لقد أصاب كل منهما ما أصاب من أسباب التربية والإزكاء، فاحتجز منها ما واءمه وما تعلقت به حاجته، ونفى عنه ما لا خير له فيه وما لا حاجة به إليه، ثم أساغ ما أمسك وهضمه، فاستحال دما يجري في عرقه، ويزيد في خلقه.
ولا شك في أن لأدبنا العربي عناصر، وله مقومات، وله شخصية بارزة معينة، فمن شاء فيه تجديدا - ومن الواجب الحتم على القادرين أن يجددوا - فليتقدم، ولكن من هذه السبيل.
ولا تنسوا أن من هذه المقومات، إن لم يكن أهمها جميعا، هو صحة العربية وتحري فصحها، فمن تهاون هذا وتجاوزه، فليس ما يصنع من الأدب في شيء أبدا ، ومما يتصل بهذا المعنى ما لعلي لا أخطئ إذا دعوته تقاليد العربية؛ فللعربية كسائر اللغات القوية تقاليدها المأثورة على الزمان.
وهناك مقومان آخران لهما خطرهما العظيم، ألا وهما التخييل والذوق العام، ولا أحسبك تنكر أن لكل أمة ذوقها الخاص بها في كثير من أسباب الحياة، ولقد تشارك غيرها من الأمم في بعض هذا، ولقد تفارقها في بعض فراقا شديدا أو يسيرا.
أما التخييل فقد قلت لك في مقال مضى إن خيال المرء مهما حلق وعلا، ومهما أسرف وغلا، فهو لا يمكن أن يخرج عن كونه مجرد تلفيق من الحقائق المحسة الواقعة، وأنت بعد خبير بأن أصدق خيال وأروعه، وأن أحكم تشبيه وأطبعه، هو ما اشتقه الشاعر مما يحيط به وبقارئه، ويقع لأسماعهما ولأبصارهما جميعا، وإلا نبا عن السمع، ونشز على الطبع، ولو كان بالغا غاية الغاية في بيئة أخرى.
نعم، لقد يشهد الشاعر من مجالي الطبيعة ما لم يشهد عامة قومه، ولقد يظهر على كثير مما انتضحت به بلاغات أئمة البيان في الأمم الأخرى، ولقد يتذوق هذا في لغاهم، ويتأثر به إلى حد بعيد، ولقد يرى أن ينقل ما يطول من ذلك إلى معشره بإخراجه في لغتهم لينعمهم ويلذذهم ويرهف حسهم، ويفتق في أذهانهم، ويفسح في أدبهم، بإدخال جديد عليه، وإضافة بديع من الآداب الأخرى إليه، فإن له من ذلك ما يحب، على أن يصوغه في صحيح لغته، ويطبعه على غرار أدبه، ويحتال على تسوية خلقه، حتى يصبح تام المشابه بما ألف قومه، حتى لا يحسوا فيه غربة، ولا يشعروا منه بوحشة، فإذا وفق الأديب إلى هذا وأجاده وأحكمه فهو المجدد التام.
شوقي إمام المجددين
ولقد ضرب شوقي في الأرض كثيرا، ورأى من صور الطبيعة ومن بدائعها ما لم تتهيأ رؤيته لكثير، وقرأ في الفرنسية لأئمة البيان في الغرب ما لا يكاد يملكه الإحصاء، ولقد أساغ ما استعار، وجرى في أعراقه طلقا، واستطاعت شاعريته الفخمة أن تجلو منه ما شاء أن يجلو عربيا خالصا لا شك فيه؛ وهذه دواوينه تزخر بهذا البدع زخرا.
فاللهم إن كان التجديد ما ذكرنا، فشوقي إمام المجددين في هذا العصر غير مدافع، أما إن كان التجديد هو المسخ، واستحداث صورة شائهة، واستكراه ألوان من المعاني لا تمت إلينا بسبب، على صيغ لا هي بالعربية ولا هي بالأعجمية، فاللهم اشهد أن شوقي ليس مجددا بل ليس شاعرا أبدا. •••
ولقد جال شوقي بشعره في كل غرض، وقصد كل قصد، وأصاب من كل معنى، وطال نفسه في أكثر قصيده إلى ما لم يطله كثير من أنفاس الشعراء، فما ضعف ولا تخلخل ولا أسف، ولا فسلت أخيلته ، ولا شاهت معانيه، بل لقد يأتي أكثر ما يأتي بالجوهري الرائع من حر الكلام.
Page inconnue