ولقد ينتهي إليه أن خلقا من الناس يأتمرون بي، فإذا لم يستطع أن يكف بادئ الرأي كيدهم، ويدفع عني أذاهم من حيث لا أعلم، باداني بأمرهم، وحذرني مكرهم، وقد كنت على شرف الوقوع في حبالهم، فينجني الله تعالى به من كيد عظيم، ما في ذلك شك ولا إلى جحوده سبيل!
وإني لقد أخطئ الرأي، ولقد يضلني الهوى عن سبيل الحكمة في بعض الأمر، حتى يكاد هذا يزلقني إلى ما تكره عواقبه، فيزعجني بكل الوسائل عنه، ويردني برغمي معافى منه، ما في ذلك شك ولا إلى جحوده سبيل!
وإني لا أذكر أنني غبت عنه قط إلا تفقدني، وجعل يتعاهدني في جميع مظاني، ويقصني جاهدا حتى يصيبني، ولو كنت في قواصي الأرض، ليجالسني ويقضي أجل الوقت معي، ما في ذلك شك ولا إلى جحوده سبيل!
ولا أذكر أنه تهيأت له قط نزهة جميلة، أو مجلس غناء وتطريب، أو نحو هذا مما ينعم النفس ويلذذها إلا أسرع فدعاني إليه وآثرني به، وألح علي في حضوره، وقد يستكرهني إذا تعذرت عليه في ذلك استكراها، ما في ذلك شك ولا إلى جحوده سبيل!
ومهما يكن من شيء فإنه في كل هذا الذي ذكرت لك يؤثرني - فيما أعلم - أشد الإيثار، ويعقد في عنقي من المنن ما لا تسخو به إلا أنفس أصدق الأصدقاء وأصفى الأولياء، حتى إنني لأتمثل في شأنه هذا معي بقول الشاعر:
فأصبحت يلقاني الزمان لأجله
بإكرام مولود وإعظام والد
على أنه قد ذهب عني أن أذكر لك في صدر هذا الكلام الصفات البارزة لصديقي أو عدوي هذا «فلان»، ولكن الفرصة لما تزل حاضرة، والحمد لله، إلى الآن: هو رجل في أعقاب الشباب، انحدر من أسرة إن لم يمد لها في غنى عريض، فإنها تجري على عرق من الفضل والكرم، ومن النبل والشمم، وهو بعد على حظ غير قليل من العقل والذكاء والعلم والثقافة جميعا، حاضر البديهة، حسن الرأي في الجملة، يجيد الحديث ويحذق النكتة، وقد يبرع في إدارة مجلس السمر، وهو وإن لم يكن أديبا فإنه يتذوق الأدب، مرهف الأعصاب، لقد يثيره التافه من الأمر، وتارة يسرف في الحمل على النفس ليصبرها على مكروه عظيم، لرأي يراه هو ولكن يكتمه الناس، ولقد نجد فيه أحيانا أدبا جما وظرفا عظيما، ولقد ترى فيه حينا عنجهية شديدة وسلاطة لا تطمئن إلى الصبر عليها رواسخ الجبال!
ثم إنه لرجل مرح في غالب شأنه يطرب على الغناء، ويتبسط في مجلس الأنس واللهو، ولا يعلق يده عن الإنفاق على أسباب التنعيم والتسلية والترفيه. •••
بعد هذا أرجو منك يا سيدي أن تسمع كيف يصنع لي هذا الولي الحميم، أو هذا العدو الصميم: إنني ما غشيت قط مجلسا هو فيه إلا تغير وجهه، وحال لونه، وتقلصت شفته، وبان الغيظ والحنق عليه، فإذا حييت تثاقل في رد التحية، وجعل يتكلف مصافحتي تكلفا حتى كأنما يضطلع بعبء ثقيل، بل لقد يبتدرني من القول بما أكره، فأنطلق من فوري مغضبا مغيظا، وأنا أستشعر اغتباطه بهذا واستراحته له!
Page inconnue