انتهى.
المقال الثاني
في تاريخ سورية في أيام إسكندر الكبير وخلفائه
الفصل الأول
في تاريخ سورية في أيام إسكندر الكبير وخلفائه
(1) في إسكندر الكبير وفتحه سورية
ولد إسكندر لفيلبوس ملك مكدونية في 29 تموز سنة 356ق.م، وأقام أبوه مهذبا ومعلما له أرسطو الفيلسوف، وكان ذكيا حزوما عزوما لا تثنيه القوة عن عزمه، بل يثنيه بسهولة البرهان السديد، وتوفي أبوه سنة 336 وعمر ابنه عشرون سنة، وبعد أن أخضع بعض المخالفين له في بلاده حمل على الفرس في آسيا الصغرى ودان له أكثر ملوكها إلى أن اجتاز معبر سورية من جهة فبليقية، وبلغ إلى إيسوس على خليج إسكندرونة، ووفد إلى هناك دارا ملك الفرس بجيشه الجرار وكان المحل ملائما لإسكندر ، فإن البحر هناك من جهة وجبل داغ من أخرى، وليس بينهما إلا أرض تضيق على جحافل دارا الكثيرة، وتكفي جنود إسكندر القليلة للحركات الحربية، فكانت بينهما موقعة هائلة في 29 تشرين الثاني سنة 333 أو سنة 332ق.م تشتت بها عساكر دارا، وتهافتوا على الفرار في تلك المضايق الوعرة، وهلك منهم خلق كثير خارجا عن ساحة الحرب، وكان عدد القتلى من الفرس في هذه الوقعة نحو مائة ألف رجل، وفر دارا تاركا برفيره وسلاحه وامتطى جوادا نجا به من لحاق فرسان إسكندر له، وكان عدد القتلى من المكدونيين ثلاثمائة راجل ومائة وخمسين فارسا، واستحوذ إسكندر على أخبية دارا وكان فيها أمه وزوجته وبنتاه وابنه، فأبقاهم في حوزته مكرمين.
ثم زحف إسكندر إلى مدن سورية وفونيقي، فلم يلق معارضا ودان له أكثر ولاتها وخرج سكان جبيل إلى لقائه مرحبين به، وكذلك فعل أهل صيدا ولكن عزل واليهم ستراثون الذي كان طائعا لدارا ونصب مكانه عبد وليم من ذرية ملوكهم القدماء، وكانت الحاجة أدت به إلى الاشتغال ببستان في ضواحي المدينة، وأرسل إسكندر برمينيون إلى دمشق ليستحوذ على خزائن دارا التي كان قد أرسلها إليها، فاستحوذ عليها برمينيون بخيانة والي هذه المدينة، وكان فيها من الذهب والفضة والآنية والحلي والحلل ما يشذ عن العد والوصف.
ثم سار إسكندر بجيشه من صيدا إلى صور، فأرسل أهلها إليه وفودا وهدايا قائلين: إنهم يريدون أن يتخذوه صديقا لا مولى، فقال: إنه يريد أن يقدم ضحية لمعبودهم في مدينتهم، فأنكروا ذلك عليه فعزم على محاربتهم، ولم تكن صعوبة بأخذ ما كان من المدينة في اليابسة ، ولكن كان قسم منها في جزيرة مسورة بأسوار منيعة فأخذ ما كان باليابسة، ولم ير وسيلة لأخذ الجزيرة إلا بأن يصل بينها وبين السارية بسد يمكنه من فتحها فباشر به، وحالت دون ذلك عقبات وخسائر نفوس وأموال لا تقدر إلى أن أكمل السد وحاصر الجزيرة، ودام حصارها سبعة أشهر، فبدئ فيه في شباط، وافتتحت الجزيرة في آب سنة 332ق.م، وعند الفتح صعد إسكندر إلى برج ملاصق للأسوار، وعرف أنه إسكندر فكان هدفا لأسهم جميعهم، وكان هذا من أعظم آيات بسالته، ودنا هو من حامية السور وكان يجندل بعضهم بضربات سيفه، وبعضهم بلكم مجنه إلى أن افتتح الجزيرة بعد أن أبدى الصوريون آيات باهرة بالدفاع، فوجد على الأسوار وحدها ستة آلاف قتيل، وقتل في المدينة خلق لا يحصى، وأنجى الصدونيون الذين كانوا قد أتوا لنجدة إسكندر جماعة من الصوريين؛ لأنهم جالية من صيدا، وتمت بصور نبوة حزقيال في الفصل 6 وإشعيا في الفصل 23، ثم سار إسكندر نحو أورشليم، وروى يوسيفوس في تاريخ اليهود (ك11 ف8) أن بدوع عظيم الأحبار أمر بتزيين شوارع المدينة بالزهور، وخرج للقاء إسكندر سائر الكهنة بملابسهم الحبرية والشعب، وكان على رأس عظيم الأحبار التاج وعصابة من ذهب كتب عليها اسم الله، فتقدم إسكندر وسجد لاسم الجلالة وحيا عظيم الكهنة قبل أن يحييه، فجأر اليهود بالدعاء له وسار الغازي توا إلى الهيكل، وقدم الذبائح كما كان يرشده عظيم الأحبار الذي أطلعه على نبوات دانيال عليه بأنه يقرض مملكة الفرس؛ فطرب لذلك وأطلق لليهود أن يعيشوا بحسب شرائع آبائهم، وعفاهم من دفع الجزية سنة في كل سبع سنين؛ لأنهم لا يستثمرون أراضيهم تلك السنة، وطلب إليه السامريون أن يشرف هيكلهم كما شرف هيكل أورشليم، فسوفهم بالإجابة إلى ما بعد عودته من غزوته إلى مصر، ويؤيد قول يوسيفوس دخول كثيرين من اليهود في جندية إسكندر ورعاية خلفائه الأولين لليهود وسنتهم.
وسار إسكندر من أورشليم إلى غزة، فحاصرها ولم يفتحها إلا بعد شهرين، وقد جرح في مدة الحصار جرحين؛ ولذلك عامل أهلها ولا سيما واليها بقسوة خارجة عن سنة الحرب، ثم زحف إلى مصر وكان أهلها يمقتون الفرس، ويهوون خلع نير طاعتهم فالتقاه جم غفير منهم مجاهرين بالطاعة له والائتمار بأمره، فسار بهم إلى منف عاصمة مصر يومئذ واستسلم إليه واليها من قبل دارا، فكانت مصر غنيمة باردة له، ورأى في ساحل مصر محلا صالحا لبناء مدينة كبرى، فجعل ديفوكرات المهندس الذي اشتهر بتجديد بناء هيكل ديانا في أفسس بعد احتراقه يخطط هذه المدينة، وسماها إسكندرية باسمه واستأتى السكان إليها من كل قطر.
Page inconnue