3
ويحسن الإصغاء إليه، ويظهر الاحتفال له، مهما يكن سخيفا يجري في تافه الموضوعات، بحيث يشعرك أنك تنضح على سمعه جديدا عليه، يفيده علمه به؛ حتى لتغلون في هذا الشعور، فما تفارق مجلسه إلا وقد خلت أنك أسلفت إليه بحديثك يدا!
متواضع شديد التواضع لا يضيف فضلا لنفسه، ولا يدل على أثر لفضل، بل إنه لشديد الاجتهاد في أن يتمثل لك في صورة آحاد الناس، ولقد يجيد سبك هذا حتى يجوز أمره عليك، فتحسب حقا أنه مثل سائر الناس، فإذا كان الحديث في علم أو في أدب أو في فن، أو في استجلاء وجه الرأي في العظيمات، فهنا لا يستطيع أن يكتمك نفسه، فهيهات لامرئ أن يكف ما تجري به الأقدار، على أن عبقريته إذا فضحته برغمه وكشفت عن حقيقة شأنه، فإنه لا يبرح يواريها بشدة التواضع والرفق في مضارب الحجة لكيلا يروعك عظم خطئك، ولا يهولنك مدى ما بينك وبين الصواب، وما إن تراه يقول لمحدثه أخطأت أو عدوت الرأي، بل لقد يدارجه في بعض القضية، ثم يلوح له بالرأي في حواشي القول تلويحا، حتى إذا شامه عدل إلى طريقه وكأنه تهدى إليه من تلقاء نفسه، ما قاده إليه أحد، ووالله لكأن أبا تمام كان يعنيه هو بظهر الغيب حين قال:
جم التواضع والدنيا بسؤدده
تكاد تهتز من أطرافها صلفا
أخذ نفسه بأعلى قواعد الأخلاق، فلا يصدر إلا عنها في كل سعيه، يستوي في ذلك الدقيق والجليل من عامة شأنه، وإنك لتراه إلى هذا شديد التجمل للناس، عظيم التصبر على مكروههم، فلا يجبه إنسانا بكلمة السوء، ولا يعيره عيبه، ولا يعنف في العتاب - إن هو عاتب - على مساءة لحقته؛ بل لقد يصوغ هذا في الكلمات الخفاف اللطاف تمضي هينة رفيقة ما تثير أذى ولا تسيل جرحا، وإنه حتى ليفعل هذا وهو مستحي غاض البصر، كأنه هو الذي أساء، وأنه هو الذي يعتذر!
رزقه الله عفة النفس وعفة اللسان وعفة الرأي معا، فلا يحدر طرفه إلى ما ليس له، ولا يستكثر نعمة دخلت على إنسان مهما يجل قدرها ويدق قدره، ولم تحص عليه قط كلمة سوء رمى بها غائبا، ولقد يجيئه أن فلانا هتف به بما لا يحب، فلا يزيد على أن يتقبض وجهه، وتتقلص شفته، ويومئ بالأسف إيماءة خفيفة دقيقة، ويعود سريعا إلى طمأنينة نفسه واستراحة عصبه؛ وهذا إذا كان من يلمزه ممن يعنى شأنهم، وإلا فلا يكون منه شيء أبدا!
وأما عفة رأيه وتفكيره، فإن هوى أو شهوة، أو طمعا في نفع، أو مصانعة لذي سلطان، أو تعلقا بالفلج،
4
وقهر الخصم إذا استكره على الجدل ولم يكن له منه بد، اللهم إنه لا يمكن لشيء من هذا ولا لغيره أن يغض من عفة تفكيره ونزاهة رأيه، كأنما يتعاظمه أن يسطو بهذه الحجة القارحة، التي آثره الله بها، على الحق، على حين أن الأكرم لها والأجدر بها أن يسلطها على الباطل فتكسره تكسيرا، وكأني به يأبى إلا أن يحصن هذه النعمة الجليلة على الزوال إذا هو بطرها فأنفق منها في غير إظهار الحق، وفي غير ما يرضي الله! •••
Page inconnue