قوة حجته
كان رشدي باشا من أشد خلق الله حجة وأمضاهم قولا، يحكم له بهذا كل من أوتي فطنة يلمح بها ما يتراءى لذهنه أثناء التدليل من فنون الأسباب والعلل، على أنه قد اجتمع عليه إلى تلك الحالة «العصبية» ضعف المادة في لغة العرب، فلم يكن لبيانه إذا تكلم بهذه اللغة أو كتب من الوضوح ما يتوافى لجلالة معانيه، ويواتي براعة تدليله، ولكنه برغم هذا كان إذا كتب ارتفعت قوة معانيه بعباراته العربية، حتى يجيء منها أحيانا بالرائع الجزل الذي لا يتهيأ لمن له مثل حظه القليل من لغة العرب والتفقه في أدبها.
وإني لأذكر أنه اختلف يوما مع بعض المصطفين الأعلام من أعضاء لجنة الدستور على مسألة، لا محل لإيرادها الآن، فذهب إلى رأي أزعجهم، وبعثهم بالإنكار والاحتجاج، وكلما سألهم أن يصبروا حتى يدلي إليهم بحجته، صاحوا في وجهه، ودافعوه بغليظ الكلام، وأخيرا وثب من مجلسه، وأهاب بهم بأعلى ما اتسعت له لهاته: «يا حضرات السادة: استمعوا لي حتى أفرغ من حجتي، ثم فندوها بكل ما عندكم من حجة ودليل» ثم اطمأن قليلا، وعاد فقال في رفق ولين وإلقاء: «ولكنكم لن تستطيعوا!» فسكت القوم وتكلم رشدي ثم تكلم، فما هو والله إلا أن راح يلعب بالألباب لعبا، وما هو إلا أن راح يستعرض كل أدلتهم وما حصلوا من حجج، فيشد وثاقها، ثم يلقيها بين يديه واحدة بعد واحدة، والقوم ذاهلون عن مصيرهم بما تداخلهم من العجب ومن الطرب، حتى إذا ذابت آيتهم تحت لسانه كما يذوب الثلج في اليوم القائظ، أقبل على معارضيه في تؤدة واطمئنان، وقال لهم: إذن فتكلموا، فما هي إلا رءوس منغضة وأفواه مفغورة، ثم تصفيق يرتفع إلى السماء من إعجاب ومن افتتان!
ولقد حدثت أحداث الإسكندرية في مايو سنة 1921 ورشدي مع عدلي في لندن يفاوضان كيرزن في المسألة المصرية، وكانت السلطة العسكرية قد ملكت الأمر كله عن الحكومة المصرية، وتولت هي التحقيق بقوة الأحكام العرفية التي كانت مبسوطة يومئذ على البلاد، فلما انتهت المفاوضات إلى الكلام في حماية الأجانب، وعارض المفاوضون المصريون في أن يكون هذا إلى إنجلترا، دفع اللورد كيرزن إليهم بتحقيق السلطة العسكرية في حوادث الإسكندرية، وما دمغ المصريين ظلما بألوان الوحشية، وما أضاف إليهم من أمور تقشعر منها الجلود، فتناول رشدي باشا هذا التحقيق ويداه صفر من كل شيء، لأن التحقيق - كما قلت لك - استقلت به السلطة العسكرية، فأبت على رشدي عزيمته، وأبت عليه وطنيته، وأبت عليه عبقريته إلا أن يكب ليلته كلها على هذا التحقيق، والله يعلم ماذا بذل من مخه، والله يعلم ماذا هراق من ذكائه، حتى اتسق له في الصباح تقرير يعصف بهذا التحقيق عصفا، ويشهده على نفسه بالبطل، وشدة الحمل على المصريين، ثم مضى به إلى لود كيرزن فألقاه إليه، وما إن قرأه حتى سأل أن يتقاص الطرفان، وكذلك أخلت حوادث الإسكندرية الطريق!
نعم، لا يعرف أحد ما بذل رشدي ليلتئذ من عزم وذكاء، ليدفع عن وطنه كل هذا البلاء، ولكن كثيرين يعلمون أنه بذل الصحة، أو على الصحيح بذل الحياة، لأنه لم يدر عليه يوم أو يومان حتى ضربه الفالج فأبطله حينا، ثم أتى في النهاية على حياته العزيزة الغالية.
شجاعته
ولقد كان رشدي رجلا شجاعا كل الشجاع، يجهر بكل ما يعتقد، واقعا كلامه حيث وقع، لا يبالي في ذاك شيئا ولا يبالي فيه أحدا؛ وإن امرءا كرشدي قوي العزم، عظيم النزاهة، وافر الإخلاص، شديد التمكن من النفس؛ لا يجد أية حاجة لأن يرائي الناس أو يماريهم ويتحرف لهم، بل هو كل حقيق بأن يعد كتفه لاحتمال كل ما يحمله سعيه من التبعات.
ولست أريد أن أعرض لشأنه في أعقاب سنة 1914، فذلك - كما أشار رئيس مجلس النواب ووكيل مجلس الشيوخ في تأبينه - من حق المستقبل يحكم فيه بعد أن يطالع ما طاف به من الظروف، وما اتكأ عليه من الأسانيد، إلا أنني في هذا الباب لا أنسى أن رشدي كان شجاعا في احتمال تبعة ما وقع على يديه، وكان له بالطبع رأي فيه إن خيرا وإن شرا، وهو على أنه - كما علمت - قد راجع الكثيرين من أصدقائه في الأمر فأقروه وأجازوه، إلا أن شجاعته أبت عليه في معرض الجدال أن يشرك معه في تبعة الأمر أحدا، بل لقد مضى بها وحده، محتسبا إنصافه عند التاريخ وحده.
لقد تعلم أنه سير سفينة الحكم طوال مدة الحرب، ولقد تعلم ما حاق بمصر أيام الحرب من هول وشدة، ولقد تعلم ما كان للسلطة العسكرية من صولة وقوة، وغدا ستعلم ما كان لرشدي باشا من مواقف يكف بها العاديات عن المصريين لا يقفها إلا الرجل الشجاع.
وجاءت الهدنة العامة، وأعد الجبار «السربرونيات» عدته لالتهام مصر، وأخرج مشروعه الذي يسل به الحكم من أيدي المصريين سلا، وخاف الناس وانقبضوا في أكسار دورهم من خوف ورهبة، وبرز له رشدي بتقريره الوطني الخالد على وجه الدهر، وسرعان ما كسره به تكسيرا، وكان ذلك أول أذان بالفورة المصرية، حتى إذا تعذر عليه الإنجليز ودلوا بقوتهم؛ أضرب - وهو رئيس الوزارة - عن الحكم أشهرا، فكان صنيعه حدوة للموظفين فأضربوا جميعا، وكان إضرابهم أبلغ مظهر للنهضة المصرية، ولقد سمعت منه، رحمه الله، أن الحبال قد فتلت لرقبته مرتين، فما أبه ولا بالى في سبيل وطنه، وكذلك يكون الرجل الندب الشجاع.
Page inconnue