كيف تطورت كلمة الفن وإلى ماذا صارت اليوم؟
قلت لك إن كلمة «الفن» قد تصرفت في بعض معان أخر غير تلك المعاني التي أطلقت عليها بأصل الوضع اللغوي؛ ذلك بأنه لم تكد الدولة العربية تنبعث في الحضارة حتى أرسلت كلمة «الفن» للتعبير عما يقابل كلمة «العلم»، فما كان قوامه إرسال القضايا الكلية التي يتعرف بها أحكام ما يندرج تحتها من الجزئيات، فذلك علم، وما كان قوامه العمل الجاري طوعا للأصول والأحكام المقسومة، فذلك فن، فيقال علم الأصول، وعلم الفقه، وعلم النحو، وعلم الصرف، ولا يقال في شيء من ذلك فن، ويقال للخطابة، وقرض الشعر، والموسيقى فن ولا يقال علم.
فقد بان لك أن العلم مادته الفكر والنظر، وأن الفن مادته العمل والأثر.
ولقد يتبهم الفرق الدقيق بين العلم والفن على بعض الناس حين يجدون بين أهل اللسان من يعبر عن الموسيقى مثلا بعلم الموسيقى مرة، وبفن الموسيقى مرة أخرى، وعن البلاغة بعلوم البلاغة تارة، وبفن البلاغة تارة أخرى، وهكذا.
والواقع أن الموضوع الواحد قد يكون علما وفنا معا، ولكنه إنما يكون هكذا من ناحية، ويكون كذلك من ناحية أخرى، فنحن إذا طلبنا الموسيقى مثلا من جهة القضايا العامة من نحو تقسيم النغم إلى أصلية وفرعية، وأن هذه النغمة لا يفضى منها إلى تلك إلا بطريق كذا، وأن هذه لا تقع في جواب تلك إلا بشرط كذا إلخ، فلا شك أن «الموسيقى» على هذا علم لا فن، فإذا غنانا المغني بالفعل فتصرف في فنون النغم طوعا لتلك الأحكام، فلا ريب في أن «الموسيقى» على هذا فن لا علم.
وكذلك قل في علوم البلاغة، فما قررت من أحكام الفصل والوصل، والإيجاز والإطناب والمساواة، والاستعارة والتشبيه، والجناس والتورية والتقسيم إلخ، فتلك علوم البلاغة، حتى إذا أرسلت القلم بالكلام البليغ، فذلك فن البلاغة.
لتفننت في الكتابة حتى
عطل الناس فن عبد الحميد
3
وكذلك القول في الهندسة، وفي كل ما تجري عليه أحكام القضايا النظرية بحيث يمكن أن يكون له أثر محسوس في خارج الأعيان كما يقولون.
Page inconnue