لقد لاح لك ما يكون للنقد، إذا سار على هذا النهج، من عظيم الجدوى على أدبنا العربي، بانتخاله وتصفيته، ودفعه في طريق الكمال حتى يوفى بجهد الناقدين على الغاية لو كان للكمال حد مقسوم؛ فهل نحن الآن فاعلون؟
فوضى النقد الأدبي
الواقع أن الأمر ليس كذلك مع الأسف الشديد؛ هذا هو الواقع الذي يشركني في تقريره كثير، ويشركني في الإيمان به الجميع، وإن جحده من تميل بهم الأهواء عن قصد السبيل!
الواقع أن النقد عندنا أصبح فوضى ما تفتأ تستفحل وتستحصد، حتى بات يخشى أن يضل الناشئين عن كل أدب صحيح، إذا لم يأت بالفعل على كل أدب صحيح.
وإنني لأتقدم إلى تقرير هذا الواقع المر وتبيينه، لأنني امرؤ لا أنتمي - والحمد لله - لشيعة، ولا أتصل بحزب من هذه الأحزاب الأدبية القائمة في البلاد الآن، ولا يستطيع زاعم أن يزعم أني دعوت لنفسي أو دعوت لأحد من الأدباء في يوم من الأيام.
وعلة هذا، في تقديري، تعود إلى السعار الذي لحق كثيرا من متأدبي هذا العصر إلى طلب الشهرة ونباهة الذكر من أخصر طريق، وليس في هذه الطرق أخصر ولا أيسر من التهويش وصب المديح جزافا، وهيل الثناء وإضفاء النعوت وإفراغ الألقاب بغير حساب!
والأديب لا يستطيع أن يضطلع لنفسه بهذا وحده، مها يجد ويسرف في انتحال الأسماء والألقاب، يضيف إليها ما تفضل به في نعت نفسه من سابغ المقال، بل لا بد له في بلوغ الشأو وإدراك الغاية من الاستعانة بغيره على مهمه، وكلما كثر هؤلاء الأنصار والأعوان هان بالضرورة إحراز الشهرة في أقرب آن، وهؤلاء الأعوان لا ينهضون لهذه الخدمة بغير ثمن عيني، أي بدون أن يبادلهم صاحبنا المديح ويقارضهم الثناء، ومن هنا كان للأدب عندنا في هذه الأيام أحزاب وشيع هي أشبه ما تكون بالشركات المالية يساهم فيها الجميع، فتعود جدواها على الجميع!
ولقد دعا هذا بالضرورة إلى التنافس والتباري بين هذه الأحزاب والشيع الأدبية، وهذه الهيئات أو الشركات رأس مالها قائم على الكلام، فهي إنما تتنافس وتتبارى بالكلام، وهذا الكلام عبارة عما شئت من غلو وإسراف في إراقة الثناء من كل منها على كل أثر يصدر عن أي كان من المنتمين إليها، والارتصاد بلاذع النقد لما يظهر من أثر كل خارج عليها، وهكذا ديست حرمة الأدب، وعفر وجه النقد الكريم بالتراب!
ليس يعني الأدب كثيرا أن يغمط أديب بعض حقه، أو أن يغمط حقه كله، ولا يعنيه كثيرا أن يفرغ على متأدب من النعوت والألقاب ما لا يرتفع إلى بعضه كل قدره، ليس هذا مما يعني الأدب في ذاته كثيرا، وإنما الذي يعنيه ويجهده ويعنيه هو فقدان المقاييس الأدبية التي هي المرجع الصحيح أو القريب من الصحيح في تقويم حظوظ الآداب.
هذا شعر خالد! وهذه شاعرية جبارة! وهذا المعنى من وحي السماء! وهذا فلان يؤدي رسالة الأدب إلى العالم ... إلخ، يا لطيف! يا لطيف!
Page inconnue