كان للأصوات على العموم مدى تنتهي إليه، وهذا المدى يختلف بعدا وقربا باختلاف الأصوات من جهة، والأسماع من جهة أخرى، قوة وضعفا، كما يختلف باختلاف الجو ضوضاء وجلبة، أو هدأة وسكونا، وعلى أي حال فإن هذا المدى لم يكن يتجاوز الصدر في رقم المئات من الأميال، كما يكون من هزيم الرعود وعزيف المدافع مثلا، فلما كان البرق (أعني التلغراف) تهيأ له أن يحمل نقر الناقر إلى آلاف الأميال، فلما كانت المسرة (أعني التليفون) سافرت أحاديث الناس كذلك مبينة واضحة اللفظ، على أنه لا يتهيأ الاستماع إليها إلا لواحد أو لآحاد.
ويأذن الله باللاسلكي، وقوامه - كما تعلمون - إشاعة الأصوات في الأثير، ولمن شاء بهذه الأداة التي بين أيديكم الآن، استمع في حدود المسافة التي يبلغها جهد المصدر، وهو المحطة التي تتولى الإذاعة من جهة، وجهد الأداة التي تتلقاها من جهة أخرى.
بهذا أصبح أثر «الراديو» في باب الإذاعة أشبه ما يكون بأثر المطبعة، غير أن ذلك يتصل بالآذان ، وهذا يتعلق بالأعيان، والجامع بينهما واحد على كل حال! فكلاهما يستخرج من الشيء المحدود ما لا يحصره عد، ولا يحيط به حد!
فمهما يفسح بين يدي الخطيب أو المغني، ومهما يؤت أحدهما من قوة الصوت وجهارته، فإنه ليس ببالغ من الأسماع إلا بضعة الآلاف على أوسع تقدير، أما «الراديو» فيستطيع أن يبلغ آذان الملايين في شعاب الأرض المختلفة دون مطاولة جهد ولا تجشم عناء!
سيداتي، سادتي
ليس «الراديو» أداة لهو فحسب؛ على أن شأنه في هذا الباب جليل، ومن الفضول أن أحدثكم عن شيء تستمتعون به وتطربون عليه أكثر لياليكم إذا لم يكن في لياليكم جميعا، ولكنني ألفتكم إلى شيء واحد: ذلك بأن هذا «الراديو» قد اعتمد ناحية من نواحي «الأرستقراطية»، وإن شئتم قلتم ناحية من نواحي الأثرة الإنسانية، فحطمها تحطيما، ولقد أدركت العصر الذي لم يكن يؤذن فيه لصغرى الطبقات، بل لبعض وسطاها في سماع المرحوم عبده الحامولي وأضرابه إلا بخوض المشقات واقتحام الأهوال، فلقد كان يقف بأبواب السرادقات في أعراس علية القوم غلاظ الجند في أيديهم غلاظ الهراوات،
14
فما يتهيأ لمستمع مسكين أن يدنو لينشر أذنه إلا مشق
15
بالعصا العشر والعشرين، وهو يصيح في ظاهر السرادق آه آه، ووالله ما أدري أيتأوه الرجل من لذة النغم، أم من حرقة الألم؟
Page inconnue