. وهناك حادثة أخرى وثيقة الصلة بموضوعي ولا بد لي أن أخاطر بروايتها: كان هناك تاجر يلح عليه كثيرا في طلب دين له عليه مقداره ثلاثمائة جنيه، وقد ألفاه ذات يوم يعد ذهبا، فطلب إليه أن يدفع الدين، فأجابه فوكس قائلا: «كلا، إني مدين بهذا المال لشريدان، وهو دين وعدت أداءه بكلمة الشرف، فإن وقع لي حادث فلن يجد لدي ما يبرره.» قال الدائن: «إذن فإني أحول ديني إلى دين شريف.» ومزق الصك إربا إربا. فشكر فوكس الرجل على ثقته وأدى له دينه قائلا: «إن دينه قديم، وعلى شريدان أن ينتظر.» وكان يتمتع بسمعة طيبة جدا بين الجماهير، كمحب للحرية، وصديق للهندوس، ونصير لرقيق أفريقيا. وقد قال عنه نابليون بمناسبة زيارته باريس في عام 1805م: «إن مستر فوكس سوف يمثل الصدارة دائما في أي اجتماع بالتويلري.»
ومن اليسير أن نبدو مضحكين في إطرائنا على المجاملة، كلما أصررنا على أن فعل الخير هو أساسها. إن الصورة الوهمية الملونة للطراز الحديث ترتفع لكي تلقي ضربا من ضروب السخرية على ما نقول. ولكني لن أنزل عن شيء من التسامح لاعتبار الطراز العصري أساسا رمزيا، ولن أنزل كذلك عن الاعتقاد بأن المحبة هي أساس المجاملات. يجب علينا أن نحصل على «هذا» إن استطعنا، كما يجب علينا أن نؤكد «ذاك» بأية وسيلة من الوسائل. إن الحياة تدين بالكثير من روحها لهذا التباين الشديد؛ فالطراز العصري الذي يزعم أنه الشرف ليس في أكثر الأحيان في خبرة الناس جميعا سوى قانون صالة الرقص، ولكن ما دام ذلك هو أعلى الدوائر، كما تتصور خير الرءوس في هذا الكوكب، فلا بد أن يكون فيه شيء ضروري وفائق؛ لأننا لا يصح أن نفترض أن الناس قد اتفقوا على أن يكونوا مخدوعين لأي شيء سخيف، والاحترام الذي توحي به هذه الألغاز إلى أشد الشخصيات غلظة وسذاجة، والشغف الذي نقرأ به تفصيلات الحياة الرفيعة، كل ذلك يدل على حب الآداب المهذبة في كل مكان. وأنا أعلم أننا نحس مفارقة مضحكة إذا ولجنا «الدوائر العليا» المعترف بها، وطبقنا هذه المعايير المزعجة، معايير العدالة والجمال والمنفعة، على الأفراد الموجودين هناك فعلا؛ فالملوك والأبطال، والحكماء والعاشقون، هؤلاء ليسوا قوما شهما. للطراز العصري طبقات متعددة وقواعد كثيرة للتمرين والانتساب، وهو لا يضم الأخيار وحدهم. لا يشترط حق الغزو فقط، الذي يزعم النوابغ - وإنما الفرد الذي يظهر أرستقراطيته الطبيعية يكون من خيار الخيار - بل إن هناك صفات أقل من هذه يمكن قبولها في الوقت الحاضر؛ لأن الطراز الحديث يحب الأسد، ويشير - مثل كيرشي الساحرة - إلى رفيقها ذي القرنين. هذا الرجل المهذب وصل هذا المساء من الدنمارك، وهذا سيدي رايد عاد بالأمس من بغداد، وهنا كابتن فريزر من رأس تيرناجين، وكابتن سمز من باطن الأرض، ومسيو جوفير الذي هبط هذا الصباح في بالون، ومستر هبنيل المصلح، والمقدس جول بات الذي آمن على يديه كل أبناء المنطقة الحارة في مدرسة الأحد التي يملكها، وسنيور تور دل جريكو الذي أطفأ نيران فيزوف بمياه خليج نابلي التي صبها فيه، وسافي السفير الفارسي، وتل ول شان، أمير نبول المنفي من بلاده، الذي يعد سرجه الطراز الجديد. غير أن هؤلاء أشخاص يبرزون في يوم، ويردون في غد إلى جحورهم وكهوفهم؛ لأن كل مقعد في هذه الحجرات له من يترقبه. إن الفنان والعالم ومن إلى هؤلاء عامة يصعد إلى هذه الأمكنة، ويمثل هنا، على أساس هذا الغزو إلى حد ما. وثمت طريقة أخرى، وهي أن يمر المرء خلال جميع الدرجات، وينفق عاما ويوما في ميدان سنت ميشيل، مغمورا في مياه كولونيا، معطرا، متناولا عشاءه، ومقدما إلى المجتمع، ومؤسسا تأسيسا صحيحا في سير السيدات وسياستهن ونوادرهن.
ومع ذلك فهذه الزخارف قد يكون لها جلالها وحصافتها. ولتكن هناك تماثيل تثير الضحك عند مداخل المعابد وأبهائها، بل ليكن للمذاهب والوصايا العشر الهزل الذي يحاكيها ويخضع لها ولو في سفاهة ووقاحة. إن صيغ الأدب تعبر في كل مكان عن فعل الخير بدرجة شديدة المبالغة. ألا يمكن أن تكون في أفواه المحبين لذواتهم، الذين يستخدمونها وسائل لأنانيتهم؟ وهلا يمكن أن يخرج الجنتلمان الكاذب أخاه الصادق من الدنيا؟ هلا يمكن أن يحاول الجنتلمان الكاذب أن يخاطب زميله في لباقة يستبعد بها كل من عداه من محيط حديثه، ويجعلهم يشعرون كذلك بالاستبعاد؟ إن الخدمة الحقيقية لا تفقد نبلها. ليس كل الكرم فرنسيا وهوائيا فحسب، ولا يصح أن يخفى أن الدم الحي وعاطفة الشفقة تميز في النهاية بين الجنتلمان الرباني والجنتلمان المصطنع. إن العبارة المكتوبة على قبر سر جنكن جروت ليست غامضة كل الغموض لأبناء العصر الحديث وهي: «هنا يرقد سر جنكن جروت الذي أحب صديقه وأغرى عدوه. ما طعمه فمه دفعت ثمنه يده، وما اغتصبه خدمه رده. إذا أمتعته امرأة أعانها في الألم. لم ينس أطفاله قط، ومن مس أصبعه جر وراءه جسده كله.» وحتى سلالة الأبطال لم تنقرض تماما. ما زال هناك شخص يدعو إلى الإعجاب في ثياب عادية، يقف على المرفأ، ويقفز إلى الماء لإنقاذ رجل غريق. ما زال هناك رجل يفتعل الأسباب لدفع الصدقات. هناك من يرشد ومن يعزي العبيد الآبقين. هناك من يحب بولندا، ومن يحب اليونان. هناك المتحمس الذي يزرع الشجر ليظلل الجيل الثاني والثالث من بعده، ومن يزرع بساتين الفاكهة في شيخوخته. هناك الورع المختفي تماما. هناك الرجل العادل ذو السمعة السيئة، والشاب الذي يخجل من فضائل الثراء. فيلقي بها جزعا على عواتق الآخرين. هؤلاء هم مراكز المجتمع، التي يدور عليها ليجد البواعث الجديدة. هؤلاء هم خالقو الطراز العصري، وهو محاولة لتنظيم جمال السلوك. إن الجميل والكريم كلاهما نظريا من رجال الكنيسة ورسلها. هم سبيو وسيد وسر فيليب سدني وواشنجطن وكل قلب نقي باسل ممن قدس الجمال قولا وعملا.
إن الأشخاص الذين تتألف منهم الأرستقراطية الطبيعية لا يوجدون في الأرستقراطية الواقعية، أو هم حافتها فقط، شأنهم في ذلك شأن الطاقة الكيماوية للطيف الضوئي تكون على أشدها خارج الطيف قليلا. ومع ذلك فإن كبار الحجاب لا يعرفون مليكهم عندما يظهر لما في نفوسهم من خور. إن نظرية المجتمع تفترض وجود هؤلاء كما تفترض سلطانهم. إنها تتكهن بمقدمهم من بعيد، وهي تنشد مع الآلهة القدامى:
كما أن السماء والأرض يفوقان جمالا
الهيولى والظلام المطلق، ومنهما انبعثا،
وكما نفوق هذه السماء وتلك الأرض تماسكا وجمالا
من حيث الشكل والصورة،
فكذلك يأتي في إثرنا كمال جديد،
قوة، أشد جمالا، وقد تولدت عنا،
وقدر لها أن تبزنا نورا
كما نبز ذلك الظلام القديم جلالا،
ذلك هو القانون الأبدي،
ما بز جمالا بز نفوذا.
ومن ثم فإن في داخل دائرة المجتمع الطيب التي تقوم على أساس السلالات دائرة أضيق وأعلى، هي ضوءها المركز، وهي زهرة المجاملات ، تتم دائما في مخبرها عن الكرامة والأصالة، كأنها الصفوة الممتازة التي لا تنال، أولئك هم النواب الذين يمثلون المحبة والشهامة. وإنك لواجد ذلك كله في أولئك الذين يكون الميل إلى البطولة فيهم أمرا طبعيا، الذين يحبون الجمال، ويبتهجون للرفاق، ويقدرون على زبرجة الساعة الراهنة. إذا استعرضنا اليوم الأفراد الذين تتألف منهم أنقى دوائر الأرستقراطية في أوروبا، أصحاب الدماء التي صانتها القرون، على صورة تمكننا من فحص مسلكهم، ناقدين أحرارا، فقد لا نجد رجلا مهذبا أو امرأة مهذبة؛ لأنهم قد يكونون أنماطا ممتازة في الكياسة وحسن التربية، نرضى عنهم جماعات، إلا أنا نكشف عن سوءاتهم فرادى؛ لأن الرشاقة لا تأتي بالتربية، وإنما تأتي بالطبيعة.
لا بد أن يكون للشخصية رونقها، وإلا فلا جدوى من استبعاد النقائص مهما دق هذا الاستبعاد. إنما تتجه العبقرية هذا الاتجاه، ولا يكفي أن يكون الرجل كيسا، إنما ينبغي أن يكون الكياسة عينها. والسلوك الرفيع نادر في القصص الخيالية ندرته في الواقع. إنما يحمد لسكت الإخلاص الذي صور به مسلك الطبقات العليا وأحاديثها. وليس من شك في أن الملوك والملكات، والنبلاء وكرائم السيدات، كان لهم بعض الحق في الشكوى من سخف الكلام الذي نسب إليهم قوله قبل أيام ويفرلي، بيد أن محاورات سكت لا تحتمل النقد كذلك. كان اللوردات في قصصه يجرؤ أحدهم على الآخر في أحاديثه المقتضبة الحازمة، ولكن الحوار ينساق في أسلوب عادي، ولا يسر إذا قرئ للمرة الثانية، إنه لا ينبض بحرارة الحياة. عند شكسبير وحده لا نرى المتكلمين يتبخترون زهوا أو يتشامخون، والحوار عظيم في سهولة، وهو يضم إلى الألقاب الكثيرة لقب أحسن الناس تربية في إنجلترا وفي العالم المسيحي. إن الفرد لا يجد في حياته إلا مرة أو مرتين فرصة التمتع بسحر الآداب النبيلة في حضرة رجل أو امرأة لا يقف أمام طبيعتهما حاجز، ولكن شخصيتيهما تعبران عن نفسهما بحرية في الكلمات والحركات. إن القوام الجميل أحسن من الوجه الجميل، والسلوك الجميل أحسن من القوام الجميل. إنه يعطينا متعة أعظم من التماثيل والصور، إنه أجمل ما في الفنون الجميلة. ليس الرجل إلا شيئا صغيرا وسط ما في الطبيعة من أشياء، ولكنه بالصفة المعنوية التي تشع من طلعته يستطيع أن يهدم كل اعتبار من اعتبارات العظمة، ويستطيع بآدابه أن يضارع جلال الدنيا.
رأيت رجلا آدابه تدخل كلها في نطاق تقاليد الطبقة الرفيعة، ولكنه - برغم ذلك - لم يتعلمها هناك، وإنما كانت آدابه أصيلة متسلطة، تتصف بالوقاية والنجاح. إنه رجل لم يكن بحاجة إلى معونة زي البلاط، ولكنه يشع جلال التقديس من عينيه. لقد أبهج الخيال لأنه فتح أبواب الوسائل الجديدة للعيش على مصاريعها، ونفض عن نفسه أسر الرسميات في آداب المعاشرة، بمسلكه الموفق القوي، وطبيعته الطيبة، وحريته التي يحاكي بها حرية روبن هود. ومع ذلك فطلعته طلعة الملوك، وإن اقتضت الضرورة فهو هادئ رزين قادر على أن يقاوم تحديق الملايين.
الهواء الطلق والحقول، والشارع والقاعات العامة هي الأماكن التي ينفذ فيها الرجل إرادته. وعليه أن يسلم الصولجان أو يقتسمه عند باب البيت. والمرأة بغريزة سلوكها سرعان ما تكشف في الرجل حب التوافه، وأي برودة أو غباء، أو - في عبارة موجزة - أي نقص في ذلك السلوك الطبيعي الكريم الذي لا يستغني المرء عن التحلي به في الصالون. وقد توددت إلى المرأة نظمنا الأمريكية، وفي هذه اللحظة، أعد تفوق النساء في هذا البلد ميزة كبرى. إن نوعا من الإحساس الشاذ عند الرجال بنقصهم قد ينشأ عنه ضرب من ضروب الشهامة الجديدة التي تدافع عن «حقوق المرأة». إن المرأة قد تتحسن مكانتها قطعا في القوانين وفي الأوضاع الاجتماعية، ولكني أثق كل الثقة في طبيعتها الملهمة الموسيقية، حتى إني لأعتقد أنها هي وحدها التي تستطيع أن ترينا كيف تقدم لها الخدمات. إن كرمها العجيب في عواطفها ينقلها أحيانا إلى مناطق البطولة والألوهية. ويحقق صور منرفا أو جونو أو بولمنيا. وإنها لتقنع أغلظ الحاسبين بأن هناك طريقا آخر غير الطريق الذي تطؤه أقدامهم، وذلك بالثبات الذي ترتقي طريقها به. ولكن إلى جوار أولئك اللائي يحلين في خيالنا مكانة إلهات الشعر وكاهنات دلفي، أليس هناك من النسوة من يملأن كئوسنا ومزاهرنا بالخمر والورد حتى حافاتها، فيجري الخمر أنهارا ويمتلئ البيت بالعطور، ومن يلهمنا حسن المعاشرة ، ومن يفككن عقدة في ألسنتنا فننطق بها، ويكملن أعيننا فنرى بها؟
إننا نقول عبارات ما كنا نحلم بالتفوه بها؛ لأن جدران تحفظنا الذي ألفناه تنهار لأول مرة وتتركنا أحرارا. كنا أطفالا نلعب مع أطفال في حقل من الزهور فسيح. ثم صحنا: اغمرونا بهذه المؤثرات أياما وأسابيع نصبح شعراء لامعين، ونكتب القصص الخيالية - التي تتمثل فيكن - في كلمات متنوعة الألوان. هل هو حافظ أو الفردوسي الذي قال عن ليلاه الفارسية إنها كانت قوة من قوى الطبيعة الأصيلة وأذهلتني بمقدار ما عندها من حياة عندما شهدتها تشع يوما بعد يوم - في كل لحظة - فرحا زائدا وجلالا فائقا على كل من كان حولها؟ لقد كانت عنصرا من عناصر التحليل يوفق بين كل الأشخاص المتنافرين في مجتمع واحد، عنصرا - كالماء أو الهواء - له من بعد الصلات ما يجعله يتحد فورا بآلاف المواد. إذا حضرت ارتفع كل من عداها عما كان عليه. كانت وحدة وكانت كلا، حتى إن كل ما فعلت كان يلائمها. كان عطفها ورغبتها في إدخال السرور على غيرها أشد مما تستطيع التعبير عنه، وكانت آدابها تتميز بالكرامة، ومع ذلك فلم تستطع أن تتفوق عليها أميرة في مسلكها الواضح المستقيم في أية مناسبة من المناسبات. لم تتعلم قواعد اللغة الفارسية ولا قصائد المعلقات السبع، ولكن لكأن المعلقات السبع كلها قد نظمت فيها. لم تكن بطبيعتها تميل إلى التفكير، وإنما تميل إلى العطف، ولكنها برغم ذلك قد بلغت في طبيعتها حدا من الكمال يمكنها من مقابلة رجال الفكر بقلبها المليء، فتدفئهم بعواطفها، مؤمنة بأن معاملها النبيلة للجميع، سوف تجعل الجميع يبدو نبيلا.
وأنا أعلم أن هذه الكومة البيزنطية من صفات الشهامة والعصرية، التي تبدو جميلة رائعة لأولئك الذين ينظرون إلى الحقائق المعاصرة باحثين عن العلم أو التسلية، أعلم أن هذه الصفات لا تسر الناظرين إليها بدرجة واحدة. إن تكوين مجتمعنا يجعلها قلعة عملاق للشباب الطموح الذين لم يجدوا أسماءهم مدونة في كتابها الذهبي، والذين أبعدتهم عن مزاياها وألقابها الشرفية المشتهاة. إن هذا الشباب لم يدرك بعد أن فخامتها الظاهرية نسبية غامضة. إنها عظيمة لأنهم متسامحون، وإن أشد أبوابها فخامة لينفتح فورا إذا اقتربت منها شجاعتهم وفضائلهم. وعلى أية حال فإن هناك دواء ميسورا يشفي من الألم الحالي أولئك الذين يعانون من قسوة هذه الصفة المميزة.
إن البعد بالمسكن ميلين أو أربعة على الأكثر يخفف عادة أقصى ضروب الحساسية؛ لأن المزايا التي يقدرها العصريون نباتات تزهر في موضع محلي جد محدود، وخاصة في شوارع معدودة. فإذا بعدت عن هذه البيئة أصبحت عديمة القيمة، فهي لا تفيد في الحقل، أو الغابة، أو السوق، أو الحرب، أو الحياة الزوجية، أو في الدوائر الأدبية والعلمية، أو في البحر، أو الصداقة، أو في سماء الفكر والفضيلة.
ولكنا تلكأنا طويلا في هذه الدور المزخرفة. إن قيمة الشيء الذي ترمز له لا بد أن تبرر لنا استساغة الرمز. إن كل ما نسميه بالعصري أو المجاملة يخضع أمام مبعث الشرف ومنبعه، وخالق الألقاب والكرامات، أقصد قلب الحب. هذا هو الدم الملكي، وهو النار التي تترك أثرها في جميع البلدان وفي كل المناسبات، وتغزو كل ما يقترب منها وتمدده. وهو الذي يكسب كل واقعة معاني جديدة. إنه يفقر الغني؛ لأنه لا يحتمل عظمة غير عظمته. ما معنى الغنى؟ هل يكفي غناك أن تعين إنسانا ما؟ وأن تساعد العامة من الناس وشواذهم؟ هل يكفي غناك أن تجعل الكندي في عربته، والمتجول الذي يحمل توصية من قنصله «لكل محسن»، والإيطالي الأسمر بكلماته الإنجليزية القليلة المتعثرة، والسائل الأعرج الذي يطارده المراقبون من بلد إلى بلد، بل والأبله الفقير أو الرجل المخبول المحطم أو المرأة المسلوبة العقل المتهدمة، هل يكفي غناك أن يجعل أمثال هؤلاء يحسون أن وجودك وبيتك استثناء نبيل من الزمهرير السائد والتحجر المنتشر. وأن يجعل أمثال هؤلاء يحسون أنهم يتلقون التحية منك بصوت يدفعهم إلى تذكر الماضي والأمل في المستقبل؟
إنما الانحطاط أن ترفض الطلب بسبب الحواجز والموانع، وليس السمو إلا أن تسمح به، وأن تحرر قلبهم وقلبك يوما من الحذر القومي. إنما الثري متسول دنيء إذا لم يكن له قلب غني. كما أن ملك شيراز لم يستطع أن يسخو كما سخا عثمان الفقير الذي كان يسكن عند بابه. كانت لعثمان إنسانية واسعة عميقة. ومع أن كلامه عن القرآن كانت فيه جرأة، وكان فيه حرية اشمأز لها الدراويش، إلا أن كل منبوذ فقير، وكل شاذ أو أبله أو معتوه قص لحيته أو فقد طرفا من أطرافه تنفيذا لعهد أو كان في رأسه مس من جنون، كل هؤلاء كانوا يهرعون إليه - فذلك القلب العظيم كان يستلقي هناك وسط البلاد مشمسا جوادا - وكأن غريزة كل مكابد تجذبه إلى جواره، ولكنه لم يقتبس شيئا من الجنون الذي كان يأويه. أليس هذا غنى؟ إنما هذا وحده هو الثراء الحق.
ولا يؤلمني أن أسمع أني لا أحسن القيام بدور جليس الأمير، وأني أتكلم عن أمور لا أحسن فهمها. ومن اليسير أن ترى أن ما نطلق عليه الامتياز، من مجتمع وذوق عصري، له قوانينه الطيبة كما أن له قوانينه السيئة، وفيه كثير مما يلزم وكثير مما لا يلزم، فهو أحسن من أن نبعده، وأسوأ من أن نباركه. وهو يذكرنا بتقليد معروف في الأساطير الوثنية كلما حاولنا أن نحدد صفته. قال سبلينس: «استمعت إلى جوف ذات يوم وهو يتحدث عن تحطيم الأرض. قال إنها قد هوت؛ فالناس جميعا سفلة أوغاد يسيرون من سيئ إلى أسوأ كلما توالت الأيام.»
وقالت منيرفا: «إنها لا تظن ذلك؛ فليس الناس سوى مخلوقات صغيرة مضحكة، تتميز بهذه الصفة العجيبة، وهي أن فيها شيئا من الإبهام، وأن لها وجها غير محدود، يتوقف على نظرك إليه من بعيد أو من قريب. إن قلت إنهم خبثاء ظهروا كذلك، وإن قلت إنهم طيبون بدوا كذلك. وليس بينهم شخص واحد أو عمل واحد لا يحير بومها - بل ويحير أولمبس كله أكثر مما يحيره - فلا يعرف إن كان طيبا أو خبيثا في أساسه.»
السياسة
لا يصلح الذهب والحديد
إلا لشراء الذهب والحديد.
وإنما يباع بما يساويه
كل ما فوق الأرض من صوف الغنم أو من طعام.
إن مرلن المتنبئ الحكيم
برهن على أن نابليون عظيم.
كل سلعة وكل عملة
لا تشتري أكثر من قيمتها شيئا.
الخوف، والدهاء، والجشع
لا تقوم عليها دولة من الدول.
وهل تبنى من التراب
ما يفوق التراب؟!
لا بد لفيبس أن يقيم
أسوار أمفيون المتراكمة.
عندما تلتقي إلهات الفن التسع
بآلهة الفضائل.
ثم يجدون جميعا مقعدا أطلنطيا
على ما يهوون من طراز
يتقي الحرارة
بأغصان البساتين الزاهرة
حيث يحرث رجل الدولة
الأخاديد للقمح،
حينما تكون للكنيسة قيمة في المجتمع،
وحيثما يكون مقر الحكم عند موقد النار،
حينئذ تسود الدولة الكاملة،
ويشعر الجمهوري بالأمان.
عندما نعالج موضوع الدولة، يجب أن نذكر أن نظمها ليست أزلية، بالرغم من أنها قد وجدت قبلما نولد. يجب أن نذكر أن كل نظام من هذه النظم كان ذات يوم عمل رجل بمفرده، وأن كل قانون وكل عادة كان حيلة رجل يقابل بها موقفا بعينه. يجب أن نذكر أنها جميعا يمكن أن تحاكى، ويمكن أن تتغير. نستطيع أن نسن مثلها، بل وأحسن منها. المجتمع وهم الشاب. إنه يمتد أمامه صورة جامدة لا تتحرك، وفيه أسماء ورجال ونظم تمتد جذورها وسط الصورة كأنها شجر البلوط، وينظم الجميع أنفسهم حولها على أحسن ما يستطيعون من نظام. ولكن السياسي العجوز يعرف أن الجماعة مائعة، ليست بها جذور ولا أوساط، وإنما تستطيع أية ذرة أن تصبح فجأة مركز الحركة. وترغم ما دونها على أن يدور حولها، كما يفعل كل رجل ذي إرادة قوية. مثل بزستراتس أو كرمويل، لفترة ما، وكل رجل صادق، مثل أفلاطون أو بولس، إلى الأبد. غير أن السياسة تقوم على أسس ضرورية، ولا يمكن أن تعامل باستخفاف.
ما أكثر الجمهوريات التي يتوهمها المدنيون، الذين يعتقدون أن القوانين تصنع المدن، وأن التعديلات الجوهرية في السياسة وفي أساليب المعيشة، وأعمال السكان، وأن التجارة والتربية والدين يمكن أن يصوت لها أو عليها، وأن كل إجراء - حتى إن كان سخيفا - يمكن فرضه على شعب من الشعوب إذا استطعت أن تحصل على الأصوات التي تكفي أن تجعله قانونا. ولكن الحكماء يدركون أن التشريع السخيف حبل من الرمال يتلاشى عند لفه، ويدركون أن الدولة يجب أن تتبع - لا أن تقود - شخصية المواطن وتقدمه، وإن أقوى مغتصب يجب التخلص منه فورا. فلا يبني بناء أبديا سوى أولئك الذين يشيدون على أساس الآراء، كما يدركون أن شكل الحكومة الذي يسود إنما هو تعبير عن لون الثقافة الذي يسود بين السكان الذين يسمحون به. ليس القانون إلا تذكرة. والناس يعتقدون في الخرافة، ويهابون الدستور بعض الشيء، وقوة هذا الدستور تتناسب ومقدار حياته في تكوين الأحياء.
إن الدستور يقوم بيننا ليقول: بالأمس اتفقنا على كيت وكيت، ولكن كيف تحس يا صاح اليوم إزاء هذه المادة من مواده؟ دستورنا عملة ندمغها بصورتنا، وسرعان ما تمحي الصورة، فلا تعرف العملة، وبمرور الزمن تعود إلى دار السكة. ليست الطبيعة ديمقراطية، وليست ملكية مقيدة، ولكنها مستبدة، ولا يخدعها أو يغل ذرة من سلطانها أشد أبنائها سلاطة وقحة. وكلما اشتد الوعي القومي إدراكا تبين أن القانون همجي يتلعثم. إنه لا ينطق بفصاحة، ويجب أن نجعله فصيحا. وفي الوقت عينه لا تقف تربية الوعي القومي عند حد. إن أحلام الصادقين السذج تنبئ بما سوف يحدث. إن ما يحلم به الشباب الشاعر الرقيق، وما يتمناه، وما يصوره اليوم، ولكنه يتفادى السخرية من ذكره علنا، سوف يكون قريبا مما تصمم عليه الهيئات العامة، ثم يصبح ضيما وحقوقا يطالب بها عن طريق النزاع والقتال، ويمسي بعدئذ قانونا ظافرا ومؤسسة تبقى مائة عام، حتى تتخلى بدورها لأمان جديدة وصور جديدة. إن تاريخ الدولة يصور في رسم تخطيطي تقدم الفكر، ويتبع من بعيد الخطوط الدقيقة التي تتألف منها الثقافة والأماني.
إن نظرية السياسة التي استولت على عقول الناس، والتي عبروا عنها أحسن ما استطاعوا من تعبير في قوانينهم وفي ثوراتهم، تعتبر الأشخاص والأملاك الشيئين اللذين من أجل وقايتهما تقوم الحكومة. أما الأشخاص فلهم جميعا حقوق متساوية؛ لأنهم متكافئون في الطبيعة. وهذا الرأي يتطلب - بطبيعة الحال - بكل ما فيه من قوة نوعا من الديمقراطية. وبينما تكون حقوق الجميع - كأشخاص - متساوية، بسبب إمكانهم بلوغ العقل، فإن حقوقهم في الملك تختلف كل الاختلاف؛ فهذا رجل لا يملك إلا ثيابه، وذاك آخر يملك قطرا بأسره. وهذه المصادفة تتوقف أولا على مهارة كل فريق ومزاياه، مهارته التي تنقسم درجات لا حصر لها، وتتوقف ثانيا على الميراث. ولذا نراها تقع وقوعا لا مساواة فيه، ومن ثم فإن ما تجلب من حقوق لا تتوفر فيه بالطبع المساواة. ولما كانت الحقوق الشخصية هي عينها في كل مكان فإنها تتطلب حكومة تقوم على أساس نسبة الملك والمالكين. فمثلا لابان الذي يملك قطعان الغنم والماشية يود أن يرعاها ضابط عند الحدود خشية أن يطردها مديانتز، ويدفع ضريبة لهذا الغرض. أما يعقوب فإنه لا يملك قطعانا من الغنم أو الماشية، ولذا فهو لا يخشى مديانتز ولا يدفع ضريبة للضابط. وقد تبين أن لابان ويعقوب يجب أن يتساويا في حق انتخاب الضابط الذي يحمي شخصيهما، في حين أن لابان وحده - دون يعقوب - هو الذي يجب أن ينتخب الضابط الذي يحمي الأغنام والماشية. فإذا أثير موضوع زيادة الضباط أو مراكز الحراسة، أفلا يجب أن يكون لابان وإسحق وأولئك الذين يتحتم عليهم أن يبيعوا جانبا من قطعانهم لكي يشتروا حماية بقيتها، أحسن في الحكم، وأحق به، من يعقوب الذي - بحكم كونه شابا رحالة - يأكل خبزهم دون خبزه؟
كان المالكون في المجتمع الأول يكونون ثروتهم بأنفسهم، وما دامت تأتي إلى المالكين بالطريق المباشر، فإن أي جماعة منصفة لا يمكن أن يظهر فيها رأي غير أن المالكين يجب أن يضعوا قانون الملكية، والأشخاص قانون الأشخاص.
ولكن الثروة تنتقل بالهبة والميراث إلى أولئك الذين لم يجمعوها. والهبة - في الحالة الأولى - تجعل الثروة حقا للمالك الجديد كما كانت بالعمل ملكا للمالك الأول. أما في الحالة الثانية - حالة الميراث - فإن القانون يجعل الملكية حقا يثبت شرعا في نظر كل إنسان طبقا لتقديره للأمن العام.
غير أنه لم يكن من اليسير أن يتجسم المبدأ الذي يسلم به الجميع دون مشقة، وهو المبدأ الذي يقرر أن المالكين يجب أن يسنوا قانون الملكية، ويسن الأشخاص قانون الأشخاص؛ ذلك لأن الأشخاص والأملاك قد امتزجوا في جميع المعاملات. وأخيرا يظهر أن الرأي العام استقر على أن العدل يقضي بأن تكون للمالكين حقوقا انتخابية أكثر مما يتمتع به غير المالكين، وفقا للمبدأ الإسبرطي الذي «يسمي كل عدل مساواة، ولا يسمي كل مساواة عدلا.»
ولا يبدو هذا المبدأ اليوم واضحا كما بدا في سالف الأيام، وذلك من ناحية لأننا بتنا نشك في هذا الاهتمام الزائد بالملك في القوانين، وهذا الاتجاه في تقاليدنا الذي يسمح للغني بأن يعتدي على الفقير، وأن يبقيه على فقره، ومن ناحية أهم لأن هناك إحساسا غريزيا مهما يكن غامضا مبهما بأن نظام الملك بأسره - بقواعده الراهنة - ضار، وتأثيره على الأشخاص محط بهم مؤخر لهم، وأن الأشخاص حقا هم وحدهم الجديرون باهتمام الدولة، وأن الملك سوف يتبع الأشخاص دائما، وأن الغرض الأسمى للحكومة هو تثقيف الناس، وإذا أمكن تعليم الناس فإن النظم السائدة سوف تسهم في إصلاحهم، وإحساسهم الخلقي سوف يكتب لهم قانون الأراضي.
فإذا لم يكن من اليسير أن نحكم بالإنصاف في هذا الموضوع، فإن الخطر يقل إذا وجهنا التفاتنا إلى دفاعنا الطبيعي. إنا بذلك نكون أحسن حراسة لأنفسنا من رعاية أمثال هؤلاء الحكام الذين نختارهم عادة.
إن الجانب الأكبر من المجتمع يتألف دائما من أشخاص صغار غافلين. أما الشيوخ الذين شاهدوا نفاق المحاكم ورجال الحكم فإنهم يموتون دون أن يتركوا حكمة لأبنائهم؛ فهؤلاء يصدقون صحيفتهم الخاصة كما كان آباؤهم يفعلون وهم في مثل سنهم. وبمثل هذه الأغلبية الجاهلة المخدوعة سرعان ما تنهار الدول. بيد أن هناك حدودا لا تستطيع حماقة الحكام وأطماعهم أن تتخطاها؛ فللأشياء قوانينها، كما للرجال، وتأبى الأشياء التلاعب بها. والملكية سوف تحمى. والقمح لا ينمو إلا إذا زرع ووضع له السماد، ولكن الفلاح لن يزرعه أو يفلحه، إلا إذا كان الترجيح بنسبة المائة إلى الواحد بأنه سوف يجمعه ويحصده؛ فالأشخاص والملك - تحت أية هيئة من الهيئات - لا بد أن يظفروا بالحكم العادل، وسوف يظفرون به. إنهم يمارسون قواهم باطراد كما تمارس المادة جاذبيتها، فإنك إن أخفيت رطلا من التراب بطريقة ماكرة لم يسبقك إليها أحد، وإن شتته أجزاء وجزيئات، وإن أذبته سائلا، وإن حولته إلى غاز، فإنه سوف يزن الرطل دائما، وسوف يجذب ويقاوم غيره من المواد دائما بمقدار ثقل الرطل كاملا. وصفات الشخص، وذكاؤه وقواه المعنوية، لا بد أن تمارس قوتها كاملة، تحت أي قانون من قوانين الاستبداد المطلق، إن لم يكن صراحة ففي الخفاء، وإن لم يكن مع القانون فضده، وإن لم يكن بطريقة سليمة فبأخرى مسمومة، بالحق أو بالقوة.
ومن المستحيل أن نبين حدود التأثير الشخصي؛ لأن الأشخاص أعضاء ذوو قوى معنوية وخارقة. وقوى الأشخاص لا يمكن أن تكون موضعا للحساب تحت سلطان فكرة تستولي على عقول الجماهير، كالحرية المدنية، أو العاطفة الدينية. إن أمة أبناؤها يميلون بالإجماع نحو الحرية، أو الغزو، تستطيع بسهولة أن تحير حساب الإحصاء، وتنجز أعمالا مسرفة، لا تتناسب البتة وما لديها من وسائل، كما فعل الإغريق، والعرب، والسويسريون، والأمريكان، والفرنسيون.
وكذلك لكل ذرة من ذرات الملكية جاذبيتها الخاصة. ويمثل السنت كمية معينة من القمح أو غيره من السلع، وقيمته في ضرورات الجانب الحيواني من الإنسان. إنه يساوي قدرا معينا من الدفء، ومن الخبز، والماء، والأرض. وقد يفعل القانون ما يشاء بصاحب الملك، ولكن قواه العادلة سوف تظل ملتصقة بالسنت. ويستطيع القانون في صيحة جنونية أن يقول إن لكل شيء قوة ما خلا أصحاب الملك، لن تكون لهم أصوات. غير أن الملكية بقانون أسمى - بالرغم من ذلك - سوف تدون، عاما بعد عام، دستورا شاملا يحترم الملكية، وسوف يصبح غير المالك مسجلا للمالك. وما يريد الملاك أن يفعلوه سوف تفعله قوى الملكية بأسرها، سواء عن طريق القانون، أو عن طريق مخالفة القانون. وإني طبعا أتحدث عن كل الملكيات، ولا أتحدث فقط عن الضياع الكبرى. وإذا ما غلب الأثرياء في الانتخاب، كما يحدث غالبا؛ فإنما يكون ذلك لأن ملكية الفقراء المشتركة تفوق ما جمع الأثرياء، فإن كل فرد يملك شيئا ما، حتى إن كان بقرة، أو عربة، أو أسلحته، ولذا فإن لديه هذا الملك يتصرف فيه.
والضرورة عينها التي تضمن حقوق الأشخاص والملكيات ضد خبث الحاكم وحماقته، تحدد صورة الحكم ووسائله، التي تلائم كل أمة، وطرق تفكيرها، ولا يمكن نقلها إلى ألوان أخرى من المجتمع. ونحن في هذا البلد فخورون جدا بنظمنا السياسية، التي تتفرد بأنها نشأت - في حدود ما يذكر الأحياء من الرجال - عن صفات الشعب وظروفه، التي ما زالوا يعبرون عنها بإخلاص كاف. ونحن نظهر إيثارنا لها على غيرها مما رواه التاريخ. إنها ليست أحسن، ولكنها أشد ملاءمة لنا فحسب. وقد يكون من الحكمة أن نفرض في العصور الحديثة مزايا الشكل الديمقراطي. ولكن في ألوان أخرى من المجتمع، التي يقدس فيها الدين الشكل الملكي، كان هذا الشكل دون غيره هو اللائق بها. الديمقراطية خير لنا لأن العاطفة الدينية في العصر الحديث أكثر اتفاقا معها. ولما كنا ديمقراطيين مولدا، فلسنا أهلا للحكم على الملكية، التي كانت صحيحة نسبيا عند آبائنا الذين عاشوا في الفكرة الملكية. غير أن نظمنا - رغم تطابقها مع روح العصر - لا تخلو البتة من العيوب العملية التي وصمت بها الأشكال الأخرى؛ فكل دولة تفسد عند تطبيقها. والرجال الصالحون لا ينبغي لهم ألا يخضعوا للقانون خضوعا تاما. وأية سخرية من الحكومة يمكن أن تساوي قسوة النقد الذي تتضمنه كلمة «السياسة» التي كانت تدل لعدة عصور خلت على «المكر»، مشيرة إلى أن الدولة إن هي إلا خدعة وحيلة؟
وهذه الضرورة البريئة عينها وهذه الإساءة في التطبيق ذاتها تظهر في الأحزاب التي تنقسم إليها كل دولة، من معارضين ومؤيدين لإدارة الحكومة. والأحزاب تقوم كذلك على الغرائز، ولها مرشدون خير من حكمة زعمائها يقودونها إلى أغراضها الخاصة المتواضعة. وليس في نشأتها أي اعوجاج، ولكنها تحدد في شيء من الجمود نوعا من العلاقة الواقعية الدائمة. ولا نعدو الحكمة إذا نحن أنحينا باللائمة على حزب سياسي لا يستطيع أعضاؤه، في الأغلب، أن يبرروا موقفهم، ولكنهم يقفون موقف الدفاع من تلك المصالح التي يجدون أنفسهم في غمارها، إلا بمقدار ما نعدوها إذا أنحينا باللائمة على الرياح الشرقية أو الصقيع، إنما يبدأ نضالنا معهم حينما يهجرون هذا الأساس الثابت الطبيعي بإشارة من زعيم، وعندما يخضعون للاعتبارات الشخصية فيتشبثون بالمحافظة على أمور معينة والدفاع عنها، أمور لا تتعلق البتة بمبادئهم. إنما تفسد الأمور الشخصية الحزب دائما.
وقد نبرئ الجماعة من الخيانة، بيد أنا لا نستطيع أن نشمل الزعماء بهذا التسامح عينه؛ فهم يحصدون مزايا الانصياع والحماسة عند الجماهير التي يوجهونها. وأحزابنا في العادة أحزاب ظروف لا أحزاب مبادئ، كالصراع القائم بين مصلحة المزارعين ومصلحة التجار، وبين أصحاب رءوس الأموال والعمال، وهي أحزاب متفقة في صفتها المعنوية، ويمكنها بسهولة أن تتبادل الأوضاع في تأييد الكثير من أعمالها. أما أحزاب المبادئ، مثل الطوائف الدينية، أو حزب حرية التجارة، أو الانتخاب العام، أو إلغاء الرق، أو إلغاء حكم الإعدام، فهي تنحدر إلى خلافات شخصية، أو توحي بالحماسة.
إن عيب أحزابنا الرئيسية في هذا البلد (الذي يمكن أن تذكر مثالا حسنا لهذه الجماعات الفكرية) هو أنها لا تستند إلى الأساس المتين الضروري الذي ينتمي كل منها إليه، ولكنها تتحمس أشد الحماسة لاتخاذ إجراء محلي وقتي، لا يفيد المصلحة العامة في شيء. أما عن الحزبين الكبيرين اللذين يكادان في هذه الساعة أن يقتسما الأمة بينهما، فإني أقول إن أحدهما يضم أحسن المبادئ، ويضم الآخر خير الرجال. يود الفيلسوف والشاعر ورجل الدين بطبيعة الحال أن يدلي بصوته للديمقراطي، ولحرية التجارة، والانتخاب العام، وإلغاء القساوة الشرعية في قانون العقوبات، والتيسير بكل الوسائل للشباب والفقراء بالظفر بمصادر وسائل الثروة والنفوذ، ولكنه قلما يقبل الأشخاص الذين يقترحهم له ما يسمونه بالحزب الشعبي ممثلين لهذه الحريات؛ فهم لا يؤمنون بقلوبهم بالأهداف التي تعطي كلمة الديمقراطية ما تنطوي عليه من معاني الأمل والفضيلة. إن روح الراديكالية الأمريكية هدامة لا ترمي إلى غرض. إنها لا تحب، وليست لها أهداف بعيدة أو مقدسة، ولكنها هدامة فقط لما تنطوي عليه من كراهية وأنانية. والحزب المحافظ من ناحية أخرى يتألف من أكثر السكان اعتدالا وقدرة وثقافة، ولكنه جبان، لا يهمه إلا أن يدافع عن الملكية. إنه لا يبرر حقا، ولا يتطلع إلى خير حقيقي، ولا يصم جرما، ولا يقترح سياسة كريمة، إنه لا يبني، ولا يكتب، ولا يحمي الفنون، أو يحتضن الدين، أو يؤسس المدارس، أو يشجع العلم، أو يحرر العبيد، أو يصادق الفقير، أو الهندي، أو المهاجر. ولا يتوقع العالم من أي الحزبين - حينما يظفر بالسلطة - نفعا في علم أو فن أو إنسانية، نفعا يتفق وموارد الأمة.
ولست من أجل هذه العيوب يائسا من ديمقراطيتنا. لسنا تحت رحمة أية موجة من موجات المصادفة؛ ففي نضال الأحزاب الكاسرة تجد الطبيعة الإنسانية دائما نفسها معززة، كما وجد أن أطفال المجرمين في خليج بوتاني لهم من الإحساس الخلقي السليم ما لغيرهم من الأطفال.
إن المواطنين في الولايات الإقطاعية يزعجهم أن تهوي مؤسساتنا الديمقراطية إلى الفوضى. وقد تعلم الشيوخ والحذرون منا عن الأوروبيين أن ينظروا بشيء من الفزع إلى حريتنا المضطربة. يقال إنا في تسامحنا في تفسير الدستور، وفي استبداد الرأي العام، لا نرسو على مرفأ. وقد يظن مشاهد أجنبي أنه يجد صمام الأمن في قدسية الزواج عندنا، ويظن غيره أنه واجدها في مذهبنا الكلفني. أما فشر آمز، فقد عبر عن الضمان الشعبي بطريقة أحكم حينما وازن بين الملكية والجمهورية فقال: «إن الملكية كالسفينة التجارية، تشق الأبحار، ولكنها قد ترتطم أحيانا على صخرة وتهوي إلى القاع، في حين أن الجمهورية كالعوامة، لا تغطس أبدا، غير أن قدميك تكونان في الماء دائما.» لا يمكن أن تكون للأشكال أهمية خطرة، ما دامت قوانين الأشياء تصادقنا، ولا يهمنا البتة كم طنا يكون ثقل الجو الذي يضغط على رءوسنا، ما دام في داخل رئتينا ضغط مساو له يقاومه. إنك إن ضخمت الكتلة ألف ضعف فلن تسحقنا ما دام رد الفعل يساوي الفعل.
إن حقيقة القطبين، والقوتين، الطاردة والجاذبة، قاعدة عامة، وكل قوة بفعلها الخاص تنمي القوة الأخرى . الحرية الهمجية تقوي الضمير الحديدي. وانعدام الحرية - بتقوية القانون والتقاليد - يميت الضمير، ولا يسود الحكم العرفي إلا إذا زادت شدة الزعماء وقدرتهم على الاحتفاظ بذواتهم أكثر مما ينبغي. ولا يمكن أن يدوم حكم الرعاع؛ فإن مصلحة كل فرد تتطلب زواله، ولا يرضي الجميع سوى العدالة.
يجب أن نثق ثقة لا حد لها في الضرورة النافعة التي تضيء خلال جميع القوانين. إن الطبيعة البشرية تعبر عن نفسها فيها تعبيرا مميزا كما تعبر عن نفسها في التماثيل أو الأغاني أو الخطوط الحديدية، وخلاصة قوانين الأمم ليست سوى تسجيل للضمير العام. إن الحكومات قد نشأت عن تشابه الناس في التفكير؛ فالسبب عند أحدهم سبب عند الآخر، وعند كل من عداه. وهناك طريق وسط يرضي جميع الأحزاب، مهما كثر عددها، ومهما اشتد تعصبها. يجد كل فرد تصديقا لأبسط مطالبه وفعاله في قرارات من عقله يسميها «الحق» و«العدل الإلهي». ويجد جميع المواطنين اتفاقا تاما في هذه القرارات، وفيها وحدها، لا فيما يطيب أكله أو ارتداؤه، وفي حسن استخدام الوقت، وفي مساحة الأرض أو المعونة العامة التي يستحق أن يطالب بها كل فرد. وسرعان ما يحاول الناس تطبيق هذا الحق وهذه العدالة على قياس الأرض، وتقسيم الخدمات، وحماية الحياة والملك. وليس من شك في أن محاولاتهم الأولى ملتوية معوجة، ومع ذلك فالحق المطلق هو الحاكم الأول، أو قل إن كل حكومة هي حكومة دينية لا تخلو من الشوائب. إن الفكرة التي تهدف كل جماعة إليها كي تسن قانونها وتعدله هي إرادة الرجل الحكيم. ولا تستطيع الجماعة أن تجد الرجل الحكيم في الطبيعة، فهي تبذل جهدا ملتويا وإن يكن جادا كي تحقق حكمه بالحيلة، وذلك مثلا بأن تدفع الشعب كله إلى التصويت على كل إجراء، أو بالانتخاب على مرتين تجريه كي تحصل على من يمثل الجميع، أو بانتخاب خير المواطنين، أو بالحصول على مزايا الكفاية والأمن الداخلي بتخويل الحكم رجلا واحدا يستطيع أن يختار بنفسه معاونيه.
إن كل أشكال الحكومات ترمز إلى حكومة أبدية، مشتركة بين كل الجماعات، بغض النظر عن عدد أفرادها، فهي كاملة إذا وجد من الرجال اثنان، وكاملة إذا لم يوجد غير رجل واحد.
إن طبيعة كل فرد إعلان كاف له عن صفة زملائه. الصواب والخطأ عندي، هما الصواب والخطأ عندهم. وما دمت أعمل ما يلائمني وأمتنع عما لا يلائمني، فإني وجاري سوف نتفق غالبا في وسائلنا، ونعمل معا مدة من الزمن لهدف واحد. ولكني حينما أجد أن سلطاني على نفسي لا يكفيني، وأتعهد بتوجيه جاري كذلك، أتخطى الحقيقة، وأفسد علاقتي به. وقد يتوفر لي من المهارة أو القدرة ما لا يتوفر له، فلا يستطيع أن يحسن التعبير عن شعوره بالإساءة، ولكن ذلك خداع، يصيبه بالأذى ويصيبني ككل خداع آخر. والحب والطبيعة لا يمكن أن يؤيدا هذه الدعوى، وإنما يجب أن تنفد بالخداع العملي، أقصد بالقوة، وهذا التعهد بعمل الآخرين هو الخطأ الجسيم الذي تقع فيه حكومات العالم فيجعلها مرذولة ممقوتة. والأمر يختلف في الأعداد الكبيرة عنه في الزوج، ولكنه لا يفهم في الحالة الأولى بالوضوح الذي يفهم به في الحالة الثانية.
إني أستطيع أن أرى جيدا فرقا كبيرا بين أن أقصر نفوذي على نفسي، وبين أن أحاول أن أجعل غيري يعمل وفقا لآرائي. ولكن إذا زعم ربع الجنس البشري أنه يوجهني إلى ما ينبغي لي عمله، فقد يجبرني هذا الظرف إلى درجة لا أرى معها بجلاء سخف ما يدعونني إليه. ومن ثم فإن الأهداف العامة كلها تبدو غامضة خيالية إلى جانب الأهداف الشخصية؛ لأن أي قانون، ما خلا ذلك الذي يسنه الناس لأنفسهم، مدعاة للضحك. إذا وضعت نفسي موضع طفلي، ووقفت وإياه إزاء فكرة واحدة، ورأينا أن الأمور هي كذا أو كذا، فإن هذا الذي نرى هو القانون لي وله. فكلانا هناك، وكلانا يعمل. أما إذا كنت أتدبر أمره - دون أن أشركه في الفكر - وأحدس كيف يكون الأمر معه، وأقضي بهذا أو ذاك، فإنه لن يطيعني. هذا هو تاريخ الحكومات، رجل واحد يعمل شيئا يربط به غيره، رجل لا يمكنه أن يتعرف بي يفرض علي ضريبة، وينظر من بعد إلي، ويحكم بأن ينصرف جانب من عملي إلى ذلك الغرض الهوائي، الذي يتراءى له دون أن يتراءى لي. الضرائب هي الدين الذي أشد ما يكون الناس ميلا عن دفعه. وما أشد هذه السخرية من الحكومة! إن الناس يعتقدون أنهم يحصلون على ما يساوي ما لهم في كل شأن سوى هذا.
ولذا فكلما ضعف سلطان الحكومة كان ذلك خيرا لنا، وكذلك كلما قلت القوانين وقل النفوذ الذي نوليه ثقتنا. والبلسم الذي يقي من شر هذه الحكومة الرسمية هو تأثير شخصية الفرد، ونمو الفرد، وظهور الأصل ليحل محل الصورة، أو ظهور الرجل الحكيم الذي يجب أن نقر بأن الحكومة القائمة ليست سوى محاكاة ممسوخة له.
إن ذلك الذي تميل الأشياء جميعا إلى استخلاصه، وذلك الذي تتآزر الحرية، والثقافة، وتبادل العملات، والثورات، على تكوينه وإخراجه، هو الشخصية. ذلك هو هدف الطبيعة: أن تبلغ تتويج ملكها هذا. إنما تقوم الدولة لتربية الرجل الحكيم، وبظهور الرجل الحكيم تنتهي الدولة. إن ظهور الشخصية يجعل الدولة أمرا لا ضرورة له. الرجل الحكيم هو الدولة. إنه ليس بحاجة إلى جيش أو حصن أو أسطول، إنه شديد الحب للناس. لا يجذب الأصدقاء إليه رشوة، أو وليمة، أو قصر، ولا أساس المنفعة أو الظروف المواتية. إنه ليس بحاجة إلى مكتبة لأنه لم يفكر، أو كنيسة لأنه نبي، أو كتاب قانون لأن لديه واضع القانون، أو مال لأنه القيمة، أو الطريق لأنه في بيته حيثما يكون، ولا خبرة لأن حياة الخالق تخترقه وتطل من عينيه. ليس له أصدقاء شخصيون؛ لأن من يملك السحر الذي يجتذب دعاء الناس جميعا وتقواهم لا يحتاج إلى زوج وقل من يربيهم، كي يشاطروه حياة شاعرية منتقاة. علاقته بالناس ملائكية، وذكراه دواء لهم، ووجوده عطر وزهر.
إنا نحسب أن مدينتنا قد اقتربت من ذروتها، ولكنا ما زلنا عند صياح الديك ونجم الصباح. إن تأثير الشخصية في مجتمعنا الهمجي لا يزال في طفولته. ويكاد وجوده لا يحس كقوة سياسية أو كسيد شرعي ينزل كل حاكم عن عرشه. وقد فات ذلك مالتس وريكاردو تماما، «والسجل السنوي» صامت، ولم يدون ذلك في «قاموس المحادثات»، ولم يرد له ذكر في رسالة الرئيس، أو خطاب الملكة، ولكنه - برغم ذلك - لا يكون عدما قط. كل فكرة يلقي بها النبوغ والتقوى في هذا العالم تغير وجه الأرض. ويحس المقاتلون بالسيوف وهي بين صفوف الجيش وجود القيمة الحقة، برغم ما يرتدون من ثياب القوى التي تنعدم فيها الأصالة. وأعتقد أن النضال نفسه في سبيل التجارة والأطماع ليس سوى اعتراف بهذه الصفة المقدسة، والنجاح في هذه الميادين هو العوض القليل، أو ورقة التين التي تحاول أن تغطي بها عريها النفس المستحية. وإني أجد مثل هذا الاتجاه الملتوي في كل صقع من الأصقاع. إنا نسارع إلى إظهار شيء من قدرتنا العقلية عوضا عن القيمة الحقيقية؛ لأنا نعرف مقدار ما يجب علينا أداؤه. إن الإحساس بحق عظمة الشخصية هذه يطاردنا، ولكنا لا نخلص له. غير أن لكل منا نوعا من القدرة العقلية، ويستطيع أن يؤدي شيئا نافعا، أو جليلا، أو مريعا، أو مسليا، أو مربحا. إنا نقوم بذلك، اعتذارا لغيرنا ولأنفسنا؛ لأنا لم نبلغ حد الحياة الطيبة المتساوية. بيد أن ذلك لا يرضينا، وإن كنا نلقي به تحت ملاحظة الرفاق. وقد يعمي بصائرهم، ولكنه لا يبسط أسارير وجوهنا، أو يعطينا اطمئنان الأقوياء حينما نسير في الخارج.
إننا نقدم الكفارة حيثما حللنا. وقدرتنا العقلية نوع من الاستغفار. ونحن مكرهون على التأمل في أية لحظة من اللحظات يتم فيها عمل عظيم، ونحن لها خاشعون، كأنها أمر جلل، وليست فصلا من عدة فصول، وتعبيرا صادقا عن طاقتنا الدائمة. إن أكثر الأشخاص القادرين يلتقون في المجتمع بشيء من التجاذب الخفي. وكأن كلا منهم يقول: «لست هنا بكليتي.» وأعضاء مجلس الشيوخ، ورؤساء الولايات، قد تسنموا الذروة بكثير من الألم، لا لأنهم يعتقدون أن المكانة العليا تريحهم خاصة، وإنما فعلوا ذلك اعتذارا عن القيمة الحقيقية، ولكي يبرروا رجولتهم في أعيننا. هذا المقعد البارز هو تعويضهم لأنفسهم عن طبيعتهم الضعيفة الباردة الجامدة. يجب أن يفعلوا ما يستطيعون. وما أشبههم في ذلك بنوع من حيوان الغاب ليس له سوى ذنب قابض، ولا بد له أن يتسلق أو أن يزحف. وهل إذا وجد المرء نفسه غنيا في طبيعته إلى درجة تمكنه من الدخول في علاقات دقيقة مع خير الأشخاص، فيجعل الحياة صافية حوله بما في مسلكه من كرامة وعذوبة، هل يستطيع مثل هذا الرجل أن يرضى بالمزايا الكاذبة للصحابة واجتماعات الانتخابات النيابية، ويشتهي العلاقات الجوفاء التي تنم عن الأبهة والعظمة، علاقات رجال السياسة؟ ليس من شك في أن من يستطيع أن يكون مخلصا لا يرضى أن يكون دجالا.
إن اتجاهات العصر الحاضر تؤيد فكرة الحكم الذاتي، وتترك الفرد - في كل الشرائع - إلى ما يوقعه عليه دستوره الخاص من جزاء وعقوبة، وهذا الدستور يعمل بنشاط لا نتصوره، في حين أنا نعتمد على القيود المصطنعة. وقد ظهرت في التاريخ الحديث الحركة التي تسير في هذا الاتجاه ظهورا واضحا. وما أكثر ما فيها من طيش وانحطاط. غير أن طبيعة الثورة لا تتأثر برذائل الثائرين؛ لأن الثورة قوة معنوية بحتة. لم يتميز بها قط أي حزب في التاريخ، ولا يمكن أن يتميز بها؛ لأنها تفصل الفرد من كل حزب، وتوحده - في الوقت نفسه - بالجنس كله. إنها تبشر بالاعتراف بحقوق أسمى من حقوق الحرية الشخصية، أو ضمان الملكية. لكل امرئ الحق في أن يعمل، وأن يكون محل ثقة، وأن يحب وأن يحترم.
إن قوة الحب لم تجرب قط كأساس للدولة. يجب ألا نتصور أن كل شيء يسير نحو الفوضى، إذا كان كل بروتستانتي رقيق الحس لا يرغم على القيام بنصيبه في الأوضاع الاجتماعية المعروفة، ولا ينبغي كذلك أن نشك في أنه ليس من الممكن أن تعبد الطرق، وأن ترسل الخطابات، وأن تكفل للعمل ثمرته، إذا انتهى حكم القوة. وهل بلغت وسائلنا الآن حدا من الامتياز يجعل كل منافسة عديمة الجدوى؟ بل هل لا تستطيع أمة من الأصدقاء أن تخترع وسائل أحسن من هذه؟ ومن ناحية أخرى، لا يخشى أشد الناس تحفظا وجبنا شيئا من إلقاء السلاح ونظام القوة قبل الأوان؛ فإنه طبقا لنظام الطبيعة، الذي يسمو كثيرا على إرادتنا تسير الأمور في هذا الاتجاه. وتقوم حكومة القوة دائما إذا اتصف الناس بحب الذات. وعندما يصفون إلى درجة تجعلهم ينكرون ناموس القوة، يبلغون من الحكمة ما يجعلهم يدركون كيف يمكن أن تؤدى هذه الأغراض العامة، أغراض البريد، والطرق العامة، والتجارة، وتبادل الملك، والمتاحف، والمكتبات، ومؤسسات الفن والعلم.
إننا نعيش في حالة وضيعة جدا من الدنيا، وندين بالولاء - بالرغم منا - لحكومات تقوم على أساس القوة. وليس عند أشد الناس تدينا وعلما في أكثر الأمم دينا ومدنية، اعتماد على الإحساس الخلقي، واعتقاد كاف في وحدة الأشياء، مما يدفعهم إلى الاعتقاد بأن المجتمع يمكن أن يسير بغير قيود مصطنعة، كما يسير النظام الشمسي، أو أن المواطن الفرد يمكن أن يكون عاقلا، وجارا طيبا، دون التلويح بالسجن، أو مصادرة الأملاك. ومن عجب كذلك أنه لم يكن بنفس أي إنسان إيمان كاف بالقدرة على الإصلاح، مما يوحي إليه خطة عامة لتجديد الدولة على مبادئ الحق والمحبة. كل من زعموا هذه الخطة كانوا مصلحين جزئيين، اعترفوا بسلطان الدولة على صورة من الصور. ولست أذكر إنسانا واحدا أنكر بإيمان سلطة القوانين، على هذا الأساس البسيط، أساس طبيعته الخلقية الخاصة. أمثال هذه الخطط، قد تنم عن منتهى النبوغ وغاية التقدير، ولكنا لا نرحب بها كصور مثالية إلا نفاقا. وإذا اجترأ الفرد الذي يعرضها على احتسابها خططا عملية فإنه ينفر منه العلماء ورجال الكنيسة، ولا يستطيع الرجال ذوو المواهب، أو النساء ذوات العواطف السامية، أن يخفوا ازدراءهم لها، ولا يقل عن ذلك ما تدأب الطبيعة عليه من ملء قلوب الشباب بالإيماء بالحماسة؛ فهناك الآن جماعة من الرجال - إن جاز لي أن أتكلم بصيغة الجمع - أو إن نشدت الدقة قلت إني كنت أتحدث منذ حين إلى رجل واحد، لا يحمل من عبء الهوى والتحيز ما يظهر له في لحظة واحدة استحالة أن يتبادل ألوف البشر أسمى العواطف وأبسطها، كما تتبادلها ثلة من الأصدقاء، أو زوج من العاشقين.
Page inconnue