وهناك أدب غربي دارج الحضارة الحديثة وسايرها خطوة خطوة، واتسع لكل مطالبها، وواتاها بجميع حاجاتها في غير مشقة ولا عناء، ولا يذهب عنك أننا إنما نتأثر الغرب في ثقافته وعلومه وفنونه وسائر وسائله، وهذه سبيلنا إلى ما نستشرف له من التقدم ومشاكلة الأقوياء، ولكن هذا الأدب الغربي الذي نقبل على محاكاته فيما نقبل عليه من آثار القوم، لا يتسق في بعض صوره لشأننا، ولا تستريح إليه أذواقنا، بل إنه قد لا يستوي في تصوراتنا، ولا يجدي علينا في كثير، أضف إلى هذا عجز بعض نقلته سواء في شعره أو في نثره، وقلة محصولهم من العربية، واضطرارهم بحكم ذلك إلى إخراجه، مترجمين كانوا أو محاكين ومقلدين، في صور بيانية شائهة الخلق، ناشزة على الطبع، لا تحس إلا مليخة باردة في مذاق الكلام!
وبعد، فإن مما لا يتقبل النزاع أنه لا بد لنا من أدب قوي سري يواتي جميع حاجاتنا، ويساير ثقافتنا القائمة، ويتوافى لهذه الحضارة التي نعيش فيها، بحيث تطمئن به طباعنا، وتستريح إليه أذواقنا، شأن كل أدب حي في هذا العالم، ولعل من أشد الفضول أن نقول إن هذا الأدب لا يمكن إلا أن يكون عربيا، ولكن كيف الحيلة في ذلك؟
ذلك ما نعالجه في مقال آخر، إن شاء الله تعالى، فلقد طال هذا الحديث.
أين أدبنا الصريح؟
لقد تعرف أن الأدب الحق لكل أمة هو الذي يشاكل حضارتها، ويكافئ ثقافتها، ويواتيها في جميع أسبابها، ويترجم في صدق ويسر عن عواطفها، وينفض ما يعتلج في الصدور من ألوان الشعر والأحساس، ولقد تعرف أن الأمم كما تختلف في ألوانها وفي ألسنتها وفي أخلاقها وعاداتها وغير أولئك، فإنها تختلف كذلك في شعورها وفي أذواقها ومنازع عواطفها، ومهما تختلف في أفراد الأمة الواحدة هذه العواطف بالقوة والضعف، والرقة والجفاء، وغير ذلك من وجوه الاختلاف، فإنها ترجع إلى أصل واحد، وتندرج تحت جنس واحد، على تعبير أصحاب المنطق، وذلك لأنها أثر من آثار الإرث، والبيئة، والعادة، والتاريخ، وما يتردد عليه النظر من صور الطبيعة، وغير ذلك، كما أن لنوع الثقافة ومبلغ حظ الأمة منها أثره البعيد أو القريب في هذا الباب.
وكيفما كان الأمر، فإن لون العواطف الشائع في كل أمة ليس بالشيء الذي يستعار استعارة، ولا بالذي تتناقله الأمم كما تتناقل العلوم وفنون الصناعات مثلا، وكيف له بهذا وقد رأيت أن أبلغ عناصره مما لا يدرك بالكسب ولا بالاختيار، إن هو إلا حكم الطبيعة وما من حكم الطبيعة مناص!
وأحسب أننا - بعد التسليم بهذا - في غير حاجة إلى أن نبعث الأدلة على أن ما يترجم عن عواطف قوم ويصور من حسهم الباطن قد لا يؤدي هذا لغيرهم، وأن ما يستقيم من البيان لأذواق خلق من الناس قد ينشز على أذواق معشر آخرين، على أنه قد تشترك العاطفة والذوق كلاهما في معنى من المعاني، وحينئذ يصدق البيان.
وعلى هذا فإنه مهما نسرف في مطالعة أدب الغرب والتروي منه، ومهما نجهد في محاكاته وتقليده، فإنه لن يكون لنا أدبا في يوم من الأيام، اللهم إلا أن تنقلب أوضاع الطبيعة، فإن الأمم لا تطبع على غرار الآداب، بل إن الآداب لهي التي تطبع على غرار الأمم!
لقد نكون في حاجة، ولقد تكون هذه الحاجة شديدة جدا إلى مطالعة آداب الغرب وإطالة النظر فيها، واستظهار الكثير من روائعها، ونقل ما يتهيأ نقله إلينا منها في لسان العرب، ولكن ليس معنى هذا أن نتخذها آدابا لنا، فذلك - كما علمت - عبث لا يغني ولا يفيد! •••
والآن نلتمس أدبنا باعتبارنا عربا أو مستعربين نعيش في مصر، مأخوذين بثقافتها القائمة، موصولين بتاريخها القديم، إننا نلتمس هذا الأدب الذي يوحي به إلينا تاريخنا العربي من ناحية، وتاريخنا المصري من الناحية الأخرى، هذا الأدب الذي تلهمنا إياه أخلاقنا وعاداتنا وثقافتنا، ويسويه لنفوسنا العيش في وادي النيل، إننا نلتمس هذا الأدب الذي يفيض بما تجيش به عواطفنا، ويصدق في الترجمة عما يعتلج في نفوسنا، ويصور دخائل حسنا أكمل تصوير، ويعبر عنها أدق تعبير، وإن شئنا الكلمة الجامعة قلنا إننا نلتمس الأدب القومي فلا نصيب أثره إلا قليلا فيما يخرج لنا من آثار الأدباء والمتأدبين!
Page inconnue