وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
لعلك قرأت هذا البيت مرة ومرة، ولو قد قرأته ألف مرة ما خرج لنفسك منه شيء مما يحس له صاحب الأولاد!
نعم، هؤلاء هم أكبادنا، ما غابوا عنا إلا شعرنا بنقص في نفوسنا، بل بأحسن ما في نفوسنا، حتى يردوا علينا؛ بل إنه ما اجتمع بهم شملنا إلا شعرنا بأنهم قطع قد فصلت عن نفوسنا، ولو قد تهيأ لنا أن نحسوها حسوا لنملأ بها هذا الفراغ الذي نحسه فيها لفعلنا!
ابني معناه أنا، ولست أريد «بأنا» كلي، بل إنما أريد به عصارة ما في من عطف ورحمة، وأمل وشعور بأسعد السعادة وأجمل الجمال! ليس لحم ابني ولا دمه وعظمه إلا هيكلا لكل هذا، بلى ليس إلا رمزا بل ليس إلا هذه المعاني قد تجسدت فسويت على صورة الإنسان، بل إني أكاد لا أراه إلا تلك المعاني مترقرقة لم تمسكها صورة الإنسان! •••
هذا ولدي الصغير يلعب بين يدي، فسرعان ما أنسى سني وأطرح كل همي، بل سرعان ما أخرج عن نفسي، فلا أراني إلا قد رددت طفلا يتمثل في خلقه، فأنا الذي يلعب ويعبث، وأنا الذي يسر ويغتبط بهذا اللعب والعبث، حتى إذا تعرض لمكروه في بعض جريه ووثبه، ودفعه وجذبه، ثبت إلى نفسي فكففت المكروه عنه، ثم رددت من فوري إلى ما كنت فيه!
وإذا كان قد جاءك أن أعظم العظماء في هذا العالم قد خرجوا في ملاعبة أبنائهم عما ينبغي لهم من الجد والتوقر؛ بل لقد يبلغون في هذا أشد ما يبلغ الصبيان من ألوان العبث، فاعلم أنهم لا يتكلفون هذا تكلفا لمجرد إدخال السرور عليهم؛ بل إنهم لكثيرا ما يرون أنفسهم في بنيهم فيستشعرون هذه الحداثة، ولا يجدون حرجا من أن يصنعوا ما يصنع الأحداث؛ بل إنهم ليجدون في هذا لذة لا تعدلها لذة، ومراحا دونه كل مراح!
وإذا كان قد جاءك أن أعظم العظماء في هذا العالم قد اتخذوا من أنفسهم مطايا لصغارهم، فأركبوهم ظهورهم، لا يرون بهذا بأسا ولا يجدون فيه حرجا، فاعلم أنهم، وقد عجزوا عن أن يردوا كبودهم إلى مواضعها بين ضلوعهم، سواء عليهم أوضعوها على الصدور أم وضعوها على الظهور!
ولقد ترى الرجل يؤثر ولده على نفسه بالحلوى والفاكهة مثلا، فلا تظنن أنه إنما يفعل هذا لمجرد تفكيهه وتلذيذه؛ بل إن نفسه هو لتتذوقها بهذا أحلى متذوق، وتسيغها أحسن مساغ، بما لا يقاس به احتلابها بالشفاه، وتقليبها في الأفواه. •••
ها أنا ذا أقبل ولدي، وإني لأجد لقبلته من اللذة ما لا أجده لشيء من لذائذ الدنيا، هي لذة فيها شدة وفيها رفق، وفيها عنف وفيها لين، وفيها حر وفيها برد، وفيها وراء ذلك حلاوة لا يتعلق بها وصف الواصفين، أرأيت هذا الذي ألح عليه الظمأ في اليوم القائظ حتى استحال الظمأ في حلقه أوارا، ثم أقبل على الشبم الزلال فجعل يعب منه عبا حتى ينقع غلته نقعا؟ اللهم إني لأجد في تقبيل ولدي أشد من هذا وأحلى وأروح، لولا أن اللذة فيه لا تنقضي، والغلة إليه لا تنقع، على كثرة العب وعلى توالي الرشيف!
Page inconnue